جدول المحتويات
- تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ..
- أبرز الفوائد من الآية
- تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
- أبرز الفوائد والأحكام من الآيتين
- تفسير قوله: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ
- أبرز الفوائد والأحكام من الآية
المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم (البناء العلمي).
نحن وإياكم على مائدة كتاب الله ، وفي تفسير آيات الأحكام مع فضيلة شيخنا الشيخ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام.
مرحبًا بكم يا فضيلة الشيخ.
الشيخ: أهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
المقدم: شيخنا الفاضل، كنا قد وصلنا إلى قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:277].
نستأذنكم في سماع تلاوته لهذه الآية، ثم نعود بإذن الله للشرح والتعليق.
تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ..
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:277].
المقدم: تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا اللقاء وأن يبارك فيه.
كنا قد وصلنا في شرح آيات الأحكام وتفسير آيات الأحكام إلى قول الله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [البقرة:277]، وبدأنا بالكلام عن آيات الربا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، والآية التي بعدها: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276]، تكلمنا عن معاني وفوائد وأحكام هاتين الآيتين في الحلقة السابقة.
والآن نستكمل الحديث من حيث توقفنا:
وصلنا عند قول الله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:277].
هذه الآية وقعت بين آيتي الربا؛ لأن الآية التي بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]، والتي قبلها: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276]، وهذا فيه إشارةٌ لأهمية الإيمان والعمل الصالح، وأن الإيمان والعمل الصالح من أعظم ما يردع الإنسان عن التعاملات الربوية، إذا كان الإيمان قويًّا وتبعه عملٌ صالحٌ؛ فهذا يردع الإنسان عن التعامل الربوي، لكن إذا كان مستوى الإيمان ضعيفًا؛ فإن الإنسان يتجرأ على الربا ولا يُبالي، كأن الآية فيها إشارةٌ لهذا المعنى، قال : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، يعني: بجميع ما يجب الإيمان به؛ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجميع ما أمر الله تعالى بالإيمان به.
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: عملوا الأعمال الصالحة.
شروط العمل الصالح
الصالح لا يكون صالحًا إلا بشرطين:
- الشرط الأول: أن يكون خالصًا لله .
- والشرط الثاني: أن يكون موافقًا للنبي .
يعني الإخلاص والمتابعة، فإذا لم يكن العمل خالصًا لله؛ لم يكن صالحًا، وإذا كان خالصًا لكن لم يكن متابعًا لرسول الله ؛ لم يكن صالحًا، فلا بد لكي يكون العمل صالحًا؛ أن يتحقق فيه هذان الشرطان: الإخلاص والمتابعة.
وطريقة القرآن: أنه يَقرِن الإيمان بالعمل الصالح، تجد في آيات القرآن: آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:28]، لا يكتفي بالإيمان، ولا يكتفي بالعمل الصالح، لا بد من إيمانٍ وعملٍ صالحٍ؛ لأن الإيمان بدون عملٍ صالحٍ لا يفيد.
إنسانٌ يقول: أنا مؤمن، أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، لكن ما يصلِّي ولا يصوم ولا يزكِّي، هل ينفع صاحبه؟ من ترك الصلاة بالكلية فهو كافرٌ: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة [1]، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ [مريم:59-60]؛ فهذا دليلٌ على أن من أضاع الصلاة ليس بمؤمنٍ، فلا يكفي أن الإنسان يقول: أنا مؤمنٌ، ولا يعمل صالحًا.
وأيضًا لا يكفي أن الإنسان يعمل صالحًا من غير إيمانٍ، يُشترط لقبول العمل الصالح أن يكون الإنسان مؤمنًا، لو أن كافرًا صلى؛ لا تنفعه صلاته ولا تُقبل منه، صام لا ينفعه صيامه، زكَّى لا تنفعه زكاته، لا بد أولًا: أن تُصحِّح الأصل، لا بد أن تكون مؤمنًا..
المقدم: موحِّدًا.
الشيخ: نعم، تشهد أن لا إله إلا الله، محمدًا رسول الله، فتُؤمن وتُعلن إسلامك، ثم بعد ذلك تأتي بالأعمال الصالحة، الأعمال الصالحة بدون إيمانٍ غير مقبولةٍ، العمل الصالح بدون ايمانٍ مقبولٍ، والإيمان بدون عملٍ أيضًا لا ينفع صاحبه، لا بد من الأمرين جميعًا: الإيمان والعمل الصالح.
ولعل هذا هو السر في أن الله تعالى يقرن الإيمان والعمل الصالح في آيات القرآن: آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، لا يكتفي الله بالإيمان فقط، لا يقول: "آمنوا" فقط، ولا يقول: "عملوا الصالحات" فقط، وإنما يَقرِن بينهما، هذه هي طريقة القرآن؛ أنه يقرن بين الإيمان والعمل الصالح.
ثم أيضًا القَرْن بين الإيمان والعمل الصالح، الإيمان القوي المقرون بالإذعان لا بد أن يتبعه عملٌ صالحٌ، لا بد أن يتبعه عملٌ صالحٌ وإلا لم يكن صادقًا، يعني من يقول: أنا مؤمنٌ، لكنه لا يصلِّي ولا يصوم ولا يزكِّي، هل هذا صادقٌ في دعوى إيمانه؟ غير صادقٍ؛ فالإيمان الصادق المقرون بالإذعان لا بد أن يتبعه عملٌ صالحٌ، ولا بد أن يُثمر عملًا صالحًا، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ، طيب أقاموا، ما قال: "أدَّوا"، وإنما "إقامة"، إقامةٌ للصلاة بجمع أركانها وشروطها وواجباتها، فأتوا بها كما أمر الله .
وَآتَوُا الزَّكَاةَ: أعطوا الزكاة مستحقيها.
لماذا خُصَّت الصلاة والزكاة بالذكر؟
طيب "إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة" أليستا تدخلان في عمل الصالحات؟ بلى، طيب لماذا خُصَّت بالذكر مع أنها تدخل؟ يعني: كان يكفي أن يقول الله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرهم)؛ لأن الصلاة والزكاة تدخلان في عمل الصالحات، لكن خص الله تعالى الصلاة والزكاة بالذكر لأهميتهما، ولأن الصلاة هي أعظم العبادات البدنية، والزكاة هي أعظم العبادات المالية، ومن أتى بهما سَهُل عليه أن يأتي بأي عملٍ صالحٍ آخر، من أتى بالصلاة والزكاة كما أمر الله؛ سيأتي ببقية الأعمال الصالحة، تَسهُل عليه؛ لأنَّ بعض الناس مستعدٌّ لأنْ يبذل المال، لكن الصلاة وأمور العبادات البدنية تصعب عليه، لا يصلِّي ولا يصوم، لكن الأموال عنده أمرها سهلٌ، يُنفق ويبذل ويتصدق.
وبعض الناس العكس؛ مستعدٌّ أن يصلِّي ويصوم ويأتي بالعبادات البدنية، لكن إخراج المال شاقٌّ عليه، يصعب عليه أن يزكِّي، حتى تظهر العبودية لله ، ويكون عبدًا لله سبحانه؛ لا بد أن يجمع الأمرين: العبادة البدنية ورأسها الصلاة، والعبادة المالية ورأسها الزكاة، لا بد أن يجمع الأمرين؛ حتى يكون عبدًا لله ، وحتى يأتي بالعبودية كما أمره الله .
فرأس العبادات البدنية: الصلاة، ورأس العبادات المالية: الزكاة، من أتى بهما فسيأتي ببقية الأعمال الصالحة في الغالب، وهذا هو السر في تخصيص هاتين العبادتين، فبعض الناس تجد أنه في العبادات البدنية يأتي بها على الكمال، لكن يشق عليه جدًّا أن يأتي بالعبادة المالية، رجلٌ صالحٌ، يقولون: إنه كان عابدًا، وأول ما يأتي للمسجد، لكنه لا يُزكِّي، يصعب عليه، يشق عليه أن يُزكِّي، وأذكر أنني استفتاني أحد أبنائه في هذا، طلبت منهم أن يَعِظوه، لكنه أصر حتى مات، طلبت من أولاده أن يُخرجوا الزكاة من ماله؛ لأنها دين الله .
الشاهد: أن هذا موجودٌ في المجتمع، فتجد أنه يُؤدِّي العبادات البدنية على وجه الكمال، لكن العبادات المالية: لا، مقصِّرٌ فيها، وبعض الناس العكس، في البذل وفي الإنفاق يؤدِّي الزكاة، وليس فقط الزكاة، الزكاة والصدقات والبذل والإنفاق، لكن العبادات البدنية تصعب عليه، يصعب عليه أن يصلِّي وأن يصوم، وأن يأتي بالعبادات البدنية، فإذا أتى بهما جميعًا؛ أقام الصلاة وآتى الزكاة؛ سيأتي ببقية الأعمال الصالحة، فلعل هذا هو السر في تخصيص هاتين العبادتين العظيمتين: وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ. لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البقرة:277]: يعني ثوابهم عند الله .
وقوله : عِنْدَ رَبِّهِمْ يقتضي تضخيم هذا الأجر والثواب؛ لأن العطية بقدر معطيها، إذا كان الثواب والأجر من أكرم الأكرمين؛ فسيكون هذا الأجر عظيمًا والثواب جزيلًا، لم يقل لهم أجرٌ فقط، بل عند ربهم، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وعطاء الله عظيمٌ، فسيكون الأجر عظيمًا والثواب جزيلًا.
أيضًا: وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ: لا خوفٌ عليهم فيما يستقبلون من أمرهم، ولا يحزنون فيما مضى من أمرهم، والإنسان إنما يأتيه القلق ويتكدر؛ إما من الخوف من المستقبل، أو من الحزن على الماضي، إما في أمورٍ مضت يحزن عليها كيف تصرف بهذا، وكيف موقعه، وكيف تورط بكذا.. وكيف؟! أو يخاف من المستقبل؛ يقلق أنه قد يحصل له كذا، وقد يحصل له كذا.
فالله يقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، لهم الأجر والثواب من الله ، ولهم الطمأنينة فلن يخافوا من المستقبل، ولن أيضًا يحزنوا على الماضي، وهذا يقتضي أن لهم السعادة الحقيقية، وهذه لا تكون إلا لهؤلاء المؤمنين؛ كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ... أكمل الآية.
المقدم: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً.
الشيخ: أحسنت، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، يعني في الدنيا، طيب في الاخرة؟ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، وعد الله ، وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلٗا [النساء:122]، والله سبحانه لا يخلف الميعاد، قال: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [النحل:97]، مع أن "مَن" تشمل الذكر والأنثى، ولكن من باب التأكيد على أن هذا أيضًا ليس خاصًّا بالذكور، الذكور والإناث.
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ: لاحظ هنا جمع بين الإيمان والعمل الصالح، لكن هنا قدَّم العمل الصالح على الإيمان، وفي الآية التي معنا الإيمانَ على العمل الصالح، وهو الغالب، تقديم الإيمان على العمل الصالح، لكن أحيانًا كما في هذه الآية -آية النحل- قدم العمل الصالح على الإيمان.
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ: يعني جمع بين الإيمان والعمل الصالح.
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً: الحياة الطيبة ليست بالضرورة أن يكون ثريًّا كثير المال، لا، الحياة الطيبة تعني: أن يعيش سعيدًا، باختصار أن يعيش سعيدًا في الدنيا؛ يعيش مرتاح البال، يعيش مطمئنًا، بعيدًا عن الخوف وعن الحزن وعن القلق وعن التوتر، راضيًا بقضاء الله وقدره، يعني يعيش حياةً سعيدةً، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وأما في الآخرة: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
فالسعادة إذنْ في طاعة الله : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71]، وعمر الإنسان قصيرٌ، بعض الناس يُسوِّف، يقول: أنا إن شاء الله فيما بعد أتوب وأستقيم على طاعة الله، لكن العمر قصيرٌ، هل تضمن أن تعيش إلى العمر الذي تتمناه ثم تستقيم على طاعة الله ؟!
ابدأ من الآن في التوبة الصادقة إلى الله والاستقامة على طاعة الله سبحانه؛ تنل السعادة في الدنيا والآخرة، تنل الحياة الطيبة في الدنيا والثواب العظيم بالجنة في الآخرة، الجنة التي هي غاية مُنى المؤمنين، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، لا نَصَب فيها ولا تعب، ولا هم ولا غم، وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]، فالله تعالى تكفَّل لمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح بأن الله تعالى يُحييه حياةً طيبةً في الدنيا، وفي الآخرة يجزيه الأجر العظيم؛ وذلك بأن يُدخله هذه الجنة وهذه الدار التي فيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]، هذه ثمرة الإيمان والعمل الصالح.
كيف نجمع بين الحياة السعيدة وبين الابتلاء؟
المقدم: شيخنا الله يحفظك، بعضهم يقول: نرى بعض أهل الإيمان يُبتلَون، فكيف نجمع بين الحياة السعيدة وبين الابتلاء؟
الشيخ: الابتلاء لا بد منه؛ لأن دعوى الإيمان سهلةٌ، الكل يدعي أنه مؤمنٌ، الكل يدعي أنه صادقٌ، لكن لا بد من التمحيص؛ حتى يتبين أنه صادقٌ في إيمانه أم لا؟ فكما قال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3]، دعوى الإيمان كُلٌّ يدعيها، لكن يُمحَّص الإنسان؛ إن كان صادقًا ثبت، وإن كان غير صادقٍ تزعزع: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
فالدنيا ليست بدار نعيمٍ، لا للمؤمن ولا لغير المؤمن، الدنيا دار كَدَرٍ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، الإنسان يُكابد مصاعب هذه الحياة ومتاعبها وهمومها وغمومها، لكن عاقبته حسنةٌ وإلى خيرٍ، المؤمن حتى لو ابتُلي؛ يُعطيه الله الطمأنينة والسعادة، حتى مع ابتلاءاته فإن الله تعالى يُعطيه طمأنينةَ وانشراحَ الصدر، ويتعلق قلبه بالله ، بينما غير المؤمن لا، يعيش في قلقٍ وتوترٍ، ويصاب بأمراضٍ نفسيةٍ، ربما يصاب بأمراضٍ نفسيةٍ، وربما بعضهم ينتحر، وإلا فالدنيا ليست بدار نعيم، لو كانت الدنيا دار نعيمٍ كما يتمناها الإنسان؛ ما تمنى الناس الجنة، الدنيا متقلبةٌ أحوالها.
وقد خُلق الإنسان في كبدٍ، وليس هذا خاصًّا بالمؤمن، المؤمن وغير المؤمن، لكن المؤمن يبتليه الله ليختبر صدق إيمانه؛ لأن الناس في الرخاء كلٌّ يدعي الإيمان، لكن عندما يَبتلي الله الإنسان؛ يَتبين هل هو صادقٌ أو غير صادقٍ؟ بعض الناس عند أدنى ابتلاءٍ يسقط ويفشل، يفشل في هذا الاختبار وينتكس، والله تعالى أخبرنا بأن من سُننه كما قال سبحانه: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:179].
فالله تعالى لا يترك الناس دون أن يميز الخبيث من الطيب، لا بد من التمحيص، لا بد من الابتلاء؛ حتى يتميز الخبيث من الطيب، كيف يعرف الناس الخبيث من الطيب؟ بما يُقدِّره الله من هذه الابتلاءات، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]، يعني كيف تعلم أن هذا خبيثٌ من طيبٍ؟ لن يطلعك الله على الغيب، لا يتبين هذا إلا بالتمحيص وبالابتلاء؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: أشد الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل [رواه البزار: 1150.]، إن كان في دينه صلابةٌ؛ شُدِّد عليه؛ حتى يكون في ذلك تمحيصٌ، ويكون في ذلك رفعةٌ لدرجاته، لكن الله تعالى قال: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، الحياة الطيبة -كما ذكرنا- لا تنحصر في الأموال أو الأولاد أو نحو ذلك، إنما المقصود بها السعادة، أن يعيش الإنسان سعيدًا في هذه الحياة.
أبرز الفوائد من الآية
طيب، أبرز الفوائد من هذه الآية:
- الحث على الإيمان والعمل الصالح، فإن الله تعالى ذكر الثواب، وهذا الثواب يقتضي الحث على الإيمان والعمل الصالح، وهذا في آياتٍ كثيرةٍ من كتاب الله ، وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة بإيمانه وعمله الصالح.
وأيضًا من الفوائد:
- أن العمل لا ينفع صاحبه إلا إذا اقترن بالإيمان، إذا كان عملًا بدون إيمانٍ؛ فلا يُفيد صاحبه، وكما قال الله تعالى عن الكافرين: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].
وأيضًا من الفوائد:
- أن العمل الصالح حتى يكون صالحًا؛ لا بد له من شرطين: وهما الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله ، فمن عمل عملًا لم يُخلص فيه لله؛ لم يكن صالحًا، ومن عمل عملًا لم يتابِع فيه رسول الله ؛ لم يكن صالحًا، لا بد من الشرطين جميعًا.
ومن الفوائد:
- بيان أهمية الصلاة والزكاة؛ لأن الله تعالى خصهما من الأعمال الصالحة مع دخولهما فيها، لكن لأهميتهما خصهم الله بالذكر، ونجد أن الله تعالى أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن الكريم؛ لأنهما هما رأس العبادات؛ رأس العبادات البدنية: الصلاة، ورأس العبادات المالية: الزكاة، ومن أتى بهما كما أمر الله؛ سيأتي ببقية الأعمال الصالحة، وستسهل عليه بقية الأعمال الصالحة.
أيضًا من الفوائد:
- أن الله سبحانه ضمن الأجر لمن آمن وعمل صالحًا وأقام الصلاة وآتى الزكاة؛ لقوله : لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وهذا الأجر يكون في الآخرة كما قال : وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، التوفية إنما تكون في الآخرة، وقد يُعطي الله جزاءً معجَّلًا للإنسان في الدنيا قبل الآخرة، لكن الأصل أن التوفية إنما تكون في الآخرة، وهذا الأجر العظيم من الله لمن آمن وعمل صالحًا يكون بأن يدخله الجنة، وهي دار النعيم، وهي غاية مُنى الإنسان، هذه الدار العظيمة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]، فيها من النعيم ما لا يستطيع العقل البشري أن يتخيله مجرد تخيلٍ، مجرد تخيلٍ لا تستطيع أن تتخيله سبحان الله!
النعيم الذي في الجنة شيءٌ عظيمٌ لا يمكن للإنسان في الدنيا أن يتخيله مجرد تخيل، سبحان الله! ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، وَفِيهَا مَا تَشۡتَهِيهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡيُنُ[الزخرف:71]، جميع المتع التي تخطر ببالك موجودةٌ في الدنيا، وفوق ما تتخيل، حتى إن الله ذكر التمتع بالأكل، أصناف الأكل وأنواعها، وأنواع الشرب، اللبس أيضًا يتمتع به الإنسان، ذكر الله تعالى أنواعًا من المتع باللبس، وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ [الكهف:31]، يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَلُؤۡلُؤٗا [الحج:23]، فيتمتع بمتعة اللباس، كذلك أيضًا الزواج، يُزوِّج الله الرجال في الجنة بزوجاتهم وبالحور العين أيضًا، وكذلك النساء في الجنة أيضًا؛ وكما قال عليه الصلاة والسلام: ما في الجنة أعزب [2]، الجنة ليس فيها أعزب، يتمتعون بنعمة النكاح والزواج، وكذلك أيضًا..
المقدم: مجالسة الأحباب.
الشيخ: نعم، عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس:56]، هذا أيضًا نوعٌ من المتعة، إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، وعَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس:56]، يتحدثون في أمورهم في الدنيا وفي غيرها، فهذه أيضًا من المتع، كل المتع التي تخطر ببالك موجودةٌ في الجنة، وفوق ما تتصوره، وفوق ما تتخيله، وفوق ذلك كله أن الله تعالى يُسلِّم عليهم، ويرونه كما يرى الناس القمر ليلة البدر، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، ينظرون إلى الرب ، وما أُعطوا شيئًا من النعيم أعظم من هذا النعيم.
وأيضًا وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]، الخلود، هب أن إنسانًا -مع أن هذا افتراضٌ- حقق جميع متع الدنيا، لكن هل ستستمر معه؟ أبدًا، لا يمكن، لا بد أن يفارق هذه النعم أو تُفارقه، لا بد أن يموت ويترك هذه النعم التي هو فيها، لكن نعيم الجنة نعيمٌ خالدٌ باقٍ أبد الآباد، لا يقال ألف سنةٍ، ولا مليون سنةٍ، إلى ما لا نهاية.
فهذا النعيم على الإنسان أن يعمل له: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، فالله ضمن الأجر عنده بهذا النعيم لمن آمن وعمل صالحًا.
ثم وعد الله مَن جَمَع بين الإيمان والعمل الصالح بأنه لا خوفٌ عليه ولا يحزن، يعني لا يخاف مما أمامه، ولا يحزن على ما ترك وما خلَّف، فنفى الله عنه الخوف والحزن، وهما أكثر ما يعتري الإنسان، فالمكروه الوارد على القلب إن كان عن أمرٍ مستقبليٍّ؛ أحدث خوفًا وهمًّا، وإن كان عن أمرٍ مضى أحدث حزنًا، وإن كان على أمرٍ حاضر أحدث غمًّا؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يُكثر من أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين وقهر الرجال [3].
فالله تعالى ضمن للمؤمن أنه لا خوفٌ عليه ولا يحزن، هو آمَنَ وعمل صالحًا، قد يغتم الإنسان، لكن هذه طبيعة الحياة، لكن لا يخاف؛ لأنه مؤمنٌ، وقد أتى بالإيمان والعمل الصالح، والله وعده بالأجر: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الشورى:36]، ولا يحزن على ما مضى، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274].
وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن الفوائد وأحكام هذه الآية.
تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
المقدم: ثم قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]، والآية التي تليها، نستأذنكم في سماع تلاوةٍ لهذه الآيات ثم نعود بإذن الله تعالى.
القارئ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279].
المقدم: تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآيتين.
الشيخ: نعم، قال بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فنادى الله تعالى المؤمنين بوصف الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، كما قال ابن مسعودٍ : "إذا سمعت الله يقول في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا؛ فارع لها سمعك؛ فإنها خيرٌ تؤمر به أو شرٌّ تُنهى عنه".
والله تعالى نادى المؤمن بوصف الإيمان وأمرهم بتقوى الله: اتَّقُوا اللَّهَ، يعني: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقايةً باتباع أوامره واجتناب نواهيه، فتقوى الله هي وصية الله الأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، ونجد أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول ما يأمرون أقوامهم بتقوى الله: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:105-106]، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:124]، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:142]، إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:177]، جميع الأنبياء يأمرون بتقوى الله ، فتقوى الله هي وصية الله للأولين والآخرين.
ثم قال : وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، وَذَرُوا بمعنى: اتركوا، مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا: أي: دعوا ما بقي من الربا الذي لم تقبضوه، وهذا إنما هو في المعاملات الربوية القائمة الحاضرة، أما المعاملات الماضية التي قبضها الإنسان وانتهى: فبين الله حكمها في الآية السابقة، قال: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة:275]، أما المعاملات الربوية الحاضرة القائمة: فالله تعالى يقول: اتركوا الربا، اتركوا ما بقي من الربا، وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وقوله : إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، هذا من باب الإغراء، يعني: إن كنتم مؤمنين حقًّا؛ فذروا ما بقي من الربا، وهذا له نظائر في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء:136]، هنا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278]، فهذا من أساليب القرآن الكريم، هذا من باب التأكيد، يعني: إن كنتم مؤمنين، يا أيها المؤمنون، يا من اتصفتم بصفة الإيمان، ذروا ما بقي من الربا.
عِظَم معصية الربا
ثم قال : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا: يعني: إن لم تذروا ما بقي من الربا، واستمررتم في أكل الربا، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].
وقوله: فَأْذَنُوا، الأصل في الإذن أنه الاعلام؛ أي: اعلموا ذلك واستيقِنوه، استيقنوا حربًا من الله ورسوله، كما قال ابن عباسٍ رضي عنهما: "يقال لآكل الربا يوم القيامة: خذ سلاحك للحرب"، من باب التبكيت له، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: والحرب من الله .. يعني آكل الربا إذا لم يتب، واستمر في أكل الربا؛ نقول له: استيقِن أنك محاربٌ لله، أو أنك فتحت جبهة حربٍ مع الله ، ومن يفتح جبهة حربٍ مع ربه سبحانه؛ يتوقع مصيبةً تأتيه من أي طريقٍ، وتأتيه في أية صورةٍ، تصور جيشًا يقاتل جيشًا، يتحاربون، كل جيشٍ يحاول أن ينال من الجيش الآخر بأي طريقةٍ، بأية صورةٍ، هذه الحربُ حربٌ بين هذه الطائفة وهذه الطائفة، آكل الربا فتح جبهة حربٍ مع مَن؟ مع رب العالمين، والله تعالى يقول: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].
فمعنى ذلك: أن هذا الذي يتجرأ على أكل الربا ولم يتب، يتوقع أن تأتيه مصائب بأية صورةٍ ومن أي طريقٍ ومن أية جهةٍ، تأتيه مصيبةٌ في ماله، تأتيه مصيبةٌ في بدنه، تأتيه مصيبةٌ في عرضه، تأتيه مصيبةٌ في أهله، تأتيه مصيبةٌ في ولده، تأتيه مصيبةٌ في أي شيءٍ، هذا فتح جبهة حربٍ مع رب العالمين، والله تعالى يقول: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ، يُسلِّط الله عليه من جنوده من ينتقم منه؛ لأنه فتح جبهة حربٍ مع الله، وهذا فيه تغليظٌ شديدٌ وتحذيرٌ بليغٌ من الربا، يكفي المسلم الذي يقرأ القرآن ويرى أن رب العالمين يقول: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، هل سيستمر في تعاطي الربا حتى لو بلغ الإنسان حدَّ الضرورة؟ حتى لو بلغ حد الضرورة لا يقع في الربا، حتى لو بلغ حد الضرورة؛ لأن الربا أمره شديدٌ، لا يوجد شيءٌ اسمه "ضرورةٌ" في الربا حتى ولو يأكل من الميتة ولا يقع في الربا، الربا أمره عظيمٌ، يفتح جبهةً مع الله، أكل الميتة أباحه الله عند الضرورة، لكن الربا لا يجوز مطلقًا، لا يجوز مطلقًا، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].
قال : وَإِنْ تُبْتُمْ: يعني رجعتم إلى الله سبحانه بترك الربا، فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، وهذا كما ذكرنا الآية، إنما المراد: بها المعاملات الربوية القائمة، يعني: إن تبتم فخذوا رأس المال واتركوا الربا، لَا تَظْلِمُونَ غيركم؛ لأنكم لم تأخذوا الزيادة، وَلَا تُظْلَمُونَ؛ لأنكم لم تُنقَصوا من رءوس أموالكم، يعني: المُرابي إذا تاب؛ نقول: اترك أموالك كلها؟ لا، خذ رأس مالك أيضًا، لا تُظلم أنت، خذ رأس مالك لكن اترك الزيادة، اترك الربا فقط، وهذا من عظمة هذه الشريعة، ومن تمام عدل الله ، يعني حتى هذا المرابي الذي تجرأ على الربا لا نقول له: اترك أموالك كلها، لا، خذ رأس المال واترك الربا فقط، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ، يعني: غيركم بأخذ الزيادة، وَلَا تُظْلَمُونَ بالنقص من رءوس أموالكم.
أبرز الفوائد والأحكام من الآيتين
ننتقل لأبرز وفوائد وأحكام هاتين الآيتين:
- أولًا: وجوب تقوى الله ؛ لقوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وذكرنا أن هذه وصية الله للأولين والآخرين، والوصية التي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء لأممهم؛ ولذلك ينبغي التذكير بها دائمًا؛ ولهذا عند بعض الفقهاء، وهم فقهاء الحنابلة، ذكروا أن من أركان الخطبة: الوصية بتقوى الله .
- أيضًا من الفوائد: وجوب ترك الربا، إذا كانت المعاملة قائمةً وحاضرةً؛ فيجب على الإنسان أن يترك الربا بأن يأخذ رأس ماله ويترك الربا، اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]، وفي الآية الأخرى قال: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، أما المعاملات التي الربوية القديمة التي قبضها الإنسان وانتهى منها: فتكفي فيها التوبة ولا يلزمه أن يرد شيئًا؛ لقوله سبحانه: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ.
إذنْ من وقع في الربا له حالتان:
-
- الحال الأولى: أن تكون المعاملة الربوية قائمةً، فنقول: لك رأس مالك، ويجب عليك أن تترك الزيادة، لا تَظلم ولا تُظلم، لا تَظلم غيرك بأخذ الزيادة، ولا تُظلم بنقص رأس مالك، ولا تَتم توبتك إلا بهذا.
- الحال الثانية: أن تكون معاملةً ربويةً قديمةً وسابقةً وتاب منها الإنسان، معاملةً ربويةً قديمةً وسابقةً وقبضها الإنسان وانتهى منها، فهنا لا يلزمه أن يَرُد شيئًا، وإنما تكفي التوبة، تكفي التوبة إلى الله ؛ لقوله سبحانه: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة:275].
- أيضًا من الفوائد: أنه لا يجوز تنفيذ العقود المحرمة في الإسلام وإن عُقدت في حال الشرك؛ لعموم قول الله تعالى: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]، وبيَّن هذا النبي حيث قال في خطبته في عَرَفَة في حجة الوداع: وربا الجاهل موضوعٌ، وأول ربًا أضعه ربا عمنا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوعٌ كله [4].
- أيضًا من فوائد هذه الآية: أن هذه الآية أصلٌ في نقض المعاملات الفاسدة من البيوع الفاسدة وغيرها، يجب أن تُنقض وأن تُصحَّح، فإن الله أمر بتصحيح هذه المعاملات الربوية؛ بأن يأخذ الإنسان رأس ماله ويدع الربا، هكذا أيضًا إذا كانت المعاملة محرمةً فيبطل هذا العقد ويُعاد تصحيحه من جديدٍ، يعاد تصحيح هذا العقد من جديدٍ.
- أيضًا من الفوائد الربوية: أن ممارسة الربا -أخذًا أو دفعًا- تنافي الإيمان؛ لقوله : إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، ولكن ليس معنى قولنا: إنها تُنافي الإيمان، أن الإنسان يَكفر بذلك، كما بيَّنَّا في الحلقة السابقة.
إن آكل الربا مرتكبٌ للكبيرة، ومرتكب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة لا يكفر، بل هو مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته في الدنيا، وأما في الآخرة: فهو تحت مشيئة الله ؛ إن شاء عذَّبه وإن شاء عفا عنه، لكنه لا يخلد في النار، فلا بد من جمع النصوص بعضها مع بعضٍ.
وقد ضل في هذا طائفتان: طائفة الخوارج والمعتزلة؛ أما الخوارج فكفَّروا مرتكب الكبيرة، والمعتزلة قالوا: في الدنيا في منزلةٍ بين منزلتين، وفي الآخرة: جميعهم قالوا: إن مرتكب الكبيرة مخلدٌ في النار، وأما المرجئة فقالوا: لا يضر مع مع الإيمان ذنب، وتوسط أهل السنة والجماعة فقالوا: إن مرتكب الكبيرة في الدنيا مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله، لكنه لا يخلد في النار.
والحق: ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة؛ وعلى ذلك نقول: إن أكل الربا من الكبائر، لكنها لا تُخرج الإنسان عن دائرة الإيمان، وبيَّنَّا في الحلقة السابقة معنى قول الله : وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، أن المقصود بذلك: الخلود المؤقت، وليس المقصود به الخلود المؤبد، وإنما قلنا ذلك؛ جمعًا بين النصوص، فهي كآية القتل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، المقصود بذلك: الخلود المؤقت وليس الخلود المؤبد، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، وإنما قالوا بذلك؛ جمعًا بين النصوص الواردة، فأهل الحق وأهل السنة والجماعة يجمعون بين نصوص الوعد والوعيد، بينما الوعيدية -وعلى رأسهم الخوارج والمعتزلة- أخذوا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، والمرجئة أخذوا بنصوص الوعد وتركوا نصوص الوعيد، أما أهل السنة والجماعة فجمعوا بين نصوص الوعد والوعيد.
المقدم: شيخنا الله يحفظك..
الشيخ: نكمل الآية ونُتيح فرصة للأسئلة إن شاء الله:
- أيضًا من الفوائد: بيان عظيم رحمة الله بعباده؛ حيث حرم عليهم ما يتضمن الظلم، وأكد هذا التحريم وأنزل القرآن فيه بذلك، فتحذيرٌ وإنذارٌ وإعذارٌ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279]، يعني: كل هذا يدل على عظيم رحمة الله بعباده وعنايته بهم جل وعلا.
- أيضًا من الفوائد: أن المُصِرَّ على الربا مُعلِنٌ للحرب على الله ورسوله: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وأن الله تعالى قد توعده بالحرب؛ ومعنى ذلك: أنه يتوقع مصائب تأتيه من أية جهةٍ، تأتيه مصائب وبأية طريقٍ؛ لأنه فتح جبهةً من الحرب مع رب العالمين، ولو لم يَرِد في التحذير من الربا إلا هذه الآية لكفت، لو لم يرد في التحذير من الربا إلا قول الله : فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فهذا يكفي، أي إنسانٍ عاقلٍ يقال له: إن رب العالمين يقول: إن لم تتب من الربا؛ فأنت قد فتحت جبهة حربٍ مع الله، يقول هذا الله في القرآن، أي عاقلٍ يسمع هذا الكلام ومع ذلك يبقى مُصِرًّا على الربا ويتجرأ على الربا؟!
وعندما يقول رب العالمين هذا في القرآن، في كتابه الذي يتلوه جميع الناس وجميع الأجيال جيلًا بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرن؛ لا بد أن هذا يتحقق، لا بد، لا بد يقينًا أن هذا يتحقق، فأي مسلمٍ يسمع هذه الآيات ثم بعد ذلك يستمر على تماديه وعلى تجرئه على الربا؟!
نقول: إذا فعل ذلك؛ فقد حارب الله ورسوله، وفتح جبهة حربٍ مع الله .
والربا قد جاء فيه من الوعيد ما لم يأتِ على غيره من الذنوب، ما عدا الشرك، كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ ولذلك كان محرَّمًا في جميع الشرائع السماوية، في جميع الشرائع محرمٌ على الناس كلهم؛ لعظيم مفاسده.
- وأيضًا من الفوائد: أنه يجب على كل من تاب من الربا ألا يأخذ شيئًا مما استفاده من الربا، وإنما يكتفي بأخذ رأس ماله؛ لقوله :وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:279].
- أيضًا من الفوائد: مراعاة العدل في معاملة الناس بعضهم مع بعضٍ؛ لقوله : فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، فالإنسان لا يَظلم غيره ولا يُظلم، لا يَظلم ولا يُظلم، فالإنسان في تعاملاته عمومًا ينبغي أن يسير على هذا المبدأ: أنه لا يحرص ألا يظلم أحدًا، ويسأل الله ألا يظلمه أحدٌ؛ ولهذا كان من الأدعية العظيمة التي كان يدعو بها النبي : اللهم إني أعوذ بك أن أُضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أُزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أَجهَلَ أو يُجهَلَ عليَّ [5]، هذا دعاءٌ عظيمٌ، فالإنسان لا يَظلم، ويَسأل الله تعالى ألا يُظلم، فهذا مبدأ للإنسان في حياته: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ.
خطورة الاتكال على رحمة الله والتساهل في الكبائر
المقدم: يا شيخ أحسن الله إليك، بعض الناس إذا سمع مثل كلامكم -حفظكم الله- عن أن صاحب الكبيرة غير مخلدٍ في النار؛ يتساهل في المعصية، فيقول: المؤمن الموحِّد مصيره إلى الجنة، فيتساهل في المعاصي، فما نصيحتكم؟
الشيخ: نعم، هذه طريقة المرجئة وأهل البدع، حتى وإن قلنا: إنه لا يخلد في النار، لكن عذاب النار شديدٌ، يكفي قول النبي عليه الصلاة والسلام: ناركم هذه التي توقدون جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافيةً، قال: إنها فُضِّلت عليها بتسعةٍ وستين مرةً [6].
ثم أيضًا مدة مُقام العاصي في النار طويلةٌ: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23]، إلا أن يعفو الله عنه، فعذاب النار شديدٌ، وهذا المعنى نفسه هو الذي قاله اليهود: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80]، فيتجرءون على المعاصي وعلى حرمات الله بهذه الحجة هي نفسها: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ونخرج من النار وندخل الجنة، فرد الله عليهم: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:80].
فمن مات على الكفر فهو مخلدٌ في النار أبد الآباد، لكن من كان مسلمًا مؤمنًا لكنه مرتكبٌ للكبيرة فهو تحت مشيئة الله، لكنه إن دخل النار؛ لا يخلد فيها أبد الآباد؛ لأن هذا من تمام عدل الله سبحانه، أن هذا مؤمنٌ لكن عنده معاصٍ، عنده موبقاتٌ، عنده كبائر، هو تحت مشيئة الله، إن عُذب يعذب لكنه لا يخلد في النار، وهذا المعنى بيَّنه النبي عليه الصلاة والسلام، قال لأبي ذرٍّ : إن من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه حرمه الله على النار، قال: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، كررها أبو ذرٍّ ثلاثًا، قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق، قال الثالثة: رغم أنف أبي ذرٍّ [7]، وفي حديث معاذٍ قال: ألا أُبشِّر الناس؟ قال: لا تُبشِّرهم فيتكلوا [8].
فهذا يدل على عظيم شأن التوحيد، وأن الإنسان ينبغي أن يحرص على تحقيق التوحيد؛ لأنه إذا مات على التوحيد؛ فمآله إلى الجنة، حتى وإن وقع منه معاصٍ فمآله في النهاية إلى الجنة.
المصيبة فيمن يموت على الشرك والكفر، هذا هو المخلد في النار، وهو الذي حرم الله عليه الجنة، لكن هذا لا يقتضي التساهل في المعاصي والذنوب، فعلى المسلم أن يحذر من المعاصي كلها صغيرها وكبيرها، لكن من رحمة الله بعباده المؤمنين إذا أتوا بالإيمان ووقع منهم ذنوبٌ ومعاصٍ فأنهم لا يخلدون في النار، وإنما يكونون إلى رحمة أرحم الراحمين.
وثم أيضًا بعض الكبائر قد تؤدِّي بصاحبها إلى الوقوع في الشرك والكفر؛ مثل:
- ترك الصلاة، مثلًا ترك الصلاة يؤدِّي إلى الخروج من دائرة الإيمان: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر [9].
- قتل النفس، وإن كان في الأصل هو كبيرةٌ ولا يقتضي الخروج من الإيمان، لكن قد يُضيِّق على الإنسان دينه؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: لا يزال المؤمن في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا [10]، رواه البخاري، قد يكون إذا أصاب دمًا حرامًا؛ يُضيَّق عليه، حتى ربما يخرج عن دائرة الإيمان، نسأل الله السلامة والعافية.
فالإنسان لا بد أن يكون حذرًا لا يأمن، فهذه القضية من قديمٍ، وذكرها الله تعالى عن اليهود: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [آل عمران:24]، وأيضًا هي هي فكرة المرجئة، هذا هو الفكر الإرجائي، أن يقول لا يضر مع الإيمان ذنبٌ، حتى لو دخل النار؛ سيكون مآله إلى الجنة؛ ولذلك تجد أنهم يتجرءون على المعاصي، وهذا كله مسلكٌ خطأٌ، فالإنسان يكون بين الرجاء والخوف، يجمع بين الرجاء والخوف، يرجو رحمة الله ويخاف من عذاب الله ، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98].
تفسير قوله: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ
المقدم: إذنْ ننتقل إلى الآية التي تليها يا فضيلة الشيخ:
القارئ: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280].
المقدم: تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية.
الشيخ: نعم، الآية التي بعدها قول الله : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]، فبعد آيات الربا تكلم الله عن المعسر؛ لأن المعسر في الجاهلية كانوا إذا حل الدين على المدين؛ أتى الدائن إلى المدين وقال له: إما أن تقضي وإما أن تُرْبِي، إما أن تُسدِّد، وإذا كنت معسرًا أو ما تستطيع؛ يبقى الدين عليك، ويتضاعف أضعافًا مضاعفةً، فأبطل الله هذا، ولعل هذه هي الحكمة من وقوع هذه الآية بعد آيات الربا.
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ يعني: إنسانٌ معسرٌ صاحب إعسارٍ لا يستطيع الوفاء، فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ يعني: فالواجب على الدائن أن يُنظِره إلى ميسرةٍ، لا يفعل كما يفعله الجاهلية من أنه إذا حل الدين يقول الدائن للمدين: إما أن تقضي وإما أن تُربي، وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ يعني: تُبرئوا المعسر من دَينه، هذا خيرٌ لكم، وسماه الله "صدقةً"، فهو عملٌ صالحٌ، إبراء المعسر هذا من الأعمال الصالحة العظيمة؛ ولذلك قال: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: يعني ما أعد الله من الثواب لمن فعل ذلك.
أبرز الفوائد والأحكام من الآية
أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية:
- أولًا: وجوب إنظار المعسر، يعني: إمهاله حتى يُوسر؛ لقوله : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]، فلا تجوز مطالبته بالدين ما دام معسرًا، ما دمت تعرف أنه معسرٌ؛ فلا يجوز أن تطالبه فضلًا عن أن ترفع فيه شكايةً، وهذا أمرٌ يُخطئ فيه كثيرٌ من الناس، تجد أنه يرفع شكايته في المعسر، ثم هذا المعسر يُحبس بسببه، يُسجن بسببه، فيبوء بإثمه، القاضي يقول يُحبس حتى يَثبت إعساره، ربما إثبات إعساره يحتاج لمدةٍ طويلةٍ، ربما يحتاج لسنواتٍ حتى يَثبت الإعسار، فيبوء بإثمه الذي رفع فيه الشكاية.
فنقول: لا يجوز مطالبة المعسر بالدين، فضلًا عن رفع الشكاية فيه، ومن فعل ذلك فهو آثمٌ وظالمٌ لهذا المعسر، وبعض الناس يقول: هو دَينٌ، حقي، نقول: هو حقك، لكن أنت ابتُليت معه، هو ابتُلي بإعساره، وأنت ابتُليت بأنك قد داينته وتعاملت معه، فأنت مبتلًى مثله، واجبٌ عليك الصبر، وواجبٌ عليك أن تُنظِره.
ثم أيضًا هذا هو أخوك المسلم، يعني: ينبغي أن تَنظُر له من منظار الرحمة والعطف، ولا تكون العلاقة بينك وبين إخوانك المسلمين علاقةً ماديةً بحتةً؛ ولهذا أمر الله تعالى بإنظار المعسر، وقد ورد الفضل العظيم في حق من أنظر معسرًا؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: من أنظر معسرًا أو وضع عنه؛ أظله الله تعالى تحت ظل عرشه [11]، كما جاء في "صحيح مسلمٍ"، وكما يقول عليه الصلاة والسلام: حُوسب رجلٌ ممن كان قبلكم فلم يجدوا له من أعماله شيئًا، إلا أنه يُداين الناس، وكان يقول لغلمانه: حُطوا عن المعسر، وخفِّفوا عن الموسر، فلقي الله تعالى فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: رحمتَك أرجو، فقال الله تعالى: نحن أحق بذلك منك [12]، غفر الله له بسبب ذلك، بسبب أنه كان يضع عن المعسر، وأيضًا يتسامح مع الموسر.
- أيضًا من الفوائد: أن إنظار المعسر واجبٌ، ليس للدائن فيه مِنَّةٌ، هذا هو حكم الله ، يجب على الدائن أن يُنظر المعسر وجوبًا، وليس له فيه مِنَّةٌ.
- أيضًا من الفوائد: أنه يُستحب التخفيف عن المدين، حتى وإن كان موسرًا؛ يُخفِّف عنه ما أمكن، ويُراعي أحواله ولا يُحرجه.
- أيضًا من الفوائد: أن الله سمى الإبراء من الدين على المعسر "صدقةً"، قال: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ، بل إنها صدقةٌ من أعظم الصدقات، من أفضل وأعظم الصدقات؛ ولهذا قال : وَأَنْ تَصَدَّقُوا، يعني: بإبراء المعسر، خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، خيرٌ عظيمٌ، وأن الله تعالى يُظلُّه تحت ظل عرشه، ويكون ذلك سببًا لمغفرة الذنوب، هذه من الصدقات العظيمة التي يغفل عنها بعض الناس، أنك تُبرِئ المعسر، هذه من أعظم وأفضل وأجلِّ الصدقات عند الله .
المقدم: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.
الشيخ: بارك الله فيكم.
المقدم: في ختام هذه الحلقة نشكركم -أيها المشاهدون- على طِيب المتابعة، ونلقاكم بإذن الله في حلقةٍ قادمةٍ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
| ^1 | رواه مسلم: 82. |
|---|---|
| ^2 | رواه مسلم: 2834. |
| ^3 | رواه أبو داود: 1555، ورواه البخاري: 2893، بلفظ: "وضلع الدين وغلبة الرجال"، والترمذي: 3484، بلفظ: "وضلع الدين وقهر الرجال". |
| ^4 | رواه مسلم: 1218. |
| ^5 | رواه أبو داود: 5094، والترمذي: 3427، والنسائي: 5486، وابن ماجه: 3884، وأحمد: 26616 |
| ^6 | رواه البخاري: 3265، ومسلم: 2843. |
| ^7 | رواه البخاري: 5827، ومسلم: 94، بنحوه. |
| ^8 | رواه البخاري: 2856، ومسلم: 30. |
| ^9 | رواه الترمذي: 2621، والنسائي: 463، وابن ماجه: 1079، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. |
| ^10 | رواه البخاري: 6862. |
| ^11 | رواه مسلم: 3006، بنحوه. |
| ^12 | رواه مسلم: 1560، بنحوه. |



