جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويَحتاج إليها المسلم، يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
المسائل والأحكام المتعلقة بالأطعمة
شيخنا، في هذه الحلقة سنُعَرِّج على شيءٍ من المسائل والأحكام المتعلقة بالأطعمة، وهو بابٌ مهمٌّ، وتمسُّ الحاجة إليه لجميع المسلمين.
وقبل الدخول في الأحكام، هناك سؤالٌ: هل الأطعمة خاصةٌ بما يؤكل، أم تشمل كذلك المشروبات؟ تسمى أطعمةً؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالأطعمة: جمع طعامٍ، والطعام يُطلق على ما يُؤكل وما يُشرب، فما يُشرب يقال له: طعامٌ؛ ويدل لذلك قول الله عن طالوت: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة:249]، فجعل شرب هذا الماء طعامًا، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ يعني: يطعم من ماء هذا النهر: فَإِنَّهُ مِنِّي، والنبي يقول عن ماء زمزم: إنها مباركةٌ، طعام طُعْمٍ [1]، رواه مسلمٌ.
فجعل ماء زمزم طعامًا؛ فهذا يدل على أن الطعام كما يُطلَق على ما يُؤكل؛ فيُطلق كذلك على ما يُشرَب، لكن الغالب هو إطلاق الطعام على ما يُؤكل، والمراد به عند الفقهاء: ما يأكله الإنسان ويتغذَّى به من الأقوات وغيرها أو يشربه.
المقدم: أحسن الله إليكم.
الأصل في الأطعمة
شيخنا، الفقهاء يعتنون كثيرًا بالتأصيل للأبواب، فيقال: الأصل في هذا الباب: هو كذا، والأصل في هذا الباب: هو كذا، يعني معرفة هذا الأصل مُعِينٌ على استيعاب كثيرٍ من المسائل والأحكام المتعلقة في الباب الذي يَدرسه المسلم، الأطعمة ما الأصل فيها: الحِل أو الحرمة؟
الشيخ: الأصل في الأطعمة: الحِل؛ لقول الله : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وقد قال الله تعالى هذا على سبيل الامتنان على عباده؛ وهذا يدل على أن الأصل في الأشياء: الإباحة، وأن الأصل في الأطعمة: الحل، قال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، هذا يدل على أن الأصل فيما سخره الله وفي هذه الأرض: الحل، ويتفرع عن هذا قولنا: إن الأصل في الأطعمة: الحل، ويدل لذلك أيضًا: قول الله : لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93]، قول الله : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32].
فإذنْ الأصل في الأطعمة: الحل، هذا الأصل مهمٌّ ومفيدٌ، خاصةً في المسائل الخلافية في باب الأطعمة، عندما يُختَلف في طعامٍ من الأطعمة، أو في حكم شرابٍ من الأشربة: هل هو حلالٌ أو حرامٌ؟ فالذي يُطالَب بالدليل: من يقول: إنه حرامٌ، أما الذي يقول: إنه حلالٌ، فلا يُطالَب بالدليل؛ لأن معه الأصل، وهو الحل، لكن الذي قال: إن هذا الطعام أو هذا الشراب حرامٌ، يُطالَب بالدليل.
المقدم: أحسن الله إليكم.
ضابط الأطعمة الحيوانية وغير الحيوانية
شيخنا، هناك من الأطعمة ما يُعرف بالأطعمة الحيوانية، وهناك الأطعمة غير الحيوانية، هل هناك ضابطٌ لما يُباح من الأطعمة غير الحيوانية أو الأطعمة الحيوانية؟
الشيخ: الأطعمة غير الحيوانية نبدأ بها أولًا، الضابط فيما يُباح من الأطعمة غير الحيوانية:
- أولًا: أن تكون طاهرةً، فما كان نجسًا؛ فهو محرَّمٌ؛ لقول الله : قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145]؛ وعلى هذا: فلو كان متنجسًا بنجاسةٍ؛ فإنه محرمٌ، وقد قرر الفقهاء قاعدةً مفيدةً في هذا الباب: وهي أن كل نجسٍ محرمٌ، وليس كل محرمٍ نجسًا؛ وعلى هذا: جميع النجاسات يَحرم تناولها وأكلها، أما المحرمات فليست كلها نجسةً؛ فمثلًا: السجائر، الدخان، يحرم شربه، لكنه طاهرٌ ليس نجسًا، فليس كل محرمٍ نجسًا، لكن كل نجسٍ محرمٌ.
- الضابط الثاني: أن تكون لا مَضرَّة فيها، فإن كان الطعام فيه مضرَّةٌ؛ حرم أكله، ومن ذلك مثلًا: السم، أكله محرمٌ؛ لأن في هذا إلقاءً بالنفس إلى لتهلكة، والله تعالى يقول: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، ويقول: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء:29]، كذلك الدخان، السجائر يحرم تناولها؛ لأنه ثبت ضررها عند جميع الأطباء، جميع الأطباء في جميع دول العالم، في الشمال والجنوب والشرق والغرب، مجمعون على ضرر التدخين، وكما قال ابن تيمية رحمه الله: "إن عقلاء بني آدم لا يُجمِعون إلا على ما كان حقًّا"، فهذا يدل على تحريم التدخين؛ لأنه مُضِرٌّ.
- الضابط الثالث في الأطعمة غير الحيوانية: ألا يكون مُسكِرًا، فإن المسكرات محرمةٌ؛ لقول النبي : كل مسكرٍ حرامٌ [2]؛ فعلى هذا: إذا كان هذا الطعام غير الحيواني طاهرًا، وليس مضرًّا، ولم يكن مسكرًا؛ فيكون جائزًا.
المقدم: هذا ما يخُصُّ ضابط الأطعمة غير الحيوانية، ماذا فيما يتعلق بالأطعمة الحيوانية؟ هل هناك ضابطٌ يمكن أن يضبطها؟
الشيخ: أولًا؛ قلنا: إن الأصل في الأطعمة: الحل، والأصل أيضًا في الحيوان: الحل، وليس اللحوم، اللحوم والذبائح الأصل فيها: الحظر، اللحوم والذبائح -كما سيأتينا إن شاء الله في (باب الذكاة)- الأصل فيها: الحظر والمنع، لكن الحيوان الأصل فيه: الحل، والأصل في الأطعمة: الحل.
وأما ما يحرم منها فالضابط فيه:
- أولًا: الحُمُر الأهلية، وقد حُكي إجماع العلماء على ذلك.
- وكذلك: يحرم كل ما له نابٌ من السباع، وهذا الناب يفترس به، فلا بد من الوصفين، يكون له نابٌ، ويفترس ويعدو به على غيره؛ لقول النبي : كل ذي نابٍ من السِّباع فأكله حرامٌ [3]، كما في حديث أبي هريرة في "صحيح مسلمٍ"، ولحديث أبي ثعلبة قال: "نهى رسول الله عن كل ذي نابٍ من السباع" [4]، فجميع الحيوانات ذوات الأنياب يحرم أكلها، ويدخل في ذلك مثلًا: الذئب والأسد والنمر والفهد والكلب والقرد وغيرها، فهذه يحرم أكلها.
والحكمة -والله أعلم-: هي أن للغذاء تأثيرًا على من يُتغذَّى به، فإذا تغذى الإنسان بهذا النوع من الحيوانات التي من طبيعتها العدوان والأذى؛ فربما اكتسب من طباعها وصفاتها، أيضًا قد يكون في أكلها ضررٌ على الصحة، وقد يكون هناك حِكَمٌ أخرى لا نعلم بها، فالله تعالى أعلم وأحكم.
- كذلك أيضًا: يحرم من الحيوان كل ذي مِخلبٍ من الطير؛ لحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله عن كل ذي نابٍ من السباع، وعن كل ذي مخلبٍ من الطير" [5]، وإنما حرم هذا الطير؛ لكونه يفترس بمخلبه، فهو -على هذا- مثل ذي الناب من السباع؛ وذلك كالصقر مثلًا والنسر والحِدَأة والبومة ونحو ذلك، هذه كلها محرمةٌ، يحرم أكلها.
- وكذلك أيضًا: يحرُم ما يأكل الجِيَف؛ كالنسر والرخم والغراب ونحو ذلك، فهذه أيضًا يحرم تناولها.
فإذنْ هذا هو الضابط، الضابط: ألا يكون من ذوات السباع من الحيوان، وألا يكون من ذوات المخلب من الطير، وأيضًا ألا يكون من الحُمُر الأهلية.
المقدم: أحسن الله إليكم.
حكم أكل الخيل
إن أذنتم شيخنا أن نَدخل في التفاصيل قليلًا، فنسأل عن بعض الحيوانات التي ربما يُسأل عنها أو عن حكمها، وهل هي داخلةٌ في ضابط ما يُباح، أو بها إشكالٌ شرعيٌّ.
أبدأ ذلك بالخيل، ما حكم أكل الخيل شيخنا؟
الشيخ: الخيل للفقهاء قولان في حكم أكلها:
القول الأول، وهو قول أكثر أهل العلم: أنه يباح أكل الخيل، وهو المذهب عند الحنابلة.
وهناك قولٌ آخر، وهو مذهب الحنفية: أنه يحرم.
والصواب: ما عليه أكثر أهل العلم، من إباحة أكل لحم الخيل، ويدل لذلك ما جاء في "صحيح مسلمٍ" من حديث جابرٍ أن النبي نهى يوم خيبر عن الحُمُر الأهلية، وأذِن في لحوم الخيل [6]، وهذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ في المسألة، وأيضًا جاء في "الصحيحين" عن أسماء رضي الله عنها قالت: "نَحْرَنا على عهد النبي فرسًا فأكلناه" [7].
والحنفية القائلون بتحريم أكل لحم الخيل استدلوا بأحاديث ضعيفةٍ؛ كحديث خالد بن الوليد أن رسول الله نهى عن أكل لحوم الخيل [8]، أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، لكنه حديثٌ ضعيفٌ، بل قال النووي رحمه الله: "اتفق العلماء على أنه حديثٌ ضعيفٌ"، يعني اتفق العلماء على تضعيفه؛ وعلى ذلك: فالصواب في المسألة: ما عليه أكثر أهل العلم من أنه يباح أكل لحم الخيل، وكذلك يباح أيضًا شرب حليبها، يعني في بعض البلدان يشربون لبن أو حليب الخيل، إذا جاز أكل لحمها؛ جاز أيضًا شرب حليب الخيل.
فإذنْ الخيل من الحيوانات التي يباح أكلها، ويباح شرب حليبها.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، ونحن في هذا البرنامج مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، نَذكُر شيئًا من النوازل الفقهية المعاصرة، والمسائل التي يكثر السؤال عنها ويَحتاج إلى معرفتها المسلم.
حكم أكل القُنْفُذ
شيخنا، أستأذنكم أيضًا في السؤال عن بعض الحيوانات الأخرى التي ربما يُسأل عنها: القُنْفُذُ، ما حكم أكله؟
الشيخ: أولًا؛ ما هو القنفذ؟
القنفذ حيوانٌ صغيرٌ، جلده مغطًّى بالشوك، إذا أحسَّ بأحدٍ؛ انكمش وأدخل رأسه ورجليه في هذا الشوك فلا يقدر أحدٌ عليه، يقولون: لا يقدر أحدٌ عليه إلا حيوانٌ واحدٌ: وهو الحِدَأة، فإنها تأخذه وترتفع به وتُحلِّق به في السماء ثم تطرحه للأرض، ثم بعد ذلك تفترسه.
اختلف العلماء في حكم أكل القنفذ على قولين:
- القول الأول: أنه يحرم أكل القنفذ، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "ذُكِر القنفذ عند رسول الله ، فقال: خبيثةٌ من الخبائث [9]، أخرجه أبو داود.
- والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز أكل القنفذ، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة، قالوا: الأصل في الحيوانات: الحل، فلا يحرم إلا ما حرمه الشارع، ولم يَرِد في الشرع ما يدل على تحريم أكل القنفذ، وأما الحديث الذي ذكره القائلون بالتحريم، حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه ذُكر القنفذ عند رسول الله فقال: خبيثةٌ من الخبائث، فقالوا: إن هذا الحديث ضعيفٌ، ولا يثبت من جهة الصناعة الحديثية، فقالوا: مادام أن الأصل في الحيوانات الحل، ولم يثبت في الشرع ما يدل على تحريم أكله؛ فيبقى على أصله، وهو الحل، ثم إن القنفذ يتغذى على النبات، وليس من ذوات الأنياب المفترسة.
ولما سُئل ابن عمر رضي الله عنهما عن القنفذ؛ قرأ قول الله : قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145] [10]، أخرجه أبو داود وأحمد؛ وهذا يدل على أن ابن عمر رضي الله عنهما يرى جواز أكل القنفذ، كأنه يقول: إن المحرمات تنحصر في هذه الأمور المذكورة في الآية، ولاحِظ أن ابن عمر رضي الله عنهما هو الراوي للحديث السابق: خبيثةٌ من الخبائث، فهذا مما يُؤكِّد ضعف الحديث السابق، حديث القنفذ: خبيثة من الخبائث، لو كان محفوظًا؛ لقال به ابن عمر رضي الله عنهما، وابن عمر رضي الله عنهما معروف بشدة تمسُّكه بالسنة، وحرصه على تطبيق السنة.
وعلى هذا: فالقول الراجح -والله أعلم- هو القول الثاني: وهو أنه يجوز أكل القنفذ، وقد اختار هذا القول شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله تعالى، فهو الأقرب والله أعلم؛ لأن الأصل: الحل والإباحة، ولم يثبت ما يدل على تحريم أكل القنفذ، وما روي في ذلك من الأحاديث فهي ضعيفةٌ؛ فعلى هذا نقول: إن القول الراجح: هو جواز أكل القنفذ، وفي معناه "النَّيْص": وهو من أنواع القنفذ لكنه ضخمٌ، فحكمه حكم القنفذ.
المقدم: أحسن الله إليكم، كون القنفذ يأكل العقارب والحيات، هل هذا يُؤثِّر في الحكم؟
الشيخ: هذا غير مؤثرٍ في الحكم؛ لأنه أيضًا حتى لو أخذتَ بهيمة الأنعام، ربما تتناول شيئًا من الحشرات، فهذا غير مؤثرٍ.
المقدم: أحسن الله إليكم.
حكم أكل الضبع
أيضًا من الحيوانات التي يُسأل عنها: الضبع، ما حكم أكله؟
الشيخ: الضبع حيوانٌ معروفٌ، وهو من الحيوانات المفترسة التي تفترس الحيوان، وتفترس حتى الإنسان؛ ولهذا يُذكر في بعض الأحاديث وبعض القصص: "خشينا عليه من الضبع"، ونحو ذلك.
اختلف الفقهاء في حكم أكله على ثلاثة أقوالٍ:
- القول الأول: تحريم أكل الضبع، وهذا هو مذهب الحنفية، وقولٌ عند الحنابلة، واستدلوا بعموم حديث أبي ثعلبة قال: "نهى رسول الله عن كل ذي نابٍ من السباع" [11]، قالوا: والضبع له نابٌ يفترس به؛ فيدخل في عموم هذا الحديث.
- القول الثاني: أنه يُكره أكله ولا يحرم، وهذا هو مذهب المالكية، قالوا: هو من السباع التي لا تعدو بنابها، يعني: له نابٌ لكن لا يفترس به، بخلاف الأسد والنمر ونحوهما، فيكون أكله مكروهًا.
- القول الثالث: أنه يجوز أكل الضبع، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، واستدلوا بحديث ابن أبي عمارٍ، قال: قلت لجابرٍ : الضبع، أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قال: قلت: آكلها؟ قال: نعم، قلت: أقاله رسول الله ؟ قال: نعم [12]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، قالوا: فجعل الضبع صيدًا؛ وهذا يدل على حِلِّ أكله.
والأقرب والله أعلم: هو القول الأول، هذا الذي ظهر لي -والله أعلم- بعد النظر في الأدلة الواردة، وبعد النظر في طبيعة هذا الحيوان، والأقرب -والله أعلم- هو القول الأول: وهو تحريم أكل الضبع؛ لقوة دليله، فإن الضبع له نابٌ يفترس به، فهو من السباع، والشريعة لا تُفرِّق بين المتماثلات.
وأما من قال من الفقهاء: إن الضبع له نابٌ لكن لا يفترس به، وأنه ليس من السباع العاديَة؛ هذا غير مسَلَّمٍ، بل هو من السباع، ومن أشد الحيوانات افتراسًا، وأرباب الحيوانات يقولون: إن ناب الضبع من أقوى أنياب السباع، بل بعضهم يُقرِّر أنه أقوى أنياب السباع على الإطلاق، وهو أيضًا شديد الافتراس، يفترس الإنسان ويفترس الحيوان ويأكل الجِيَف، ولك أن تأخذ بعض المقاطع مثلًا في (اليوتيوب) وغيرها؛ لكي ترى كيف أن الضبع شديد الافتراس، يأخذ العظم ثم (يُقرمشه كما يُقرمش) غيره من شدة افتراسه، فله نابٌ ويفترس به؛ ولذلك الذين عندهم معرفةٌ بالحيوانات يقولون: إنه من أشد السباع، ونابه من أقوى أنياب السباع.
أما ما استدل به القائلون بالجواز من حديث جابرٍ فقد قال الحافظ ابن عبدالبر: "ليس حديث الضبع مما يُعارَض به حديث النهي عن أكلِ كل ذي نابٍ من السباع؛ لأن حديث جابرٍ انفرد به عبدالرحمن بن أبي عمارٍ، وهو ليس بمشهورٍ بنقل العلم، ولا مَن يُحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه، وقد نُهي عن أكلِ كل ذي نابٍ من السباع من طرقٍ متواترةٍ عن أبي هريرة وأبي ثعلبة رضي الله عنهما وغيرهما عن النبي ، رَوى ذلك جماعةٌ من الأئمة الثقات الذين تسكن النفس إلى ما نقلوه، ومحالٌ أن يعارَضوا بحديث ابن أبي عمارٍ".
فالحاصل: أن حديث جابرٍ الذي يدل على جواز الضبع، انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمارٍ، وهو إن كان قد وُثِّق، إلا أنه خالف من هو أوثق منه، ثم على التسليم بصحة حديث جابرٍ ؛ لأنه قد يُعترض على ذلك، فيقال: إن هناك من صحَّح حديث جابرٍ ؛ كالترمذي وكالبخاري وغيرهما، فيقال: على التسليم بصحة حديث جابرٍ ، فغاية ما يفيده: أنه صيدٌ يُفدَى في الإحرام، ولا يَلزم من ذلك حِلُّ أكل الضبع، فمثلًا: الثعلب يُقصَد بالصيد للانتفاع بجلده، ومع ذلك يحرم أكله؛ لهذا لما سُئل الإمام أحمد عن مُحرِمٍ قتل ثعلبًا، قال: عليه جزاءٌ، هو صيدٌ لكن لا يؤكل، فهذه أقوال العلماء في حكم أكل الضبع، فمِن قائلٍ بالجواز، ومن قائلٍ بالكراهة، ومن قائلٍ بالتحريم، والأقرب -والله أعلم- هو قول القائلين بالتحريم؛ لعموم الأدلة الدالة على النهي عن أكل كل ذي نابٍ من السباع، والضبع من الحيوانات ذوات الأنياب التي تفترس، بل شديدة الافتراس، والله تعالى أعلم.
حكم أكل الغراب
المقدم: أحسن الله إليكم، شيخنا أيضًا الغراب ما حكم أكله؟
الشيخ: يمكن تقسيم الغربان إلى ثلاثة أقسامٍ:
- القسم الأول: الغراب الأسود الكبير المعروف، فهذا يحرم أكله؛ لأنه يأكل الجِيَف، وهو الغالب عند الإطلاق، إذا أُطلق "الغراب"؛ فينصرف إلى الغراب الأسود الكبير.
- والقسم الثاني: الغراب الأبقع، وهو نوعٌ من الغربان يوجد به بقعةٌ بيضاء في رأسه، أو في بقية جسمه، ويَعتدي على الحيوانات، وهذا النوع من الغربان يحرم أكله.
- القسم الثالث: غراب الزرع، وهو غرابٌ جسمه نحو جسم الحمامة، أحمر المنقار والأرجل، لا يأكل الجِيَف، بل هو نباتيٌّ يتغذى على الزرع والحبوب، فهذا مباحٌ؛ لأنه لا يأكل الجيف، إنما يأكل الزرع والحبوب، والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا الذي يسمى "غراب الزرع" هو "الزاغ"، يسميه بعض الفقهاء: "الزاغ"، وممن قرر ذلك الدَّمِيري في كتاب "حياة الحيوان"، فالذي يظهر أن غراب الزرع: هو الزاغ؛ فعلى ذلك نقول: إن الغراب إن كان الغراب الأسود الكبير؛ فيحرم أكله، وإن كان الغراب الأبقع؛ يحرم أكله، وإن كان غراب الزرع الصغير الذي كالحمامة ويكون نباتيًّا؛ فهذا يباح أكله.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر الله لكم هذا البيان.
حكم أكل الضفدع
سنسترسل قليلًا في ذكر بعض الحيوانات التي يُسأل عنها وعن حكم أكلها؛ لأنها قد تَلتبس وقد تُشكِل، الضِّفْدِع ما حكم أكله؟
الشيخ: الضفدع يحرم أكله، وقد ورد في ذلك حديثٌ صحيحٌ عن النبي ، وهو حديث عبدالرحمن بن عثمان القرشي، أن طبيبًا سأل النبي عن ضفدعٍ يجعلها في دواءٍ، فنهاه النبي عن قتلها [13]، وهذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بسندٍ صحيحٍ؛ والنهي عن قتل الضفدع يدل على وجوب استبقائها، وعلى تحريم التعرُّض لها، فلا يجوز قتلها إلا إذا آذت، فالحيوان إذا آذى عمومًا يجوز قتله؛ لأن هذه الحيوانات إنما خُلقت لمصلحة بني آدم، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، فأيُّ شيءٍ منها آذى؛ جاز قتله، أما إذا لم يؤذِ؛ فلا يجوز قتله، لكن الضفدع محرمٌ، ولا يجوز أكله؛ لهذا الحديث.
المقدم: أحسن الله إليكم.
حكم أكل التمساح
كذلك مما يُسأل عنه: التمساح، ما حكم أكله؟
الشيخ: التمساح حيوانٌ معروفٌ يشبه الضَّب، إلا أنه أكبر منه بكثيرٍ، واختلف الفقهاء في حكم أكل التمساح:
- فقال بعضهم: إنه يجوز، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية، وقالوا: إنه من حيوانات البحر، والأصل في حيوانات البحر الحل والإباحة، وقد قال الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة: 6].
- والقول الثاني: قول الجمهور، وهو أنه يحرم أكل التمساح، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة؛ قالوا: لأن التمساح له نابٌ يفترس به الحيوان، بل يفترس به الإنسان، وقد نهى النبي عن أكل كل ذي نابٍ من السباع [14]، ولأنه من آكلات اللحوم المفترسة، ومستخبثٌ عند كثيرٍ من الناس، وقد أحل الله تعالى الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وهذا هو القول الراجح: أن أكل التمساح محرمٌ؛ لقوة دليله، أما ما ذكره أصحاب القول الأول من أن التمساح من حيوانات البحر، فلا يُسلَّم؛ فإن التمساح ليس من حيوانات البحر، وإنما من الحيوانات التي تعيش في البر والبحر، بل إنه يضع بيضه في البر ولا يضعه في البحر، وهذا النوع من الحيوانات يسمى: "البرمائيات"، وهو مثل الضفدع؛ وعلى ذلك لا تسري عليه قاعدة: "إن الأصل في حيوانات البحر الحل"، ولاحِظ هنا: أن معرفة طبيعة الحيوان وطبيعة معيشته مؤثِّرةٌ في الحكم؛ ولهذا ينبغي للفقيه والمفتي أن يكون على درايةٍ بطبيعة هذه الحيوانات، لاحِظ أن القائلين بالجواز اعتبروا التمساح من حيوانات البحر، والقائلين بتحريم أكل التمساح قالوا: لا نُسلِّم بأنه من حيوانات البحر، هو من حيوانات البر والبحر، بل إنه يضع بيضه في البر، فنعتبره من "البرمائيات"، فإذا كان من "البرمائيات"؛ فلا تشمله النصوص الدالة على إباحة أكل حيوانات البحر.
المقدم: أحسن الله إليكم.
حكم أكل الحشرات
شيخنا، أيضًا الحشرات، ما حكم أكلها؟
الشيخ: أكل الحشرات محرمٌ؛ وذلك لأنها مستخبثةٌ؛ ولهذا قال الوزير بن هُبيرة: "اتفقوا على أن حشرات الأرض محرمةٌ، إلا مالكًا فإنه كره من غير تحريم في إحدى الروايتين، وفي الرواية الأخرى قال: هي حرامٌ"؛ إذنْ الإمام مالكٌ عنه روايتان: روايةٌ بالتحريم، وروايةٌ بالكراهة، بقية الفقهاء قالوا بتحريم أكل الحشرات، فالصواب: ما عليه أكثر أهل العلم من تحريم أكلها؛ لأنها من الخبائث.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
حكم أكل النعامة والزرافة
شيخنا، أيضًا مما يُسأل عنه: حكم أكل النعامة والزرافة؟
الشيخ: أكل النعام مباحٌ؛ وذلك لأن الأصل في الحيوانات الحل والإباحة، فالنعام من الحيوانات المباحة التي يجوز أكلها، وليست من ذوات الأنياب من السباع؛ فتبقى على الأصل، فلحم النعام من اللحوم الطيبة، وأيضًا من اللحوم التي ذكر بعض الأطباء فائدتها، فيجوز أكل لحم النعام.
كذلك أيضًا: الزرافة، الزرافة أيضًا يجوز أكل لحمها؛ لأنه لم يَرِد فيها شيءٌ، والأصل في الحيوانات الحل والإباحة، وليس لها نابٌ، وهي من الطيِّبات؛ فعلى ذلك: يجوز أكل الزرافة.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.
حكم أكل الحيَّات
الحقيقة هناك جملةٌ من الحيوانات التي يَكثر السؤال عنها، كذلك لعل مما يُسأل عنه أيضًا: حكم أكل الحيات؟
الشيخ: الحيات والثعابين يحرم أكلها؛ لأن النبي أمر بقتل الحية في الحل والحرم، ولو كانت مباحةً؛ لما أمر بقتلها في الحرم، فلا يجوز قتلُ صيدٍ مأكولٍ في الحرم، وهي من المستخبثات، فهي كالحشرات؛ وعلى ذلك: فالحيات والعقارب والثعابين والحشرات هذه كلها لا يجوز أكلها.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، أسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: والشكر لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: الشكر كذلك لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، ومع موضوعٍ فقهيٍّ جديدٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه مسلم: 2473. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 1733. |
^3 | رواه البخاري: 5780، ومسلم: 1932. |
^4 | رواه مسلم: 1936. |
^5 | رواه مسلم: 1934. |
^6 | رواه البخاري: 5520، ومسلم: 1941. |
^7 | رواه البخاري: 5510، ومسلم: 1942. |
^8 | رواه أبو داود: 3790، والنسائي: 4331، وابن ماجه: 3198. |
^9 | رواه أبو داود: 3799. |
^10 | رواه أبو داود: 3799، وأحمد: 8954. |
^11, ^14 | سبق تخريجه. |
^12 | رواه أبو داود: 3801، والترمذي: 1791، والنسائي: 2836، وابن ماجه: 3236. |
^13 | رواه أبو داود: 3871، والنسائي: 4355، وأحمد: 16069. |