جدول المحتويات
المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم "مجالس الفقه".
"مجالس الفقه" برنامجٌ يُذاع عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها، ويحتاج إلى معرفتها المسلم. يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، فبِاسْمي وَاسْمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: مرحبًا بكم وأهلًا وسهلًا، حياكم الله، وحيا الله الإخوة المستمعين.
معنى الوقف
المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، في هذه الحلقة سنشرع في ذكر شيءٍ من الأحكام والمسائل الفقهية المتعلقة بالوقف، وقبل الدخول في هذه المسائل والأحكام لو بينتم لنا المراد بالوقف في اصطلاح الفقهاء، وما المقصود به؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالوقف في اللغة؛ هذه المادة تدور حول معنى الحبس عن التصرف؛ يقال: وَقَّفَ الشيءَ إذا حبسه، يقال: وَقَفَ الشيء وقفًا، ويقولون إن الأفصح أن تقول: وَقَّفْتُ الشيء، ولا تقل: أَوْقَفْتُ، قال ابن الأثير: لا يقال: أَوْقَفْتُ، إلا على لغةٍ رديئة. فالأفصح إذَن أن يقال: وَقَّفَ، ولا يقال: أَوْقَفَ.
المقدم: خلاف المشهور عند الناس.
الشيخ: إي نعم، اللغويون يقولون إن "وَقَّفَ" أفصح من "أَوْقَفَ"، وبعضهم -كابن الأثير- يقول: أَوْقَفَ أصلًا إنما ذلك على اللغة الرديئة. ومعنى الوقف في اللغة يدور حول الحبس والتسبيل؛ ولذلك يُسمَّى الوقف: تَسبِيلًا وسِبالةً، وحبسًا أيضًا، ولذلك بعض كتب الفقه يَعْقِدون "باب الحبس" أو "الأحباس"، وهذا مشتهرٌ في كتب المالكية، بدل باب الوقف باب الحبس، فيُطلَق عليه الحبس، ويُطلَق عليه الوقف، ويُطلَق عليه التسبيل.
أما معناه اصطلاحًا: فهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
تحبيس؛ أي: حبس الأصل المُوقَف عن البيع والشراء والهبة ونحو ذلك، مع قطع ملك صاحبه عنه. والأصل: هو ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالعقارات والبساتين ونحو ذلك. وكلمة "تسبيل" مقابل قولنا في التعريف: تحبيس؛ أي: إطلاق، تسبيل معناها: إطلاق المنفعة، والمنفعة هي الغلَّة الناتجة عن ذلك الأصل كالثمرة والأجرة ونحوهما.
ومن أمثلة الأوقاف: المساجد، فهي أعظم ما تكون من الأوقاف، وقد قال النبي : مَن بنى لله مسجدًا؛ بنى الله له به بيتًا في الجنة[1]، وهذا عُدَّ من الأحاديث المتواترة. ومن ذلك: أن يُوقِف عقارًا ويجعل رِيعه للفقراء والمساكين وفي وجوه البِرِّ، ومن ذلك مثلًا: أن يضع برَّادة في الطريق، أو أن يطبع كتابًا نافعًا، ونحو ذلك.
تاريخ الوقف
المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، هل الأوقاف عُرِفت من قديم الزمان، أم أنه أمرٌ استجد في أوقات متأخرة؟
الشيخ: بالنسبة للوقف عُرف من زمن النبوة، من زمن النبي عليه الصلاة والسلام، ووقَّفَ الصحابة أوقافًا كثيرة، وأول وقفٍ في الإسلام هو وقفُ عمر ، كما جاء في مسند الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أول صدقة في الإسلام صدقةُ عمر[2]. وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى النبي يستشيره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أُصِب قطُّ مالًا أنفس منه، فما تأمرني فيه؟ فقال له النبي : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يُباع أصلها ولا يُوهب ولا يُورَث[3]، فجعل عمر هذا الوقف في الفقراء وذوي القربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على مَن وَليها أن يأكل منها، أو يُطعم صديقًا بالمعروف. وجاء في صحيح البخاري: أن هذه الأرض التي وقَّفها عمر هي ثمر وكانت نخلًا، وقد أوصى بها عمر إلى حفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما، ثم إلى الأكابر من آل عمر[4].
وقيل: إن أول وقف في الإسلام أراضي مُخَيْرِيق -اليهودي الذي أسلم وجعل هذه الأراضي إلى النبي - فأوقفها النبي عنه، لكن من حيث الصناعة الحديثية في سندها مقال، والأول أشهر وأظهر، فالمعروف أن أول وقف في الإسلام هو وقف عمر .
فضل الوقف في الإسلام
المقدم: أحسن الله إليكم، هذا يقودنا -شكر الله لكم شيخنا- إلى مسألةٍ: وهي بيان فضل الوقف في الإسلام، وهل ورد في ذلك نصوص تحثُّ عليه؟
الشيخ: الوقف من أفضل ما تُبذل فيه الأموال، إن لم نقل إنه أفضل ما تُبذل فيه الأموال على الإطلاق؛ يدل لذلك أن النبي لمَّا استشاره عمرُ في أنْفَسِ مالٍ أصابه في حياته، أشار عليه النبي بالوقف، ولو كان هناك شيءٌ من أعمال البِرِّ أفضل من الوقف لأشار به النبيُّ على عمر؛ لأن المستشار مؤتمن، عمر يقول: أصبتُ أرضًا هي أنْفَسُ مالٍ أصبتُه في حياتي، فاستشرت النبي فأشار عليَّ بالوقف؛ فدل هذا على أن أفضل ما تُبذل فيه الأموال الوقف.
ويدل لفضلها أيضًا ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له[5]، فقوله : صدقة جارية المقصود بذلك: الوقف، فدلَّ هذا على أن الوقف مما يلحق الإنسانَ أجرُه وثوابُه في حياته وبعد مماته، وربما يكون هذا الوقف عقارًا أو أرضًا يُنتفع بها بعد موت الواقف عشرات السنين، بل ربما مئات السنين، فيكون هذا الواقف من عِدَاد الأموات، لكن أجره وثوابه جارٍ ومستمر وهو في قبره، ما دام أن هذا الشيء الموقوف يُنتفع به.
وهذا من توفيق الله تعالى لبعض الناس، وربما لا يكون من ذوي الثروة الكبيرة، لكن الله يُوفِّقهم بأن يُوقفوا أوقافًا تَدِرُّ عليهم حسناتٍ عظيمةً وهم في قبورهم؛ فالوقف إذَن من أفضل وأجَلِّ الأعمال، وهو من الآثار الحسنة التي تبقى للإنسان بعد مماته، وقد قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]، فيُكتب للإنسان أمران: ما قدَّمَت يدُه من أعمالٍ صالحة -من صلاة وصيام وصدقة وحج وغير ذلك من الأعمال الصالحة-، ويُكتب له مع ذلك شيءٌ آخر؛ وهو الآثار الحسنة التي تبقى له بعد وفاته، فيجري ثوابها وأجرها له بعد وفاته؛ ومن أعظم ذلك: الوقف، فالوقف من الآثار الحسنة التي تبقى للإنسان بعد مماته، ويجري له ثوابها وأجرها.
عناية الصحابة بالوقف
المقدم: أحسن الله لكم وشكر الله لكم -شيخنا- هذا البيان. شيخنا، هل يمكن أن تطوف بنا قليلًا في ذكر شيءٍ مما جاء عن الصحابة في عنايتهم بالأوقاف، واهتمامهم بها، وحِرصهم على القيام بها؟
الشيخ: الصحابة كانوا حريصين على فعل الخير، وما كان من أبواب الخير أعظم أجرًا وثوابًا فالصحابة أشد حرصًا عليه، وقد فَهِم الصحابة عظيم فضل الوقف، وعظيم أجره وثوابه للإنسان في حياته وبعد مماته؛ ولذلك حرص الصحابة على الأوقاف حرصًا عظيمًا، حتى إنه لم يكن منهم ذا مقدرة أو يسارٍ إلا وقَّف. قال جابر رضي الله عنهما: "لم يكن أحدٌ من أصحاب النبي ذا مقدرة إلا وَقَّف". وفي رواية عنه قال: "لا أعلم أحدًا ذا مقدرة من أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالًا من ماله صدقةً موقوفةً، لا تُشترى ولا تُورث ولا تُوهب"[6].
وقال الإمام أحمد: "وقَّفَ أصحابُ النبي ، ووقوفهم بالمدينة ظاهرة، ومن رَدَّ الوقف فإنما رَدَّ السُّنة". وقال أبو عيسى الترمذي: "لا نعلم بين المتقدمين من أصحاب النبي اختلافًا في إجازة الوقف". وقال أبو محمد بن حزم: "جملة صدقات الصحابة [يعني: أوقاف الصحابة في المدينة] أشهر من الشمس لا يجهلها أحد". وقال القاضي أبو يوسف: "صدقة رسول الله والأئمة من أصحابه -يريد أوقافهم- مشهورةٌ، لا يُحتاج في ذلك إلى حديث، وهي أعرف وأشهر". وأشهر أوقاف الصحابة هو وقف عمر الذي أشرنا له قبل قليل.
وقال البخاري في صحيحه: "باب وقف الأرض للمسجد"، ثم ساق بسنده عن أنس قال: لما قدِم رسول الله المدينة أمر بالمسجد، وقال: يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا؟ قالوا: لا، والله لا نطلب ثمنه إلا الله[7]، فوَقَّفوا أرض المسجد. ووقَّف أبو بكر رِباعًا له بمكة، ووقَّف عثمان بئر رُومَة؛ جاء في صحيح البخاري عن النبي قال: مَن حفر رُومَة فله الجنة، قال: فحفرتُها[8]. ووقَّف أنس دارًا له فكان إذا قدِم نزلها. وكذلك وقَّف الزبير بن العوام دُورَه، وأَذِن للمردودة -المطلقة أو الأرملة- من بناته أن تسكن في هذه الدُّور غير مُضِرَّةٍ ولا مُضَرٍّ بها، فإن استغنت بزوجٍ فليس لها حقٌّ. وكذلك وقَّف ابن عمر رضي الله عنهما نصيبه من دار عمر سُكْنى لذوي الحاجات، ووقَّف علي بن أبي طالب أموالًا له بينبُع.
وأيضًا وقَّفت عائشة رضي الله عنها دارًا كانت قد اشترتها، ووقَّفت أم سلمة وأم حبيبة وصفية بنت حُيي رضي الله عنهنَّ أوقافًا. ووقَّف سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه دارًا لا تُباع ولا تُوهب ولا تُورث، وأَذِن للمردودة -أي: المطلقة- من بناته أن تسكن فيها غير مُضِرَّةٍ ولا مُضَرٍّ بها حتى تستغني. ووقَّف جابر بن عبدالله وأبو هريرة وخالد بن الوليد وحكيم بن حزام وزيد بن ثابت وعمرو بن العاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله دُورًا لهم. والمنقول عن الصحابة كثير، وقد اشتهر هذا عن الصحابة ، كما قال جابر رضي الله عنهما: "لم يكن أحدٌ من أصحاب النبي ذا مقدرة إلا وَقَّف".
وهذه الآثار تدل على العناية الكبيرة من الصحابة بالأوقاف، وتدل على حرصهم الكبير عليها؛ لِمَا عَلِمُوه من النبي من عظيم فضلها وثوابها وأجرها المستمر الجاري ما دامت قائمة، ولعظيم نفعها للمسلمين؛ ومن المقرر في الشريعة أن: ما عَظُم نفعه؛ عَظُم ثوابه وأجره.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. شيخنا، الحقيقة ربما من نعم الله علينا في هذا الزمان تيسُّر الوقف لدى كثير من الناس من خلال الإسهام في أوقافٍ قائمةٍ، يعني ليس بالضرورة أن يُنشئ وقفًا بأكمله، ولكن يُساهم في هذه الأوقاف القائمة بالمشاركة فيها؛ فهل مثل هذا داخلٌ في فضل الوقف أيضًا؟
الشيخ: نعم، هذا يُعتبر وقفًا، إذا وقَّف سهمًا أو أسهمًا له في مشروعٍ خيريٍّ فيُعتبر قد وقَّف له وقفًا بذلك. والأوقاف تتنوع؛ قد يكون الوقف خاصًّا بالإنسان، وقد يكون الإنسان مشاركًا في وقفٍ، لكن القاعدة أن: الوقف كلما كان أعظم نفعًا للمسلمين كان أعظم أجرًا وثوابًا. ولذلك؛ ينبغي أن يتحرى المُوقِف المجالات التي يعظُم نفعها، أن يختار ويتحرى ويستشير أيضًا في المجالات التي يعظُم نفعها.
أثر الأوقاف في الحضارة الإسلامية
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. شيخنا، الحقيقة هذه الأوقاف لها أثرٌ كبيرٌ على الحضارة الإسلامية على مَرِّ العصور؛ فهلَّا بينتم شيئًا من آثار هذه الأوقاف؟
الشيخ: نعم، الأوقاف لها أثرٌ عظيمٌ في بناء الحضارة الإسلامية في شتى المجالات، بل إن الحضارة الإسلامية في العصور الماضية كانت تعتمد على الأوقاف اعتمادًا كاملًا، وكانت الدولة الإسلامية قديمًا تُعنى بحفظ الأمن الداخلي والخارجي. أما الأمور الخِدْمية فكانت تعتمد على الأوقاف، فكان للوقف مدارس وجامعات ومؤسسات، وكانت تقوم بجميع الأمور التي يحتاج لها المجتمع، وكان هذا له الأثر في نشر دعوة الإسلام، وبسبب هذه الأوقاف نشطت في البلاد الإسلامية العلوم النافعة، وكان هناك إثراءٌ علميٌّ منقطع النظير وَفَّرَ للمسلمين نتاجًا علميًّا وتراثًا إسلاميًّا ضخمًا.
وكان ينشأ من الأوقاف كل ما يحتاج إليه المجتمع من بناء المستشفيات وبناء الجسور، ومساعدة الفقراء والمساكين، وجميع ما يحتاج إليه المجتمع، فكان الوقف حاضرًا ومزدهرًا في القرون السابقة، وكانت المجتمعات الإسلامية تعتمد عليه في كثير من الأمور؛ ولذلك نقول إن الوقف كان من أعظم أسباب ازدهار الحضارة الإسلامية في العصور الماضية.
توقيت الوقف
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. شيخنا، لعلنا بعد هذه التوطئة أن ندخل إلى شيءٍ من المسائل الفقهية المتعلقة بالوقف؛ فمن المسائل التي يكثر السؤال عنها وتمسّ الحاجة إليها: تأقيت الوقف -أن يكون الوقف مؤقتًا-؛ أولًا ما صورة هذه المسألة؟ ثم ما حُكم إقامة مثل هذه الأوقاف المؤقتة؟
الشيخ: تأقيت الوقف معناه: أن المُوقِف يجعل الوقف مدةً معينةً؛ كأن يقول: وقفتُ هذا المبنى على هذه الجهة خمس سنوات فقط. هذه صورة من الصور، فيجعل مدة الوقف سنوات معينة أو مدة معينة. أيضًا من صور التأقيت: أن يكون الوقف على قوم يُحتمل انقطاعهم أو جهة تنقرض. وكذلك أيضًا من الصور: وقف المنفعة، كأن يستأجر أرضًا أو مبنًى ثم يُوقِف منافعها على جهاتِ بِرٍّ؛ فهذا يُسمَّى الوقف المؤقت.
وللفقهاء فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: صحة الشرط والوقف؛ وهذا هو المذهب عند المالكية.
والقول الثاني: بطلان الشرط والوقف؛ وهذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، يعني قول الجمهور.
المقدم: أحسن الله إليكم. ماذا يقصدون بالشرط والوقف؟
الشيخ: الشرط يعني: أن يشترط أن يكون الوقف خمس سنوات؛ يعني مدةً معينةً. والوقف يعني: أصل الوقف.
والقول الثالث: أنه يفسد الشرط ويصح الوقف؛ يفسد الشرط يعني: التأقيت، لكن الوقف صحيح؛ وهذا قولٌ عند الحنفية، وقولٌ أيضًا عند الحنابلة.
ومَن ذهب إلى منع التأقيت -وهم الجمهور- قالوا: إنه لو جاز الوقف مؤقتًا لَجَاز بيعه وهِبته، وانتقل بالإرث، وهذا يُنافي معنى الوقف. لكن يجاب عن ذلك بأن أحكام الوقف تنتهي بانتهاء مدته، ولا مانع بعد ذلك من رجوع الموقوف إلى أحكامه الأصلية قبل الوقف من جواز البيع والهبة والإرث؛ فمثلًا هذا الرجل وقف هذا العقار خمس سنوات، ففي هذه المدة -خمس سنوات- لا يُباع ولا يُوهب ولا يُورث، فيترتب عليه أحكام الوقف، فإذا انتهت هذه المدة رجع هذا العقار لِمَا كان عليه قبل وقفه.
القائلون بالجواز قالوا: إن الواقف تصدق بالمنفعة، والصدقات تجوز مؤقتةً ومؤبدةً، وليس هناك دليل يُوجب أن تكون الصدقة مؤبدةً، كما أن للإنسان أن يتصدق بكل ماله وببعضه، فجاز أن يتقرب به في كل الزمان أو في بعضه. وقالوا أيضًا: للواقف أن يُقيِّد شرطه في أوجه الانتفاع بغلَّات الوقف وبأعيانه، فكذلك أيضًا في مدة الانتفاع؛ فهذا يُعتبر تقييدًا من الواقف بمدة الانتفاع، فيُشبه التقييد بالشروط الأخرى. وقالوا أيضًا: إن في القول بجواز تأقيت الوقف حثًّا على فعل الخير وتكثيرًا له وتشجيعًا للناس.
وهذا القول الأخير -وهو القول بجواز تأقيت الوقف الذي هو مذهب المالكية- اختاره الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى، وهو الأقرب في هذه المسألة؛ لأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على منع التأقيت، ولأنه لا يترتب على القول بالتأقيت مفسدةٌ أو مخالفةٌ ظاهرةٌ لمقصود الشارع، ولِمَا في ذلك من المصالح والمنافع، ولِمَا في ذلك من تشجيع الناس على الأوقاف؛ فإنه لو قيل: إنه يجوز لك أن توقف هذا العقار مدةً معينةً ثم يرجع إليك، هذا فيه تشجيعٌ للناس على المسارعة للأوقاف؛ أو يجوز أن توقف منفعة هذا العقار دون الأصل مثلًا، فهذا فيه تشجيعٌ للناس على الأوقاف.
فهذا هو الأقرب -والله أعلم-، وكما ذكرنا هو اختيار ابن تيمية، وأيضًا هذا الذي انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وأيضًا المعايير الشرعية في هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية في معيار الوقف؛ فانتُهِيَ إلى أنه يجوز أن يكون الوقف مؤقتًا إذا نصَّ الواقف على تأقيته، بحيث يرجع الموقوف بعد ذلك إلى المالك.
فهذه هي صورة تأقيت الوقف؛ فبعض المذاهب -وهو المذهب المالكي- يرى هنا الجواز خلافًا للجمهور. ومن حيث الدليل؛ فالأقرب -والله أعلم- هو قول المالكية في هذه المسألة -وهو القول بجواز التأقيت-.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم هذا البيان. ونحن في هذا البرنامج (مجالس الفقه)، ومع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، نذكر شيئًا من المسائل والنوازل الفقهية التي تمسُّ الحاجة إليها ويكثر السؤال عنها؛ لا يزال الحديث في مسائل الوقف، وتعقيبًا لما ذكرتم قبل قليل؛ ما الثمرة الفقهية بين أن نعتبر هذا الوقف المؤقت صدقةً ونسميها صدقةً أو نسميها وقفًا مؤقتًا؟
الشيخ: الثمرة الفقهية أننا إذا قلنا: إنه وقفٌ مؤقتٌ فتنطبق عليه أحكام الوقف خلال هذه المدة، فلا يُباع ولا يُوهب ولا يُورث، بينما إذا قلنا: إنه صدقة؛ فالصدقة يجوز الرجوع فيها ما لم يقبض المتصدَّق عليه هذه الصدقة؛ ولذلك قال الفقهاء: لو أخرج دراهم ووضعها في كمه يريد أن يتصدق بها، جاز له ألَّا يتصدق -أن يرجع في ذلك-، بينما الوقف يخرج من ملكه لله ، فإذا كان مؤقتًا لمدة معينة فتترتب أحكام الوقف على الموقوف خلال هذه المدة، فلا يُباع ولا يُوهب ولا يُورث خلال هذه المدة.
المقدم: أحسن الله إليكم. ويترتب على هذا أن نقول: إن الوقف المؤقت أفضل وأعظم أجرًا من الصدقة التي يمكن أن يرجع منها في أيِّ وقت؟
الشيخ: نعم، لا شك أن الوقف عمومًا هو أفضل ما تُبذَل فيه الأموال، ومن ذلك: الوقف المؤقت، وإن كان الوقف المؤبد أعظم أجرًا وثوابًا، لكن يبقى الوقف المؤقت صورةً من صور الأوقاف، كما ذكرنا أن هذا هو القول المرجَّح عند كثيرٍ من المحققين من أهل العلم.
حُكم وقف النقود
المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، أنتقل إلى مسألةٍ أخرى يكثر السؤال عنها أيضًا؛ وهي: حُكم وقف النقود، إذا أراد الإنسان أن يوقف نقودًا؛ فهل يصح هذا الوقف؟
الشيخ: نعم، وقف النقود للفقهاء فيه قولان:
القول الأول: قول الجمهور من الحنفية والحنابلة والشافعية؛ أنه لا يصح وقف النقود، وعللوا لذلك بأن النقود لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، ولذلك لا يصح وقفها.
القول الثاني: يصح وقف النقود، وهذا هو مذهب المالكية ورواية عند الحنابلة؛ قالوا: تحبيس الأصل يكفي فيه معناه، وهو متحقِّقٌ في وقف النقود، فإن قيمتها باقية، وذاتها غير مقصودة؛ ولذلك فإنها لا تتعيَّن بذاتها عند التعيين. وهذا القول -وهو القول بصحة وقف النقود- هو القول الراجح -والله أعلم-، واختاره الإمامُ ابن تيمية رحمه الله تعالى، وجمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ لقوة دليله، ولأنه ليس هناك مانعٌ يمنع من وقف النقود.
أما قول أصحاب القول الأول بأن النقود لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها؛ فنقول بأن تحبيس الأصل يكفي فيه معناه، وقيمتها باقية، وذاتها غير مقصودة؛ يعني هل تفترق الآن الخمسمئة ريال التي عندي عن الخمسمئة ريال التي عندك؟! ذاتها غير مقصودة، وإنما المقصود قيمتها؛ فالقول الراجح أنه يصح وقف النقود، اختار هذا الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
بناءً على ذلك؛ يمكن للمسلم أن يُوقف مبلغًا من النقود لإقراض المحتاجين مثلًا، يجعل هذا المبلغ قرضًا؛ مثلًا عنده مئة ألف ريال، يقول: هذه قرض، يُقرضها فلانًا، ثم فلانًا، ثم فلانًا، فتكون قرضًا، ويضع آليةً لرد هذا القرض، وبذلك ينتفع بهذا المبلغ عددٌ كبيرٌ من الناس؛ يأخذ هذا المبلغ محتاجٌ ثم يردُّه، ثم يأخذه آخر، وهكذا. بل إنه يمكن أن تُؤسَّس جمعياتٌ خيريةٌ لإقراض المحتاجين، أو لإقراض الراغبين في الزواج. ولذلك؛ الذين لهم عنايةٌ بالأمور الخيرية ممكن أن يستفيدوا من هذه المسألة.
المقدم: هذا بابٌ من أبواب الخير.
الشيخ: نعم، من الممكن أن تؤسَّس جمعيات خيرية لإقراض الراغبين في الزواج مثلًا؛ فيقال مثلًا: هذا الراغب في الزواج نقرضك كذا على أن تردها علينا في مدة كذا، وتُوضَع آلية لضمان رَدِّ هذا المبلغ، ثم إذا رَدَّ المبلغ يُعطى لراغبٍ في الزواج آخر، وهكذا، أو لإقراض الفقراء والمساكين مثلًا. فهذا كله متفرِّعٌ عن مسألة وقف النقود؛ فالأظهر -والله أعلم- هو القول بصحة وقف النقود.
هنا فقط تنبيهٌ لطيفٌ؛ لاحظ هنا في هذه المسألة والمسألة السابقة رجحنا قول المالكية خلافًا للجمهور، وأيضًا هذا اختيار ابن تيمية رحمه الله؛ لأن مذهب المالكية في أبواب المعاملات أجود المذاهب الأربعة كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي يقال إنه أفقه الناس في البيوع، وإن كان الحنابلة أيضًا وافقوهم في هذه المسائل؛ ولذلك تجد مذهب المالكية ورواية عند الحنابلة.
حُكم الزكاة في الأوقاف
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم شيخنا. وإذا قيل بوقف النقود، هنا هذا المال أو هذه النقود التي أوقفها لا تجب فيها الزكاة؟ هو بهذا تسقط عنه الزكاة في هذا المال، ويكون في باب التفريج بناءً على أنه قد أوقفها؟
الشيخ: صحيح، الأوقاف ليس فيها زكاة، ما يُوقِفه الإنسان ليس فيه زكاة، فهذه النقود إذا وُقِفت فلا زكاة فيها. والحقيقة أن هذه صورةٌ من صور الأوقاف التي يغفُل عنها كثير من الناس، يعني يجعل له مبلغًا معينًا للإقراض، وقفًا لإقراض المحتاجين، أو لمساعدة الراغبين في الزواج، أو غير ذلك من الأغراض التي تنفع المجتمع، ولكن يجعله على سبيل القرض، ويجعل هذه النقود وقفًا.
المقدم: وإذا استَنْفَقَها تكون في ذمته؟ يعني هذا المال المُوقَف لو فرضنا أنه أُقرض لفلانٍ وتلف عنده؛ هل يكون في ذمته؟
الشيخ: نعم، إذا أُعطي على سبيل القرض فيَرُدُّ بدله؛ لأن القرض حقيقته عند الفقهاء دفعُ مالٍ يُنتفع به ورَدُّ بدله، فهذا الراغب في الزواج أُعطي هذا المبلغ قرضًا على أن يرده لهذا المُوقِف أو لهذه المؤسسة الخيرية، هو ينتفع به ويرُدُّ بدله؛ مثلًا: أُقرِض مئة ألف، يرُدُّ مئة ألف بعد مدة معينة.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم -شيخنا- هذا البيان والإيضاح. ولا تزال هناك جملة من المسائل والأحكام الفقهية المتعلقة بباب الوقف، نأخذها -إن شاء الله- في حلقات قادمة.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، أسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: والشكر لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: الشكر موصولٌ لمَن قام بتسجيل هذه الحلقة الشيخ: عثمان بن عبدالكريم الجويبر.
إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.