logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(31) برنامج مجالس الفقه- شروط الوقف

(31) برنامج مجالس الفقه- شروط الوقف

مشاهدة من الموقع

المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم "مجالس الفقه".

"مجالس الفقه" برنامجٌ يُذاع عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويحتاج إليها المسلم. يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، فبِاسْمي وَاسْمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: أهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، في الحلقة الماضية شرعنا في ذكر شيءٍ من المسائل والأحكام المتعلقة بالوقف، وأخذنا تعريفه وفضله، وأول وقفٍ في الإسلام، وذكرنا جملةً من المسائل: كحُكم الوقف المؤقت، ووقف النقود؛ في هذه الحلقة سنستكمل بقية المسائل المتعلقة بالوقف.

شروط الوقف

من المسائل المتعلقة بالوقف: ما المراد بالشروط في الوقف؟ وما حُكم العمل بها؟ عندنا "شروط الوقف" أحيانًا نسمعها، ونسمع "الشروط في الوقف"، فما المقصود بالشروط في الوقف؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فعندنا هذان المصطلحان: "شروط الوقف" و"الشروط في الوقف".

أما "شروط الوقف" فهي: الشروط التي تتوقف عليها صحة الوقف، فلو تخلَّف شرطٌ منها فإن الوقف لا يكون صحيحًا، يكون باطلًا؛ مثل: أن يكون الوقف في عينٍ معينةٍ يجوز بيعها ويمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، وأن يكون الواقف جائز التصرف، وأن يكون الوقف على جهةِ بِرٍّ، وأن يكون الوقف ناجزًا -عند الجمهور-؛ هذه هي شروط الوقف.

وأما "الشروط في الوقف" فهي: ما يشترطه الواقف في وقفه؛ كأن يشترط شروطًا في بيان مصرف الوقف ومَن ينتفع به، ومقدار ما يُعطى كُلُّ شخصٍ، والنظر في الوقف وإصلاحه ونحو ذلك؛ كأن يقول الواقف مثلًا: وقفتُ هذا العقار على أن يكون ريعُه للفقراء والمساكين، وعلى أن لي الحق بأن أستفيد من غَلَّتِه إذا احتجت، وأن يكون الناظر عليه فلان؛ فيضع شروطًا في وقفه، يضع شروطًا في هذا الوقف؛ فهذا يُسمِّيه الفقهاء "الشروط في الوقف".

ومنها ما هو صحيح ومنها ما هو فاسد؛ فالصحيح ما وافق مقتضى العقد ولم يبطله الشارع أو ينهى عنه، مثل ما ذكرنا كأن يكون ريعه للفقراء، ويشترط أن له الحق في أن يأخذ منه، أو أن يُنفق على نفسه، أو يأكل أهله منه، ونحو ذلك. الشرط الفاسد: ما خالف مقتضى العقد، أو أبطله الشارع، أو نهى عنه؛ مثل أن يُوقِف وقفًا ويشترط أن يبيعه متى شاء، أو يهبه متى شاء، أو يرجع فيه، أو يشترط أن يُورث عنه ذلك الوقف؛ فهذا الشرطُ شرطٌ فاسدٌ لمخالفته مقتضى العقد.

أيضًا من أمثلة الشروط الفاسدة: أن يُخصِّص بعض أولاده بالوقف دون بعض، وهذا شرطٌ فاسدٌ لأنه يتضمن تفضيل بعض الأبناء على بعض، وهذا قد ورد النهي عنه، لكن الشروط الصحيحة يجب العمل بها، الشرط الفاسد لا يُعمَل به، لكن الشرط الصحيح يلزم العمل به، وعمر لما وقَّف وقفًا شرط فيه شروطًا، والزبير بن العوام وقَّف داره وجعل للمردودة من بناته أن تسكن فيه غير مُضِرَّةٍ ولا مُضَرٍّ بها، فإن استغنت بزوجٍ فلا حق لها فيه؛ هذا نوع من الشروط.

إذَن؛ للواقف أن يشترط ما شاء من الشروط، بشرط أن تكون تلك الشروط شروطًا صحيحة، ويجب العمل بتلك الشروط؛ إذ إنه لو لم يجب العمل بشرط الواقف لم يكن في اشتراطه فائدة؛ فعلى هذا نقول: إنه يجب العمل بشرط الواقف.

حُكم اشتراط الواقف أن يأكل مما وقَّف

المقدم: أحسن الله إليكم. وهنا يَرِد سؤال؛ أحيانًا بعضهم يقول: كيف للواقف أن يشترط في وقفه أن يأكل منه، أو أن يأخذ منه ما يحتاج، والأصل في الوقف أن يُصرَف في مصارف البِرِّ والإحسان؟! فهل هذا الشرط معتبرٌ أم لا؟ وهل يُخرجه عن فضل الوقف؟

الشيخ: هذه المسألة محل خلاف، والقول الراجح -واختاره جمعٌ من المحققين، ونصره الإمام ابن القيم- أن الواقف له أن يشترط أن يأكل من هذا الوقف، بل له أن يشترط أن تكون له غلَّة الوقف طوال حياته، لا مانع من هذا؛ لأنه وقَّفَ الرقبة، وقَّفَ العين، وأما الغلَّة فاشترط فيها شروطًا؛ اشترط مثلًا: أن يأكل منها، اشترط مثلًا: أن تكون الغلَّة في حياته يتصرف فيها كما يريد، فهذا لا مانع منه شرعًا، لا مانع من ذلك، ولا فرق بين أن يشترط أن يأكل من هذا الوقف، أو أن يشترط أن تكون غلَّةُ الوقف له مدةً معينةً، أو حتى طوال حياته.

فالقول المرجَّح عند كثير من المحققين أن هذا الشرط لا بأس به، وأنه لا يُنافي المقصود من الوقف؛ لأن رقبة الوقف موقوفةٌ، عين الوقف موقوفةٌ، الغلَّة هي التي يتصرف فيها في توجيه مصرفها بما يريد، فإما أن يجعلها كلها مثلًا في وجوه البِرِّ، أو يجعل جزءًا منها في وجوه البِرِّ، ويشترط أن له جزءًا منها، ونحو ذلك.

المقدم: أحسن الله إليكم. وهذا أيضًا يُعطي الناس فُسحة في تيسُّر الوقف على نفوسهم؛ بأن يقال: وقِّف هذا الأمر واستثنِ نفسك في أن تستفيد منه.

الشيخ: صحيح، هذا يُشجِّع على الأوقاف، إذا قيل لهذا الإنسان: وقِّف ما تريد، ولك أن تشترط، وأن تستثني نفسك، أو تستثني ما تريد، فيسُوغ لك أن تشترط مثل هذه الشروط.

المقصود بقول الفقهاء: نصُّ الواقف كنصِّ الشارع

المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، هناك عبارةٌ يذكرها بعض الفقهاء، ويتداولها الفقهاء في "باب الوقف" تحديدًا، وهي قولهم: "نصُّ الواقف كنصِّ الشارع"؛ ما مقصود هذه العبارة؟ وهل هو تشبيهٌ على وجه الحقيقة بين نصِّ الواقف بنصِّ الشارع؟

الشيخ: هذه العبارة موجودةٌ في كثيرٍ من كتب الفقه، يقولون: "نصُّ الواقف كنصِّ الشارع"، ولكن ينبغي أن تُفهَم الفهم الصحيح، فمقصودهم بقولهم: "نصُّ الواقف كنصِّ الشارع"؛ أي: في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل به، وكما قال ابن تيمية: "نصُّ الواقف كنصِّ الشارع؛ يعني في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل به"، وأما أن تُجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها، فهذا لا يقول به أحد؛ وعلى ذلك يكون معنى قولهم: "نصُّ الواقف كنصِّ الشارع" في الفهم والدلالة من جهة تقييدِ المطلق، وتخصيصِ العام، ونحو ذلك من وجوه الفهم والدلالة، هذا هو المقصود، ورَدِّ أيضًا المتشابه إلى المحكم ونحو ذلك؛ فمقصودهم إذَن بقولهم: "نصُّ الواقف كنصِّ الشارع" في فهم الدلالة وليس في وجوب العمل به.

مصرف ما فَضَلَ من ريع الوقف واستُغني عنه

المقدم: أحسن الله لكم وشكر الله لكم هذا البيان والإيضاح. هنا مسألة تَرِد في "باب الوقف": وهي أنه قد يُوقِف الإنسان على مصرف من المصارف، فيُغطَّى هذا المصرِف من ريع الوقف، إلا أنه يكون هناك قدرٌ فائضٌ من هذا الوقف ومن هذا الريع؛ ما الذي يُصنَع به؟ وإلى أين يذهب هذا الفائض؟

الشيخ: نعم، إذا كان الوقف على جهةٍ معينةٍ وحصل فاضلٌ لريع ذلك الوقف، أو وقَّف مثلًا على شخص أو على مسجد أو على مدرسة أو على أيِّ شيءٍ، لكن كان ريع الوقف زائدًا وفاضلًا؛ فإن مصرفه يكون في جنس الجهة الموقوف عليها -في أرجح أقوال أهل العلم-؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: "ما فَضُلَ من ريع الوقف واستُغني عنه، فإنه يُصرَف في نظير تلك الجهة؛ كالمسجد إذا فَضُلَ عن مصالحه صُرِف في مسجدٍ آخر"؛ يعني مثلًا: وُقِّف شيءٌ على مسجد معين، ثم إن هذا المسجد استغنى عن هذا الشيء الموقوف، يُصرَف لمسجد آخر؛ لأن الواقف غرضه في الجنس، والجنس واحد، فلو قُدِّر أن هذا الموقوف في هذا المسجد لم ينتفع به أحد، فيُصرف ريعه في مسجد آخر، فكذا إذا فَضُلَ عن مصلحته شيءٌ، فإن هذا الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه؛ لأن المُوقِف قد خرَّج هذا الوقف عن ملكه لله ، ولا أيضًا يُعطَّل، وحينئذٍ لم يبقَ إلا أن يقال بأن هذا الفاضل يُصرَف في جنس الجهة الموقوف عليها، فهذا أقرب الطرق إلى مقصود الواقف، وأيضًا هو الأقرب للأصول والقواعد الشرعية.

وعلى ذلك؛ فإذا كان الوقف على جهةٍ معينةٍ؛ على مسجد ونحو ذلك، فإن كان هناك فاضلٌ لريع الوقف فإنه يُصرَف فيما هو من جنسه، فإذا كان الوقف على مسجد فلا يُصرَف مثلًا لمدرسة، إنما يكون لمسجد آخر؛ لأن الواقف غرضه الجنس، غرضه المساجد، فيُصرَف إذَن فيما هو من جنسه، وفيما هو أقرب إلى مقصود الواقف.

حُكم الوقف في مرض الموت

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم هذا البيان. هنا أيضًا من المسائل: أن بعض الناس يُبادر إلى الوقف إذا شعر بدنوِّ أجله أو عند مرض موته، وقَّف شيئًا من أملاكه، أو بعضهم ربما يُقيِّد هذا ويقول: إن أنا مِتُّ فكذا يكون وقفًا، أو هذا يكون وقفًا؛ فهل يصح مثل هذا التصرف؟ وهل يأخذ حُكم الأوقاف؟

الشيخ: نعم، يصح الوقف في مرض الموت، لكنه يكون بمنزلة الوصية في اعتباره من ثلث المال؛ لأنه تبرُّعٌ، فاعتُبر في مرض الموت من الثلث كالهبة، وإذا خرج من الثلث جاز من غير رضا الورثة ولَزِم، وما زاد على الثلث فإنما يلزمُ الوقفُ فيه في قدْر الثلث فقط، أما الزائد على الثلث فيكون موقوفًا على إجازة الورثة، فإن أجازوه نفذ ولَزِم، وإلا فلا؛ ولهذا قال الموفق بن قدامة رحمه الله: "لا نعلم في هذا خلافًا عند القائلين بلزوم الوقف". وعلى هذا؛ الوقف في مرض الموت يكون حُكمه حُكم الوصية، فإنه لا يُنفَّذ إلا في حدود الثلث.

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا وشكر الله لكم. هذا ما يتعلق بالوقف في مرض الموت؛ ماذا عن صحة الوقف إذا علَّقه على الوفاة؟

الشيخ: يصح تعليق الوقف على الوفاة؛ كأن يقول: بيتي هذا وقفٌ بعد موتي، وهذا كثيرٌ عند العامة، كثيرٌ من الناس يجعل الوقف بعد الوفاة، يقول: إذا أنا مِتُّ فبيتي وقفٌ، أو هذا العقار وقفٌ، أو هذا المال وقفٌ، لكنه يكون بمنزلة الوصية، فيكون في ثلث المال فقط، ويُشترط له ما يُشترط للوصية من أحكام، فيكون له حُكم الوصية. فإذَن؛ تعليق الوقف على الوفاة، نقول: إنه صحيح، لكن يكون حُكمه حُكم الوصية، ولا يُنفَّذ إلا في حدود الثلث.

المقدم: أحسن الله إليكم. إذَن؛ صورة الوقف في مرض الموت، أو حتى تعليق الوقف على الوفاة؛ كلها تأخذ أحكام الوصية.

الشيخ: تأخذ أحكام الوصية، إذا أراد أن يكون الوقف لا يأخذ أحكام الوصية وأن يكون في ماله كله؛ فيجعله وقفًا منجَّزًا في حال الصحة، إذا كان في حال الصحة فهو حُرٌّ في ماله، له أن يُوقف نصف ماله، له أن يُوقف ثلاثة أرباع ماله، له أن يُوقف كُلَّ ماله، وإن كان هذا كرهه بعض العلماء؛ قالوا: يُخشى أن يحتاج، لكن لا يتقيد بالثلث بشرط أن يكون في زمن الصحة وليس في مرض الموت، فإذا كان في زمن الصحة فله أن يُوقف وقفًا منجَّزًا؛ يقول مثلًا: نصف أموالي وقفٌ، فهذا يصح ولا يتقيد ذلك بالثلث، الوقف يتقيد بالثلث إذا كان في مرض الموت، أو كان معلَّقًا على الوفاة، فهنا يتقيد بالثلث، وهذه مسألةٌ دقيقةٌ يغفل عنها كثيرٌ من الناس، بعض الناس يعتقد أن الوقف في زمن الصحة يتقيد بالثلث، هذا غير صحيح، إذا كان في زمن الصحة وهو منجَّزٌ فلا يتقيد بالثلث، له أن يُوقف أكثر من الثلث، يُوقف النصف، ويُوقف الثلاثة أرباع، وحتى عند بعض العلماء له أن يُوقف ماله كله، وإن كان بعضهم يكره هذا، لكن لا يتقيد بالثلث.

المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- في مثل هذه الصورة إذا حدَّد المُوقِف عقارًا ووقَّفه وعلَّق وقفه على الوفاة، وبعد وفاته تبيَّن أن هذا العقار يُساوي أكثر من ثلث المال؛ فماذا نصنع هنا؟

الشيخ: هنا نقول: لا يُنفَّذ من هذا الوقف إلا في حدود الثلث، وما زاد على الثلث يُرجَع فيه إلى الورثة، فإن رَضُوا فيُنفَّذ، وإلا فلا، فالمرجع في ذلك للورثة؛ يعني: حُكمه حُكم الوصية تمامًا.

المقدم: يعني بهذا الاعتبار يقال: إن هذا العقار يكون جزءٌ منه موقوفًا؟

الشيخ: نعم، يكون جزءٌ منه موقوفًا، وهو ما يُعادل الثلث؛ ولهذا ينبغي أن يُلاحِظ المُوقِف هذا المعنى، يعني هناك فرق بين أن يُوقف وقفًا منجَّزًا، أو يُوقف وقفًا معلَّقًا بعد الوفاة، المُنجَّز يصح فيه أكثر من الثلث إذا كان في زمن الصحة، المُعلَّق بالوفاة لا يكون إلا بالثلث، الذي في مرض الموت لا يكون إلا بالثلث.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم -شيخنا- هذا البيان. ونحن في هذا البرنامج (مجالس الفقه) نذكر شيئًا من المسائل والأحكام الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويحتاج إليها المسلم، ومعنا في ذلك شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان.

أيضًا -شيخنا- من المسائل المتعلقة بالوقف: أن بعضهم يُوقف على أبنائه؛ فهل يصح مثل هذا الوقف؟ أن يُوقف الإنسان شيئًا ويكون مصرِف الوقف هو أبناءه؟ وهل يجوز تخصيص بعض الأبناء بهذا الوقف؟

الشيخ: الوقف على الأولاد من بنين وبنات صحيحٌ، وله فائدةٌ؛ لأن بعض الناس يقول: كيف يُوقف إلى أولاده والمال سينتقل إليهم بالإرث؟!

نقول: بعض الناس قد يكون له نظرٌ في هذا، يرى أن عند أولاده سوء تدبيرٍ للمال، فيُوقف لهم وقفًا؛ بحيث إن هذا الوقف لا يباع ولا يوهب وإنما يستفيدون من ريعه؛ يقول مثلًا: هذا العقار وقفٌ على أولادي، يُصرَف ريعه عليهم، فيستفيد أن هذا العقار يبقى لا يُباع، فالوقف على الأولاد فيه فائدةٌ من هذه الناحية، فلا يقال: إنه ليس هناك فائدةٌ من الوقف على الأولاد.

بعض الناس قد يرى أن أولاده عندهم سوء تدبير، ويُريد أن يكون لهم عقار يستفيدون من ريعه، يَدِرُّ عليهم ريعه، فيكون في هذا فائدةٌ، لكن المهم هنا: العدل بين الأولاد، إذا وقف على أولاده فيجب عليه أن يعدل بينهم، ولا يجوز أن يُخصَّص بعض أولاده بالوقف دون بعض؛ فإن هذا التخصيص محرمٌ ولا يُنَفَّذ، كما لو وقف مثلًا على الذكور دون الإناث أو العكس، أو وقف على أولاده من زوجة، دون أولاده من زوجة أخرى، أو وقف على أولاده الصغار دون الكبار، أو خصَّ أحدًا من أولاده بالوقف دون البقية، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا فيه تفضيلٌ لبعض الأولاد على بعض، وهذا نهى عنه النبي وقال: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم[1]. فعلى هذا؛ لا بُدَّ لمَن وقَّف على أولاده أن يكون ذلك بالعدل، ولا يجوز أن يُخصِّص بعض الأولاد دون بعض.

يمكن أن يكون بالتساوي، أو مثل الميراث للذكر ضعف الأنثى، لكن أن يحرم بعض الأولاد ويُوقف على بعضهم؛ فهذا لا يجوز.

حُكم تخصيص بعض الأولاد بالوقف

المقدم: أحسن الله إليكم. هذا يقودني إلى سؤال: وهو حُكم تخصيص بعض الأولاد بالوقف لأجل وصفٍ وهو قدْرٌ زائد على كونه ابنًا له، كأن يقول: هذا الوقف خاصٌّ للمحتاج من أولادي، أو لمَن يفعل كذا، أو لمَن أراد الزواج من أبنائي؛ فهل مثل هذا سائغ؟

الشيخ: هذا سائغ؛ لأن هذا الوصف يمكن أن ينطبق على الجميع، كأن يقول مثلًا: هذا الوقف على المحتاج من الذرية أو من أولادي. لكن ينبغي أن يضع ضابطًا للحاجة؛ لأنه إذا لم يضع ضابطًا ربما كل واحد يقول: أنا محتاج، كأن يجعل الضابط: ألَّا يكفيه دخله لآخر الشهر مثلًا، فهذا يصح، يجعل هذا الوقف على المحتاج من أولاده، أو المحتاج من ذريته؛ وقد نصَّ على هذا كثير من الفقهاء، ولهذا جاء في صحيح البخاري عن الزبير بن العوام : أنه وقَّف دُورَه واشترط أن تسكن المردودة من بناته -يعني: المطلقة- غير مُضِرَّةٍ ولا مُضَرٍّ بها، فإن استغنت بزوجٍ فلا حقَّ لها فيه، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ، ولم يُنكِروا عليه ذلك؛ فكان كالإجماع.

وعلى هذا؛ فلو أراد الإنسان مثلًا أن يجعل له عقارًا، ويكون ريعه للمحتاج من أولاده أو من ذريته؛ فلا بأس بذلك، بل إنه ربما هذا يكون من الإحسان العظيم إليهم؛ لأنه قد يكون في أولاده العاطل عن العمل، قد يكون في أولاده امرأةٌ مطلقةٌ، قد يكون في أولاده أرملة، فهو يريد أن يُغنِيهم بهذا الوقف؛ فيقول: هذا العقار وقفٌ على المحتاج من أولادي والمحتاج من ذريتي.

وأيضًا من الأمور الحسنة التي يفعلها بعض الناس أنه يُوقِف بيته على أن يسكن فيه مَن احتاج من ورثته، فيكون هذا البيت مركزًا للعائلة، فإن لم يحتج إليه أحدٌ؛ إما أن يُنقل الوقف في مكان آخر -يعني: يبيعه ويجعله في مكان آخر ويكون الريع لهم-، أو أن يجعل الريع في وجوه البِرِّ، لكن يريد أن يكون هذا البيت مركزًا للعائلة؛ فيقول: بيتي هذا وقفٌ على المحتاج من عائلتي؛ أمّ الأولاد مثلًا، المطلقة من بناته، العاطل عن العمل، المحتاج من أولاده، يكون لهم هذا البيت يسكنون فيه، ليس لأحدٍ مِنَّةٌ عليهم، يسكنون فيه معزَّزين مكرَّمين، فإذا استغنى عنه الجميع يضع الواقف آليةً؛ مثلًا يقول: ريعُه في وجوه البِرِّ، أو ريعُه يُقسَّم بين الورثة على حسب ما يريد، لكنه يريد أن يُغني المحتاج من ورثته من بعده، وهذا من الأفكار الحسنة، يقول: بيتي هذا وقفٌ على المحتاج، تبقى مثلًا أم أولاده إن مات قبلها، تسكن في هذا البيت معزَّزةً مكرَّمةً، إن كان هناك من بناته مطلقات يَبْقِينَ في هذا البيت، إن كان هناك أحدٌ من الأبناء أيضًا محتاجًا يبقى في هذا البيت، يبقون معزَّزين مكرَّمين، ليس لأحدٍ مِنَّةٌ، وليس لأحدٍ يُطالبهم ببيع البيت؛ فهذا من الأفكار الحسنة، وهذا من الإحسان للورثة.

المقدم: أحسن الله إليكم. ذكرتم قبل قليل صحة الوقف على الأبناء؛ هل مقتضى العدل في الوقف على الأبناء أن تكون قسمة الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين أم بالسوية؟

الشيخ: إن أراد بالسوية، فهذا يسُوغ بالسوية، وإن أراد أيضًا أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين اقتداءً بقسمة الله في الميراث فلا بأس بذلك، لكن الفقهاء يقولون: إن أطلق قال: وقفٌ على أولادي وسكت، فالذكر والأنثى سواءٌ، الذكر والأنثى سواءٌ إذا أطلق، أما إذا خصَّص فكلاهما سائغٌ؛ سواءٌ قال: بالتساوي، أو قال: للذكر ضعف الأنثى.

ضبط صيغة الوقف

المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، الحقيقة في أثناء حديثكم كثيرًا ما تذكرون: لا بُدَّ أن يضبط الواقف هذا الأمر، لا بُدَّ أن ينضبط الوقف في صيغته، وهذا يُؤكِّد على معنًى مهم: وهو أن يكون الواقف دقيقًا في صياغة الوقف؛ حتى لا يقع نزاعٌ فيه، أو يقع فيه تشويشٌ، أو حتى يختلَّ هذا الوقف ويندثر؟

الشيخ: نعم، هذا صحيحٌ، ينبغي عند كتابة الوقف وعند إنشائه أن يستشير المُوقِف أهل العلم، يقتدي بعمر ، عمر لمَّا أراد أن يُوقِف استشار النبيَّ ، فيستشير أهل العلم بالصيغة المناسبة؛ يقول: أنا أريد وَقْفَ كذا على كذا وكذا، ما هي الصيغة المناسبة؟ فينبغي أن تكون العبارة محرَّرةً، وحتى لا يُشكِل ذلك على الناظر بعد وفاته، فمثلًا بعض الناس يقول: على أولادي وأولاد أولادي، طيب هل يدخل أولاد البنات أم لا؟ هذه مسألةٌ خلافيةٌ بين الفقهاء، فلو أن المُوقِف حَسَمَها، قال: أولاد أولادي الذكور دون أولادي البنات، فهذا يرفع الحرج عن الناظر. أيضًا إذا كان هناك فاضلٌ من ريع هذا الوقف؛ يعني: وقَّف مثلًا على أمرٍ خيريٍّ، على جهةٍ خيريةٍ، فيحتاط؛ يقول: فإن كان هناك فاضلٌ فيُصرف في كذا، فتكون العبارة محرَّرةً، بحيث لا تُشكِل على الناظر عنده، تكون العبارة محرَّرةً بحيث لا تُشكِل على الناظر عند التنفيذ.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. وكما تفضلتم لا يمنع أن يستشير الإنسان في هذه الصيغة؛ لأن هذه الصيغة هي الخارطة لهذا الوقف، والتي ينبني عليها كثيرٌ من الأحكام المتعلقة بها.

الشيخ: الحقيقة عندما نتأمل في ضياع كثيرٍ من الأوقاف، لأننا الآن في القرن الخامس عشر الهجري، والمسلمون في كل عصر ومصر يتسابقون للأوقاف؛ ضاع كثيرٌ من أوقاف المسلمين؛ ومن الأسباب في ذلك: أن الواقف لا يُحسِن تحرير عبارة الوقف، ولا يُحسِن أيضًا ترتيب النَّظَارة؛ ولذلك ينبغي أن تكون عبارة الوقف محرَّرةً، وأن يعتني بترتيب النَّظَارة، بحيث يكون للوقف ناظرٌ يحميه من أن يتعدى عليه أحد؛ لأن كثيرًا من الأوقاف ضاعت بسبب التعدِّي عليها، وينبغي أيضًا أن يجعل للناظر أجرةً مجزيةً حتى يتشجع في عمارة هذا الوقف، وأيضًا -وهو الأهم- في حمايته من أن يتعدَّى عليه أحد، فكثيرٌ من أوقاف المسلمين نجد أنها قد ضاعت لهذا السبب؛ بسبب أنها لم تُرتَّب نَظَارتها بشكل جيد، وأيضًا لم تُحرَّر العبارة، فربما استُغِلَّت من بعض الورثة ولم تُنفَّذ الأوقاف بالشكل الذي يُريده الواقف؛ فلذلك ينبغي للمُوقِف أن يُعنَى بتحرير عبارة الوقف عند إنشائه، وأن يُعنَى بترتيب النَّظَارة.

تخصيص أجرة لناظر الوقف

المقدم: أحسن الله إليكم. في هذا المقام أذكر: بعضهم ربما يستكثر أن يُخصِّص أجرةً تكون لناظر الوقف، ويرى أن هذا من الأمور الكمالية التي لا ينبغي أن يُصرف فيها ريع الأوقاف وشيءٌ من هذا القبيل.

الشيخ: المصلحة تقتضي أن يُخصِّص للناظر أجرةً؛ لأن هذا مما يُشجِّعه على عمارة الوقف، وعلى أيضًا حماية الوقف، فهذا فيه مصلحةٌ عظيمةٌ للوقف. أما إذا جعله بدون أجرة فربما يتدافع الورثة لنَظَارة الوقف، وربما أيضًا الجيل الذي بعده لا يهتمون، وكلٌّ يقول: لست ملزمًا بهذا الوقف، وهذا الوقف ربما يكون فيه مشاكل، ويحتاج إلى إدارة، ويحتاج إلى مسؤولية، فيتدافعون نَظَارةَ الوقف؛ ولذلك حتى يبقى هذا الوقف، وحتى أيضًا يُنمَّى ويُثمَّر ويُحمَى؛ ينبغي أن يكون هناك أجرة للناظر، ويمكن للواقف أن يقول: وللناظر أجرةٌ مقدارها كذا إن أراد، تفتح أيضًا مجالًا للاحتساب والتطوع، إن أراد فله أجرةً قدرها كذا.

المقدم: وهذه الصيغة إذا حرَّرها -شيخنا-: هل له أن يُعدِّل عليها بين حينٍ وآخر، أم إذا حُرِّرَت أصبحت نافِذةً ولا يمكن التعديل عليها؟

الشيخ: تغيير شرط الواقف مسألةٌ خلافيةٌ بين الفقهاء؛ فمنهم مَن لا يُجِيز تغيير شرط الواقف، ويقولون: الوقف قد نَفَذَ وخَرَجَ من ملك صاحبه لله . والقول الثاني: أنه يجوز تعديل شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، هذا هو اختيار ابنِ تيمية رحمه الله وجمعٍ من المحققين من أهل العلم -وهو الأقرب-، لكن ينبغي أن يكون ذلك عن طريق المحكمة الشرعية، أو الجهة المسؤولة عن الأوقاف. فتعديل شرط الواقف لِمَا هو أصلح، هذا الأقرب -والله أعلم- أنه يجوز.

والنبي أجاز هذا فيما هو أشد: في النذر، لمَّا أتاه رجلٌ وقال: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أُصلِّي في بيت المقدس ركعتين، قال : صلِّها هنا، فأعاد عليه، فقال : صلِّها هنا، فأعاد عليه، فقال : صلِّها هنا، فأعاد عليه، فقال : فشأنك إذَن[2]، فهذا نَذَرَ أن يُصلِّي ركعتين في بيت المقدس، فالنبي أشار عليه بأن يُصلِّي في المسجد الحرام؛ لأن المسجد الحرام أفضل، فإذا جاز هذا في النذر، فشرط الواقف من باب أَولى، لكن ينبغي أن يكون ذلك عن طريق الجهة المسؤولة عن الأوقاف.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم -شيخنا- هذا البيان والإيضاح. إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، وتبقى مسائل متعلقة بالوقف نحتاج أن نتدارسها في حلقة قادمة -بإذن الله -. أشكر شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان على هذا الإيضاح والبيان، فشكر الله لكم.

الشيخ: والشكر لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: الشكر لمَن قام بتسجيل هذه الحلقة أيضًا، الشيخ: عثمان بن عبدالكريم الجويبر.

إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة -بإذن الله -؛ أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه البخاري: 2587، ومسلم: 1623.
^2 رواه أبو داود: 3305، وأحمد: 14919، وصححه النووي في المجموع: 8/ 473.
مواد ذات صلة
zh