logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(37) برنامج مجالس الفقه- المسائل والأحكام المتعلقة بالصيام

(37) برنامج مجالس الفقه- المسائل والأحكام المتعلقة بالصيام

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويحتاج لمعرفتها المسلم، يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: مرحبًا بكم وأهلًا، وحياكم الله وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

المسائل والأحكام المتعلقة بالصيام

شيخنا، في هذه الحلقة لعلنا نذهب إلى شيءٍ من المسائل والأحكام المتعلقة بالصيام، هذا الركن العظيم فيه كثيرٌ من المسائل والأحكام التي يَحتاج إلى معرفتها كل مسلمٍ، فقبل البدء بذكر بعض المسائل؛ أودُّ شيخنا لو بينتم لنا حقيقة الصيام، أو تعريف الصيام اصطلاحًا عند الفقهاء.

تعريف الصيام لغةً واصطلاحًا

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالصيام مجرد الإمساك، هذا معناه في اللغة، هذه المادة في اللغة العربية تدور حول معنى الإمساك، ومنه قول الله عن مريم عليها السلام: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم:26]، وقولها: صَوْمًا، يعني إمساكًا عن الكلام، وتقول العرب: صام النهارُ، إذا وقف سير الشمس في مرأى العين، حينما تكون في كبد السماء، ومنه قول الشاعر:

خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ تحتَ العَجَاج وأخرى تَعْلُك اللُّجُما [1]

فقوله: خيلٌ صيامٌ، أي: ممسكةٌ عن الصَّهيل، فإذنْ هذه المادة في اللغة العربية تدور حول معنى الإمساك.

وأما تعريفه اصطلاحًا: فهو التعبد لله بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، هذا القيد يذكره جمعٌ من الفقهاء: "التعبد لله"، في عددٍ من التعريفات الاصطلاحية الفقهية، فهل هذا القيد معتبرٌ في هذه التعريفات؟

الشيخ: نعم، معتبرٌ؛ لأنه لو لم يكن هناك نية التعبُّد، وإنما كان إمساكًا لغرضٍ آخر؛ لم يكن صيامًا شرعًا، لم يكن صيامًا بالمعنى الشرعي، وبعض الناس مثلًا يعمل حِمْيةً لتخفيف الوزن، فيُمسك عن الأكل والشرب والمفطرات، لا يقصد بذلك التعبد، وإنما يقصد الحمية، فهذا لا يُعتبر صومًا بالمعنى الشرعي؛ ولذلك لا بد من هذا القيد: التعبد لله تعالى بالإمساك.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

فضل الصيام

شيخنا، لو عرَّجتم بنا بذكر شيءٍ من فضل الصيام والأحاديث والآيات الواردة في ذلك.

الشيخ: الصيام عبادةٌ عظيمةٌ من أجَلِّ وأفضل العبادات، ولها خصائص لا توجد في غيرها، ومن ذلك: أن ثواب الصيام غير مقدَّرٍ بعددٍ معينٍ، وإنما يُجرِي الله تعالى عليه جزاءً خاصًّا من عنده؛ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به؛ يدع طعامه وشهوته لأجلي، فقوله: إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به، هذا يدل على أن الثواب على الصيام يكون ثوابًا خاصًّا؛ لأن الله تعالى قال في هذا الحديث القدسي: كلُّ عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعفٍ، إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به [2].

والعطية -كما يقال- بقدر مُعطِيها، الله تعالى هو أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، فهذا الجزاء الخاص سيكون عظيمًا؛ كما لو قال معلمٌ مثلًا للطالب الفلاني: أنت لك جائزةٌ كذا، وأنت كذا، أما أنت -يا فلان- فلك جائزةٌ خاصةٌ عندي، فالذي يُفهَم: أن هذه الجائزة الخاصة أفضل من جوائز بقية زملائه؛ وهذا يدل على عظيم أجر الصيام.

وجاء في حديث أبي أمامة أن النبي قال: عليك بالصوم؛ فإنه لا مِثل له [3]، أخرجه أحمد بسندٍ صحيحٍ.

لا مثل له أي: في الأجر والثواب، سواءٌ كان صيام فريضةٍ، أو كان صيام تطوعٍ، ثم إن الصائم يُؤجر طوال وقت الصيام؛ لأنه متلبِّسٌ بعبادة الصوم، وهذا لا نظير له، قال أبو العالية: "الصائم في عبادةٍ، ما لم يغتب أحدًا، وإن كان نائمًا على فراشه"، وكانت حفصة بنت سيرين تقول: "يا حبذا عبادةٌ وأنا نائمةٌ على فراشي!"، فهذا لا نظير له، يعني تكون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وأنت في عبادةٍ إذا كنت صائمًا، فتكون طوال هذا الوقت في عبادةٍ؛ وهذا يدل على عظيم الأجر والثواب لهذه العبادة.

وأعظم ما يكون الأجر: للصوم الواجب، وهو صوم رمضان؛ ولهذا قال : من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِر له ما تقدم من ذنبه [4]، أخرجه البخاري ومسلم.

فوعَد النبي من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا بالمغفرة، والمقصود عند الجمهور: مغفرة الصغائر، ولا يشمل ذلك الكبائر عند جمهور أهل العلم، لكن أيضًا صيام النافلة له فضلٌ ومزيد خصوصيةٍ؛ ولذلك ينبغي للمسلم أن يجعل له -بعد المحافظة على الصيام الواجب- نصيبًا من صيام النافلة، يصوم ما تيسر، ومن ذلك صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ، أو صيام يوم الاثنين والخميس، وصيام الأيام الست من شوالٍ، وصيام عاشوراء، ونحو ذلك من صيام النافلة.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

مراحل فرضية الصيام

شيخنا، فريضة الصيام أو عبادة الصوم، هل فُرضت دفعةً واحدةً، أو أنها جاءت على مراحل في هذا الباب؟

الشيخ: صيام رمضان فُرض على مراحل:

كان ابتداء فرضيته في السنة الثانية من الهجرة، وصام رسول الله تسع رمضاناتٍ، وكان فرض الصيام على ثلاث مراحل:

  • المرحلة الأولى: فرض صيام عاشوراء، فقد كان عاشوراء صيامه واجبًا؛ كما جاء في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم عاشوراء تصومه قريشٌ في الجاهلية، وكان النبي يصومه، فلما قدِم المدينة؛ صامه وأمر بصيامه، فلما نزل رمضان؛ كان رمضان الفريضة، وتُرِك عاشوراء، فكان من شاء صامه، ومن شاء لم يصمه" [5]، وهذا الحديث في "الصحيحين"، ويدل أن صيام عاشوراء كان واجبًا ثم نُسخ ذلك بفرضية صيام شهر رمضان.
  • المرحلة الثانية: فرض صيام رمضان مع التخيير بين الصيام والإطعام؛ كما دل لذلك قول الله : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184]، فكان المسلم مخيَّرًا بين أن يصوم، أو أن يُطعِم عن كل يومٍ مسكينًا، لكن الصيام أفضل من الإطعام؛ لهذا قال سبحانه: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ -يعني: من الإطعام- إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، هذه المرحلة الثانية.
  • المرحلة الثالثة: فرض صيام رمضان على التعيين؛ كما دل لذلك قول الله : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].

والحكمة من هذا التدرج والله أعلم: هو أن الصوم فيه مشقةٌ على النفوس، ولم يكن مألوفًا لدى الناس، فاقتضت حكمة الله أن يكون فرضه بهذا التدرُّج، وهذا مألوفٌ في الشريعة؛ أن ما كان شاقًّا؛ يُتدرج في فرضيته، أو حتى في باب المنهيات؛ يُتدرج في تحريمه؛ كما في تحريم الخمر، فإن الخمر كان تحريمها على مراحل، ثم بعد ذلك كان التحريم تحريمًا عامًّا، فهذا من حكمة هذه الشريعة، أن ما كان يَشق على النفوس؛ يكون فرضه متدرِّجًا، سواءٌ كان ذلك فيما فُرض، أو حتى ما كان في باب المنهيات يكون أيضًا تحريمه متدرِّجًا؛ كما في تحريم الخمر.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا، هل يمكن أن يستفاد من هذه القضية أن يكون هذا منهجًا للداعية أو طالب العلم أو المربي: أن الأمور الشاقة التي تشق على النفوس -سواءٌ إتيانًا أو تركًا- أن يتعاطاها الإنسان بالتدرج، أو يحث عليها بالتدرج؟

الشيخ: نعم، هذا ينبغي أن يكون مبدأً، خاصةً للدعاة إلى الله ، وخاصةً أيضًا مع المسلمين الجُدُد، فيتألف هذا المسلم الجديد، ويُعطى الأوامر الشرعية بالتدرج؛ حتى لا ينفر منها؛ فمثلًا: الختان، لا يُذكر له في بداية إسلامه، إنما يُؤجَّل حتى ترسخ قدمه في الإسلام ويقوى إيمانه، ونحو ذلك، فينبغي التدرج، ينبغي -خاصةً للدعاة إلى الله - أن يكون لديهم هذا المبدأ، وأن يكون عندهم تدرجٌ في الدعوة، خاصةً فيما يشق على النفوس؛ لأن هذا ربما يَصد عن اعتناق الإِسلام، يعني بعض غير المسلمين عندما يُدعى إلى الإسلام؛ يظن أن الإسلام سيَحرِمه من ملاذِّه وشهواته، فلا يُسلِم لأجل هذا السبب، لكن لو أن الداعي تدرج معه شيئًا فشيئًا؛ فربما يكون ذلك سببًا لإسلامه.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم الاعتماد على رؤية الهلال بالمناظير أو الـ(تلسكوبات)

شيخنا، من المسائل المتعلقة بالصيام: حكم الاعتماد على رؤية الهلال عن طريق المناظير أو المكبرات، أو ما يُعرف بـالــ(تلسكوبات) ونحوها، هل هي معتبرةٌ شرعًا في الرؤية؟

الشيخ: أولًا المعتبر في ثبوت الشهر: هو الرؤية؛ لقول النبي صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم؛ فأتموا العدة ثلاثين [6]، فالمعتبر: هو الرؤية، والرؤية تكون بالعين المجردة كما هو معلومٌ، لكن تكون كذلك عن طريق مكبرات الرؤية، ومن ذلك المناظير و(الدرابيل والتلسكوبات) ونحو ذلك؛ لأن هذه هي مكبرةٌ للرؤية، وكما أنه لا فرق بين ما تراه أنت بالعين المجردة مباشرةً، وبين ما تراه عبر النظارة؛ كذلك أيضًا لا فرق بين رؤية الهلال بالعين المجردة، أو رؤية الهلال عبر المناظير أو (الدرابيل أو التلسكوبات) ونحوها، فإذا رُؤي الهلال عن طريق أي وسيلةٍ من وسائل تكبير الرؤية؛ فلا مانع شرعًا من الاعتماد على هذه الرؤية في إثبات الأهِلَّة، وهذه المسألة قد أُقِرَّت من "هيئة كبار العلماء" في المملكة العربية السعودية قديمًا، منذ عام (1403هـ)، وصدر فيها قرارٌ بأنه لا بأس بالاعتماد على الرؤية عن طريق وسائل التكبير عن طريق المناظير أو (الدرابيل أو التلسكوبات) أو غيرها.

فإذنْ من الناحية الشرعية: لا بأس بالاعتماد على الرؤية عبر هذه المكبرات.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

تقنية (CCD) وحكم الاعتماد عليها في رؤية الهلال

هناك تقنيةٌ -شيخنا- طُرحت وصار فيها نقاشٌ بين الفقهاء المعاصرين: وهي ما يُعرف بتقنية (CCD)، أولًا: ما المراد بهذه التقنية، ما المقصود بها؟ وثانيًا: هل يجوز الاعتماد عليها في رؤية الهلال؟

الشيخ: هذه التقنية _رؤية الهلال عبر تقنية (CCD)- هذه من النوازل، تُعتبر نازلةً من النوازل الفقهية؛ ولذلك لا بد أولًا أن نُعطي تصويرًا لهذه التقنية أولًا، أو الرؤية عبر هذه التقنية.

فهذه الكاميرا (CCD): عبارة عن كاميرا متطورةٍ تُركَّب على الــ(تلسكوب)، وتُستخدم في التصوير الفلكي، وتتضمن التقاط عدة صورٍ للهلال، قد تصل إلى ثلاثمئة صورةٍ في الدقيقة، ومن ثَم يتم تجميعها عن طريق برنامجٍ حاسوبيٍّ متخصصٍ بصورةٍ واحدةٍ، وتتم معالجة الصورة من خلال ضبط قيم التباين وإعداداتٍ أخرى، وبعد ذلك يمكن أن يُرى الهلال.

وتتميز هذه الكاميرا بأنها قادرةٌ على رؤية الهلال حتى في وضح النهار، وحتى لو كانت رؤية الهلال غير ممكنةٍ بالعين المجردة ولا بـ(التلسكوب)، ورؤية الهلال بكاميرا (CCD) نهارًا لا يُعتَدُّ بها مطلقًا، سواءً كانت قبل الزوال أو بعد الزوال، وسواءٌ كانت الرؤية بها بتكديس مجموعة صورٍ للهلال، أو بالتقاط صورةٍ واحدةٍ، أو حتى برؤيةٍ حيةٍ مباشرةٍ للهلال؛ وذلك لأن رؤية الهلال المعتبرة لا بد أن تكون بعد غروب الشمس، أما قبل غروب الشمس فإنها غير معتبرةٍ، حتى لو كانت بالعين المجردة؛ غير معتبرةٍ، لا بد أن تكون رؤية الهلال بعد غروب الشمس، لكن لو قُدِّر أنه تمت رؤية الهلال بكاميرا (CCD) بعد الغروب؛ فلا تخلو هذه الرؤية من ثلاث حالات:

  • الحال الأولى: أن تكون رؤيةً حيةً مباشرةً للهلال، فهذه رؤيةٌ معتبرةٌ شرعًا، وهي كرؤية الهلال عن طريق المكبرات التي تكلمنا عنها قبل قليلٍ؛ المناظير أو (التلسكوبات أو الدرابيل) ونحوها.
  • الحال الثانية: أن تكون رؤية الهلال بها بطريق تجميع الصور وتكديس بعضها مع بعضٍ؛ ليظهر الهلال، فرؤية الهلال بهذه الحال غير معتبرةٍ؛ لأنها ليست رؤيةً شرعيةً للهلال، وليست في معنى الرؤية.
  • الحال الثالثة: تصوير الهلال تصويرًا طبيعيًّا من غير تكديسٍ ولا معالجةٍ عبر الحاسوب، وهذه محل نظرٍ واجتهادٍ، والذي يظهر أنها لا تخلو من حالين:
    • الحال الأولى: أن يمكن رؤية الهلال بعدسة الكاميرا أثناء التصوير، فهذه تُلحَق بالحالة الأولى، وتكون معتبرةً؛ لأنها في الحقيقة رؤيةٌ حقيقيةٌ بالعين.
    • والثانية: ألا يمكن رؤية الهلال بها أثناء التصوير، فهذه تُلحَق بالحالة الثانية، فلا يُعتَدُّ بها شرعًا؛ إذ إنها مجرد صورةٍ للهلال، وليست عينَ الهلال.

وعلى هذا نقول: إن رؤية الهلال عبر هذه التقنية لا تُعتبر إلا إذا كانت رؤيةً حيةً مباشرةً للهلال بعد غروب الشمس، فهذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن أن تُعتبر.

أما إذا كانت عبر تجميع الصور، أو تكديس بعضها مع بعضٍ، أو عبر التصوير، ولا يمكن رؤية الهلال بها أثناء التصوير؛ فهذه كلها غير معتبرةٍ شرعًا، لكن حتى الآن لا يمكن أن يُرى الهلال عبر تقنية (CCD) إلا نهارًا، حتى الآن لا يمكن رؤية الهلال عبر هذه التقنية ليلًا؛ ولذلك لم يُحْتَفَ بها في العالم الإسلامي؛ لأنه يُشترط في رؤية الهلال أن يكون بعد غروب الشمس، فالتقنية الموجودة الآن تَظهر نهارًا؛ ولذلك يُتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي صورُ الهلال نهارًا، وهذه غير معتبرةٍ على جميع التقديرات، حتى لو كانت رؤيةً حيةً مباشرةً، لكن لا ندري، ربما في المستقبل تتقدم هذه التقنية ويمكن رؤية الهلال عبرها بعد غروب الشمس.

لو قُدِّر أن هذا حصل في المستقبل؛ فنقول: إنها إنما تُعتبر إذا كانت رؤيةً حيةً مباشرةً، أما عن طريق تجميع الصور وتكديس بعضها ببعضٍ، أو عن طريق مجرد صورةٍ للهلال، هذه كلها غير معتبرةٍ.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

شيخنا، أذكر لكم بحثًا في هذا كتبتموه أليس كذلك؟

الشيخ: نعم، هو بحثٌ مقدمٌ إلى أحد المجامع الفقهية، وخَلُصتُ فيه إلى هذه النتيجة.

المقدم: شكر الله لكم.

شروط وجوب صيام رمضان

أيضًا شيخنا من المسائل: لو بينتم لنا بإيجاز شروط وجوب صيام رمضان؟

الشيخ: نعم، شروط وجوب صيام رمضان:

  • أولًا: اشتراط الإسلام، شرط الإسلام، وهذا الشرط شرطٌ لجميع العبادات، فالصوم لا يجب على الكافر؛ لأن الصوم يُشترط له النية، والنية لا تصح من الكافر، ولكن ليس معنى هذا أن الكافر غير محاسبٍ على ترك الصيام، بل هو محاسبٌ على ترك الصيام وترك الصلاة وترك سائر الواجبات الشرعية، يعني إذا كان المسلم محاسبًا على تركها؛ فكذلك الكافر؛ كما قال الله تعالى عن المجرمين: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43]، وفي آخر الآيات: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:46]، هذا يدل على أنهم كفارٌ؛ لأن تكذيب يوم الدين لا يكون إلا من كافرٍ، ومع ذلك حُوسِبوا على ترك الصلاة، وإذا حوسبوا على ترك الصلاة؛ فيُحاسَبون على ترك الصيام وسائر الواجبات الشرعية.

فإذنْ لا يجب الصوم على الكافر، لكنه محاسبٌ مع تركه، وإذا أراد أن يصح منه الصوم ويجب عليه؛ فعليه أن يُصحِّح الأصل، وهو التوحيد، يعتنق الإسلام، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وبعد ذلك تصح منه الواجبات الشرعية.

  • كذلك أيضًا: يُشترط البلوغ، فلا يجب الصوم على غير البالغ؛ لأن غير البالغ مرفوعٌ عنه القلم؛ كما قال النبي : رُفع القلم عن ثلاثةٍ..، وذكر منهم: الصبي حتى يبلغ [7]، حتى وإن كان هذا الصبي قد قارب البلوغ، يعني لو كان عمره أربع عشرة سنةً مثلًا وقد قارب البلوغ، لكن لم تظهر منه إحدى علامات البلوغ؛ فلا يجب عليه الصوم شرعًا، لكن يُؤمر به؛ من أجل التدريب عليه والتمرن، ومن أجل أن يألفه؛ كما يُؤمر بالصلاة لسبعٍ؛ لأجل هذه المعاني، لكن لو قُدِّر أنه لم يَصُم؛ فليس معاقبًا على ذلك، ولا يأثم بذلك؛ لكونه قد رفع عنه القلم.
  • ويُشترط أيضًا لوجوب الصيام: العقل، الصوم لا يجب على المجنون؛ للحديث السابق: رفع القلم عن ثلاثةٍ..، وذكر منهم: المجنون حتى يُفيق.
  • ويُشترط كذلك لوجوب الصيام القدرة عليه؛ بأن يكون قادرًا على الصوم، فإن كان غير قادرٍ عليه؛ فلا يجب عليه الصوم، لكن يجب عليه أن يُطعِم عن كل يومٍ مسكينًا؛ كالمريض مرضًا لا يُرجى بُرؤه، أو الكبير في السن، فهذا إذا عجز عن الصوم؛ فإنه يُطعم عن كل يومٍ مسكينًا.

حكم من عجز عن الصيام لكِبَرٍ أو مرضٍ لا يرجى بُرؤه

المقدم: أحسن الله إليكم، فيما يتعلق بالقدرة -قدرته على الصيام- أيضًا من المسائل: العجز عن صيام رمضان، إذا كان المرء عاجزًا عن صوم رمضان؛ إما لكبر سنٍّ، أو لوجود مرضٍ لا يُرجى بُرؤه، فما الحكم في حقه؟

الشيخ: هذا متعلِّقٌ بالشرط الأخير: وهو القدرة، فإذا كان عاجزًا عن الصيام لمرضٍ لا يُرجى بُرؤه؛ كأن يكون مصابًا بمرضٍ عُضالٍ، وقرر الأطباء أن هذا المرض لا يُرجى بُرؤه في علم البشر، وإلا فالله على كل شيءٍ قديرٌ، فيُطعم عنه عن كل يومٍ مسكينًا، وهكذا لو كان كبيرًا في السن، فالكبير في السن قد يعجز عن الصيام، أو يشق عليه الصيام مشقةً شديدةً، فيحتاج إلى سيولةٍ، فيصعب عليه الصوم؛ فله في هذه الحال أن يُفطر وأن يُطعم عن كل يومٍ مسكينًا.

وقد كان أنسٌ ، الذي دعا له النبي بأن يُطيل الله عمره [8]، فأطال الله عمره حتى جاوز المئة عامٍ [9]، وكان في آخر عمره يَشُق عليه الصوم، فكان أنسٌ يُفطر ويُطعم عن كل يوم مسكينًا، كان يجمع المساكين فيُغدِّيهم أو يُعشِّيهم؛ على ذلك: من عجز عن الصوم لكبرٍ أو مرضٍ لا يُرجى بُرؤه؛ فيجوز له الفطر ويُطعم عن كل يومٍ مسكينًا.

حكم تقديم فدية الإفطار في أول رمضان

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، في مسألة الإطعام هنا هل يجوز أن يُخرج الإطعام في أول رمضان، أم لا بد أن يكون في آخره، أو كل يومٍ بحسبه؟

الشيخ: هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء:

  • فمنهم من قال: إنه يجوز إخراج الإطعام عن الشهر كاملًا أول رمضان، كما يجوز تأخيره إلى آخر الشهر، فهذا هو مذهب الحنفية؛ قالوا: لأن صيام شهر رمضان عبادةٌ واحدةٌ، فهي كاليوم الواحد، فجُوِّز تقديم فدية الإطعام في أوله.
  • وذهب جماهير الفقهاء إلى أنه لا يجوز الإطعام عن الشهر كاملًا في أول شهر رمضان، بل إما أن يُطعم عنه عن كل يومٍ بيومه، أو يُؤخر الإطعام إلى آخر شهر رمضان، وهذا هو المذهب عند الشافعية والحنابلة، أما المالكية فهم لا يرون أصلًا الإطعام في هذه الحال.
    واستدل أصحاب هذا القول فقالوا: إن صيام كل يومٍ عبادةٌ مستقلةٌ عما قبلها وما بعدها، وسبب وجوب الفدية: الإفطار في نهار رمضان، فلا يجوز تقديم الفدية على سبب وجوبها وهو اليوم، كما لا يصح تقديم الزكاة قبل سبب وجوبها: وهو مِلك النصاب، أو تقديم كفارة الظِّهار على المظاهرة، وهذا القول هو الأقرب والله تعالى أعلم وأحكم، وهو أنه لا يجوز تقديم الإطعام أول رمضان، وإنما يُطعم عن كل يومٍ بيومه، أو يُؤخر الإطعام إلى آخر شهر رمضان.

وذلك لأن هناك قاعدةً عند أهل العلم قد ذكرها الحافظ ابن رجبٍ وغيره: وهي أن العبادات كلها -سواءٌ أكانت بدينةً أو ماليةً أو مركَّبةً منهما- لا يجوز تقديمها على سبب وجوبها، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب، وقبل شرط الوجوب، هذه قاعدةٌ مفيدةٌ لطالب العلم: "لا يجوز تقديم العبادة قبل سبب الوجوب، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب وقبل شرط الوجوب"؛ فمثلًا لو أردنا أن نوضح هذه القاعدة بالنسبة للأَيمان: سبب كفارة اليمين: الحلف، وشرط كفارة اليمين: الحِنث، لا يجوز تقديم الكفارة قبل الحلف، لو قال إنسانٌ: أنا سأدفع كفارةً؛ حتى إذا حلفت مستقبلًا؛ تكون كفارةً، نقول: هذا لا يصح، لكن يجوز تقديم الكفارة بعد الحلف، وقبل أن يحنث، فلو أنه حلف، وقبل أن يحنث بيمينه كفَّر؛ فلا بأس؛ لأن هذا تقديمٌ للعبادة بعد سبب الوجوب وقبل شرط الوجوب؛ وعلى ذلك فنقول في هذه المسألة: سبب وجوب الفدية: الإفطار في نهار رمضان، فلا يجوز تقديم الفدية على سبب وجوبها وهو اليوم.

هذا القول الأخير هو الأقرب -والله أعلم- للأصول والقواعد الشرعية، ومما يدل لذلك: أنه يلزم -على القول الأول، وهو صحة تقديم الإطعام في أول رمضان- أيضًا تقديم الإطعام قبل رمضان في شعبان مثلًا؛ إذ لا فرق بين تقديمها في أول شهر رمضان، أو في شهر شعبان، هذا لم يقل به أحدٌ؛ وعلى ذلك نقول: من وجب عليه الإطعام فينبغي إما أن يُطعم عن كل يومٍ بيومه، أو يُؤخِّر الإطعام إلى آخر رمضان أو إلى ما بعد رمضان.

المقدم: أحسن الله إليكم، إذا أطعم عن كلِّ يومٍ بيومه، يكون بعد غروب الشمس؟

الشيخ: نعم، يكون بعد غروب الشمس؛ حتى يتحقق سبب الوجوب.

مقدار فدية الإطعام

المقدم: جميلٌ، أحسن الله إليكم، شيخنا فيما يتعلق بالإطعام، ما مقدار الإطعام؟

الشيخ: مقدار الإطعام محل خلافٍ بين الفقهاء؛ منهم من قال: نصف صاعٍ، ومنهم من قال: مُدُّ بُرٍّ، أو نصف صاعٍ من غيره، والأظهر -والله أعلم- هو قول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن الإطعام يكون بكل ما يسمى إطعامًا عرفًا"؛ وذلك لعموم النصوص، والتحديد بنصف صاعٍ، أو التحديد بمد بُرٍّ أو نصف صاعٍ من غيره، هذا ليس عليه دليلٌ، وإنما جاءت الأدلة عامةً بمطلق الإطعام، فيُرجَع في ذلك إلى العرف، فما عده الناس في عرفهم إطعامًا؛ كان إطعامًا، وعلى هذا لو جمع مساكين فغداهم أو عشاهم؛ أجزأ، كما كان أنسٌ يفعل.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

الحقيقةَ شيخنا مسائل الصيام متعددةٌ، ونحتاج أن نأخذ فيها أكثر من حلقةٍ، أستأذنكم أن نكمل في الحلقات القادمة بقية المسائل.

الشيخ: إن شاء الله تعالى.

المقدم: شكر الله لكم.

إلى هنا -أيها الأحبة- نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء على هذا البيان والإيضاح، فشكر الله لكم.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: الشكر كذلك موصولٌ لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.

إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - نستكمل فيها شيئًا من مسائل وأحكام الصيام، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 العجاج: الغبار، وعَلَكت الدابة اللجام: لاكته وحركته في فيها، ينظر لسان العرب لابن منظور: 2/ 281 (ع ج ج)، 10/ 470 (ع ل ك).
^2 رواه البخاري: 7492، ومسلم: 1151.
^3 رواه النسائي: 2220، وأحمد: 22140.
^4 رواه البخاري: 38، ومسلم: 760.
^5 رواه البخاري: 4504، ومسلم: 1125.
^6 رواه البخاري: 1909، ومسلم: 1081.
^7 رواه وأبو داود: 4402، الترمذي: 1423، وابن ماجه: 2041، وقال الترمذي: حسن غريب.
^8 رواه الطبراني في المعجم الأوسط: 507.
^9 رواه البيهقي في دلائل النبوة (6/ 196).
مواد ذات صلة
zh