جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويحتاج إلى معرفتها المسلم، يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: مرحبًا بكم وأهلًا وسهلًا، حياكم الله، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
بعض أحكام ومسائل الصيام
شيخنا، في الحلقة الماضية ابتدأنا الحديث في مسائل الصيام، وذكرنا جملةً من المسائل، ولعلنا في هذه الحلقة نستكمل بقية المسائل إن شاء الله تعالى.
حكم صوم الصبي
من المسائل شيخنا التي يُسأل عنها في أحكام الصيام: حكم صوم الصبي.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالصبي إذا أُطلِق يُراد به الصبي المميِّز، أما غير المميِّز -الطفل الصغير الذي دون سن التمييز- فهذا لا يصح منه الصوم، يعني مثلًا: طفلٌ عمره ثلاث سنواتٍ أو أربع سنواتٍ، هذا لا يصح منه الصوم؛ لأنه لا يعقل نية الصوم، والصوم إمساكٌ بنيةٍ، لكن إذا كان الصبي مميِّزًا، يعني بلغ سبع سنين فأكثر، فمن حيث الوجوب: لا يجب عليه الصوم، حتى لو قارب البلوغ، حتى لو بلغ أربع عشرة سنةً ولم تظهر منه إحدى علامات البلوغ؛ فلا يجب عليه الصوم؛ لقول النبي : رُفع القلم عن ثلاثةٍ..، وذكر منهم: الصبي حتى يبلغ [1]، لكن يُستحب لوليِّه أن يأمره بالصوم حتى يألفه ويعتاده، وكما يأمره بالصلاة كما قال عليه الصلاة والسلام: مُرُوا أولادكم بالصلاة لسبعٍ [2]، فيُؤمر بالصلاة لسبعٍ حتى يألف الصلاة، وحتى يعتاد الصلاة، وكذلك أيضًا بالنسبة للصوم، ينبغي لوليِّ الصبي أن يُحبِّب إليه الصوم، وأن يُرغبه فيه، وأن يُشجعه عليه حتى يألف هذه العبادة؛ لأن هذا الصبي لو بقي لم يصم حتى بلغ؛ فربما يصعب عليه الصوم فيما بعد ولا يألف الصوم، لكنه إذا أُمر بالصيام منذ أن كان عمره سبع سنوات؛ فتجد أنه يألف هذه العبادة ويعتادها ويتشجع عليها، وهذا أمرٌ معروفٌ، خاصةً هذه السن التي ما بين السبع سنوات إلى البلوغ، هذه سنٌّ مهمةٌ جدًّا بالنسبة للصبيان، هذه يقولون: من أهم مراحل العمر؛ تُغرَس فيها القيم الفاضلة، ويُشجَّع فيها الأبناء والبنات على الأمور الفاضلة، ويُحذَّرون من الأمور السيئة، هذه السن مهمةٌ جدًّا، ومن ذلك: أن يُغرَس فيهم حب الصلاة وحب الصيام والواجبات الشرعية عمومًا؛ ولذلك حتى وإن قلنا: إن الصوم لا يجب على الصبي غير البالغ، إلا أنه يُستحب أمره بذلك.
المقدم: أحسن الله إليكم.
شيخنا، بعض الآباء والأمهات يُعوِّد أبناءه على الصيام، لكن يقول: صم إلى فترة الظهيرة مثلًا وبعدها أفطر، فهل مثل هذا يُعتبر من التعويد، أو هو تغيير للعبادة؟
الشيخ: هذا ممكنٌ لو كان مثلًا لا يستطيع أن يصوم نهارًا كاملًا، فحتى يألف الصوم؛ يأتي معه بالتدرج بمثل هذه الأساليب، هذا لا بأس به؛ لأنه أصلًا لو ترك الصوم؛ لم يكن عليه إثمٌ، فربما أنه يبتدئ معه بهذه الطريقة، ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يصوم النهار كاملًا.
حكم صوم المغمى عليه
المقدم: جميلٌ، أحسن الله إليكم، كذلك المغمى عليه، إذا كان صائمًا ثم أُغمي عليه، أو طرأ عليه الإغماء، فهل يصح صومه حينئذٍ؟
الشيخ: المغمى عليه، ومثله أيضًا من صُرع وفقد عقله، أو حصل له تبنيج، فإن كان ذلك ليس في جميع النهار، وإنما أفاق جزءًا من النهار، جزءًا ولو قليلًا حتى ولو دقيقةً أو دقيقتين، فإذا أفاق جزءًا من النهار؛ فيصح صومه إذا كان التزم بنية الصيام، يعني ابتدأ نهاره صائمًا لكن حصل له هذا الإغماء أو الصرع أو نحوه، فإذا أفاق جزءًا من النهار؛ صح صومه؛ لأنه يصح إضافة الإمساك إليه في ذلك الوقت، ولوجود الإمساك بنيةٍ منه في الجملة، فيصح أن يقال: إنه أمسك بنيةٍ، لكن إذا كان مغمًى عليه جميع النهار، أو مغمًى عليه أيامًا؛ فلا يصح صومه؛ لأن الصيام إمساكٌ بنيةٍ، ولم يحصل منه الإمساك بنيةٍ، وهكذا أيضًا لو صُرع في جميع النهار، أو كان مبنَّجًا، أحيانًا يكون عليه التبنيج الصناعي لجميع النهار أو لعدة أيامٍ، فهذا لا يصح صومه، لكن هل يلزمه القضاء؟ نقول: نعم، يلزمه القضاء، وحُكِي الاتفاق على ذلك، قال الموفق بن قدامة رحمه الله في "المغني": "متى فسد الصوم بالإغماء، فعلى المغمى عليه القضاء بغير خلافٍ علمناه؛ لأن مدته لا تتطاول غالبًا، ولا تثبت الولاية على صاحبه، فلم يَزُل به التكليف وقضاء العبادات؛ كالنوم"؛ وعلى هذا نقول: المغمى عليه إذا أفاق يجب عليه قضاء ما فاته من الصيام بسبب إغمائه إذا كان قد أُغمي عليه جميع النهار ولم يُفِق جزءًا من النهار، يعني هذا إنسانٌ مثلًا مغمًى عليه مدة أسبوعٍ أو أسبوعين، أو شهرٍ أو شهرين، ولم يصم شهر رمضان، ثم أفاق بعد ذلك، فيقال: تقضي هذه الأيام كلها، لكن لو كان الإغماء في يومٍ وأفاق بعض اليوم وأُغمي عليه البعض الآخر؛ فصومه صحيحٌ.
إذنْ الخلاصة في المغمى عليه: أنه إذا أفاق جزءًا من النهار ولو يسيرًا؛ فصومه صحيحٌ، أما إذا أُغمي عليه جميع النهار، فصومه غير صحيحٍ، لكن يجب عليه القضاء.
أما قضاء الصلاة فسَبَقَ في حلقةٍ سابقةٍ القول بأن المدة إذا كانت يسيرةً بحدود ثلاثة أيامٍ فأقل؛ فإنه يُؤمر بالقضاء، أما إذا كانت طويلةً أكثر من ثلاثة أيامٍ؛ فلا يُؤمر بالقضاء، وفرقنا بين قضاء الصوم وقضاء الصلاة؛ لأن الشريعة قد فرقت بين قضاء الصوم وقضاء الصلاة في مواضع؛ فالحائض والنفساء تُؤمر بقضاء الصوم ولا تؤمر بقضاء الصلاة؛ لأن الصلاة تتكرر فيَشُق قضاؤها، بينما الصوم لا يشق قضاؤه في الغالب؛ ولذلك فالمغمى عليه مأمورٌ بقضاء الصوم، وأما الصلاة فلا يُؤمر بقضائها، إلا إذا كانت مدة الإغماء يسيرةً بحدود ثلاثة أيامٍ فأقل.
حكم تبييت نية الصيام من الليل
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا، عقدُ نية الصيام في أثناء النهار، أو بعبارةٍ أخرى: هل يُشترط لصحة الصوم أن يَعقده من الليل؟
الشيخ: نعم، هذا لا بد منه، وإلا لم يصح الصوم، فيجب تبييت النية من الليل لكل يومٍ واجبٍ، ويدل لذلك حديث حفصة رضي الله عنها أن النبي قال: من لم يُجمِع الصيام قبل الفجر؛ فلا صيام له [3]، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، ورجح بعض الحفاظ وقفه، لكن العمل عليه عند عامة أهل العلم.
والحكمة من اشتراط تبييت النية من الليل: هي أن يكون جميع النهار مشمولًا بنية الصوم؛ لأن الصوم إمساكٌ بنيةٍ، ولاحِظ هذا التعريف: "الصوم: إمساكٌ بنيةٍ"، والنيةُ ركنٌ في الصيام، ومهمةٌ ومؤثرةٌ على كثيرٍ من أحكام الصيام، فالصوم إمساكٌ بنيةٍ، فلا بد أن تكون النية شاملةً لجميع النهار؛ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وحتى تكون النية شاملةً لجميع النهار؛ لا بد من تبييتها من الليل، يعني قبل طلوع الفجر، وإلا لو لم تُبيَّت النية من الليل؛ فمعنى ذلك: أن أول النهار سيكون بغير نية الصوم، فالصوم الواجب لا بد فيه من تبييت النية من الليل، الصوم الواجب عمومًا؛ سواءٌ أكان صيام رمضان، أو كان قضاءً، أو أي صومٍ واجبٍ؛ ولذلك مثلًا في قضاء رمضان قد يكون في رمضان الأمر واضحًا للناس، لكن في القضاء، لو أن رجلًا أو امرأةً أراد أن يصوم صيام قضاءٍ ولم يُنشِئ النية إلا في أثناء النهار؛ نقول: لا يصح، لا بد من تبييت النية من الليل.
أما في صيام النافلة فلا يُشترط هذا الشرط، فلو أنه لم يُبيِّت النية من الليل، وأصبح بغير نية الصيام، لكنه لم يأكل ولم يشرب، ولم يحصل منه أي مفطرٍ من مفطرات الصيام، ثم في أثناء النهار أنشأ نية الصوم؛ فهذا يصح، لا بأس، والنبي لما دخل على إحدى زوجاته، وقال: هل عندكم شيءٌ؟ -يعني: طعامٌ- قالت: لا، قال: إني إذنْ صائمٌ [4]، فأنشأ النبي النية أثناء النهار، بعض الناس مثلًا قد ينام من بعد الفجر إلى القريب من الظهر، ثم يقول: النهار قصيرٌ، إذنْ أعتبر نفسي صائمًا، يُنشئ النية أثناء النهار، نقول: لا بأس بذلك، مادام أن الصيام صيام نافلةٍ وليس صومًا واجبًا.
المقدم: أحسن الله إليكم، وهنا يبدأ ثوابُ الصيام من حين إنشاء النية؟
الشيخ: نعم، هذا هو الظاهر، أن ثواب الصيام يبدأ من حين إنشاء النية، وإن كان بعض أهل العلم قال: إنه يكون له الصيام كاملًا، لكن ظاهر الأدلة أن الثواب إنما يبدأ من حين إنشاء النية.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، ونحن في هذا البرنامج (مجالس الفقه) نذكر شيئًا من المسائل والأحكام الفقهية والنوازل المعاصرة، ويصحبنا في ذلك شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، والحديث في هذه الحلقة والحلقة الماضية، وربما في حلقةٍ قادمةٍ حول مسائل الصيام وأحكامه.
الذكر المشروع عند الإفطار
شيخنا، ما السنة، أو ما الذكر الصحيح الثابت الذي ينبغي أو يُسن أن يقال عند فطر الصائم؟
الشيخ: أولًا يُستحب تعجيل الفطر، وألا يتأخر الصائم في الفطر، بل ينبغي أن يُبادر بالفطر من حين غروب الشمس، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا يزال الناس بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر [5]، رواه البخاري ومسلمٌ.
وينبغي عند فطره، يعني اللحظات والدقائق التي تسبق الفطر، أن يغتنمها في الدعاء، فقد صح عن النبي أنه قال: إن للصائم عند فطره دعوةً لا تُرَدُّ [6]، وجاء في حديث أبي هريرة : ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دعوتهم، وذكر منهم: الصائم حين يُفطر [7]؛ ولهذا ينبغي للمسلم أن يغتنم هذه الدقائق التي تسبق الإفطار، أن يغتنمها في الدعاء، فإن الدعاء حريٌّ بالإجابة، ويستقبل القبلة رافعًا يديه يدعو الله تعالى بما يحضره من خيري الدنيا والآخرة.
جاء في حديث أنسٍ : أن النبي كان يقول عند فطره: بسم الله، اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، فتقبل مني إنك أنت السميع العليم [8]، وهذا الحديث أخرجه بهذا اللفظ الطبراني، لكنه حديث ضعيفٌ، جميع طرقه معلولةٌ، وضعفه ابن القيم وابن حجرٍ، وعامة أهل العلم على تضعيفه؛ ولذلك فلا يُشرع أن يُؤتى به على أنه سنةٌ، لكن لو دعا به على أنه دعاءٌ كسائر الأدعية؛ فلا بأس، لكن لا يقال: إنه يُسَنُّ أن يقال ذلك عند الإفطار.
وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي كان إذا أفطر قال: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله [9]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي، وهو حديثٌ حسنٌ بمجموع طرقه، ولكن يقول ذلك إذا كان قد ظمئ بالفعل، أما إذا لم يكن قد ظمئ -كما في أيام الشتاء مثلًا- فلا يقول ذلك، لا يقول: ذهب الظمأ؛ لأنه لم يظمأ بالفعل، فيكون قد قال قولًا هو غير صادقٍ فيه، لكن لو كان ظمئ بالفعل فإنه يقوله؛ وبذلك يُعلم أنه لم يثبت دعاءٌ مخصوصٌ يقال عند فطر الصائم؛ ولذلك نقول: الصائم يدعو الله بما يحضره من خيري الدنيا والآخرة، وهذا له نظائر؛ مثلًا: عند الطواف بالكعبة، لم يثبت في ذلك دعاءٌ مخصوصٌ سوى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، ما بين الركن اليماني والحجر الأسود، هكذا أيضًا في السعي بين الصفا والمروة يُشرع الدعاء، لكن لم يثبت في ذلك دعاءٌ مخصوصٌ، وإنما يدعو الله من يسعى بما يحضره من خيري الدنيا والآخرة، ولعل الحكمة في ذلك -والله أعلم- هي أن هذا أقرب للخشوع وحضور القلب، أن الإنسان يختار من الأدعية ما يراه مناسبًا، فيكون ذلك أدعى إلى حضور القلب وإلى الخشوع.
على ذلك نقول: إنه لم يثبت في ذلك دعاءٌ مخصوصٌ يقال عند فطر الصائم، وإنما يدعو الصائم الله بما يحضره من خيري الدنيا والآخرة، وهذا الموضع من مواضع إجابة الدعاء؛ ولهذا ينبغي أن يحرص فيه المسلم على الإكثار من الدعاء، وينبغي أيضًا أن يُطبِّق السنة عند فطره، فيُفطِر على رُطبٍ، فإن عُدِم؛ فتمرٍ، فإن عُدم؛ فماءٍ؛ كما جاء ذلك في بعض الأحاديث عن النبي .
المقدم: أحسن الله إليكم.
حكم من لم يجد ما يفطر عليه
فيما يخص السُّنَّة في الفطر على نوعٍ مخصوصٍ من الطعام: من لم يجد الماء ماذا يصنع؟ هل يُشرع في حقه أن يجمع ريقه فيبتلعه، كنايةً عن فطره، أو بعض الناس يقول: يمص أصبعه؟
الشيخ: إذا لم يجد ما يُفطر عليه، لا طعامًا ولا ماءً؛ فإنه يُفطر بقلبه، يكفي أن يقطع نية الصوم وينوي الفطر بقلبه، وأما كونه يمص أصبعه، أو يبتلع ريقه، فهذا لا أصل له، وليس له كبير فائدةٍ، إنما تكفي النية، الصيام إمساكٌ بنيةٍ، فينوي الفطر بقلبه.
المقدم: والأفضل في مثل هذه الحالة -أحسن الله إليكم- إذا حل وقت الإفطار وليس عنده ما يأكل، هل نقول: الأفضل في حقك أن تنتظر حتى تجد الطعام فتفطر عليه، أو تقطع نية الصيام من حين غروب الشمس؟
الشيخ: الأفضل المبادرة بالفطر، فينوي الفطر بقلبه، لكن ينبغي على المسلم أن يهتم بأمور العبادات عمومًا، ومن ذلك: الصوم، هذا الإنسان الصائم ينبغي أن يرتِّب أموره، يأخذ معه ولو تمرةً يُفطر عليها بعد غروب الشمس، فإذا كان مهتمًّا؛ فإنه سيستعد، وسيكون معه ما يفطر عليه.
المقدم: أحسن الله إليكم، وجزاكم الله خيرًا شيخنا على هذا البيان والإيضاح.
حكم صوم المسافر
أيضًَا من المسائل: ما يتعلق بالمسافر، فما حكم صوم المسافر؟
الشيخ: المسافر أباح الله تعالى له الفطر، لمَّا فرض الله صيام رمضان؛ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:183-184]، فرخَّص الله تعالى للمسافر في الفطر في نهار رمضان، والمقصود بالمسافر؛ أي: الذي ضرَب في الأرض وقطع مدةً، يعني قطع مسافة السفر، وأقل مسافةٍ للسفر عند جمهور الفقهاء: أربعةُ بُرُدٍ، وتُعادل ستة عشر فرسخًا، وتُعادل ثمانيةً وأربعين ميلًا، وتُعادل بالتقديرات المعاصرة (80 كيلومترًا)، فإذا قطَع هذه المسافة (80 كيلومترًا) فأكثر؛ فإنه يكون مسافرًا، أو أنه كان مسافرًا وقطع هذه المسافة فأكثر ثم أقام مدةً يجوز له معها الترخُّص برخص السفر؛ فحينئذٍ نقول: إن الله تعالى رخَّص له في الفطر في نهار رمضان.
ولكن هل هذا على سبيل الاستحباب، أو على سبيل الإباحة والرخصة؟
نقول إن المسافر له ثلاث حالاتٍ:
- الحال الأولى: إذا شَقَّ عليه الصوم مشقةً شديدةً، فهذا يحرم عليه الصوم؛ لأن النبي كان في سفرٍ وكان صائمًا، فأفطر وأمر الناس بالفطر، فبلغه أن بعض الناس قد صام، فأنكر عليهم النبي كما جاء في حديث جابرٍ أن النبي خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كُرَاع الغَمِيم، فصام الناس، ثم دعا بقدحٍ من ماءٍ فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فأفطر الناس، لكن قيل له: إن بعض الناس قد صام، فقال النبي : أولئك العصاة، أولئك العصاة [10]، فقوله : أولئك العصاة، المعصية لا تكون إلا على ارتكاب أمرٍ محرمٍ.
- الحال الثانية: أن يشُقَّ عليه الصوم مشقةً غير شديدةٍ، والفطر أرفق له، فيُكره في حقه الصيام، ويُسَنُّ له الفطر؛ لقول النبي : ليس من البِر الصوم في السفر [11]، متفقٌ عليه، وجاء في حديث حمزة بن عمرٍو الأسلمي أنه قال: يا رسول الله، أجد بي قوةً على الصيام في السفر، فهل عليَّ جناحٌ؟ فقال النبي : هي رخصةٌ من الله، فمن أخذ بها؛ فحسنٌ، ومن أحب أن يصوم؛ فلا جناح عليه [12]، وهذا رواه مسلمٌ في "صحيحه"، قوله عليه الصلاة والسلام: فمن أخذ بها؛ فحسنٌ، هذا يدل على أن الفطر أفضل من الصوم، لكن إذا كان الفطر أرفق به.
- الحال الثالثة: أن يتساوى عنده الأمران، يتساوى عنده الفطر مع الصوم، فالأفضل أن يختار ما هو الأيسر له؛ لقول الله : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فإن تساوى عنده الأمران في اليسر، يعني هذا الرجل يقول: أنا أكون في السفر في سيارةٍ مكيفةٍ، وفي الطائرة تكييفٌ، وفي الفندق كذلك، ولا يعتريني أدنى مشقةٍ غير معتادةٍ إذا صمت، فالأمران متساويان عندي، فنقول: إذا تساوى عنده الأمران في اليسر؛ فالأفضل الصوم في هذه الحال، وهذا يحصل في وقتنا الحاضر مع وجود وسائل التكييف والرفاهية، يعني أصبح هذا موجودًا كثيرًا؛ لأن بعض الناس لا يشُقُّ عليه الصوم، الصوم والفطر عنده سواءٌ، فهنا نقول: إذا كان الصوم والفطر عنده سواءً؛ فالأفضل في حقه الصوم، ويدل لذلك ما جاء في "الصحيحين" عن أبي الدرداء قال: "خرجنا مع النبي في بعض أسفاره في يومٍ حارٍّ، حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائمٌ إلا رسول الله وعبدالله بن رواحة" [13]، والحديث في "الصحيحين"، وفي هذه القصة يظهر أن النبي لم يكن يشُق عليه الصوم؛ لأن الصحابة كانوا يتسابقون لخدمته وللقيام بشؤونه، فيظهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يشق عليه الصوم؛ فاختار الصوم؛ فهذا يدل على أنه إذا لم يشق الصوم على المسافر؛ فالأفضل في حقه أن يصوم، ولأن هذا هو الأسرع في إبراء ذمته.
وبكل حالٍ: فالأمر في هذه المسألة واسعٌ، فالمسافر يجوز له الفطر، لكن من حيث الأفضلية: يختار ما هو الأرفق والأيسر له؛ ولهذا جاء في "الصحيحين" عن أنسٍ قال: "كنا نسافر مع النبي ولا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" [14]، متفقٌ عليه، وجاء أيضًا في "الصحيحين" عن أنسٍ قال: "كنا مع النبي في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر" [15]، فكان هذا معتادًا في أسفار النبي ؛ ولذلك فالأمر فيه سعةٌ، لا يُنكر الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، وإنما يختار الإنسان ما هو الأرفق له، وكما قال عليه الصلاة والسلام في حديث حمزة بن عمروٍ الأسلمي : هي رخصةٌ من الله، من أخذ بها؛ فحسنٌ، ومن أحب أن يصوم؛ فلا جناح عليه [16].
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان.
حكم الفطر للحامل والمرضع في رمضان
أيضًا من المسائل المتعلقة بذلك: الحامل والمرضع، هل يجوز لهما أن يُفطرا في رمضان إذا كانتا تخشيان؛ الحامل تخشى على حملها، أو المرضع تخشى على رضيعها؟
الشيخ: نعم، الحامل والمرضع دلَّت السنة على جواز فطرهما في نهار رمضان؛ لأجل الحمل والإرضاع، ويدل لذلك حديث أنس بن مالكٍ الكعبي أنه أتى النبي المدينة وهو يتغدَّى، فقال: هلُمَّ إلى الغداء، فقال: إني صائمٌ، فقال له النبي : إن الله وضع للمسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع [17]، هذا موضع الشاهد: وعن الحبلى والمرضع، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد بسندٍ صحيحٍ، وهو ظاهرُ الدلالة في أن الحبلى -أي الحامل- والمرضع يجوز لهما الفطر في نهار رمضان لأجل الحمل والإرضاع، حتى المرضع في وقتنا الحاضر -مع وجود الحليب المجفف- لا بأس أن تُفطر لأجل الرضاعة؛ لأن الحليب المجفَّف لا يقوم مقام الرضاعة الطبيعية، فإذا كانت المرأة حريصةً على إرضاع طفلها رضاعةً طبيعةً، والمرضع تحتاج إلى سيولةٍ ورطوبةٍ، ويشقُّ عليها الصوم؛ لا بأس أن تُفطر، يعني حتى مع وجود الحليب المجفف في الوقت الحاضر، هذا لا يمنع من القول بأن المرضع يُباح لها الفطر في نهار رمضان، لكن إذا أفطرت الحامل والمرضع في نهار رمضان ما الذي يترتب على ذلك؟
- من الفقهاء من قال: إذا خافتا على أنفسهما؛ فعليهما القضاء فقط، أما إذا خافتا على الولد؛ فعليهما القضاء والإطعام، وإذا خافتا على أنفسهما وعلى الولد؛ فمنهم من يقول: الواجب القضاء، ومنهم من يقول: الواجب القضاء والإطعام، وهذه تفصيلاتٌ لبعض الفقهاء في هذه المسألة.
- والقول الثاني: أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا في نهار رمضان فعليهما القضاء فقط دون الإطعام في جميع الأحوال، سواءٌ خافتا على أنفسهما، أو خافتا على ولديهما، أو خافتا على أنفسهما وولديهما، قياسًا على المسافر والمريض؛ ولأن إلزامهما بالإطعام يحتاج إلى دليلٍ، والأصل في أموال الناس الحرمة، وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على إلزام الحامل والمرضع بالإطعام، ولحديث أنسٍ السابق، قد جاء فيه ذكر الحبلى والمرضع مطلقًا، فجاء في حديث أنس بن مالكٍ الكعبي : إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع، فقد ذكر الحبلى والمرضع مع المسافر، مع أن المسافر إذا أفطر لا يجب عليه سوى القضاء فقط، وحتى وإن وردت في بعض الآثار عن الصحابة ، فهذه الآثار لا تقوى للقول بإيجاب الإطعام على الحامل والمرضع؛ لأن القول بإيجاب الإطعام يحتاج إلى دليلٍ، الأصل في أموال الناس الحرمة، فلا يقال بالوجوب إلا بدليلٍ، وليس هناك دليلٌ من كتاب الله ولا من سنة رسوله على إيجاب الإطعام على الحامل والمرضع.
وعلى هذا: فالأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني: وهو أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا؛ لم يجب عليهما سوى القضاء فقط، وهذا هو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ وشخينا محمد بن العثيمين، رحمة الله تعالى عليهما، وهو الأقرب لظاهر الأدلة وللأصول والقواعد الشرعية.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، والحقيقةَ لا تزال هناك جملةٌ من المسائل والأحكام المتعلقة بالصيام، نكملها -إن شاء الله- في حلقةٍ قادمةٍ، فأستأذنكم في ذلك شيخنا.
الشيخ: إن شاء الله تعالى.
المقدم: أسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء على هذا البيان والإيضاح، والشكر موصولٌ لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - نستكمل فيها شيئًا من مسائل الصيام وأحكامه، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه الترمذي: 1423، وأبو داود: 4402، وابن ماجه: 2041، وذكره البخاري معلقًا: (7/ 46)، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 494، والترمذي: 407، وقال: حديث حسن. |
^3 | رواه أبو داود: 2454، والترمذي: 730، والنسائي: 2333، وابن ماجه: 1700، وأحمد: 26457. |
^4 | رواه البخاري: 1494، ومسلم: 1076. |
^5 | رواه البخاري: 1957، ومسلم: 1098. |
^6 | رواه ابن ماجه: 1753. |
^7 | رواه بهذا اللفظ: الترمذي: 2526، وابن حبان: 5179، والبيهقي في شعب الإيمان: 7101، ورواه الترمذي: 3598، وابن ماجه: 1752، وأحمد: 8043، بلفظ: والصائم حتى يفظر، وقال الترمذي: حديث حسن. |
^8 | رواه الطبراني في المعجم الكبير: 12720، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الطبراني في الدعاء: 918، والشجري في ترتيب الأمالي: 1929، من حديث أنس رضي الله عنه. |
^9 | رواه أبو داود: 2357، والنسائي: 3329. |
^10 | رواه مسلم: 1114. |
^11 | رواه البخاري: 1946، ومسلم 1115. |
^12 | رواه مسلم: 1121. |
^13 | رواه البخاري: 1945، ومسلم: 1122. |
^14 | رواه البخاري: 1947، ومسلم: 1118. |
^15 | رواه البخاري: 2890، ومسلم: 1119. |
^16 | سبق تخريجه. |
^17 | رواه أبو داود: 2408، والترمذي: 715، والنسائي: 2315، وابن ماجه: 1667، وأحمد: 20326. |