جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتذاكر فيه شيئًا من مسائل الفقه والنوازل المعاصرة وما يَحتاج إلى معرفته المسلم، يصحبنا في هذا البرنامج شيخنا فضيلة الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: أهلًا وسهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
حكم أخذ الوالدين من مال ولدهما
شيخنا، في الحلقة الماضية تطرقنا لشيءٍ من المسائل والأحكام المتعلِّقة بعطية الأولاد، وذكرنا شيئًا من هذه المسائل، ولعل مما يتصل بهذا الباب جملةً من المسائل؛ من ذلك: حكم أخذ الأب من مال ولده، هل يجوز للأب أن يأخذ شيئًا من مال ولده؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالأب له أن يأخذ من مال ولده ما شاء بشرطين:
- الشرط الأول: ألا يأخذ ما يضر الولد أو يحتاجه؛ لقول النبي : لا ضرر ولا ضرار [1]، ولأن حاجة الإنسان مقدَّمةٌ على دَينه؛ فأبواه من باب أولى.
- والشرط الثاني: ألا يأخذ لأجْل أن يُعطِي ما يأخذه لولدٍ آخر؛ لأن الوالد ممنوعٌ من التفضيل بين أولاده بماله؛ فلأن يكون ممنوعًا مما يأخذه من مال ولده من باب أولى.
وأضاف بعض الفقهاء شرطًا ثالثًا: وهو ألا يأخذ الأب إلا عند الحاجة، وهو قول أبو حنيفة ومالكٍ والشافعي، والأقرب -والله أعلم- عدم اشتراط هذا الشرط، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات؛ وذلك لعموم الأدلة الدالة على أن الأب يأخذ من مال ولده ما شاء، ومن ذلك قول النبي : أنت ومالك لأبيك [2]، فهو حديثٌ ثابتٌ بمجموع طرقه، ولحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم [3]، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي وأحمد، وقال الترمذي: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم، قالوا: إن يد الوالد مبسوطةٌ في مال ولده يأخذ ما شاء"؛ فعلى هذا: الأظهر -والله أعلم- أنه لا يُشترط ألا يأخذ الأب إلا عند الحاجة؛ لعموم هذه الأدلة التي لم تُقيِّد ذلك بالحاجة، ولأن الولد كسبٌ لوالده كما في الحديث السابق: إن أولادكم من كسبكم، وما كان كسبًا للإنسان لم يتقيد تصرُّفه فيه بحاجته، ولأن الله تعالى جعل الولد موهوبًا لوالده، كما في قوله سبحانه: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنعام:84]، وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى [الأنبياء:90]، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]، وما كان موهوبًا للإنسان لم يتقيد أخذه منه بالحاجة.
فعلى ذلك نقول: يجوز للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء بشرطين:
- الشرط الأول: ألا يأخذ ما يضر الولد.
- والشرط الثاني: ألا يأخذ لأجل أن يعطي ما يأخذه لولدٍ آخر.
المقدم: أحسن الله إليكم، في هذه المسألة -ألا يأخذ ما يضر الولد- هل يدخل فيما يضره لو كان الضرر مترتبًا على تقصيرٍ في نفقة من تلزمه نفقته؛ كأبناء هذا الابن ونحوه؟
الشيخ: نعم، إذا كان الأب سيأخذ من مال ولده ما يُلحِق الضرر بهذا الولد؛ كأن يأخذ نفقته أو النفقة الواجبة عليه؛ فليس له ذلك؛ لأن في هذا إضرارًا بالولد.
المقدم: أحسن الله إليكم، وما يخص الشرط الثاني: ألا يُعطيه لولدٍ آخر، ما العلة في ذلك؟
الشيخ: كما ذكرنا أن العلة: هي أن الأب ممنوعٌ من التفضيل بين أولاده بماله الخاص؛ فلأن يكون ممنوعًا مما يأخذه من مال ولده من باب أولى.
المقدم: إذنْ يُقصد من هذا: أن يُعطيه مجرد عطيةٍ، وليس لأجل الحاجة، لو افترضنا أنه سيُعطيه لولده الآخر؛ مثلًا: لعلاجه، أو شيءٍ من هذا، هل يدخل في الإشكال؟
الشيخ: إذا كان الأب يأخذ لنفسه؛ جاز ذلك، أما إذا كان سيأخذ ليُعطيه لولدٍ آخر؛ فليس له ذلك إلا برضا الولد المأخوذ منه.
المقدم: أحسن الله إليكم، الأم هل تأخذ حكم الأب في جواز أخذها من مال ولدها؟
الشيخ: هذا محل خلافٍ بين الفقهاء؛ فمنهم من قصر الحكم على الأب، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، ومنهم من جعله شاملًا للأم، وهذا روايةٌ عن الإمام أحمد رحمه الله، فأجاز للأم أن تأخذ من مال ولدها ما شاءت بالشروط السابقة، وهذا هو القول الراجح والله أعلم؛ لعموم الأدلة التي تشمل الأب والأم؛ ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها السابق: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، وهذا -كما ذكرنا- أخرجه أصحاب السنن، وسنده صحيحٌ، وهو ظاهرٌ في شمول ذلك للأب والأم؛ لأن الخطاب للوالدين: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، هذا يشمل الأب والأم، وإن أولادكم من كسبكم، ولأن الولد كما أنه هبةٌ لأبيه؛ فهو هبةٌ لأمه، كما يجوز للأب أن يأخذ من مال ولده؛ فكذلك الأم؛ فعلى هذا: يَدُ الأب والأم مبسوطةٌ في أموال أولادهما بهذين الشرطين:
- ألا يأخذا ما يضره.
- وألا يأخذاه ويعطياه ولدًا آخر.
وعلى ذلك: يرتفع الحرج الذي يتحرج منه بعض الناس عندما يكون مثلًا عند بعض أولاده مكافأةٌ أو نحو ذلك، فيأخذ الأب منها، أو تأخذ الأم من هذه المكافأة، نقول: الأمر في هذا واسعٌ، إذا تحقق الشرطان السابقان؛ إذا لم يكن في ذلك ضررٌ على الولد، وألا يأخذه ويُعطيه ولدًا آخر، فالأمر في ذلك واسعٌ، فالعلاقة بين الأب والأم وأولادهما من بنين وبنات فيها سعةٌ، فكون الأب أو الأم يأخذ من مال ولده من ابنٍ أو بنتٍ الأمر في هذا واسعٌ، لكن مع ملاحظة الشرطين السابقين.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان.
حكم مطالبة الوالدين بالديون
أيضًا من المسائل المتعلقة بهذا الباب: أحيانًا يكون للآباء أو الأمهات ديونٌ مستحَقةٌ لأبنائهم، فهل للأبناء -في هذه الحال- أن يطالبوا بتلك الديون التي على آبائهم؟
الشيخ: ليس للولد من ابنٍ أو بنتٍ أن يطالب أباه أو أمه بدينٍ عليه؛ لقول النبي للرجل الذي جاء بأبيه يقتضيه دينًا فقال له: أنت ومالك لأبيك [4]، وهذا نصٌّ في المسألة؛ لأن هذا الرجل أتى للنبي يتقاضى أباه دينًا، فقال له النبي : أنت ومالك لأبيك؛ ولهذا قال الفقهاء: إنه ليس للولد أن يطالب أباه بدينٍ عليه، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "يملك الأب إسقاط دين الابن عن نفسه"، ثم إن مطالبة الولد لأبيه أو أمه بالدين ومقاضاته لهم في المحاكم، وكونه يجرجر أباه أو أمه لدينٍ عليه، فقد يكون فيه نوعٌ من العقوق؛ فلذلك الفقهاء قالوا: إنه ليس للولد أن يُطالب أباه بدينٍ عليه، لكن من حيث النفقة الواجبة: هذه مستثناةٌ، النفقة الواجبة، للابن مطالبةُ أبيه بها، بل نصَّ الفقهاء على أنه إذا طالب الابن أباه بالنفقة وأبى مع قدرته -لاحظ هذا القيد: مع قدرته- فإنه يحبس عليه حتى يُنفِق؛ ويدل لذلك قول النبي لامرأة أبي سفيان : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف [5].
ومطالبة الابن لأبيه بالنفقة إنما هو لأجل ضرورة حفظ النفس؛ لأنه قد يكون هناك بعض الآباء أغنياء ولا يُنفقون على أولادهم، يكون عنده أسرةٌ، ويُهمل أسرته ولا يُنفق عليها وهو غنيٌّ وقادرٌ على النفقة، فمثل هذا لا بد من أن يُجبَر على النفقة، وللولد من ابنٍ أو بنتٍ أن يطالبه بهذه النفقة؛ لأن هذا حقٌّ للابن أو البنت، فإذا قصَّر الأب في ذلك؛ فلهم أن يطالبوه، بخلاف الدَّين؛ الدين ليس للابن أو البنت المطالبة، أما بالنسبة للنفقة، فالنفقة -كما ذكر الفقهاء- هي لضرورة حفظ النفس، فإذا كان الأب قادرًا؛ فللأولاد أن يطالبوا أباهم بالنفقة، أما الدَّين فليس لهم ذلك.
أحكامٌ ومسائل متعلقةٌ بالوصايا
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.
ونحن في هذا البرنامج مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، نتدارس شيئًا من المسائل والنوازل التي يَحتاج إلى معرفتها المسلم.
أستأذنكم شيخنا أن نَلِج إلى بابٍ من الأبواب الفقهية، وهو بابٌ مهمٌّ في الحقيقة، وتكثر الأسئلة حوله: وهو ما يتعلق بـ(باب الوصايا)، ويعقد الفقهاء لذلك بابًا مستقلًّا في مصنفاتهم وكتبهم.
وقبل الدخول في بعض الأحكام والمسائل المتعلقة بالوصايا، لو بينتم لنا شيخنا ما معنى الوصية ابتداءً؟
الشيخ: الوصية؛ أصل هذه المادة في اللغة العربية يُنبئ عن الوصول والاتصال، استعمل العرب الفعل "وصى" بمعنى اتصل ووصل، ومنه: وصيت الشيء، إذا وصلته.
ومعناها اصطلاحًا: الأمر بالتصرف بعد الموت أو التبرع بالمال بعده"، هكذا عرَّفها الفقهاء: "الأمر بالتصرف بعد الموت، أو التبرع بالمال بعده".
يعني مثلًا: يُوصي هذا الأب أو الأم أبناءه بأمورٍ معينةٍ، "الأمر بالتصرف بعد الموت" يعني: أن المُوصِي في حياته يأمر بأمورٍ معينةٍ بعد وفاته؛ كأن يُوصي إلى إنسانٍ بتزويج بناته، أو يُوصي مثلًا بأن يُصلَّى عليه في كذا، أو يُوصِي مثلًا بتفرقة ثلث ماله، ونحو ذلك، أو التبرع بالمال بعده، أي أمر المُوصِي بالتبرع بعد موته بمالٍ في وجوهٍ معينةٍ؛ كأن يُوصي مثلًا بالصدقة بربع ماله في وجوه البِرِّ، أو يُوصِي بأن يكون هذا المال يُنفَق على كذا، فهذه الوصية، وهذا بخلاف الهبة، فإنها تبرعٌ بالمال في حال الحياة، أما بالنسبة للوصية فهي تبرعٌ بالمال بعد الوفاة.
حكم الوصية
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، هل يجب على الإنسان أن يُوصي، وما حكم الوصية؟
الشيخ: الوصية تدور عليها الأحكام الخمسة، يعني: الوجوب والاستحباب والتحريم والكراهة والإباحة، وتدور عليها هذه الأحكام تبعًا لاختلاف حال المُوصِي والمُوصَى له:
الأحوال التي تجب فيها الوصية
فتجب الوصية على من عليه حقوقٌ لازمةٌ، فيجب عليه أن يُوصِي بوفائها، سواءٌ أكانت تلك الحقوق للعباد؛ كالديون، وما عنده من الودائع والأمانات التي ليس عليها بينةٌ ولا يعلمها غيره، فيجب عليه أن يُوصي؛ لأنه لو لم يُوصِ؛ لم يجب على الورثة أن يُؤدُّوا هذه الحقوق لأهلها إلا ببينةٍ، فإذا لم يكن على هذه الحقوق بينةٌ؛ فيجب عليه أن يُوصِي، أو كانت تلك الحقوق لله ؛ كحج الفريضة، والزكاة التي لم يخرجها، والكفارات، ونحو ذلك.
الأحوال التي تستحب فيها الوصية
تُستَحب الوصية بجزءٍ من المال إذا ترك خيرًا، والخير: هو المال الكثير عرفًا؛ لقول الله : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]، كان هذا واجبًا ثم نُسخ الوجوب، وبقي الاستحباب في حقِّ من لا يرث، أما من كان وارثًا؛ فلا وصية لوارثٍ.
الأحوال التي تحرم فيها الوصية
تكون الوصية محرمةً في أحوالٍ؛ منها: إذا كانت الوصية لوارثٍ، ولم يُجِز ذلك سائر الورثة، فإنها محرمةٌ ولا تنفذ؛ لقول النبي : إن الله قد أعطى لكل ذي حقٍّ حقه؛ فلا وصية لوارثٍ [6]، أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، إلا إذا أجاز الورثة هذه الوصية بعد موت المُوصِي؛ فتصح.
كذلك أيضًا تحرم الوصية إذا كانت لغير وارثٍ بأكثر من الثلث، فإنها تلزم في الثلث، وما زاد عن الثلث لا تصح فيه؛ لقول النبي كما في قصة سعد : الثلث، والثلث كثيرٌ [7]، والحديث في "الصحيحين"، ولحديث عمران بن حصينٍ أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، ولم يكن له مالٌ غيرهم، فجزأهم النبي أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرَقَّ أربعةً، وقال له قولًا شديدًا [8]، رواه مسلمٌ.
فإذنْ تحرم الوصية إذا كانت بأكثر من الثلث، وتمضي بالثلث فقط، لكن يُستثنى من ذلك: ما لو إذا أجاز الورثة هذه الوصية بعد موت الموصي، أجازوا مثلًا أن تكون الوصية بأكثر من الثلث؛ فلا بأس، الحق للورثة.
المقدم: أحسن الله إليكم، قلتم قيدًا بعد موت المُوصِي، يعني إجازتهم قبل موته لا عبرة بها؟
الشيخ: نعم، هكذا يقول كثيرٌ من الفقهاء: إن إجازتهم قبل الموت لا عبرة بها، العبرة بكونها بعد الوفاة؛ لأن الوصية لا تلزم إلا بالموت.
أيضًا تحرم الوصية إذا قصد المُوصِي المضارَّة، فإنها لا تصح؛ لقول الله : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ [النساء:12]، ومعناها: غير مدخلٍ الضرر على الورثة؛ كأن يُوصِي بدينٍ ليس عليه لأحدِ الورثة مثلًا، ونحو ذلك.
أيضًا تحرم إذا كان المُوصَى به أمرًا محرمًا؛ كما مثلًا لو أوصى للأضرحة والقبور ونحو ذلك.
الأحوال التي تكره فيها الوصية
تُكره الوصية إذا كان المُوصِي فقيرًا وله ورثةٌ محتاجون؛ لأن الله لما ذكر الوصية؛ قال: إِن تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:181]، والخير: هو المال الكثير، وهذا الفقير لم يترك خيرًا؛ فلا تُستحب له الوصية، ولقول النبي كما في حديث سعدٍ : إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفَّفون الناس [9]، ولأن الأقربين أولى بالمعروف، مادام أن ورثته فقراء؛ فالأفضل ألا يُوصي، وأن يترك هذا المال لهؤلاء الورثة، فهم أولى من الأباعد.
وتُباح الوصية للفقير إذا كان ورثته أغنياء وهو فقيرٌ، فتُباح الوصية في هذه الحال.
وكذلك أيضًا تُباح الوصية بجميع المال لمن لا وارث له.
فإذنْ الوصية تدور عليها هذه الأحكام الخمسة: تارةً تجب، وتارةً تستحب، وتارةً تحرم، وتارةً تكره، وتارةً تباح.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان.
حكم كتابة الوصية والإشهاد عليها
هذه الوصية هل يصح أن تقال شفهيًّا، أم لا بد من الإشهاد عليها والكتابة، وأن تكون محررةً مكتوبةً، أو بعبارةٍ أخرى: ما حكم كتابة هذه الوصية، والإشهاد عليها؟
الشيخ: يُستحب للمسلم أن يُوثِّق وصيته؛ وذلك بأن يكتبها، وأن يُشهد عليها؛ لأنه لو لم يفعل ذلك؛ ربما لا تنفذ، وربما لا يَعترف بها من لم يسمعها من الورثة؛ ولذلك يستحب كتابة الوصية، وقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عند رأسه، قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: لم أَبِتْ ليلةً إلا ووصيتي مكتوبةٌ عندي بعد إذ سمعت ذلك من رسول الله [10].
ويُستحب مع كتابتها: أن يُشهِد عليها؛ قطعًا للنزاع، ولأنه أحوط وأحفظ، وينبغي أن يُحرِّر وصيته تحريرًا جيدًا، ولو استشار بعض أهل العلم في ذلك؛ يكون هذا أحسن؛ حتى لا يُشكِل تنفيذها على الورثة، وينبغي للمسلم أن يحرص على المبادرة بكتابة وصيته، والوصية لا تلزم إلا بالموت، فمادام أنها لا تلزم إلا بالموت؛ فيمكن أن يُلغِيها، يمكن أن يُغيِّر وأن يُبدِّل، لكن المهم أن يُبادر ويكتب وصيته ويُشهد عليها، فكم من إنسانٍ كان يريد أن يُوصي ثم بغته الموت، أو بغته مرض الموت فلم يُوصِ، وناسٌ كثُرٌ كانوا يُريدون أن يُوصوا، وبعضهم يملك ثروةً طائلةً ويُريد أن يُوصي، ولكن يتوانى، وكلَّ يومٍ يقول: غدًا، حتى بغته الموت أو مرض الموت، فندم ندمًا كبيرًا؛ ولذلك على المسلم أن يُبادر بكتابة وصيته.
وكما ذكرنا: إذا كتب وصيته؛ فالوصية لا تلزم إلا بالموت، يستطيع أن يُعدِّل وأن يُبدِّل فيها؛ لأن بعض الناس يقول: كيف أكتب الوصية وربما يبدو لي رأيٌ، نقول: هي لا تلزم إلا بالموت، فأنت بكتابتها لك الخيار أن تُغيِّر وأن تزيد وأن تُلغي الوصية، وأن تفعل ما تشاء، لكن المهم أن تُبادر وتكتب وصيتك.
ولهذا في الحديث السابق يقول عليه الصلاة والسلام: ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه، وابن عمر رضي الله عنهما امتثل هذا، قال: لم أبِتْ ليلةً إلا ووصيتي مكتوبةٌ عند رأسي.
وكثيرٌ من الناس يُؤتَون من جهة التفريط، ويظن أنه سيُعَمَّر، ويكون أمله طويلًا في الحياة، ولا يكتب وصيته، ثم يندم ندمًا عظيمًا، والذي لا ينفع نفسه وهو حيٌّ، لا ينتظر من ورثته أن ينفعوه بعد مماته، فعلى المسلم أن يكون حازمًا، وأن يُبادر إلى كتابة وصيته ويُشهِد عليها.
المقدم: أحسن الله إليكم، ولعل مما يَحسن الإشارة إليه: أنه عندنا في المملكة العربية السعودية "وزارة العدل" مشكورةً أتاحت خدمةً إلكترونيةً يتم من خلالها تثبيت هذه الوصية وإحكامها؛ بحيث تكون ثابتةً وموثَّقةً.
حكم تعديل الوصية أو إلغائها
أيضًا شيخنا مما يتصل بموضوع الوصية: كثيرًا ما يسأل بعضهم: يكتب وصيةً، لكن يطرأ عليه أمرٌ فيُعدِّل في هذه الوصية، سواءٌ تعديلًا كليًّا؛ بأن يُلغِي هذه الوصية، أو تعديلًا جزئيًّا؛ بأن يُضيف شيئًا أو يحذف شيئًا، فما حكم تصرفه في هذا الحال؟
الشيخ: لا بأس بذلك، وقد أجمع العلماء على أنه يجوز الرجوع في الوصية، وقال عمر : يُغيِّر ما شاء في وصيته، الوصية لا تلزم إلا بالموت، فجاز الرجوع فيها، وجاز التعديل، وجاز التغيير، وجاز التبديل، وجاز فيها الإضافة؛ كل هذا جائزٌ؛ لأنها لا تلزم إلا بالموت؛ ولذلك هذا مما يُشجِّع الإنسان على كتابة وصيته؛ لأنه إذا كتب وصيته؛ يستطيع أن يُلغِيها إن أراد، يستطيع أن يُعدِّل، يستطيع أن يُبدِّل، يستطيع أن يضيف، لكن المهم هنا: أن تكون الأمور واضحةً؛ لأن بعض الناس يكتب وصيةً، ثم يكتب وصيةً أخرى، ثم بعد وفاته يُشْكِل هذا على الورثة.
المقدم: تكون متعارضةً؟
الشيخ: يكون فيها شيءٌ من التعارض، فيُشكل على الورثة، هل تُنَفَّذ هذه؟ أو تُنَفَّذ هذه؟ أو تكون الأخيرة ناسخةً للأولى، فينبغي أن يكون المُوصِي عنده وضوحٌ، تكون وصيته واضحةً، إذا أراد مثلًا أن يُلغِي الوصية الأولى؛ يُلغِيها بطريقةٍ واضحةٍ؛ إما أن يُمزِّق الورقة التي كُتِبت فيها، أو يكتب عليها: أن الوصية مُلغاةٌ، أو نحو ذلك، وهكذا إذا أراد التغيير أو التبديل، المهم أنه يجعل الأمور واضحةً للورثة من بعده، حتى لا يُشكل عليهم الأمر عند التنفيذ.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
المقصود بــ"المُوصَى إليه"
شيخنا، في باب الوصية عندنا ما يُعرَف بــ: الموصي، والوصية -أو المُوصَى به- وهناك المُوصَى إليه، يذكر الفقهاء هذا "المُوصَى إليه"، فما المقصود بـ"المُوصَى إليه"؟
الشيخ: "المُوصَى إليه": هو المأمور بالتصرف بعد الموت في المال وغيره، كما للمُوصِي التصرُّف فيه حال الحياة، أي أنه الشخص الذي قد عُهد إليه تنفيذ الوصية، فإذا قال الفقهاء: "المُوصَى إليه"، المقصود به: من عُهِد إليه تنفيذ الوصية، هذا الشخص الذي طُلب منه تنفيذ الوصية: يُنفِّذ وصيتي فلانٌ، هذا هو المُوصَى إليه.
المقدم: إذنْ "المُوصَى إليه" يختلف عن "المُوصَى له"؟
الشيخ: نعم؛ "المُوصَى له" يختلف عن "المُوصَى إليه"؛ المُوصَى إليه: هو الذي يُنفِّذ الوصية، أما المُوصَى له: فهو الذي تكون له الوصية، لو كان مثلًا هذا الرجل عنده حفيدٌ مات أبوه مثلًا وله أبناءٌ؛ يعني: محجوبٌ عن الميراث بأعمامه، فجَدُّه أوصى لهذا الحفيد بوصيةٍ، هذا الحفيد يُعتبر "مُوصًى له"، الذي يقوم بتنفيذ الوصية "مُوصًى إليه"، الجد "مُوصٍ"، المال "مُوصًى به".
الشروط الواجب توفرها في المُوصَى إليه
المقدم: أحسن الله إليكم، المُوصَى إليه، هل هذا الأمر مما يختص به الرجال، أم يجوز أن يكون المتولِّي لتنفيذ الوصية المرأة كذلك؟
الشيخ: يصح أن يكون المُوصَى إليه امرأةً، ولا تشترط الذكورية في المُوصَى إليه؛ وبناءً على ذلك: تصح الوصية إلى المرأة، فلو أن رجلًا أوصى بأن تكون زوجته أو أم أولاده هي الوصية على أولاده؛ صح ذلك، لو رأى مثلًا أن الأنسب أن يجعل تنفيذ الوصية إلى زوجته؛ فلا بأس بهذا؛ ويدل لذلك: أن عمر أوصى بأن تتولى أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما نِظَارة وقفه بخيبر، والمرأة من أهل الشهادة؛ فصحت الوصية إليها كالرجل؛ وعلى هذا: لا بأس أن تكون المرأة "مُوصًى إليه"؛ يعني: يُعهَد إليها تنفيذ الوصية، فلا تُشترط إذنْ الذكورية للمُوصَى إليه، إنما الذي يُشترط: الإسلام، كما ذكر الوزير بن هُبيرة اتفاق الفقهاء على ذلك، وأن الوصية إلى الكافر لا تصح.
أيضًا يُشترط في المُوصَى إليه: التكليف؛ بأن يكون بالغًا عاقلًا؛ لأن غير البالغ وغير العاقل ليس بأهلٍ للتصرُّف في أموالهم، فلا يَلِيَان على غيرهما.
أيضًا يُشترط في المُوصَى إليه: العدالة، فلا يصح أن تكون الوصية لفاسقٍ، ومن الفقهاء من لا يشترط هذا الشرط، يرى أنه يصح أن يكون المُوصَى إليه فاسقًا، لكن يضم الحاكمُ إليه أمينًا، وهذه روايةٌ عن الإمام أحمد، ولعل هذا هو الأقرب.
أيضًا يُشترط في المُوصَى إليه: الرشد، فلا يكون سفيهًا.
فهذه هي الشروط التي تُشترط في المُوصَى إليه، وهنا نلاحظ أنه ليس من بينها: الذكورية؛ وعلى ذلك: فلا بأس أن تكون المرأة "موصًى إليه"، ويُعهد إليها بتنفيذ الوصية كالرجل.
حكم الدخول في الوصية
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، ولعلي أختم بسؤالٍ فيما يتعلق بالوصية: وهو حكم الدخول في الوصية؟
الشيخ: الدخول في الوصية لا بأس به لمن قوي عليها ووثق بنفسه؛ لفعل الصحابة ، فقد أوصى أبو عبيدة إلى عمر، رضي الله عنهما، وأوصى عمر إلى حفصة ثم إلى الأكابر من ولده، رضي الله عنهم، وأوصى الزبير رضي الله عنه كذلك؛ لِمَا في ذلك من التعاون على البر والتقوى، لكن هذا إنما يُستحب في حق من قوي على تنفيذ الوصية ووثق من نفسه.
أما من يرى من نفسه أنه لا يقوى على القيام بالوصية، أو أنه لا يثق بنفسه القيام بها؛ لكونه مثلًا ربما تضعف نفسه فربما يختلس شيئًا من المال المُوصَى به مثلًا، أو أنه أمينٌ لكن ليس عنده قدرةٌ، يعني شخصٌ يعرف من نفسه أنه فوضويٌّ وغير مرتبٍ، وربما أنه لا يُنفِّذ الوصية بالشكل المطلوب؛ فهنا لا يَدخل في هذه الوصية، ويعتذر عنها؛ لأنه يُعرِّض نفسه للمسؤولية وعدم القيام بالأمانة؛ ولهذا قال النبي لأبي ذرٍّ : يا أبا ذرٍّ، إني أراك ضعيفًا؛ لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيمٍ [11]، رواه مسلمٌ.
فليس كل إنسانٍ مؤهلًا لأن يكون الوصي، أو المُوصَى إليه، ليس كل إنسانٍ مؤهلًا: لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيمٍ، فقد يكون هذا الإنسان له قدراتٌ مميزةٌ في جوانب في الحياة، لكنه في جوانب أخرى ليس مناسبًا؛ ولذلك إذا رأى الإنسان من نفسه عدم القدرة على القيام بالوصية، أو أنه ما وثق بنفسه القيام بها؛ فإنه لا يدخل فيها.
أما لو رأى من نفسه القدرة، وغلب على ظنه أنه سيقوم بهذه الوصية على الوجه المطلوب؛ فالدخول فيها مستحبٌّ وهذا هو المأثور عن الصحابة .
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر الله لكم.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، أسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء على هذا البيان والإيضاح، فشكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: والشكر موصولٌ لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، ومع مواضيع جديدةٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه ابن ماجه: 2341، وأحمد: 2865. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 3530، وابن ماجه: 2292، وأحمد: 7001. |
^3 | رواه أبو داود: 3528، والترمذي: 1358، والنسائي: 4452، وابن ماجه: 2290، وأحمد: 25296. |
^4 | سبق تخريجه. |
^5 | رواه البخاري: 7161، ومسلم: 1714. |
^6 | رواه أبو داود: 2870، والترمذي: 2120، وابن ماجه: 2713، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، ورواه الترمذي: 2121، من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه. |
^7 | رواه البخاري: 2734، ومسلم: 1629. |
^8 | رواه مسلم: 1668. |
^9 | رواه البخاري: 6373. |
^10 | رواه البخاري: 2738، ومسلم: 1627. |
^11 | رواه مسلم: 1826. |