جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويَحتاج إلى معرفتها المسلم، يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: أهلًا وسهلًا، حياكم الله، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
من أحكام ومسائل الصيام
شيخنا، في حلقتين ماضيتين ذكرنا شيئًا من مسائل الصيام وأحكامه، ولعلنا في هذه الحلقة نستكمل الحديث في هذا الباب بإذن الله .
مما يُسأل عنه في باب الصيام: بعضهم يُفطِر بسبب العمل، يجد مشقةً أثناء عمله أو دوامه، فيُفطر في نهار رمضان لأجل هذا، فهل هذا الفطر مرخَّصٌ فيه شرعًا؟
حكم الفطر بسبب العمل
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالفطر في نهار رمضان بسبب العمل -وليس بسببٍ آخر من مرضٍ أو سفرٍ أو نحو ذلك من الأعذار التي تُبيح الفطر- هذا لا يجوز، فالعمل -أيًّا كان- ليس عذرًا يُباح معه الفطر، والصوم أهم من العمل، ويمكن أن يُحوِّل عمله إلى الليل، أو يعمل في أول النهار، ونحو ذلك من الحلول، وقد كان الناس قديمًا يعملون في نهار رمضان، ولم يكن الناس يعرفون العمل أصلًا في ليالي رمضان، إنما كان عملهم في نهار رمضان، ولم يقل أحدٌ من الفقهاء: إن العمل يُبيح الفطر مطلقًا، ولكن على الصائم الصبر، إلا إذا كان مريضًا؛ فيُفطر لأجل المرض، أما أن يكون صحيحًا معافًى ويُفطر بسبب العمل لأجل مشقة الصوم، فهذا لا يجوز، وجسم الإنسان له القدرة على تحمل الجوع والعطش لعدة أيامٍ؛ ولذلك لما وقعت زلازل في بعض البلدان؛ وُجِد أناسٌ أحياءً بعد أسبوعٍ تحت الأنقاض، بل وُجد أناسٌ أحياءً بعد هذه المدة، وأمكن إنقاذهم مع انقطاعهم عن الطعام والشراب طوال هذه المدة، فجسم الإنسان له القدرة على التحمل، إلا إذا كان الإنسان مريضًا، إذا كان مريضًا؛ جاز له الفطر، لكن إذا لم يكن مريضًا، إنسانٌ صحيحٌ معافًى شابٌّ ويقول: أنا أريد أن أفطر لأجل العمل، هذا لا يجوز، وقد كان النبي كان يَصب على رأسه الماء وهو صائمٌ من شدة العطش [1]، كما جاء في "سنن أبي داود"، وكان الناس عندنا هنا في المملكة وفي غيرها من البلدان قديمًا قبل مجيء المكيفات في رمضان؛ يصبُّون على رءوسهم ماء القِرَب، وينغمسون في بِرَك الماء والمسابح من شدة العطش، ولم يكن أحدٌ يتجرَّأ أو حتى يُفكِّر في أن يُفطر لأجل ذلك، ولكن بعض الناس يُؤتى من جهة قلة الصبر والتحمل، ومن جهة التعود على الرفاهية والترف، فإذا ناله عطشٌ أو جوعٌ بسبب الصوم؛ جزع وبدأ يبحث عن فتوى تُجيز له الفطر، فنقول: إنه إذا لم يكن مريضًا؛ فلا يجوز له الفطر في نهار رمضان لأجل العمل.
المقدم: أحسن الله إليكم، ويُوجِّهون -مثل هؤلاء- إلى أن يفعلوا ما يُخفِّفون به حَرَّ الصوم ومشقته؛ من التبرُّد، أو وضع شيءٍ من الماء على رأسه، ونحو ذلك؟
الشيخ: نعم، يُوجَّهون لفعل الأسباب التي تُخفِّف مشقة الصوم؛ من ذلك مثلًا: أن يكون عند المكيِّف، ولا يذهب للأماكن التي تكون فيها شدة الحَرِّ، لا يذهب إلى الأماكن المكشوفة أو يكون تحت أشعة الشمس، مثلًا يستحم، هذا مما يُخفِّف، يَصب على رأسه الماء، يُحوِّل العمل إلى الليل أو إلى أول النهار، ونحو ذلك من الأسباب.
هل طولُ النهار عذرٌ للفطر؟
المقدم: أحسن الله إليكم، وهل يُشبه هذا في الحكم: إذا كان النهار طويلًا، يعني كانت مشقة الصوم بسبب طول النهار؟
الشيخ: كذلك أيضًا، حتى ولو كان النهار طويلًا، هذا ليس عذرًا يُبيح الفطر، إلا إذا كان مُطْبِقًا، يعني يكون النهار أربعًا وعشرين ساعةً، كما يكون في القطبين في بعض فترات السنة، فهؤلاء يعملون بالتقدير، هؤلاء عندهم فتاوى من أهل العلم أنهم يعملون بتقدير النهار على أقرب بلدٍ يتمايز فيه الليل من النهار، لكن إذا كان مجرد أن طول النهار طولٌ مفرطٌ؛ فهذا لا يُبيح الفطر؛ مثلًا: عندنا في المملكة العربية السعودية قد يصل النهار إلى ست عشرة ساعةً، أو سبع عشرة ساعةً، والناس يصومون ويتحملون الجوع والعطش، في بعض البلدان قد يصل إلى ثمان عشرة ساعةً، أو تسع عشرة ساعةً، مع أن بلادهم أكثر برودةً من بلادنا؛ يعني طولُ النهار لا يُعتبر عذرًا للفطر.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
هل مجرد العزم على الإفطار مفسدٌ للصيام؟
شيخنا، هناك مسألةٌ دقيقةٌ نوعًا ما، وهي متعلقةٌ بالفطر في الصوم الواجب: بعضهم يعقد العزم على الفطر، لكنه لم يُفطر حقيقةً أو يقطع نية الصيام؛ كأن يقول مثلًا: سأنوي الإفطار إذا ذهبت وسافرت، فهل مجرد العزم على الإفطار مفسدٌ للصيام؟
الشيخ: النية ركنٌ في الصيام، وتؤثر على كثيرٍ من أحكام الصيام؛ لأن حقيقة الصيام: الإمساك بنيةٍ، فآكد أركان الصيام: النية، فتجد في العبادات عندما ننظر للأركان؛ آكد أركان الصلاة ما هو؟ السجود، آكد أركان الحج: الوقوف بعرفة، آكد أركان الصيام: النية؛ لأن حقيقة الصيام: إمساكٌ بنيةٍ، فإذا كان لم يقطع النية، وإنما عزم على قطعها؛ كأن يكون مسافرًا، ويقول: إذا وصلتُ إلى فندقٍ؛ سأفطر، ثم بعد ذلك غيَّر رأيه ولم يُفطر، فصومه صحيحٌ؛ لأنه لم يقطع النية، لكن إذا قطع النية بقلبه، هنا فسد صومه؛ لأن حقيقة الصيام إمساكٌ بنيةٍ، فإذا جزم بقطع النية؛ فسد الصوم، أما إذا عزم على أنه سيقطع النية لكنه لم يقطعها؛ فصومه صحيحٌ.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا.
أثر القيء على الصيام
ما يتعلق بالقيء -أجلَّكم الله والسامعين- هل يُؤثِّر على الصوم بالإفساد؟
الشيخ: هذا متعلِّقٌ بالمفطِّرات ومفسدات الصيام، فمما ذُكر: القيء عمدًا، وقد جاء في هذا حديث أبي هريرة أن النبي قال: من ذَرَعَه القيء؛ فليس عليه قضاءٌ، ومن استقاء؛ فليقضِ [2]، وهذا الحديث أخرجه الترمذي في "جامعه"، ولكنه لا يصح مرفوعًا إلى النبي ، إنما هو موقوفٌ على أبي هريرة ، لكن قال الترمذي: "العمل عليه عند أهل العلم، وبه يقول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق"؛ وعلى هذا فنقول: إن من تعمد القيء؛ يفسد صومه؛ لقوله : من استقاء؛ فليقضِ، لكن من غلبه القيء واستقاء رغمًا عنه فليس عليه قضاءٌ، أحيانًا الإنسان قد يتعمد القيء؛ لكونه يشعر بغثيانٍ شديدٍ ويتضايق من ذلك، فيريد أن يستقيء من أجل أن يرتاح، فهذا يَفسُد صومه، لكن إذا غلبه وذَرَعَه القيء بغير اختياره؛ فصومه صحيحٌ.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
أثر التحاميل على الصيام
لعلنا ندخل في شيءٍ من المفطِّرات التي يَكثر السؤال عنها، من ذلك شيخنا: وضع التحاميل في الدبر -أجلَّكم الله- هل هو مفسدٌ للصيام؟
الشيخ: وضع التحاميل في الدبر يُخرَّج على مسألةٍ ذكرها الفقهاء السابقون: وهي الاحتقان من الدبر، يعني وضع الحقنة في الدبر، فهذا محل خلافٍ بين الفقهاء؛ هل يفسد الصوم أو لا يفسد الصوم؟
- فمنهم من قال: إنه يفسد الصوم، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة؛ لأنها في معنى الأكل والشرب، ويجد الصائم لها أثرًا.
- والقول الثاني: أن الاحتقان -يعني وضع الحقنة في الدبر- لا يُفسد الصوم؛ لأنه ليس أكلًا ولا شربًا، وليس بمعنى الأكل والشرب، وليس هناك دليلٌ يدلُّ على أنه يُفسد الصوم، والأصل صحة الصيام، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، رحمة الله تعالى على الجميع؛ وبناءً على ذلك: فوضعُ التحاميل في الدبر لا يُفسد الصوم؛ بناءً على القول الراجح في أن الاحتقان في الدبر لا يفسد الصوم.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم هذا البيان والإيضاح.
هل بلع النخامة يفسد الصوم؟
أيضًا مما يُسأل عنه في باب المفطِّرات: بلع النخامة، أجلَّكم الله؟
الشيخ: هذه المسألة ربما أن بعض الناس يتقزَّز عند الحديث عنها، لكن نحن في معرض بيان الأحكام الشرعية، ويوجد من الناس من يسأل عنها ويستفتي؛ فلا بد أن تُبيَّن الأحكام الشرعية في هذه المسائل.
بلع النخامة: أولًا إذا لم تصل إلى الفم ولم تبرز في الفم؛ فهذه لا تُفسد الصوم قولًا واحدًا، لكن الكلام فيما إذا وصلت إلى الفم ثم ابتلعها الإنسان -مع أنه ينبغي له ألا يبتلعها؛ كي لا تُلحِق به الضرر، لكن لنفترض أنه ابتلعها- ثم سأل: هل ابتلاع النخامة يُفسد الصوم أم لا؟
في هذه المسألة قولان للفقهاء:
- القول الأول: أن بلع النخامة يُفسد الصوم، وهذا هو المذهب عند الحنابلة؛ وذلك لأنه قد أدخل شيئًا إلى جوفه، أشبه ما لو أدخل مأكولًا أو مشروبًا.
- والقول الثاني في المسألة: إن بلع النخامة لا يُفسد الصوم؛ لأنها ليست أكلًا ولا شربًا، وليست في معنى الأكل والشرب، ولأن الغالب أن الإنسان إنما يحصل له ذلك بغير اختياره، وهذا هو القول الأقرب في هذه المسألة والله أعلم؛ أن بلع النخامة لا يُفسد الصوم؛ وذلك لأن الأصل صحة الصوم، ونتمسك بهذا الأصل ولا نعدِل عنه ونقول بفساد الصوم إلا بأمرٍ واضحٍ، فإنسانٌ حصل في فمه شيءٌ من البلغم أو النخامة أو نحو ذلك فابتلعها، ليس هناك دليلٌ واضحٌ على فساد صومه، ولا يقال: إنها أكلٌ ولا شربٌ، وليست في معنى الأكل والشرب، فالأقرب -والله أعلم- أن بلعها لا يُفسد الصوم، ومِن واقع أسئلة المستفتيين: جُلُّ من يَسأل عن هذه المسألة في الغالب أن عندهم وساوس، لا تجد من يسأل عن هذه المسألة ويقول: هل بلع النخامة يُفسد الصوم أو لا؟ في الغالب عنده شيءٌ من الوسواس؛ ولذلك فترجيح هذا القول يقطع الطريق على الموسوس، نقول: صومك صحيحٌ وهذا لا يضر.
المقدم: أحسن الله إليكم.
هل تحليل الدم مُؤثِّرٌ على الصوم؟
أيضًا مما يُسأل عنه في باب المفطرات: حكم تحليل الدم، وهل تحليل الدم مؤثرٌ على الصوم بالإفساد؟
الشيخ: تحليل الدم: إذا كان الدم المأخوذ للتحليل يسيرًا؛ كالدم الذي يُؤخذ لتحليل السكر ومعرفة مستوى السكر في الدم؛ فهذا لا يُفسد الصوم؛ لأنه دمٌ يسيرٌ، لكن إذا كان الدم الذي يؤخذ للتحليل كثيرًا؛ كأن يكون مثلًا أربعة أنابيب، أو خمسةً أو أكثر، فهذا في معنى دم الحجامة، وهذا يقودنا لمعرفة أثر الحجامة على الصوم، هل الحجامة تُفسد الصوم أم لا؟ فإذا قلنا: إن الحجامة تُفسد الصوم؛ فعلى ذلك: تحليل الدم الكثير يفسد الصوم، وإذا قلنا: إن الحجامة لا تُفسد الصوم؛ فلا يفسد الصوم هذا الدم المستخرج لأجل التحليل، والحجامة اختَلف الفقهاء في كونها مفسدةً للصوم أم لا على قولين مشهورين:
- القول الأول: أن الحجامة تُفسد الصوم، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو من المُفرَدات.
- والقول الثاني قول جماهير الفقهاء: وهو أن الحجامة لا تُفسد الصوم، وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة.
أصحاب القول الأول -وهم القائلون بأن الحجامة تُفسد الصوم- استدلوا بحديث رافع بن خَديجٍ أن النبي لما مر برجلٍ يَحجم آخر قال: أفطر الحاجم والمحجوم [3]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وأحمد، وقد صححه بعض الأئمة والحفاظ، وممن صححه: البخاري وابن المديني وأحمد، ورُوي بأسانيد كثيرةٍ عن عددٍ من الصحابة أوصلها بعضهم إلى ثمانيةٍ وعشرين صحابيًّا.
فإذنْ حجة أصحاب هذا القول: هو هذا الحديث: أفطر الحاجم والمحجوم، وكما ذكرنا أنه من جهة الصناعة الحديثية: حديثٌ صحيحٌ، وهو صريحٌ أيضًا في أن الحجامة تُفسد الصوم.
جمهور الفقهاء -القائلون بأن الحجامة لا تفسد الصوم- استدلوا بما جاء في "صحيح البخاري" عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي احتجم وهو مُحرِمٌ، واحتجم وهو صائمٌ [4]، وقالوا: إن حديث: أفطر الحاجم والمحجوم، منسوخٌ.
والراجح -والله أعلم- هو القول الأول: وهو أن الحجامة تُفسد الصوم، وقد اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ كابن تيمية وابن القيم، رحمهم الله تعالى؛ لأن الحديث الوارد في ذلك حديثٌ صحيحٌ وصريحٌ: أفطر الحاجم والمحجوم، قال ابن تيمية رحمه الله: "القول بأن الحجامة تفطِّر مذهب أكثر فقهاء الحديث؛ كأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم، وأهل الحديث، الفقهاء فيه، العاملون به، أخصُّ الناس باتباع محمدٍ "، قال: "وقد بيَّنَّا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاء والاستمناء، وإذا كان كذلك؛ فبأي وجهٍ أراد إخراج الدم أفطر؛ كما أنه بأي وجهٍ أخرج القيء أفطر، سواءٌ جذب القيء بإدخال يده، أو بشمٍّ ونحو ذلك"، قال: "فتبين بذلك كمال الشرع واعتداله وتناسبه، وأن ما ورد من النصوص ومعانيها فإن بعضه يُصدِّق بعضًا ويُوافقه، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء:82]"، هذا كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله.
أما استدل به الجمهور:
- أولًا: دعوى النسخ، أن حديث: أفطر الحاجم والمحجوم [5]، منسوخٌ، لا يُسلَّم بذلك؛ لأن النسخ يحتاج إلى معرفة المتقدِّم من المتأخِّر، وهذا غير واردٍ هنا، والأصل عدم النسخ، وأما حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي احتجم وهو محرمٌ، واحتجم وهو صائمٌ [6]، وهذا وإن كان في "صحيح البخاري"؛ إلا أن المحفوظ من روايته: أن النبي احتجم وهو محرمٌ، وهذا القدر من الرواية هو الذي اتفق عليه البخاري ومسلمٌ، فإن مسلمًا أخرج هذا الحديث بلفظ: أن النبي احتجم وهو محرمٌ [7]، ولم يقل: وهو صائمٌ، أما رواية: وهو صائم، فهي غير محفوظةٍ، فيكون المحفوظ من الحديث: ما اتفق عليه البخاري ومسلم: احتجم وهو محرمٌ، دون زيادة: وهو صائمٌ.
- ثم على تقدير صحة الرواية، قد يقول قائلٌ: إن رواية: احتجم وهو صائمٌ، في "البخاري"، فعلى تقدير ثبوتها، فكما ذكر الإمام بن القيم: أن هذا يَحتمِل أمورًا؛ يحتمل أن النبي فعل ذلك في السفر، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه غالبًا يُفطر في أسفاره، يحتمل أنه فعل ذلك لمرضٍ، والمريض يجوز له الفطر، ويَحتمِل أن الصيام صيام نافلةٍ، ويحتمل غير ذلك، ومن المعلوم: أنه إذا تعارضت دلالة القول ودلالة الفعل؛ أن دلالة القول مقدمةٌ على دلالة الفعل، وبهذا يُعلَم بأن القول الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة: ما ذهب إليه فقهاء الحنابلة: وهو أن الحجامة تُفسد الصوم.
وعلى ذلك: فنعود للمسألة التي قد سُئل عنها: وهي تحليل الدم، إذا كان الدم المأخوذ للتحليل كثيرًا في معنى دم الحجامة؛ فيفسد الصوم بذلك، أما إذا كان الدم المستخرَج يسيرًا؛ كالدم الذي يُستخرَج لقياس مستوى السكر ونحوه، أو الدم الذي يَخرج عند قلع السن ونحو ذلك؛ فهذا لا يُفسد الصوم.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
هل التبرع بالدم مفسد لصيام الحاجم والمحجوم؟
إذنْ شيخنا يؤخذ من هذا التأصيل والتخريج: أن التبرع بالدم مفسدٌ للصوم؛ باعتبار أنه في حكم الدم الكثير.
الشيخ: نعم، التبرع بالدم يُعتبر مفسدًا للصوم؛ لأنه خروجٌ لدمٍ كثيرٍ، لكن مع ذلك، لو احتِيج إلى هذا؛ كإنسانٍ مريضٍ أو معه نزيفٌ وطلب الأطباء تبرعًا؛ فلا بأس أن الإنسان يتبرع بالدم، ويقضي هذا اليوم بعد رمضان، وهو مأجورٌ على ذلك؛ لإحسانه لأخيه المسلم.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
أيضًا شيخنا من المسائل المتعلقة بالحجامة، وقد أشرتم إليها قبل قليلٍ: حكم الحاجم هنا هل يفسد صومه أيضًا؟
الشيخ: هذا مما أورده الجمهور على الحنابلة، قالوا: إذا كنتم تتمسكون بهذا الحديث: أفطر الحاجم والمحجوم، طيب لو سلَّمنا لكم بفساد الصوم بالنسبة للمحجوم؛ فما بال الحاجم؟!
والجواب عن ذلك: أن الحاجم، كما قال ابن تيمية رحمه الله: "قديمًا لما كانت الحجامة باجتذاب الهواء الذي يكون في القارورة، فالحاجم يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء عندما يجتذبه الحاجم؛ يجتذب ما فيه من الدم، فربما صعد مع الهواء شيءٌ من الدم ودخل إلى حلقه وهو لا يشعر"، فالحاجم عندما يمصُّ الدم تنفُذ أجزاءٌ لطيفةٌ من الدم إلى جوفه، وهذا بناءً على الحجامة قديمًا.
أما في الوقت الحاضر: فقد أصبحت الحجامة بغير الجذب وبغير المص، أصبحت عن طريق تفريغ الهواء، فإذا كانت الحجامة بطريق تفريغ الهواء؛ فإن الحاجم لا يفسد صومه، أما إذا كانت الحجامة بالحجامة التي كانت موجودةً على عهد النبي ، والتي يَمص فيها الحاجم دم المحجوم؛ فيفسد صومه لأجل ذلك.
المقدم: جميلٌ! أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
هل خروج المذي مفسد للصوم؟
شيخنا، أيضًا من المسائل المتعلقة بالمفطرات: خروج المذي -أجلَّكم الله- هل هو مفسدٌ للصيام؟
الشيخ: المَذْي بالذال: هو سائلٌ لزجٌ يخرج عند اشتداد الشهوة، ويخرج من الرجل ومن المرأة جميعًا، وهو بخلاف المَنِيِّ، المني يخرج دفقًا بلذَّةٍ، ومفسدٌ للصوم بالإجماع، خروجه مفسدٌ للصوم بالإجماع، لكن خروج المذي اختلف الفقهاء في كونه مفسدًا للصيام على قولين:
- القول الأول: أن الصوم يَفسُد بخروج المَذْي قياسًا على المنيِّ، واستدل أصحاب هذا القول بقول النبي عن الله : كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع..، وهذا موضع الشاهد: يدع شهوته وطعامه من أجلي [8]، قالوا: وهذا الذي قد خرج منه المذي لم يدع شهوته؛ فيَفسد صومه، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة.
- والقول الثاني في المسألة: أن خروج المذي لا يُفسد الصوم، وهذا هو مذهب الحنفية والشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة؛ قالوا: لأنه لا دليل يدل على أن خروج المذي يُفسد الصوم، والأصل صحة الصيام، ولِمَا جاء في "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي يُقبِّل ويُباشِر وهو صائمٌ، ولكنه كان أَمْلَكَكُم لإرْبه [9]، الحديث في "الصحيحين"، قالوا: والتقبيل والمباشرة للزوجة مَظِنَّةٌ لخروج المذي، وهذا القول الثاني -وهو أن خروج المذي لا يفسد الصوم- هو القول الراجح والله أعلم، واختاره الإمام ابن تيمية رحمه الله، ومن مشايخنا: الشيخ عبدالعزيز بن بازٍ، والشيخ محمد بن العثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع.
وأما ما استدل به القائلون بأن خروج المذي يُفسد الصوم من حديث: يدع شهوته وطعامه من أجلي، فالمقصود بقوله: يدع شهوته: الجماع وما يتعلق به، والأحاديث يُفسِّر بعضها بعضًا، وقياس المذي على المنيِّ قياسٌ مع الفارق، وبينهما فرقٌ كبيرٌ، خروج المنيِّ موجبٌ للغسل، بينما خروج المذي لا يوجب الغسل، والمنيُّ طاهرٌ، والمذي نجسٌ، وإن كانت نجاسته مخفَّفةً، فالقياس قياسٌ مع الفارق.
ثم إن هذه المسألة -أعني كون خروج المذي يفسد الصوم- مما تعُمُّ به البلوى، وتحتاج الأمة إلى بيانها، فلو كان خروج المذي مفسدًا للصوم؛ لبيَّن هذا النبي للأمة بيانًا واضحًا، ولاستفاض ذلك واشتهر كما اشتهر أن خروج المني يُفسد الصوم، وأن خروج دم الحيض والنفاس يُفسد الصوم، ونحو ذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ وعلى هذا: فالراجح -والله أعلم- أن خروج المذي لا يُفسد الصوم.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
أثر قطرة الأنف والعين والأذن على الصوم
شيخنا، القطرات التي يستخدمها الإنسان، هل هي مؤثِّرةٌ على صيامه، سواءٌ كانت قطرة الأنف، أو قطرة العين، أو قطرة الأذن؟
الشيخ: أما قطرة الأنف: فتُفسد الصوم إذا وصل ماؤها للحلق، إذا وصل ماؤها للجوف؛ تُفسد الصوم؛ لأن الأنف يُعتبر طريقًا إلى الجوف، وإن كان طريقًا غير معتادٍ، لكن يُصار إليه عند تعذُّر وصول الطعام والشراب عن طريق الفم؛ ولهذا بعض المرضى الذين يَتعذَّر إعطاؤهم الطعام والشراب عن طريق الفم يُعطَونهما عن طريق الأنف كما هو حاصلٌ في المستشفيات، ويدل لذلك أيضًا: حديث لَقِيط بن صَبِرة أن النبي قال: وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائمًا [10]، فاستثناء الصوم من المبالغة في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا دليلٌ على أن وصول الماء إلى الحلق عن طريق الأنف يُفسد الصوم؛ وعلى ذلك فقطرة الأنف إذا كان ماؤها يصل إلى الحلق عن طريق الفم أو الأنف؛ فهي تُفسد الصوم؛ لأنه لا فرق بين وصول ماء الوضوء أو قطرة الأنف، فإذا كان ماء قطرة الأنف يصل إلى الحلق؛ فتُفسد الصوم.
وأما قطرة العين والأذن: إذا وصل ماؤها إلى الحلق؛ هل تفسد الصوم؟
في هذا قولان لأهل العلم:
- منهم من قال: إنه إذا وصل ماؤهما إلى الحلق؛ فيفسد الصوم.
- ومنهم من قال: إنها لا تُفسد، حتى لو وجد طعمهما في حلقه.
والقائلون بأن قطرة العين والأذن تُفسد الصوم، قالوا: إنه إذا وصل ماؤها إلى الحلق، فقد وصل إلى الجوف، فيفسد الصوم.
والقائلون بأنها لا تُفسد الصوم، يقولون: إن العين والأذن ليستا بمنفذٍ معتادٍ للطعام والشراب، بينما الأنف منفذٌ للأكل والشرب عند الحاجة؛ ولهذا عندما يتعذَّر إعطاء المريض -كما ذكرنا قبل قليلٍ- عن طريق الفم؛ فإنه يُعطَى عن طريق أنفه، أما العين والأذن فيستحيل أن يُعطى المريض الطعام والشراب عن طريق عينه أو أذنه، هل رأيت إنسانًا أُعطي طعامًا أو شرابًا عن طريق العين أو عن طريق الأذن؟! هذا لا يوجد، هذا مستحيلٌ؛ وهذا يدل على أن العين والأذن ليستا بمنفذٍ للطعام والشراب؛ وعلى هذا: فالقول الراجح: أن قطرة العين والأذن لا تفسدان الصيام، حتى لو وجد طعمهما في حلقه، فنقول: لو وجد طعمه في الحلق، فهذا الذي يجده رطوبةٌ، هو مجرد رطوبةٍ، وليس في ذلك نفوذٌ للطعام والشراب.
فالخلاصة: أن قطرة العين والأذن لا تُفسدان الصيام، وأما قطرة الأنف فتُفسد الصيام إذا وصل ماؤها للجوف.
المقدم: جميلٌ! شكر الله لكم شيخنا، وجزاكم خيرًا على هذا البيان والإيضاح.
والحقيقة أننا لا نزال في ذكر شيءٍ من مسائل الصيام وأحكامه؛ ولذا استأذنكم أن نكمل في الحلقة القادمة بقية المسائل المتعلقة بهذا الباب.
الشيخ: إن شاء الله تعالى.
المقدم: أحسن الله إليكم.
إلى هنا -أيها الإخوة المستمعين والمستمعات- نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله جل في علاه أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء على هذا البيان والإيضاح.
والشكر موصولٌ لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه أبو داود: 2365. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 2380، والترمذي: 720، والنسائي: 3130، وابن ماجه: 1676. |
^3 | رواه أبو داود: 2367، والترمذي: 774، والنسائي: 3134، وابن ماجه: 1680، وأحمد: 22503. |
^4 | رواه البخاري: 1938. |
^5, ^6, ^8 | سبق تخريجه. |
^7 | رواه مسلم: 1202. |
^9 | رواه البخاري: 1927، ومسلم: 1106. |
^10 | رواه أبو داود: 142، والترمذي: 788، والنسائي: 87، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. |