جدول المحتويات
المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم "مجالس الفقه".
"مجالس الفقه" برنامجٌ يُذاع عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويحتاج إليها المسلم. يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية؛ فبِاسْمي وَاسْمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المستمعين.
الوقف الذُّرِّي
المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، في الحلقة الماضية ذكرنا شيئًا من المسائل والأحكام المتعلقة بالأوقاف، ولا تزال هناك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بهذا الباب، وأيضًا نشأ مصطلحٌ آخر يُسمَّى بـ"الوقف الذُّرِّي"؛ فما الفرق بين هذين الوقفين؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالوقف الخيري والوقف الذُّرِّي: هذا التقسيم بهذا المصطلح تقسيمٌ معاصرٌ، وإن كان معروفًا عند الفقهاء، فهم ينصُّون على ذلك، ينصُّون على الوقف على الذُّرِّية وعلى الأوقاف الخيرية؛ فالوقف الخيري: هو الذي يُوقَف على جهة خيرية كالمساجد والمدارس ونحوها، حتى لو وُقِف في أول الأمر على جهةٍ خيريةٍ مدةً معينةً ثم يكون بعدها على شخص معين أو أشخاص معينين؛ كأن يقف أرضه على مستشفى أو مدرسة، ثم بعد ذلك على نفسه وأولاده، فيُعتبر وقفًا خيريًّا.
أما الوقف الأهلي -ويُسمَّى بـ"الوقف الذُّرِّي"- فهو الذي يُوقَف في ابتداء الأمر على الواقف نفسه، أو على شخص، أو أشخاص معينين، أو على أولاده أو ذريته، حتى لو جعل آخره لجهة خيرية؛ كأن يقف على نفسه، ثم أولاده، ثم من بعدهم على جهة خيرية، هذا يُعتبر وقفًا أهليًّا، أو وقفًا ذُرِّيًّا، وهذا -كما ذكرتُ- تقسيمٌ حادثٌ، وإلا ما كان الفقهاء الأولون يُفرِّقون بين الوقف الخيري والوقف الأهلي؛ لأن حقيقة الوقف شاملة لهما، فجميع الأنواع تحمل معنى الخير والبِرِّ والصدقة.
وهناك من المعاصرين مَن طالب بإلغاء الوقف الأهلي أو الذُّرِّي، وقالوا: إن الأوقاف يترتب عليها مشاكل كثيرة، وليس له أثرٌ لصدقةٍ أو قُرْبةٍ، ولكن هذا محل نظر، فالقول بأنه يترتب عليه مشاكل هذه مجرد دعوى، ولو صح ذلك فوجود هذه المشاكل ليس راجعًا إلى وجود هذا النوع من الوقف، وإنما هذه المشاكل ترجع إلى مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية في الإفادة منه، شأنه شأن العقود الأخرى، وإلا فما الذي يجعل هذه المشاكل لا تكثر إلا في وقتنا الحاضر؟!
والدليل على ذلك أن هذا النوع من الوقف كان معروفًا عند سلف هذه الأمة وإن لم يكونوا يُسمُّونه بهذا الاسم، ولم يترتب عليه ما يدَّعي هؤلاء من المشاكل، والقول بأنه ليس فيه أثرٌ للصدقة، هذا لا يُسلَّم، بل هذا الوقف من جنس الصدقات، وقد سمَّاه النبي صدقة جارية، وكثيرٌ من الأحاديث صرحت بفضل الإنفاق والصدقة على ذوي القربى، وأن الصدقة على المحتاج من ذوي القربى أَولى من الصدقة على غيرهم، وقد أمر النبي أبا طلحة بأن يجعل صدقته في الأقربين، ولا فرق في ذلك بين صدقة الوقف وغيره، بل إن الصدقة أو الوقف على الأقارب يجمع بين كونه صدقة وكونه صلة رحم، ثم إن عمر في أول وقفٍ في الإسلام وقَّف أرضه التي في خبير على الفقراء وعلى ذوي القربى؛ فدَلَّ ذلك على صحة الوقف على الأقارب، وهذا أيضًا هو المنقول عن كثير من الصحابة أنهم يُوقِفون على ذوي القربى. وعلى هذا؛ فالوقف الذُّرِّي أو الوقف الأهلي الذي يكون على الأولاد أو يكون على الأقارب سائغٌ شرعًا ولا بأس به، لكن ينبغي أن يُضبَط وأن يكون ذلك بمقتضى أحكام الشريعة الإسلامية، وألا يترتب على ذلك مخالفات شرعية.
وعلى هذا نقول: إن الوقف الخيري والوقف الذُّرِّي أو الأهلي كلاهما صحيح.
المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، في حلقة ماضية ذكرنا بعض الأحكام المتعلقة بالوقف، وأشرنا إلى أنها تأخذ أحكام الوصية؛ نحتاج أن نُفرِّق إذَن بين الوصية والوقف، فما الفرق بينهما من الناحية الفقهية أو الناحية الشرعية؟
الفرق بين الوقف والوصية
الشيخ: هذه المسألة مهمة؛ لأن بعض الناس لا يُفرِّق بين الوقف والوصية، وبعضهم يعتبر الوقفَ وصيةً أو الوصيةَ وقفًا؛ ولذلك تجد بعضهم ينصُّ: أوصيت بوقف كذا، أو جعلت هذا الوقف وصية! يخلطون بين الوقف والوصية، ولهذا لا بُدَّ من معرفة الفرق بينهما.
الوقف والوصية كُلٌّ منهما تبرُّعٌ يُراد به التقرُّب إلى الله ، يشتركان في أنه لا يجوز أن يقصد بهما حِرْمان الورثة أو حِرْمان بعضهم من الميراث، وأنَّ كلًّا منهما يُراعَى في تنفيذه شرط المُوقف والمُوصي إذا وافق شرطُه الشرعَ. ومن أبرز الفروق بينهما: أن الوقف قد يكون منجَّزًا في الحياة، وقد يكون معلَّقًا بعد الوفاة. أما الوصية فإنها لا تكون إلا معلَّقةً بالموت، لكن الوقف قد يكون منجًّزًا في حال الحياة، وقد يُعلِّقه صاحبه بالوفاة، فإذا علَّقه بالوفاة يأخذ أحكام الوصية.
أيضًا من الفروق: أن الوقف يجوز في أيِّ مقدارٍ من المال، بل للمسلم أن يُوقِف جميع ماله إلا أن يكون في مرض موته، أو علَّقه بالموت فيكون حُكمه حُكم الوصية. أما الوصية فلا تكون إلا في الثلث فأقل. وعلى هذا؛ إذا كان الإنسان في زمن الصحة فله أن يُوقف أكثر من الثلث، لو أراد مثلًا أن يُوقف نصف ماله لا بأس، يكون وقفًا منجَّزًا لا يكون معلَّقًا بالوفاة، قال: وقفت نصف مالي وقفًا منجَّزًا في وجوه البِرِّ لا بأس، لو أراد أن يُوقِف ثُلثَي ماله لا بأس، بل حتى لو أراد أن يُوقف جميع ماله فلا بأس، وإن كان يكره العلماء ذلك؛ لأنه ربما يحتاج، فلا يُوقِف جميع ماله، ولهذا لمَّا قال كعب بن مالك في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا: أن من توبتي يا رسول الله أن أنخلع من مالي صدقةً لله، قال عليه الصلاة والسلام: أمسِك عليك بعض مالك[1]؛ فالأفضل ألَّا يُوقِف جميع ماله.
لكن يَرِد في هذا قصة أبي بكر لما تصدَّق بجميع ماله، عند الهجرة أتى عمر بنصف ماله وقال: اليوم أسبق أبا بكر، فأتى أبو بكر بجميع ماله، فقال النبي لعمر: ما أبقيتَ لأهلك؟، قال: هذا نصف مالي، قال: ما أبقيتَ لهم؟ قال: أبقيت لهم مثله، فلما أتى أبو بكر قال: ما أبقيتَ لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر : والله لا أسابقك بعد هذا أبدًا[2]. لكنَّ أبا بكر حالة خاصة، كان عنده من اليقين ما ليس عند غيره، وعنده من كمال التوكل ما ليس عند غيره؛ ولذلك أقرَّه النبي ولم يُقِرَّ غيره من الصحابة ؛ كعب بن مالك لمَّا أراد أن يُوقِف جميع ماله، قال: أمسِك عليك بعض مالك[3]؛ ولهذا يقال: إن الأفضل ألَّا يُوقِف جميع المال، لكن له أن يُوقِف بعض المال -ولو كان أكثر من الثلث- وقفًا منجَّزًا، إذا علَّق الوقف على الوفاة يكون حُكمه حُكم الوصية، فلا يُنفَّذ إلا في الثلث، إذا كان الوقف في مرض الموت أيضًا يكون حُكمه حُكم الوصية، فلا يُنَفَّذ إلا في الثلث.
أيضًا من الفروق: أن الوقف هو تحبيسٌ للأصل، لا يُباع لا يُوهب لا يُورث. أما الوصية فإنها قد تكون لتملُّك المُوصَى له الأصل؛ كأن يُوصي المُوصِي بأن يكون هذا البيت لفلان.
أيضًا من الفروق: أن الوقف لا يصح إلا بأصلٍ معلومٍ. أما الوصية فإنها تصح بما سيُوجد، وبالمنافع والأعيان وإسقاط الديون؛ فبابها أوسع.
أيضًا من الفروق: أن الوقف لا يصح تغييره، بل إنه متى ما وقف الإنسان وقفًا خرجت العين الموقوفة من ملكه في الحال، خرجت من ملكه لله ، وليس له أن يتراجع، بخلاف الوصية فإنها معلَّقة بموت المُوصِي؛ ولهذا فإن المُوصِي له أن يُغيِّر ويُعدِّل ما شاء، بل له أن يُلغي الوصية؛ لأن الوصية لا تلزم إلا بالموت. فإنسانٌ كتب وصيةً، له أن يُلغيها، ما دام أنه حيٌّ فله أن يُلغي الوصية، له أن يُعدِّل فيها، له أن يبدِّل؛ لأن الوصية لا تلزم إلا بالموت. أما الوقف؛ فإنه إذا وقَّف وقفًا منجَّزًا خرجت العين الموقوفة من ملكه لله ، فليس له التراجع في هذه الحال وليس له التغيير.
حُكم نقل الوقف إلى ما هو أصلح منه
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم هذا البيان لهذه الفروق. هنا أيضًا مسألة في الوقف: وهي حُكم نقل الوقف إلى ما هو أصلح منه؛ فلو قُدِّر أنه قد وقَّف على أمرٍ معين، فرُئِيَ أن هذا الوقف لو صُرِف في مكانٍ آخر لكان ذلك أنفع وأصلح؛ فما حُكم هذا؟
الشيخ: أما إذا تعطلت منافع الوقف فيجوز بيعه ونقله، لقول عامة الفقهاء؛ لأن هذا فيه مصلحةٌ ظاهرةٌ، والشريعة لا تأتي بتعطيل هذا الوقف، وأنه لا يُباع مع أنه متعطِّل -مع أن المنافع متعطِّلة-، فإذا تعطلت منافعه فيجوز بيعه ونقله، أما إذا لم تتعطل منافعه، لكن كانت هناك مصلحةٌ راجحةٌ وغِبطةٌ في بيعه ونقله لِمَا هو أصلح؛ فهل يجوز نقله أم لا؟
اختلف الفقهاء في ذلك؛ فمنهم مَن منع لعموم الأدلة الدالة على عدم جواز بيع الوقف، ومنها حديث عمر : لا يُباع ولا يُوهب ولا يُورث[4]، وذهب بعض الفقهاء إلى جواز ذلك إذا كان فيه الغِبطة والمصلحة الراجحة، وهذا هو القول الراجح، وقد اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم كأبي العباس بن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، ويدُلُّ لذلك حديث جابر رضي الله عنهما: أن رجلًا أتى النبي فقال: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أُصلِّي في بيت المقدس ركعتين، فقال له النبي : صِلِّ ها هنا، فأعاد عليه، فقال : صَلِّ ها هنا، فأعاد عليه، فقال : صَلِّ ها هنا، فأعاد عليه، فقال : شأنك إذَن[5]، أخرجه أبو داود وأحمد بسندٍ صحيح.
فالنبي أرشد هذا الرجل إلى إبدال المنذور بخيرٍ منه؛ وذلك لأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في بيت المقدس، فإذا جاز ذلك في النذر مع أنه نذر طاعة، لاحظ أنه نذر طاعة، نذر أن يُصلِّي ركعتين في بيت المقدس، ونذر الطاعة يجب الوفاء به، إذا جاز ذلك في النذر -وهو نذر طاعة- فيجوز كذلك إبدال الموقوف بما هو خيرٌ منه. لكن ينبغي أن يكون ذلك عن طريق المحكمة أو الجهة المسؤولة عن الأوقاف؛ لأن تقدير بعض الناس قد لا يكون دقيقًا، بعض الناس قد يُقدِّر أن في نقل هذا الوقف الغِبطة والمصلحة الراجحة، ولا يكون ذلك الرأي صحيحًا؛ ولهذا ينبغي أن يكون ذلك عن طريق القاضي أو طريق المحكمة؛ لتنظر في الغِبطة في نقل هذا الوقف إلى مكانٍ آخر، فإذا وُجدت في ذلك مصلحةٌ راجحةٌ وغِبطةٌ فلا بأس بنقل ذلك الوقف، وذلك بأن يُباع هذا الوقف وأن يُنقل إلى وقفٍ آخر يكون أكثر مصلحةً وأكثر ريعًا ونفعًا.
عطية الأولاد+
.+
المقدم: أحسن الله إليكم -شيخنا- وشكر الله لكم. ونحن في هذا البرنامج (مجالس الفقه) نذكر شيئًا من المسائل والأحكام والنوازل الفقهية المعاصرة التي يكثر السؤال عنها، بصحبة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان. أستأذنكم شيخنا بعد أن أخذنا جملةً لا بأس بها في مسائل الوقف أن ننتقل إلى ما يتعلَّق بعطية الأولاد، وبعض الأحكام الفقهية المتعلِّقة بذلك، مبتدئًا بسؤال هو مهم في هذا الباب، وهو حُكم العدل في عطية الأولاد؟
الشيخ: العدل في عطية الأولاد؛ للفقهاء فيه قولان:
- القول الأول: أنه مستحب وليس واجبًا؛ وهذا قول الجمهور.
- والقول الثاني: أنه واجب، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. وهذا هو القول الراجح، اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم كابن تيمية وابن القيم وغيرهما.
ويدل لوجوب العدل في عطية الأولاد ما جاء في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: تصدق عليَّ أبي ببعض ماله [يعني: أعطاني عطية من ماله]، فقالت أمي عَمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد عليها [يعني: على هذه العطية] رسولَ الله ، [يعني: كأن هذه المرأة الصحابية رضي الله عنها أحسَّت بإشكالٍ في تخصيصه بهذه العطية بفطرتها، فأرادت أن تستوثق؛ لذلك قالت: لا أرضى حتى تُشهد عليها رسول الله ]، قال النعمان فجاء بي أبي إلى رسول الله يُشهِده على هذه العطية، فقال النبي لبشير: أكُلُّ ولدك أعطيته مثله؟ قال: لا، قال النبي : اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، أشهد على هذا غيري، لا تُشهدني على جَوْرٍ، قال فرجع أبي فرَدَّ تلك العطية[6]. فدلَّ هذا على تحريم التفضيل بين الأولاد؛ لأن النبي سمَّاه "جَوْرًا": لا تُشهدني على جَوْرٍ، وأمر برَدِّه، قال: اردُدْهُ[7]، وامتنع من الشهادة عليه، والجَوْرُ حرام، والأمر يقتضي الوجوب، وفي هذا رَدٌّ على أصحاب القول الأول الذين قالوا إن العدل بين الأولاد مستحب، فيقال: كيف يكون مستحبًّا، والنبي يقول: لا تُشهدني على جَوْرٍ؟! والجَوْرُ محرم، فهذا يدل على وجوب العدل بين الأولاد.
ثم إن في تفضيل بعض الأولاد على بعضٍ في العطية شَحْنًا للنفوس، ويُورِث العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، ولنا عبرة في قصة يوسف عليه السلام؛ يوسف لمَّا كان أبوه يعقوب يُحِبُّه ويُحِبُّ أخاه بنيامين عليهم السلام أكثر من غيرهما، وربما أن يعقوب عليه السلام كان يعطف عليهما؛ لأن أمهما كانت ميتة -كما قيل-، فأراد أن يُعوِّضهما، لكن بقية أولاده لم يعذروه: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف:8]، فانظر كيف وصفوا أباهم بالضلال، والضلال المبين أيضًا، ليس الضلال فقط، الضلال المبين! ثم قاموا بهذه الفعلة الشنيعة: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا [يوسف:9]، لماذا؟ ليخلوَ لهم وجه أبيهم فقط: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9]، فلاحظ هنا كيف أن هذا التفضيل، مع أنه تفضيلٌ في المحبة، ليس في العطية بل في المحبة فقط، ومع ذلك تسبب في أن تُشحَن نفوسُ إخوة يوسف على يوسف عليه السلام، قالوا: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا، وعلى أبيهم أيضًا: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، فهذا التفضيل يُورث الشحناء والكراهية لأخيهم المفضَّل، ولأبيهم الذي قام بالتفضيل. فهذا يدل دلالة ظاهرة على وجوب العدل من الوالدين -من الأب والأم- في عطية الأولاد. وقواعد وأصول الشريعة تدل لهذا؛ وعلى هذا فالقول الراجح إذَن: وجوب العدل في عطية الأولاد.
جواب إشكال قصة تخصيص أبي بكر لعائشة رضي الله عنهما بالعطية
المقدم: أحسن الله إليكم. إذا تقرر وجوب العدل في عطية الأولاد، يَرِد هنا إشكالٌ أو أمرٌ يحتاج إلى جواب: وهو أنه كيف يُجاب عن قصة إعطاء أبي بكر لابنته عائشة رضي الله عنهما جُذَاذ عشرين وَسْقًا دون سائر ولده كما ثبت عنه؟
الشيخ: نعم، هذا ثبت كما أخرجه مالك في الموطأ بسند صحيح: أن أبا بكر الصديق نحل أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنهما جُذَاذ عشرين وَسْقًا من ماله بالمدينة دون سائر ولده، فلما حضرته الوفاة قال: يا بُنَيَّة، كنت نحلتكِ جُذَاذ عشرين وَسْقًا، ولو كنتِ حُزْتِيه أو قبضتيه كان لكِ، وإنما هو اليوم مالُ وارثٍ، فاقتسِموه بينكم على كتاب الله[8].
هذا التخصيص من أبي بكر لابنته عائشة رضي الله عنهما؛ قال العلماء: إنما خصَّها لحاجتها وعجزها عن التكسُّب، فإنها أمُّ المؤمنين وامرأةٌ وعاجزةٌ عن التكسُّب وليس لها مصدر دخل، فلذلك خصَّها أبو بكر بذلك، وأيضًا مع اختصاصها بفضلها وكونها أم المؤمنين، وقد تُوفي النبي عنها وعمرها (18) سنة، وهي أيضًا لها مكانةٌ اجتماعيةٌ عاليةٌ، هي أم المؤمنين يصعب عليها طلب الكسب كغيرها، فخصَّها أبو بكر بهذه العطية لهذه المعاني.
ويحتمل أيضًا أن يكون نَحَلَها ونَحَلَ غيرها من ولده، أو نَحَلَها ويُريد أن ينحل غيرها فأدركه الموت. ثم إن فِعلَ أبي بكر يبقى فعل صحابيٍّ تَرِد عليه عدة احتمالات، واقعةُ عينٍ تَرِد عليها عدة احتمالات، فلا يُعارَض به قول النبي : اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم[9].
كيف يكون العدل في عطية الأولاد؟
المقدم: أحسن الله إليكم -شيخنا- وشكر الله لكم. إذا تقرَّر وجوب العدل بين الأولاد في العطية، فيَرِد سؤالٌ يتبع هذا الأمر: وهو أنه كيف يكون العدل في عطية الأولاد، هل يكون بالتساوي؟
الشيخ: في هذه المسألة خلاف بين الفقهاء؛ منهم مَن قال: إنه يكون بالتساوي، واستدلوا بما جاء في بعض الروايات: سَوُّوا بين أولادكم[10]، لكن هذه لم تثبت بهذا اللفظ، وإنما الثابت روايةُ الصحيحين: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم[11]؛ ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى أن العدل في عطية الأولاد يكون على حسب قسمة الميراث، فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين، هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو القول الراجح؛ قال عطاء: "ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله"، يحكي ذلك عن التابعين، وقال شريحٌ لرجل قسم ماله بين ولده: "اُرْدُدْهُم إلى سهام الله وفرائضه"، وذلك اقتداءً بقسمة الله تعالى في ميراث الأولاد، فإنه للذكر مثل حظ الأنثيين، وأَولى ما اقتُدِي به قسمة الله .
وقياسًا لحال الحياة على حال الموت؛ ولأن الذكر -في الغالب- أحوج للمال من الأنثى، فإنهما إذا تزوجَا جميعًا فالصداق والنفقة ونفقة الأولاد إنما تجب على الذكر، والأنثى يكون لها ذلك، فالرجل يدفع المهر، والأنثى تأخذ المهر، الرجل يدفع النفقة، والأنثى تأخذ النفقة، فكان مقتضى العدل أن تكون القسمة على حسب الميراث؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: "إن المشروع في عطية الأولاد أن يكون على قدْر مواريثهم؛ لأن الله منع مما يُؤدِّي إلى قطيعة الرحم، والتسوية بين الذكر والأنثى مخالفةٌ لما وضعه الشارع من التفضيل، فيُفضي ذلك إلى العداوة؛ ولأن الشارع أعلم بمصالحنا، لو لم يكن الأصلح التفضيل لَمَا شرعه، ولأن حاجة الذكر إلى المال أعظم من حاجة الأنثى".
وعلى هذا؛ فالقول الراجح أن التعديل في عطية الأولاد يكون مثل الميراث -للذكر مثل حظ الأنثيين-.
أقسام العطية بين الأولاد
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم هذا الإيضاح. شيخنا، هنا مسألة يقع فيها خلطٌ عند بعض الناس: وهي عدم التفريق بين باب النفقة على الأولاد وباب العطية، فيَرِد في ذهني أحيانًا أنه إذا أعطى أحدًا من أولاده نفقةً من أجل علاج إن كان مريضًا أو نحو ذلك؛ هل يجب عليه أن يُعطي مثل ذلك القدْر الذي بُذل لهذا الابن لأجل مرضٍ ويحتاج إلى علاج، أو دراسة ويحتاج إلى نفقة؛ هل يجب عليه أن يُعطي مثل ذلك القدْر لبقية أولاده؟
الشيخ: عطية الأولاد تنقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: العطية المحضة غير المرتبطة بالحاجة، غير مرتبطة بسبب، هذه -كما ذكرنا- يجب فيها العدل بين الأولاد؛ للذكر مثل حظ الأنثيين.
- القسم الثاني: عطية الحاجة؛ فهذه العدل فيها أن يُعطي كُلَّ واحدٍ من أولاده بقدْر حاجته، فحاجة الذكر تختلف عن حاجة الأنثى، ربما تكون حاجة الأنثى أكثر من حاجة الذكر، فيُعطي الأنثى بقدْر حاجتها والذكر بقدْر حاجته -ولو كان مقدار ما تُعطى الأنثى أكثر من الذكر-، أيضًا حاجة الصغير تختلف عن حاجة الكبير، وحاجة مثلًا الابن الذي في المرحلة الابتدائية تختلف عن حاجة الابن الذي في المرحلة المتوسطة أو الثانوية أو المرحلة الجامعية، العدل هنا: أن يُعطي كُلَّ واحدٍ بقدْر حاجته.
أيضًا قد ينفرد أحد الأولاد بحاجةٍ غير معتادةٍ؛ كأن يكون مريضًا مثلًا ويحتاج إلى شراء أدوية ونحو ذلك، هنا يُعطيه أبوه، ولا يلزم أن يُعطِي بقية إخوته مثله، أو أن البنت تحتاج إلى مخالعة من زوجها، فهنا هذه عطيةٌ مرتبطةٌ بحاجةٍ، أو تترتب في ذمة الابن ديونٌ ويُساعده أبوه في سداد ديونه، فهذه تُعتبر عطيةَ حاجةٍ، ولا يلزم الأب أن يُعطِي بقية إخوته مثله.
فإذَن؛ عطيةُ الحاجةِ العدلُ فيها أن يُعطِي كُلَّ واحدٍ بقدْر حاجته، وربما أن الأنثى تكون أكثر من الذكر، أو الذكر يكون أكثر من الأنثى، أو الصغير أكثر من الكبير، أو الكبير يكون أكثر من الصغير. فإذَن؛ العدل فيها أن يُعطى كُلُّ واحدٍ بقْدر حاجته.
حُكم العدل في العطية بين سائر الأقارب
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. شيخنا، هنا أيضًا مسألة من المسائل التي يكثر السؤال عنها: إذا تقرر وجوب العدل في العطية المحضة بين الأولاد؛ ماذا عن حُكم العدل في العطية بين سائر الأقارب إذا كان سيُعطي بعض أقاربه؟
الشيخ: لا تجب التسوية بين سائر أقاربه، ولا إعطائهم على قدْر ميراثهم، سواءٌ كانوا من جهة واحدة كإخوةٍ وأخواتٍ وبني عمٍّ، أو من جهاتٍ كبناتٍ وأخواتٍ وغيرهم، وله أن يُخصِّص أحدَ إخوانه أو إحدى أخواته بمالٍ دون البقية، فله أن يُعطي أحدَ إخوته مالًا دون بقية إخوانه وأخواته، حتى ولو كانت عطيةً محضةً، وله أن يُعطي إحدى خالاته دون بقية الخالات، أو إحدى عماته دون بقية العمات، أو أحدَ أعمامه دون بقية الأعمام، فلا يجب عليه التسوية بين سائر أقاربه.
إذا كانت التسوية الآن بين الأولاد محل خلاف، والجمهور يقولون: لا تجب، فكيف بالتسوية بين سائر الأقارب؟ فعلى هذا نقول: إن العدل يجب في عطية الأولاد فقط، ولو كان عنده زوجاتٌ ففي عطية الزوجات. أما مَن عَدَاهم فلا يجب العدل ولا تجب التسوية في ذلك. لكن مع هذا؛ ينبغي إذا خصَّ أحد إخوته أو أحد أقاربه بعطيةٍ محضةٍ أن يُخفي ذلك، حتى لا يُؤثِّر في نفوس البقية؛ لأنه لو مثلًا خص إحدى خالاته بعطيةٍ ولم يُعطِ بقية الخالات، ربما يُحدِث ذلك في نفوس بقية الخالات شيئًا، أو خصَّ مثلًا أحدَ إخوانه دون بقية الإخوة أو إحدى أخواته، ربما يكون فيه شحنٌ لنفوس البقية، وإن كان هذا ليس واجبًا شرعًا، لكن ينبغي أن يتصرف بحكمة، وأن يُخفي ذلك عن بقية الأقارب.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، العدل في العطية إذا كانت للأحفاد أو الأسباط؛ هل يدخل في حُكم العدل بين الأولاد؟
الشيخ: لا يدخل، له أن يخُصَّ بعض أحفاده بالعطية دون بعض؛ لأن العدل إنما ورد في عطية الأولاد فقط، أولاد الصُّلب، أما الأحفاد والإخوة والأخوات وسائر الأقارب فلم يَرِد ما يدل على وجوب التسوية بينهم.
المقدم: أحسن الله إليكم -شيخنا- وشكر الله لكم هذا الإيضاح والبيان. إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، وشكر الله لكم.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: الشكر كذلك موصول لمَن قام بتسجيل هذه الحلقة الشيخ: عثمان بن عبدالكريم الجويبر.
إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه البخاري: 2757، ومسلم: 2796. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 1678، والترمذي: 3675. |
^3, ^9, ^11 | سبق تخريجه. |
^4 | رواه البخاري: 2737، ومسلم: 1632. |
^5 | رواه أبو داود: 3305، وأحمد: 14919، وصححه النووي في المجموع: 8/ 473. |
^6 | رواه البخاري: 2587، 2650، ومسلم: 1623، 1624. |
^7 | رواه ومسلم: 1623. |
^8 | رواه مالك: 2783، والبيهقي في معرفة السنن والآثار: 12316، والبغوي في شرح السنة: 2204. |
^10 | رواه البيهقي: 12357. |