logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(36) برنامج مجالس الفقه- المسائل والأحكام المتعلقة بالصيد

(36) برنامج مجالس الفقه- المسائل والأحكام المتعلقة بالصيد

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها، يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

المسائل والأحكام المتعلقة بالصيد

شيخنا، في هذه الحلقة سنتذاكر شيئًا من المسائل والأحكام المتعلقة بالصيد، وقبل الدخول في شيءٍ من أحكام هذا الباب أود لو بينتم لنا شيخنا ما المراد بالصيد، وما حكمه؟

تعريف الصيد لغةً واصطلاحًا وحكمُه

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

الصيد يَعقد له الفقهاء بابًا أو كتابًا في كتبهم؛ نظرًا لأهمية مسائله وأحكامه.

والصيد مصدر صاد يصيد صيدًا فهو صائدٌ، والصيد يعني: اقتناص الصيد.

وتعريفه اصطلاحًا: اقتناصُ حيوانٍ حلالٍ متوحشٍ طبعًا غيرِ مقدورٍ عليه.

"اقتناصُ حيوانٍ حلالٍ": لا بد أن يكون الحيوان حلالًا، فإن كان حرامًا؛ لم يسم صيدًا.

"متوحش طبعا": يعني في أصل خلقته يكون متوحشًا، أما لو كان مستأنسًا أو أهليًّا؛ فلا يُعتبر صيدًا.

"غير مقدورٍ عليه": وهذا أيضًا قيدٌ في التعريف، إن كان مقدورًا عليه؛ لم يُعتبر صيدًا.

والأصل في الصيد: الإباحة، وهذا بالإجماع؛ كما قال الله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، فالأصل في الصيد أنه مباحٌ، لكن قد يَقترن به ما ينقله من الإباحة إلى الكراهة؛ كما لو صاد لأجل اللهو واللعب، فهذا يُكره؛ لأنه عبثٌ وتضييعٌ للوقت.

وأيضًا ذكر أهل العلم أنه يُكره كثرة الاشتغال بالصيد؛ وذلك لأنه يُلهي القلب عن طاعة الله ، ويقولون: إن المشتغل بالصيد يحصل له شيءٌ من الوَلَه والفتنة، وعلى ذلك يُحمل حديث: من تتبع الصيد غفل [1]، الذي أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، من تتبع الصيد غفل؛ لأنه يُصبح عنده وَلَهٌ وتعلقٌ واشتغالٌ يصدُّه ذلك عن كثيرٍ من الطاعات، يصدُّه عن تلاوة القرآن، ويصدُّه عن أن يغتنم وقته في أمورٍ نافعةٍ، لكن لو كان الإنسان لا يُكثر منه، إنما يصيد صيدًا لحاجته؛ فلا بأس بذلك.

وإسماعيل عليه الصلاة والسلام كان يصيد، وفي القصة التي في "الصحيحين" لما أتاه أبوه إبراهيم وسأل عنه زوجته؛ قالت: ذهب يصيد، فقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام، وقولي له: يُغيِّر عتبة بابه؛ لأنه رأى أن هذه المرأة كثيرة التضجُّر والتسخُّط والتشكِّي، رأى أنها ليست مناسبةً لابنه، فلما أتى إسماعيل ؛ قال: كأنه أتاكم أحدٌ، قالت: نعم، أتانا شيخٌ على صفة كذا وكذا، قال: هل أوصاك بشيءٍ؟ قالت: نعم، يقول: أقرئي زوجك مني السلام، وقولي له: يُغيِّر عتبة بابه، قال: ذاك أبي، وأمرني بفراقك -يعني فهم هذه العبارة أن المقصود أن يفارقها- ثم إن إبراهيم أتى بعد مدةٍ من الدهر، وقد تزوج إسماعيل بامرأةٍ أخرى، فلما أتى إبراهيم؛ أيضًا لم يجد إسماعيل، عليهما السلام، قالت: ذهب يصيد، لاحِظ أن إسماعيل كان يشتغل بالصيد، فسأل عن عيشهم وعن حالهم، فحَمِدَتْ الله وأثنتْ عليه كثيرًا، قالت: نحن بخيرٍ وبنعمةٍ، مع أن الحال هي الحال، لكن انظر كيف أن هذه المرأة كانت شكورًا، فسُرَّ بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام، وقولي له: يُثبت عتبة بابه، فلما أتى إسماعيل ؛ بادرته هي، لاحِظ الفرق بين المرأة الأولى والثانية، هي التي بادرته، قالت: أتانا شيخٌ كبيرٌ على صفة كذا وكذا، ويقول: أقرئي زوجك مني السلام، وقولي له: يُثبت عتبة بابه، فقال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أستمر معك [2].

المقدم: أحسن الله إليكم.

ضابط الحاجة التي يكون من أجلها الصيد

شيخنا، ذكرتم أن الصيد قد يكون لحاجةٍ، هل هذا ضابطٌ في الجواز، بمعنى: لو أن رجلًا يجد ما يأكل، لكن أراد أن يأكل من الصيد فهل يُباح له هذا؟

الشيخ: نعم، يُباح له، الأصل في هذا الحل والإباحة، لكن -كما ذكرنا- لا يصيد عبثًا، بعض الناس يصيد صيدًا ويرميه، لا يأكله، لأجل العبث، فهذا هو الذي ذكر أهل العلم أنه مكروهٌ، أو أنه يُصبح شُغْلَه الشاغل، يأخذ جُل وقته.

الشاهد من القصة السابقة: أن إسماعيل عليه الصلاة والسلام كان منشغلًا بالصيد، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأكلون من كسب أيديهم، فهذا يدل على أن الأصل في الصيد الحِل والإباحة، لكن إذا كان يصيد من أجل العبث واللهو؛ يكون مكروهًا، وربما أيضًا يكون الصيد محرمًا، كما لو كان فيه ظلمٌ لأناسٍ، أو تعدٍّ على زرعٍ وحرثٍ؛ فإنه يحرم في هذا الحال.

على هذا: نخلص إلى أن الصيد -من حيث الأصل- مباحٌ، لكن قد تقترن به سلوكياتٌ تنقله للكراهة أو للتحريم.

المقدم: أحسن الله إليكم، وهل يمكن أن يقال: من السلوكيات التي تنقله إلى المحظور: أن يصيد الإنسان أكثر من حاجته؛ فبعض الناس يذهب إلى الصيد فيصيد حاجته وزيادةً؟

الشيخ: هنا يُنظر؛ إذا كان هذا الذي يصيده سوف ينتفع به؛ يبقى على الأصل وهو الحل، ولكن إذا كان لم ينتفع به، إنما سيُرمى؛ فهذا الذي يدخل في إضاعة المال وفي العبث وفي تضييع الوقت.

المقدم: أحسن الله إليكم.

أفضل المكاسب

شيخنا، الفقهاء يذكرون مسألة "أفضل الكسب الحلال"، ويذكر بعضهم: أن الصيد من هذا القبيل، ما رأيكم الشرعي في هذه المسألة؟

الشيخ: هذا قال به بعض الفقهاء، هذا هو المنصوص عليه في مذهب الحنابلة، قالوا: إن الصيد هو أفضل مأكولٍ؛ لأنه كسبٌ حلالٌ لا شبهة فيه.

وهذه المسألة محل خلافٍ بين أهل العلم: ما أفضل المكاسب؟

  • منهم من قال: الصيد، كما أشرت إلى هذا، وأن هذا هو المشهور عند الحنابلة.
  • ومنهم من قال: إن أفضل المكاسب: الزراعة، قال به بعض الشافعية وبعض الحنابلة؛ لقول النبي : ما من مسلمٍ يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ؛ إلا كان له به صدقةٌ [3]، متفقٌ عليه، وقالوا: لأن الزراعة حلالٌ محضٌ لا شُبهة فيها، فهي بعيدةٌ عن الشبهة.
  • وقال بعض أهل العلم: إن الأفضل: التجارة؛ لأنها من عمل اليد.
  • وقال بعضهم: إن عمل اليد عمومًا هو أفضل المكاسب، قال به بعض المالكية؛ لقول النبي : ما أكل أحدٌ طعامًا قَطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده [4]، أخرجه البخاري في "صحيحه".

والأقرب -والله أعلم- أن يقال: إن أفضل المكاسب يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال؛ لأنه لا يمكن ضبط ذلك بقاعدة تصلح لجميع الناس؛ ربما كان الأفضل لدى شخصٍ هو المفضول لدى غيره، والعكس صحيحٌ، فهذا يختلف إذنْ من شخصٍ لآخر، فقد يكون الأنسب لهذا الإنسان الزراعة، وقد يكون الأنسب لهذا التجارة، وقد يكون الأنسب لهذا الصيد، هو يختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأحوال.

وعلى ذلك: عندما ننظر لمكاسب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ نجد أن أحوالهم مختلفةٌ؛ فنجد منهم من كان نجارًا، مثل زكريا ، ونجد من كان يصيد؛ مثل إسماعيل ، وجميعهم رعوا الغنم أيضًا: ما من نبيٍّ إلا رعى الغنم [5]، فنجد أن أحوالهم مختلفة؛ ولهذا فالأقرب -والله أعلم- أن يقال في هذا: إن أفضل المكاسب يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.

لكن بكل حالٍ: ينبغي للمسلم أن يحرص على أن يتكسَّب، وألا يعتمد على سؤال الناس؛ ولهذا لما سُئل الإمام أحمد عن قومٍ لا يعملون ويقولون: نحن متوكلون؛ قال: هؤلاء مبتدعةٌ، وبعض الناس ربما يترك العمل ويتخذ سؤال الناس حرفةً، ويشحذ الناس، وهذا إذا كان على سبيل التكثُّر؛ فكما قال النبي : من سأل الناس أموالهم تكثُّرًا فإنما يسأل جمرًا؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أو لِيَسْتَكْثِرْ [6]، وقال: والذي نفسي بيده لَأَن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خيرٌ له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه [7].

فينبغي أن يكون هذا المبدأ لدى المسلم، وأن يحرص على العمل وعلى التكسب، وأن تكون يده اليد العليا المعطية، وليست اليد السفلى الآخذة، وأن يحرص المسلم -ويجعل هذا مبدأً له في حياته- على ألا يسأل الناس شيئًا، وقد بايع نفرٌ من أصحاب النبي على ألا يسألوا الناس شيئًا، حتى إن أحدهم يكون على الراحلة فيسقط سوطه، فينزل ويأخذ سوطه من على الأرض، ولا يطلب من أحدٍ أن يُناوله إياه [8]، وهذا يُربِّي معاني العزة لدى المسلم.

إذنْ ينبغي أن يبحث الإنسان عن العمل المناسب، وأن يبتعد عن سؤال الناس أموالهم.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

الأصل في الصيد التحريم حتى يُتيقن الحِل

شيخنا، كثيرًا ما تذكرون فائدةً مهمةً للمسلم عمومًا، ولطالب العلم بوجه الخصوص: وهي معرفة الأصل في الباب، وأن هذا مُعِينٌ على معرفة أحكام هذا الباب الذي يتم دراسته والنظر في أحكامه، فإذا ما أردنا أن نعرف الأصل في الصيد الذي تم صيده هل هو الحِل حتى يُتيقن التحريم، أو أن الأصل فيما صِيد أنه محرمٌ حتى يُتيقن الحِل؟

الشيخ: الأصل في الصيد التحريم حتى يُتيقن الحِل، ومثل ذلك: ما ذكرنا في حلقةٍ سابقةٍ في اللحوم والذبائح: الأصل فيها التحريم حتى يُتيقن الحِل، والأصل في الأبضاع التحريم، فهذه الأبواب الأصل فيها التحريم، وإن كان معظم أبواب الفقه الأصل فيها الحِل، لكن هذه الأبواب بخصوصها الأصل فيها التحريم.

إذنْ الأصل فيه التحريم حتى يُتيقن الحِل؛ ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يومًا ولم تجد فيه إلا أثر سهمك؛ فكُلْ إن شئت، وإن وجدته، وهذا موضع الشاهد: وإن وجدته غريقًا في الماء؛ فلا تأكل؛ فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك [9]، يعني إذا وجدت الصيد في الماء؛ هنا نرجع للأصل، لو كان الأصل الحِل؛ لقال النبي : كُلْ، لكن قال: لا تأكل؛ لأنك لا تدري الماء قتله أو سهمك.

وهذا الحديث وما جاء في معناه يدل على أنه في الصيد لا بد أن يُتيقن الحِل، وإذا شُكَّ هل هذا الشيء مباحٌ أم لا؛ فالأصل عدم الحِل بهذا الباب؛ لأن الصيد يُشبه الذكاةَ من بعض الوجوه، ونحن ذكرنا في الذكاة أن الأصل فيها المنع والتحريم حتى يُتيقن الحِل والإباحة؛ وهكذا أيضًا الذبائح، فلاحظ الترابط بين هذه الأبواب: الذكاة واللحوم والذبائح والصيد، هذه الأصل فيها المنع والتحريم حتى يتيقن الحل.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

شروط حل الصيد

شيخنا، ونحن في هذا البرنامج (مجالس الفقه) مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، نتدارس شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها، وحديثنا في هذه الحلقة لا يزال في المسائل والأحكام المتعلقة بالصيد.

أيضًا شيخنا مما يتعلق بهذا الباب: هل الصيد حلالٌ مطلقًا، أو هناك شروطٌ لا بد من توافرها؛ لكي يكون هذا الصيد الذي قد صِيد حلالًا؟

الشيخ: هناك شروطٌ لا بد من تحقُّقها لحِل الصيد، فإن اختل واحدٌ منها؛ لم يُبَح.

وأبرز هذه الشروط:

  • أولًا: كون الصائد أهلًا للذكاة، يعني لا بد أن يكون الصائد أهلًا للذكاة حال إرسال الآلة، يكون من أهل الذكاة؛ بأن يكون مميزًا عاقلًا مسلمًا كان أو كتابيًّا؛ لأن الصائد بمنزلة المُذكِّي.
  • والشرط الثاني: الآلة التي يُصاد بها، وهي على نوعين: أن تكون بمحدَّدٍ يجرح به؛ كالسلاح الناري مثلًا والسيف والسهم وكلِّ ما يحصل به إنهار الدم، أو تكون الآلة بالجارحة المعلَّمة؛ كالكلب والفهد والصقر ونحو ذلك.
  • والشرط الثالث: قَصْدُ الفعل: وهو أن يُرسل الآلة لقصد الصيد، فلو أنه سمى وأرسلها لا لقصد الصيد، أو استرسل الجارح بنفسه -يعني: الكلب المعلم مثلًا استرسل بنفسه، أو الصقر استرسل بنفسه- فقتل صيدًا؛ لم يَحل، فلا بد إذنْ أن يُرسل الآلة قاصدًا الصيد. ولو أنه أطلق بندقيته في الهواء، ووافق أنه قتل حمامةً؛ لم يُبَح له؛ لأنه لم يقصد الصيد، لا بد من قصد الفعل.

المقدم: إذنْ القصد في كِلا الآلتين في الجارحة، أو حتى في المحدَّد؟

الشيخ: نعم، لا بد من ذلك؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله؛ فكُلْ [10]، فإرسال الجارح بمثابة الذبح؛ ولهذا فلا بد فيه من القصد.

  • الشرط الرابع: التسمية، أن يقول: بسم الله، عند إرسال الجارحة، أو عند الرمي بالسلاح؛ لقول الله ​​​​​​​: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121]، ولقول النبي لما سأله عَدي بن حاتمٍ ، وبالمناسبة عدي بن حاتمٍ صحابيٌّ متخصِّصٌ في الصيد؛ ولذلك معظم أحاديث الصيد يرويها هذا الصحابي ، تجد أن بعض الصحابة له اهتمامٌ بجانبٍ معينٍ: عَديٌّ  مثلًا بالصيد، حذيفة بن اليمان بأحاديث الفتن، جابر بن عبدالله رضي الله عنهما بالحج، فتجد بعض الصحابة لهم اهتمامٌ بالأحاديث في أبوابٍ معينةٍ، عدي بن حاتمٍ كان رجلًا يحب الصيد؛ ولذلك سأل النبي عدة أسئلةٍ؛ كان مما سأله قال: قلت: يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلَّمة ليُمْسِكنَ عليَّ، وأذكر اسم الله عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله عليه؛ فكُلْ [11]، متفقٌ عليه.

هذه الشروط الأربعة إذا تحقَّقت؛ حَلَّ الصيد.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم الصيد من خلال الحيوانات المعلَّمة

أيضًا شيخنا بالمناسبة ذكرتم قبل قليلٍ الآلة التي يُصاد بها، وذكرتم من ذلك الجارحة أو الجوارح، وهذا يقودنا إلى مسألةٍ: وهي حكم الصيد من خلال هذه الحيوانات المعلَّمة؛ كالجوارح والكلب والفهد والصقر ونحوها.

الشيخ: الصيد بهذه الجوارح إذا كانت معلَّمةً؛ يباح أكل ما قتلته؛ وذلك أن بعض الحيوانات التي يُصاد بها تقبل التعليم، وسبحان الله! هذه الحيوانات جعل الله تعالى فيها خاصية قبول التعليم، فإذا قَبلت التعليم؛ أصبح صيدها حلالًا؛ وهذا يدل على شرف العلم؛ لأن صيد الجوارح المعلَّمة حلالٌ، وصيد الجوارح غير المعلَّمة حرامٌ، فإذا كانت الحيوانات تَشرُف بالعلم، فكيف ببني آدم، وهذا الوجه ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله لما عقد مفاضلةً بين العلم والمال، وذكر أن العلم أفضل من المال من أكثر من مئةٍ وخمسين وجهًا، فذكر هذا الوجه: وهو أنه حتى الكلاب والجوارح تَشرف بالعلم، فما بالك ببني آدم؟! صيد الكلاب المعلَّمة حلالٌ، وصيد الكلاب غير المعلَّمة حرامٌ، فإذا كانت الكلاب تشرُف بالعلم؛ فما بالك ببني آدم!

فهذه الحيوانات إذا عُلِّمت؛ فإنه يُباح ما تصيده؛ كالكلب مثلًا والفهد والبازي والصقر والعُقاب والشاهين، هذه كلها تقبل التعليم، لكن وقع الخلاف في الكلب الأسود، الكلب غير الأسود هذا يُباح صيده مطلقًا، لكن الكلب الأسود اختلف الفقهاء في حكم الصيد به:

  • فقال بعضهم: إن الصيد به محرمٌ، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، واستدلوا بحديث جابرٍ قال: أمرنا رسول الله بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تَقدَم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى النبي عن قتلها وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان [12]، أخرجه مسلمٌ؛ فدل ذلك على تحريم صيده.
  • والقول الثاني: إن الصيد بالكلب الأسود مباحٌ، يبقى على الأصل وهو الإباحة، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، واستدلوا بعموم النصوص؛ ومنها: قول الله : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة:4]، قالوا: هذه عامةٌ في جميع الكلاب.

والأقرب -والله أعلم- هو القول الأول، وهو ما ذهب إليه فقهاء الحنابلة: وهو تحريم صيد الكلب الأسود، إلا إن أدركه وهو حيٌّ وذكَّاه؛ لأن الأمر بقتل الكلب الأسود يستدعي المبادرة بإتلافه، والتنفير منه، واستعماله للصيد فيه إبقاءٌ له وتقريبه، وهذا ينافي المقصود من قتله، وقد كان قتادة يكره صيد الكلب الأسود، ويقول: أُمر بقتله فكيف يؤكل صيده؟! ثم إن النبي وصف الكلب الأسود بأنه شيطان، ومعنى الشيطان ليس المقصود أنه يكون من الجن، ولكن المقصود: أنه يكون أكثر الكلاب تمرُّدًا وعتوًّا؛ ولهذا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "الكلب الأسود شيطانُ الكلابِ، والجن تتصور بصورته كثيرًا، وكذلك بصورة القط الأسود؛ لأن السواد أجمعُ للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة"، ولذلك تجد الناس من قديم الزمان يستوحشون من الحيوان الأسود سوادًا خالصًا؛ من الكلاب والقطط وغيرها؛ لأنه كثيرًا ما تتصور به الجن؛ فعلى هذا: فالأقرب والله أعلم: أن الصيد بالكلب الأصل فيه الحِل والإباحة، لكن يُستثنى من ذلك الكلب الأسود، فالكلب الأسود لا يَحل الصيد به على القول الراجح.

المقدم: جميلٌ، أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا.

ضابط تعليم الجوارح

هنا قيدٌ ذكرتموه -قبل قليلٍ- أكثر من مرةٍ: الجوارح المعلَّمة التي تقبل التعليم، هذا يقودنا لسؤالٍ: ما ضابط التعليم بهذه الجوارح؛ كالكلب والفهد والصقر، حتى نعتبر هذا الجارح أو هذه الجارحة معلَّمةً أو غير معلَّمةٍ؟

الشيخ: هذا يختلف باختلاف الحيوان الذي يُصاد به، أبرزها الكلب، الكلب يكون تعليمه بثلاثة أمورٍ:

  • الأمر الأول: أنه إذا أُرسل للصيد؛ استرسل.
  • الأمر الثاني: أنه إذا زُجر؛ انزجر، إذا زُجر عن الأكل أو نحوه؛ انزجر.
  • الأمر الثالث: أنه إذا أَمسَك؛ لم يأكل.

إذنْ يكون تعليم الكلب بهذه الأمور الثلاثة: إذا أُرسل للصيد؛ استرسل، إذا زُجر عن الأكل ونحوه؛ انزجر، إذا أَمسَك؛ لم يأكل، لا بد من هذه الأمور الثلاثة؛ لكي نعتبر هذا الكلب معلمًا.

هل هذه الأمور الثلاثة أيضًا مطلوبةٌ في الفهد؟

من الفقهاء من قال: إنها مطلوبةٌ في الفهد؛ كالكلب، لكن قال الموفق بن قدامة رحمه الله: "لا أحسب هذه الخصال تُعتبر في غير الكلب؛ فإن الذي يُجيب صاحبه إذا دعاه، وينزجر إذا زجره هو الكلب، أما الفهد فإنه لا يكاد يُجيب داعيًا وإن عُدَّ متعلمًا، فيكون التعليم في حقِّه بترك الأكل خاصةً، أو بما يَعدُّه أهل العرف معلَّمًا"، وهذا هو الأقرب والله أعلم، أن الفهد ليس كالكلب، الكلب أكثر فهمًا وتعلُّمًا من الفهد، الفهد قد لا يُجيب داعيًا، ولا ينزجر إذا زُجر؛ فلذلك يقول الموفق وبعض الفقهاء: إن هذه لا تُشترط في تعليمه، وإنما يكفي في تعليمه تركُ الأكل فقط، إذا أمسك لا يأكل منه.

أما بالنسبة لتعليم الطير؛ كالصقر ونحوه، فيكون بأمرين: بأن يسترسل إذا أُرسل، وأن يرجع إذا دُعي، وقد حكى الموفق بن قدامة رحمه الله إجماع الصحابة على ذلك، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "إذا أكل الكلب؛ فلا تأكل، وإذا أكل الصقر؛ فكُلْ"؛ لأن الكلب تستطيع أن تضربه، والصقر لا تستطيع، الكلب يمكن تأديبه، بخلاف الصقر، فإنك لو أردت أن تضربه إذا أكل؛ يطير ويهرب، فلا يُشترط ألا يأكل إذا أمسك؛ ولهذا قال الموفق رحمه الله: "جوارح الطير تُعلَّم بالأكل، ويتعذر تعليمها بترك الأكل، فلا يقدح في تعليمها، بخلاف الكلب والفهد".

على ذلك: لا يُشترط بالنسبة للصقر ونحوه أنه إذا أمسك ألا يأكل، لا يُشترط هذا الشرط، وإنما فقط يكون تعليم الطير؛ كالصقر ونحوه؛ بأن يسترسل إذا أُرسل، وأن يرجع إذا دُعي.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم لعاب الكلب الملتصق بالصيد

هناك مسألةٌ -فيما يخصُّ أن يصيد الكلب ولا يأكل- يكثر السؤال عنها: اللعاب الملتصق بهذا الصيد من هذا الكلب، هل يُعَدُّ نجاسةً يجب إزالتها؟

الشيخ: الأصل في لعاب الكلب أنه نجسٌ نجاسةً مغلَّظةً؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم؛ فليغسله سبعًا أولاهن بالتراب [13]؛ وهذا يدل على تغليظ النجاسة، فإذا تيقن من وجود ذلك؛ فلا بد من إزالته بهذه الطريقة التي ذُكرت في الحديث، لكن إذا لم يُعلَم؛ يبنى الأمر على الأصل، وهو أن الأصل الطهارة.

المقدم: أحسن الله إليكم، شيخنا أيضًا من المسائل التي يُسأل عنها: لو أن إنسانًا نصب شِبَاكًا فصاد فيه صيدًا، ثم إنه رمى هذا الصيد بسلاحٍ ناريٍّ، فهل يحل له هذا الصيد؟

الشيخ: لا يحل له في هذه الحال، لا يحل له؛ لأنه لما أمسكه وأثبته في هذا الشباك؛ وجبت تذكيته، فالآن هو نَصَبَ شِباكًا، ووقع في هذه الشباك صيدٌ، فأثبت هذا الصيد، فهنا لا بد من أن يُذكَّى كسائر الحيوانات التي تُذكَّى، فلو أنه أطلق عليه بندقيةٍ؛ لم يحل؛ لأنه أصبح مقدورًا عليه، لما نصب شباكًا؛ أصبح مقدورًا عليه؛ مثلًا: نصب الشِّباك، ودخل في هذه الشباك حمامةٌ، فهنا لا يحل له أن يُطلق عليها البندقية ويقول: حلالٌ، لا بد من أن تُذكَّى، لا بد من التذكية، وهذا نصَّ عليه الفقهاء فقالوا: إن من رمى صيدًا فأثبته، ثم رماه ثانيًا فقتله؛ لم يحل، وهذا ينطبق على ما ذُكر في السؤال من أنه إذا نصب الشباك فأثبت الصيد ثم رماه؛ فإنه لا يحل، بل إذا وقع الصيد في الشباك؛ فيجب عليه أن يُذكِّيه.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

هل تسقط التسمية عند الصيد للسهو؟

أيضًا شيخنا، مسألةٌ -والحقيقةَ كثيرة الوقوع- وهي أن الصائد قد ينسى أن يُسمي عند إطلاق السلاح، أو حتى عند إرسال الجارحة، فهل يَحل هذا الصيد مع نسيان التسمية عند الإطلاق؟

الشيخ: هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء؛ والحنابلة قالوا: إن التسمية لا تسقط عند الصيد سهوًا، مع أنهم ذكروا في (باب الذكاة) أنها تسقط؛ وقالوا: لأن في الصيد نصوصًا خاصةً، ولأن الذابح يَكثر منه السهو، بخلاف الصيد.

والأقرب -والله أعلم- أنه لا فرق بين الذكاة والصيد، وأن بابهما واحدٌ، وسبق في حلقةٍ سابقةٍ أن ذكرنا الخلاف فيمن نسي التسمية عند الذبح عند الذكاة، وأن القول الراجح: هو قول الجماهير، وهو الذي عليه المذاهب الأربعة: وهو أنه تَحل الذبيحة، وأن هذا حُكي إجماعًا، حكاه ابن جريرٍ وغيره؛ لقول الله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، والناسي لا يسمى فاسقًا، هكذا أيضًا في باب الصيد.

فالأقرب -والله أعلم- ما عليه الجمهور: وهو أنه إذا نسي التسمية؛ فإن الصيد يَحل؛ لعموم الأدلة الدالة على رفع المؤاخذة عن الناسي؛ لقول الله : رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، والله تعالى لما قال: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، قال: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، والناسي لا يُسمى فاسقًا.

والتفريق بين الصيد والذكاة غير ظاهرٍ، بل إن الذُّهول عن التسمية في الصيد أغلب وأكثر منه في الذكاة، فإذا سقطت التسمية عن المُذكِّي الناسي؛ فمن باب أولى أنها تسقط عن الصائد الناسي.

فإذنْ عموم الأدلة وأصول وقواعد الشريعة تدل على رفع المؤاخذة عن الناسي والجاهل؛ وعلى هذا: فمن نسي التسمية عند الذكاة أو عند الصيد؛ فالراجح من أقوال أهل العلم أن ذكاته حلالٌ، وأن صيده حلالٌ.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء على هذا البيان، وشكر الله لكم شيخنا.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: الشكر كذلك موصولٌ لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.

إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، ومع موضوعٍ فقهيٍّ جديدٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه أبو داود: 2859، والترمذي: 2256، والنسائي: 4309.
^2 رواه البخاري: 3364.
^3 رواه البخاري: 23020، ومسلم: 1553.
^4 رواه البخاري: 2072.
^5 رواه البخاري: 3406، ومسلم: 2050.
^6 رواه مسلم: 1041.
^7 رواه البخاري: 1470، ومسلم: 1042.
^8 رواه مسلم: 1043.
^9 رواه مسلم: 1929.
^10 رواه البخاري: 175.
^11 رواه البخاري: 5486، ومسلم: 1929.
^12 رواه مسلم: 1572.
^13 رواه أبو داود: 71، والنسائي: 338، ورواه البخاري: 172، ومسلم 279، دون قوله: أولاهن بالتراب.
مواد ذات صلة
zh