logo
الرئيسية/برامج تلفزيونية/تفسير آيات الأحكام/(11) تفسير آيات الأحكام- من قوله "ولا جناح عليكم فيما عرضتم.."

(11) تفسير آيات الأحكام- من قوله "ولا جناح عليكم فيما عرضتم.."

مشاهدة من الموقع

المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي".

نحن وإياكم على مائدة كتاب الله وفي تفسير آيات الأحكام، مع ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام. مرحبًا بكم يا فضيلة الشيخ.

الشيخ: أهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المشاهدين.

المقدم: فضيلة الشيخ، كنا قد وقفنا عند قول الله تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [البقرة: 235]، نستأذنكم في سماع تلاوة لهذه الآيات، ثم نعود بإذن الله للشرح والتعليق.

الشيخ: إن شاء الله.

تفسير قوله تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ..

القارئ:

بسم الله الرحمن الرحيم

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235].

المقدم: تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية.

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فكنا قد وصلنا في تفسير آيات الأحكام إلى قول الله ​​​​​​: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ... إلى آخر الآية [البقرة:235].

نبدأ أولًا بمعاني الكلمات، ثم بعد ذلك نذكر أبرز الفوائد والأحكام.

معنى الجُناح والتَّعريض

يقول سبحانه: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، الجناح معناه: الإثم والحرج؛ أي: لا حرج ولا إثم عليكم، والخطاب لجميع الناس؛ لأن هذا القرآن موجَّهٌ لجميع الناس.

فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ؛ فِيمَا عَرَّضْتُمْ التعريض معناه: أن يأتي الإنسان بكلام لا يُصرِّح فيه بمراده لكنه مُقاربٌ، فيأتي بكلامٍ بصيغةٍ ليست صريحة للتعبير عن مراده لكنها مُقاربة لذلك، مثل أن يقول للمرأة المتوفَّى عنها زوجها وهي في عدتها: "إني في مثلك لَراغب"، أو يقول: "إنك امرأة يرغب فيك الرجال"، أو يُثني على نفسه مثلًا: "إنني بخير وأموري حسنة"، أو يقول: "إذا انقضت عدتك فأخبريني"؛ فهنا هذا تعريض بالخِطبة وليس تصريحًا، فالله يقول: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ. يعني: هذا التعريض لا بأس به في العدة، لكن لا يجوز التصريح، لا يجوز أن يقول: "سأتزوجك"، وإنما يُعرِّض بذلك، لا بأس. 

معنى الخِطبة

وقوله: مِنْ خِطْبَةِ، بكسر الخاء "خِطبة"، وهي أن يعرض الإنسان نفسه على المرأة ليتزوجها، وهي بكسر الخاء، هي هذه الخِطبة. أما الخُطبة -بضم الخاء- فهي القول المشتمل على التوجيه والموعظة والتذكير ونحو ذلك؛ ولذلك يُقال: خِطبة المرأة، ويُقال: خُطبة الجمعة أو خُطبة العيد.

فإذًا فرقٌ بين الخِطبة والخُطبة؛ فالخاطب للمرأة خاطبٌ خِطبة، لكن -مثلًا- الذي يُلقي كلمة أو خُطبة جمعة يُقال: خُطبة، خُطبة جمعة، خُطبة عيد، ألقى خُطبةً بليغة. فإذًا بكسر الخاء المقصود بها خِطبة المرأة، وبضم الخاء المقصود بها الكلام المشتمل على الموعظة والتذكير والتوجيه ونحو ذلك.

وقوله: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ، المقصود بالنساء هنا من مات عنهن أزواجهن، وكذلك أيضًا من كانت في العدة ممن يُباح خِطبتها تعريضًا، كما سيأتي.

أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ: يعني أخفيتم وأضمرتم في أنفسكم.

عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ: أي تُكلِّمونهن مُعرِبين عن رغبتكم في نكاحهن، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ: يعني تتكلَّمون مُعرِبين عن رغبتكم في نكاحهن، يتكلم الإنسان بذلك لصديقه، لأبيه، لقريبه، ونحو ذلك، بأنه يرغب في تزوج فلانة.

والإنسان إذا وقع في باله أنه سيتزوج هذا الأمر يشغل باله ويُسيطر على تفكيره؛ ولذلك لا بد أن يتحدث به لخاصته.

فالإنسان مثلًا إذا وضع في باله أنه سيتزوج هذه المرأة المتوفَّى عنها زوجها، فلا بد أن هذا سيُسيطر على تفكيره، وسيكون في باله، وسيتحدث بهذا مع خواصِّه، سيتحدث بهذا مع بعض أصدقائه، مع أبيه، مع أخيه، ونحو ذلك؛ فهذا معنى قوله جل وعلا: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة:235].

معنى قوله: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا

لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا: يعني لا يجوز أن تُواعد هذه المرأة المُعتدَّة سرًّا. ما معنى سِرًّا؟

اختلف المفسرون في معنى كلمة سِرًّا:

  • فمنهم من قال: إن السر معناه الزنا، ورُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره مجاهد، يعني لا يجوز أن تُواعدهن زنًا وهُنَّ في العدة.
  • والقول الثاني: لا تُواعدوهن سرًّا، يعني نكاحًا، قالوا: لأن السر من أسماء النكاح.
  • والقول الثالث: أن معنى لا تُواعدوهن سرًّا على ظاهرها، بأن يَعِد الرجلُ المرأة سرًّا فيما بينه وبينها بأنه سيتزوجها؛ وإذا نُهي عن ذلك سرًّا فعن العلانية من باب أولى، ومن ذلك أن يأخذ عهدًا على المرأة أنها إذا انقضت عدتها لا تتزوج بغيره.

والذي يظهر -والله أعلم- أن كل هذه المعاني صحيحة، فنهى الله تعالى عن مُواعدة المعتدة سرًّا، سواء كان ذلك زنًا وهذا مُحرَّم، أو كان ذلك نكاحًا، أو حتى تحدَّث معها سرًّا بأنه سيتزوجها، كل ذلك ممنوع شرعًا، وكل ذلك لا يجوز.

معنى قوله: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا

إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا: يقول المفسرون: إن قوله جل وعلا: إِلَّا استثناء منقطع، والاستثناء المنقطع علامته أنه يكون بمعنى "لكن"، يعني: ولكن أن تقولوا قولًا معروفًا.

لماذا قلنا: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا ليس استثناءً متصلًا وإنما هو استثناء منقطع؟ لأنه ليس من جنس ما قبله؛ فإن المُواعدة سرًّا ليست من القول المعروف؛ ولذلك فقوله: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا هذا استثناءٌ منقطعٌ، يعني: ولكن أن تقولوا قولًا معروفًا. والقول المعروف: هو ما ذكره الله تعالى في أول الآية، وهو التعريض بخِطبة المعتدة دون التصريح.

حكم عقد النكاح قبل انقضاء العدة

 ثم قال : وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَلَا تَعْزِمُوا من العزم، وهو فعل الشيء من غير تردُّد، ومن ذلك: العزيمة، فلان عنده عزيمة، قوة عزيمة، ومن أدعية النبي : اللهم إني أسألك العزيمة على الرشد[1]. العزيمة على الرشد؛ لأن بعض الناس يُؤتى من جهة التردد، يريد أن يفعل الخير يتردد، يريد أن يصوم صوم نافلة فيتردد، يريد أن يقرأ القرآن، يريد أن يتصدق، تجد أنه متردد، يتردد ثم تغلبه نفسه أو يغلبه الشيطان، لكن الذي يعطيه الله تعالى قوة عزيمة يُقْدم على فعل الخير؛ ولهذا كان عليه الصلاة يدعو، يقول: اللهم إني أسألك العزيمة على الرشد.

فقوله جل وعلا هنا: وَلَا تَعْزِمُوا يعني المقصود بذلك: فعل الشيء من غير تردد، على ماذا؟ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ يعني: عقد النكاح الذي يكون بين الزوج والزوجة. وهذا يدل على أن النكاح عقدٌ كسائر العقود، هو عقد بين الزوج وزوجته.

حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ: الكتاب المقصود به العدة، وسماه الله تعالى "كتابًا"؛ لأنه يُفترض أن يُكتب ويُضبط؛ لأن الله تعالى قال: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1]، فيكون الكتاب بمعنى العدة، الكتاب المكتوب الذي فيه بيان العدة. وهذا يدل على أهمية العدة وأهمية ضبطها، كأنها كتابٌ يُكتب.

حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، أَجَلَهُ يعني: منتهاه وغايته، يعني: لا يجوز أن تعقدوا عقد النكاح حتى تنقضي عدة هذه المرأة، فلا يجوز أن يعقد عليها وهي لا زالت في العدة.

شمول علم الله تعالى بالسرائر والعلانية

ثم ختم الآية بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ، وَاعْلَمُوا يعني: أنتم أيها المخاطبون. فأمر الله تعالى بأن يعلموا بأن الله عليم بكل شيءٍ، وأنه سبحانه يعلم ما في أنفسهم، فهو السر والجهر عنده سواء: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الملك:13].

سبحان الله! يعني: من عظمة الله أن السر والجهر عنده سواء: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:14]، وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:13-14]؛ فالله السر والجهر عنده سواء: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]: يعلم السر وأخفى من السر -وهو ما يُحدِّث الإنسان به نفسه- قبل أن يُحدِّث به نفسه، فهو مطلعٌ على كل شيءٍ، لا يخفى عليه شيءٌ من أعمال العباد؛ ولهذا قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235]، إذا علمتم بهذا العلم وأن الله مطلعٌ عليكم ولا تخفى عليه خافية ويعلم ما في أنفسكم؛ فاحذروا أن تُضمِروا في أنفسكم ما لا يرضاه الله .

ثم قال: وَاعْلَمُوا؛ أيضًا أمر الله تعالى بأن يعلموا علمًا آخر: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ يعني: إذا أضمرتم في أنفسكم ما لا يرضاه الله تعالى فاعلموا أن مغفرة الله واسعة؛ فاستغفروا الله تعالى وتوبوا إليه، وهو حليمٌ جل وعلا لا يُعجِّل بالعقوبة وإنما يُؤخِّرها، فهو  ما أحلمه على خلقه، نجد هناك من يتجرأ على حرمات الله وعلى الظلم وعلى البغي وعلى الطغيان، ولكن الله تعالى حليمٌ عليه، الله تعالى حليمٌ بعباده جل وعلا، ومن أسمائه الحليم.

لكن الله تعالى الحليم أيضًا هو شديد العقاب؛ ولذلك قال سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98]؛ فالله تعالى غفورٌ رحيم وغفورٌ حليم على من تاب إليه وأناب وأقبَل، لكن على من تمادى في طغيانه وفي ظلمه في تجبُّره فإن الله تعالى شديد العقاب جل وعلا. هذه أبرز معاني هذه الآية الكريمة.

أبرز الفوائد والأحكام من الآية

 وننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام:

أولًا: دلَّت هذه الآية على جواز التعريض في خِطبة المتوفى عنها زوجها؛ لقول الله تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [البقرة:235]، وذلك بأن يأتي بلفظٍ غير صريح يُفهم منه رغبته في نكاح هذه المرأة؛ كأن يقول: إني في مثلك لراغب، أو يقول: إنني بخيرٍ وأموري طيبة وحسنة، أو يقول: إذا انتهت عدتك فأخبريني، ونحو ذلك من العبارات. هذا كله جائز بنص الآية الكريمة.

من الفوائد: تحريم التصريح بخِطبة المعتدة من وفاة؛ لقول الله : فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ، فيُفهم من نفي الجَناح عن التعريض بخِطبة المعتدة أنه يلحق الجَناح -وهو الإثم والحرج- بمن صرح بخِطبة المعتدة، ويُؤيده قول الله تعالى: وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة:235]، وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا هذا يؤكد هذا المعنى وأنه لا يجوز التصريح بخِطبة المعتدة.

أقسام خطبة المعتدة بين التحريم والإباحة

ويمكن تقسيم خِطبة المعتدة إلى ثلاثة أقسام:

  • قسم يحرم فيه تصريحًا وتعريضًا.
  • وقسم يجوز تصريحًا وتعريضًا.
  • وقسم يُباح تعريضًا لا تصريحًا.

أما الذي يحرم تصريحًا وتعريضًا فهذا في حق الرجعية لغير زوجها، فتحرم خِطبتها تصريحًا وتعريضًا؛ لأن الرجعية في حكم الزوجة.

الرجعية: هي التي طلقها زوجها طلقة واحدة أو طلقتين ولا تزال في العدة، هذه تحرم خِطبتها تصريحًا وتعريضًا؛ لأنها لا زالت زوجة وفي حكم الزوجة؛ ولذلك لو توفي مُطلِّقها أو توفيت هي حصل التوارث بينهما، بل قال أهل العلم: يُستحب أن تستشرف لزوجها وتتزين له لعله يُراجعها. فالرجعية تحرم خِطبتها تعريضًا وتصريحًا، هذا هو القسم الأول.

القسم الثاني: من يحل خِطبتها تعريضًا وتصريحًا في العدة، وهي البائن من زوجها بينونة صغرى، فهذه تُباح خِطبتها ممن بانت منه فقط دون غيره تصريحًا وتعريضًا كالمختلعة. امرأةٌ خلعها زوجها، طلبت الخلع فخلعها زوجها ولا تزال في العدة، يُباح لزوجها الذي اختلعها أن يخطبها ما دامت في العدة تصريحًا وتعريضًا -يعني- لما كانت في العدة، طبعًا وبعد العدة من بابٍ أولى، لكن الكلام الآن عن الخِطبة في العدة فيُباح لمطلِّقها أو لمُختلعها أن يخطبها في العدة تصريحًا وتعريضًا.

وهكذا أيضًا المطلقة على عِوَض، وهكذا أيضًا التي فُسِخ نكاحها؛ فهذه ما دامت في العدة، يعني بعبارة عامة: البائنة بينونة صغرى يُباح لمن أبانها أن يخطبها في العدة تصريحًا وتعريضًا.

القسم الثالث: هي التي يُباح خطبتها تعريضًا لا تصريحًا، وهي المذكورة في هذه الآية: المتوفَّى عنها زوجها، فيُباح خطبتها تعريضًا لا تصريحًا؛ لهذه الآية: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [البقرة:235].

طيب، ماذا عن البائنة بينونة كبرى المطلقة ثلاثًا؟ المطلقة ثلاثًا ما دامت في العدة هل تُباح خطبتها تعريضًا لا تصريحا كالمتوفَّى عنها زوجها؟

الجواب: نعم، البائنة بينونة كبرى المطلقة ثلاثًا تُباح خطبتها في العدة تعريضًا لا تصريحًا، ويدل لذلك قول النبي لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها: إذا حللتِ فآذِنيني[2].

فاطمة بنت قيس رضي الله عنها طلَّقها زوجها ثلاث تطليقات، ثم وهي في العدة خطبها معاوية وأبو جهم رضي الله عنهما، فذهبت تستشير النبي قالت: يا رسول الله، خطبني معاوية وأبو جهم.

طبعًا، هذه الخطبة بعد العدة، لما طلَّقها زوجها البتَّة قال لها النبي : إذا حللتِ فآذِنيني، يعني: لا تتزوجي حتى ترجعي لي.

فبعدما انتهت من العدة خطبها أبو الجهم ومعاوية رضي الله عنهما، فذهبت للنبي عليه الصلاة والسلام وأخبرته بناءً على توجيهه بأنها إذا انتهت عدتها تأتي إليه، قالت: انتهيتُ من العدة وخطبني أبو الجهم ومعاوية رضي الله عنهما. فقال النبي : أما معاوية فصعلوكٌ لا مال له[3]؛ فقير. وهذا يدل على أن المال في الخاطب أيضًا معتبر.

وأما أبو الجهم، فلا يضع العصا عن عاتقه[4]، ما معنى لا يضع العصا عن عاتقه يا شيخ محمد؟

المقدم: أحد معنيين: إما يضرب النساء، أو كثير السفر.

الشيخ: أحسنت. نعم، أحد هذين المعنيين؛ قيل: إنه كثيرُ الضرب للنساء، وقيل: إنه كثيرُ الأسفار، وكلاهما عيبٌ في الخاطب.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: ولكن انكحي أُسامة[5]؛ أسامة بن زيد . فأشار عليها عليه الصلاة والسلام بأن تقبل الزواج بأسامة، أسامة كانت بشرته سمراء، كان أسود، وفاطمة رضي الله عنها بيضاء فكرهته، كيف تقبل الزواج برجل أسمر وهي بيضاء؟! لكن رأت أن الذي أشار بهذه المشورة هو رسول الله ، ولا يمكن أن يشير إلا بما هو رشد وما هو خير، فقبلت الزواج بأُسامة لأجل مشورة النبي عليه الصلاة والسلام، فاغتبطت به، يعني سعدت بهذا الزواج وهنأت به، واغتبطت به ببركة مشورة النبي عليه الصلاة والسلام[6].

الشاهد من هذه القصة: أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها لما طلَّقها زوجها ثلاثًا النبي عليه الصلاة والسلام -يعني- خطبها تعريضًا لأسامة ، يعني كأنه يريد أن يخطبها، قال: إذا حللتِ فآذِنيني[7]، فدلَّ ذلك على أنه يجوز خطبة المطلقة البائنة بينونة كبرى في عدتها تعريضًا لا تصريحًا.

على هذا؛ البائنة بينونة كبرى ما دامت في العدة هي مثل المتوفَّى عنها زوجها، ما دامت في العدة تُباح خطبتها في العدة تعريضًا لا تصريحًا.

حكم إضمار خِطبة المعتدة في النفس

أيضًا من فوائد هذه الآية: جواز إضمار الإنسان في نفسه خطبة امرأة، لكن ما دامت في العدة فلا يجوز له التصريح بذلك، لكن في نفسه معفوٌّ عن هذا؛ لقول الله تعالى: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة:235]، والنبي يقول: إن الله عفا لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم[8].

أيضًا من الفوائد: أنه لا يجوز المواعدة للمعتدَّة من الوفاة أو من الطلاق وهي في العدة، لا يجوز ذلك لا سرًّا ولا علانية؛ لقول الله تعالى: وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا، إنما يجوز فقط التعريض، وأما المواعدة فلا تجوز.

أيضًا: جواز ذكر الإنسانِ المعتدةَ في نفسه ولغيره؛ لقول الله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ [البقرة:235]، يعني لأنفسكم ولغيركم.

أيضًا من الفوائد: أن التعريض بخطبة المتوفَّى عنها زوجها والبائن بينونة كبرى: من القول المعروف وليس منكرًا؛ لقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة:235].

هل العقد أثناء العدة يجعل المرأة محرمة مؤبدًا؟

أيضًا من الفوائد: تحريم عقد النكاح أثناء العدة إلا من زوجها؛ لقول الله : وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، وهذا بالإجماع، يحرم عقد النكاح في أثناء العدة بإجماع العلماء، لكن مع إجماع العلماء على تحريم عقد النكاح والمرأة في العدة، إلا أنهم اختلفوا: هل تحرم هذه المرأة عليه إذا عقد عليها في العدة تحريمًا مؤبَّدًا أو تحريمًا مؤقَّتًا؟

قولان للجمهور:

  • الجمهور على أنها لا تحرم عليه تحريمًا مؤبَّدًا، لكن يعني يُحرَّم عليه عقد النكاح ما دامت العدة، فإذا انتهت العدة يُجدَّد عقد النكاح مرة أخرى مع التوبة إلى الله . هذا هو قول الجمهور.
  • والقول الثاني: إنها تحرم عليه تحريمًا مؤبَّدًا -وهذا هو مذهب المالكية- معاقبةً له بنقيض قصده؛ لأن القاعدة الفقهية "أن من استعجل شيئًا قبل أوانه عُوقب بحرمانه"، فهذا الرجل استعجل وعقد على هذه المرأة وهي في العدة، فيُعاقب بحرمانه من نكاحها أبدًا تحريمًا مؤبَّدًا. هذا هو قول المالكية، وليس عليه دليل ظاهر.

الأقرب -والله أعلم- هو قول الجمهور؛ لأن الأصل في نكاح المرأة الأجنبية الإباحة. وأما كونه قد أساء وأخطأ وعقد على هذه المرأة في عدتها، فنقول: هذا النكاح باطل، وهو آثمٌ بذلك، لكن يكفيه التوبة والاستغفار، يكفي هذا. أما أننا نرتِّب عقوبة أخرى زائدة على ذلك -وهي التحريم المؤبد- فهذا يحتاج إلى دليل، وليس هناك دليلٌ ظاهر يدل لهذا.

وعلى هذا؛ فالقول الراجح هو قول الجمهور في أن من عقد على امرأةٍ وهي في العدة فإن هذا النكاح باطل وأنه آثمٌ، ويجب عليه التوبة من ذلك. لكن إذا انقضت عدتها يجوز له أن يتقدم لخطبتها وأن يعقد عليها.

أيضًا من الفوائد ولعلنا نختم بها: بيان إحاطة الله بكل شيءٍ؛ لقول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235]، فالله تعالى عِلْمه محيطٌ بكل شيءٍ؛ ولهذا نجد أنه تكرَّر في القرآن: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265]، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات:18].

الله تعالى لا يخفى عليه شيءٌ من أعمال العباد، لكنه سبحانه غفورٌ حليم، ولطيفٌ بعباده، ورحمنٌ رحيم، ورحمته وسعت كل شيءٍ، وقد يؤخِّر الله تعالى العقوبة للظالم وللباغي في الآخرة، كما قال الله سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، فهذا العلم من أجلِّ العلوم، أن يعلم الإنسان عظمة الله وأسماءه وصفاته جل وعلا؛ ولهذا قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ثم قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ، [البقرة:235]، وهو واسع المغفرة، غفورٌ غفار، وهو حليمٌ جل وعلا ورحيم ولطيفٌ ورفيقٌ بعباده جل وعلا.

وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.

المقدم: أحسن الله إليكم يا فضيلة الشيخ، لعلنا نكمل في بقية الوقت تفسير الآيات التي تليها.

تفسير قوله: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ..

قال الله : لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:236]، نستأذنكم يا فضيلة الشيخ في سماع تلاوة الآيات ثم نعود.

الشيخ: هذه الآية والتي بعدها؟

المقدم: نعم بإذن الله.

القارئ:

بسم الله الرحمن الرحيم

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ۝ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:236-237].

المقدم: تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآيات.

الشيخ: ننتقل بعد ذلك للآيتين: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236]، ثم قال: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237].

أبرز معاني الكلمات في الآيتين

أولًا نبدأ بأبرز معاني الكلمات في هاتين الآيتين:

قوله سبحانه: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ: كما قلنا في الآية السابقة يعني: لا إثم ولا حرج.

إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ: أباح الله تعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول.

مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، والمقصود بالمس هنا: الجماع، لكن الله يُعبِّر عما يُستحيا من ذكره صريحًا بما يدل عليه، وهذا هو المطلوب من الإنسان أنه لا يُصرِّح بمثل هذه الألفاظ، وإنما يأتي بكلمة يُفهم منها المراد من غير تصريح بتلك الكلمات التي يُستحيا من التصريح بها، فعبر الله تعالى عن الجماع بـ"المسيس"، قال: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، أباح الله تعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول وإن كان في هذا انكسارٌ لقلبها؛ فإن الطلاق -مهما كان- يكون مؤلمًا للمرأة وفيه كسرٌ لخاطرها ولقلبها.

حكم المتعة للمطلقة

ولذلك لما أَذِن الله في طلاق هذه المرأة، أمر بالإمتاع، أمر وقال: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، فقوله: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، المقصود بالفريضة هنا: المهر، يعني المرأة التي لم يُسمَّ لها مهر، عَقَدَ الرجل على امرأة ولم يُسمِّ لها مهرًا ولم يدخل بها؛ فهذه لا بأس أن يُطلقها لكن: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236].

فأمر الله تعالى بإمتاع هذه المرأة المطلقة، وفي الآية الأخرى -لعلها تأتي في الحلقة القادمة إن شاء الله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:241]- فقال الله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، فاختلف العلماء في حكم الإمتاع؛ حكم المتعة للمرأة.

والمتعة: هي شيءٌ يُعطيه الرجل امرأته بعد طلاقها؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: متعة الطلاق أعلاها الخادم، ودون ذلك الكسوة. والصحيح أن متعة الطلاق لا تُحدَّد بشيءٍ معينٍ؛ لعدم ورود الدليل، إنما هي مالٌ يدفعه الرجل المطلِّق لهذه المرأة جبرًا لخاطرها ولانكسار قلبها بهذا الطلاق.

فما حكم هذا الإمتاع وهذه المتعة للمطلقة؟ هل تجب لكل مطلقة؟ أو أنها تُستحب؟ أو تجب لمطلقة دون مطلقة؟

هذا فيه خلاف كثير بين أهل العلم، والأقرب- والله أعلم- إذا نظرنا لظاهر هاتين الآيتين: أن المتعة تجب لغير المدخول بها إذا لم يُسمَّ لها المهر؛ لهذه الآية؛ لأن الله قال: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ [البقرة:236]، فالله تعالى لما أباح الطلاق لغير المدخول بها التي لم يُسمَّ لها المهر أمر بإمتاعها: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، ثم أكَّد ذلك بقوله: مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236].

ثم في الآية التي بعدها قال: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:237]، هنا لم يذكر المتعة، وإنما قال ماذا؟ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، ففي الآية الثانية لم يذكر متعة، وإنما ذكر فقط نصف المهر، بينما في هذه الآية أمر بالإمتاع. وهذا يؤكد أن القول الراجح -والله أعلم- أن المتعة تجب للمطلقة غير المدخول بها التي لم يُسمَّ لها مهر، وأما غيرها فإنها ستنال شيئًا من الزوج، التي قد فُرض لها المهر سيكون لها نصف المهر.

كذلك أيضًا المدخول بها؛ المهر أصلًا مستقرٌّ لها، ولا يجوز أصلًا للزوج أن يسترد مهرها إلا عن طريق الخلع. هذه مسألة أخرى، ولا بد في الخُلع من التراضي.

لكن الكلام إذا طلق الرجل المرأة، إذا طلَّق الرجل المرأة: إذا كانت مدخولًا بها فهي أصلًا استقرَّ المهر لها، وإذا كانت غير مدخول بها وقد فُرِض لها المهر فسيكون لها أصلًا نصف المهر.

لكن تبقى حالة المرأة المسكينة غير المدخول بها ولم يُسمَّ لها مهر؛ فهذه لا بد من إمتاعها؛ لأنها لن يكون لها شيءٌ أصلًا وقلبها سينكسر بهذا الطلاق؛ فلذلك أمر الله بإمتاعها، فيكون إمتاعها واجبًا؛ ولهذا ذكر الله تعالى أمره بالإمتاع في هذه الآية فقط، ولم يذكره في الآية الأخرى، إلا في قوله في آخر آية الطلاق في "البقرة": وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، يعني يُستحب أصلًا الإمتاع لكل مطلقة، هذا مستحبٌّ. لكن الوجوب الذي يظهر -والله أعلم- أنه يختصُّ بالمطلقة المذكورة في هذه الآية، أي التي لم يُدخل بها ولم يُسمَّ لها المهر فيكون إمتاعها واجبًا.

وهذا الإمتاع مما يؤكد أنه واجب: أن الله تعالى فصَّل فيه؛ قال: وَمَتِّعُوهُنَّ، ثم قال: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236]، فذكر الله تعالى هذا التفصيل، وهذا لا يكون إلا في الأمر الواجب، ثم قال: مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ، ثم أكد ذلك فقال: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236]، وهذا يؤكد وجوبه. ثم أيضًا هذه المرأة لن تأخذ من الزوج شيئًا، بخلاف التي قد فُرض لها المهر ستأخذ نصف المهر، وبخلاف المدخول بها فقد استقر لها، ففي هذا الإمتاع جبرٌ لقلبها وتطييبٌ لخاطرها.

فالقول الراجح إذًا في المتعة: إنها تجب لغير المدخول بها التي لم يُسمَّ لها المهر.

متعة المطلقة على حسب استطاعة المطلق

المقدم: شيخنا، الآية الأُخرى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241] أم المحسنين؟

الشيخ: الْمُتَّقِينَ [البقرة:241] نعم، وفي هذه الآية: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236]، فذكر الله تعالى هذا التنويع: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236]، ثم ذكر الله بعد ذلك توجيهًا عامًّا بالإمتاع لكل مطلقة، فقال سبحانه: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، يعني وصف الله تعالى من يفعل ذلك بأنه مُتَّقٍ ومحسن. وهذا يؤكد إمتاع المرأة المطلقة مطلقًا، حتى المدخول بها -يعني- ينبغي أيضًا أن يُعطيها الزوج شيئًا من المال تطييبًا لخاطرها، سواءٌ كانت مدخولًا بها أو غير مدخول بها، مفروضٌ لها الصداق أو غير مفروض لها صداق، لكن إذا كانت غير مدخول بها ولم يُسمَّ لها المهر فهذه يجب إمتاعها؛ لهذه الآية.

طيب، إذًا نقول: قلنا إن إمتاع هذه المرأة -يعني المطلقة- واجب، ثم قال الله مفصِّلًا لذلك: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236]، وفي قراءة سبعية: {قَدْرُه}، وكلاهما قراءتان صحيحتان.

الْمُوسِعِ: هو الغني، فيُعطيها مالًا أكثر من الفقير. والْمُقْتِرِ: هو الفقير الذي ليس عنده شيءٌ. فالله تعالى أمر بإمتاع هذه المطلقة بأن يُعطيها الغني متاعًا مناسبًا لغناه، وأما الفقير فيُعطيها متاعًا مناسبًا لفقره، فهو بحسب حال الزوج يسارًا أو إقتارًا.

متاع المطلقة بما يقتضيه العُرف

ثم قال الله تعالى: مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:236] أي: بما يقتضيه العُرف، يعني ليس المطلوب من هذا الزوج أيضًا أن يُعطيها مالًا كثيرًا خارجًا عن المألوف وعن المعروف، وإنما يكون بالمعروف، وأيضًا لا يُعطيها مالًا زهيدًا خارجًا عن المألوف والمعروف، وإنما يكون بالمعروف.

ثم أكد الله تعالى ذلك بقوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236]، وهذا يؤكد أن هذه المتعة واجبة.

ووصف الله تعالى من يفعل ذلك بأنه "محسن"، وتكرر في القرآن الكريم في خمسة مواضع قوله ​​​​​​​: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ: إما وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، أو إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].. في خمسة مواضع. وهذا يدل على عظيم شأن الإحسان، وأن من اتصف بهذا الوصف فإن الله تعالى يحبه، والله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل:90]؛ فعلى المسلم أن يحرص على أن يكون محسنًا في تعامله مع الآخرين، خاصة مع هذه المرأة المسكينة الضعيفة التي قد كُسر قلبها بطلاقها.

مهر المطلقة غير المدخول بها

ثم قال سبحانه في الآية الأُخرى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237]، كما ذكرنا المقصود بالمسيس هنا: الجماع.

وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً: يعني: سميتم لهن المهر، قلتم مثلًا: مهرها أربعون ألفًا مثلًا.

فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ يعني: يكون لهذه المرأة المطلقة غير المدخول بها نصف المهر؛ لأنه قد فُرض وسُمِّي لها المهر، بخلاف المرأة في الآية السابقة لم يُسمَّ لها المهر، وهذا هو الفرق بين المرأة في الآية الأولى والمرأة في الآية الثانية؛ المرأة في الآية الأولى لم يُسمَّ لها المهر؛ عَقَد رجلٌ على امرأة ولكن لم يُسمِّ لها المهر، فهذه الواجب إمتاعها بما تيسر، بما تَجُود به نفس الزوج، لكن ينبغي أن يكون إمتاع الغني مناسبًا لغناه، والفقير مناسبًا لفقره. المرأة غير المدخول بها لكن فُرض لها المهر، سُمِّي لها المهر؛ يكون لها نصف المهر، معنى ذلك: تأخذ هي نصف المهر، وتُرجِع للزوج نصف المهر المتبقي.

إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يعني: إلا أن يعفو هؤلاء النسوة المطلَّقات، أن تعفو هذه المرأة عن نصيبها، وترد المهر كاملًا للزوج فلا بأس.

من المقصود في قوله: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ؟

أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]: أو يعفو مَن؟ مَن الذي بيده عقدة النكاح، هل هو الولي أم الزوج؟

قولان للعلماء:

  • مِن العلماء مَن قال: إنه الولي. وهذا قال به ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من أهل العلم، وهو قولٌ له وجاهته.
  • القول الثاني: إن المقصود به الزوج، وهذا هو ظاهر الآية؛ لأن الذي بيده عقدة النكاح إن شاء أبقى النكاح وإن شاء حلَّه بالطلاق، هو الزوج وليس الولي، هو الذي بيده عقد النكاح، هو الذي يعقد النكاح وهو الذي يحل النكاح بالطلاق، فعُقدة النكاح الذي يحلُّها هو الزوج وليس الولي.

ثم أيضًا الولي ليس له أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه، وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الولي لا يملك شيئًا من مال مولِّيته، والمهر مالها، فكيف يُقال: إن الولي هو الذي يعفو؟ يعفو مِن مالٍ ليس له؟! من مال موليته وهذا لا يحل له. وهذا يؤكد أن المقصود بـالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ أنه هو الزوج وليس الولي.

 فالقول الراجح هو قول جماهير الفقهاء وجماهير المفسرين أيضًا: أن المقصود بـالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ: هو الزوج وليس الولي. هذا قول أكثر أهل العلم، وهو ظاهر الآية الكريمة.

ثم قال سبحانه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، قوله : وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، يعني: هذا ترغيبٌ في العفو، وأن الذي يعفو عفوه أقرب للتقوى. وخُوطِب بهذا الرجال أو النساء؟ نقول: الرجال والنساء جميعًا؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: أقربهم من التقوى الذي يعفو من رجلٍ أو امرأة.

ثم قال سبحانه: وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]: الفضل: المقصود به الإحسان، يعني: لا تنسوا الإحسان، خاصة بين الرجل والمرأة وقد أفضى إليها وأفضت، فينبغي ألا ينسى الإنسان الإحسان؛ الإحسان من الرجل للمرأة ومن المرأة للرجل؛ فالله تعالى يُوصي بالإحسان، الإحسان في كل شيءٍ، لكنه في هذا الأمر متأكد.

ثم ختم الله تعالى الآية بقوله ​​​​​​​: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237] مُطَّلعٌ على أعمالكم. لاحِظ سبحان الله! هذه المعاني يُكرِّرها الله تعالى في كثيرٍ من الآيات: وهي أن يستحضر العباد أن الله مُطَّلعٌ على أعمالهم، لا يخفى عليه شيءٌ؛ في الآية السابقة قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235]، وفي هذه الآية قال: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237]، وأيضًا في آياتٍ أخرى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن:8]، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11]، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات:18]. هذه المعاني نجد أنها كثيرةٌ في القرآن؛ لترسيخ هذا المعنى لدى المسلم: وهو أن يستحضر أن الله تعالى بصيرٌ بعمله مُطَّلعٌ عليه جل وعلا.

أبرز الفوائد والأحكام من الآيتين

ننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام من هاتين الآيتين:

أولًا: جواز طلاقِ الرجلِ امرأتَه من قبل أن يمسَّها، يعني: بعد العقد، فيجوز للرجل أن يُطلِّق امرأته بعد العقد وقبل الدخول؛ لقوله سبحانه: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:236].

وقوله: لَا جُنَاحَ يُشعر بأن الأوْلى عدم الطلاق؛ لأن طلاقه إياها قبل أن يمسَّها وقد خطبها وقدَّم إليها الصداق هذا فيه شيءٌ على المرأة وغضاضةٌ وكسرٌ لخاطر هذه المرأة وإيلامٌ لها؛ فينبغي ألا يفعل ذلك الإنسان إلا عند وجود الحاجة المُلحَّة أو المصلحة الراجحة.

أيضًا من الفوائد: أنه يجوز للإنسان أن يتزوج المرأة بدون تسمية مهر، وحينئذٍ يكون لها مهر المثل، يعني: يقول الولي: "زوَّجتُك"، يقول الزوج: "قبلت"، لكن لا يُسميان مهرًا، فيكون لها مهر المثل.

لكن لا يجوز أن يتزوج امرأة ويشترط أن لا مهر لها، لا يجوز. وهل الشرط باطل أو النكاح باطل؟ قولان للعلماء:

  • مِن أهل العلم من يقول: النكاح باطل أصلًا.
  • ومنهم من يقول: إن هذا الشرط باطل، وإنه يثبت لها مهر المثل.

المرأة لا بد لها من مهر؛ لقول الله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ [النساء:24]، فلا بد أن يكون لها مهرٌ ولو قليلٌ. لكن أن يشترط أن لا مهر لها؛ فهذا الشرط شرط باطل، بل بعض أهل العلم يرى أنه يُبطل النكاح.

أيضًا من فوائد هذه الآية: وجوب المتعة على مَن طلق امرأته قبل الدخول ولم يُسمِّ لها مهرًا، وأشرنا لهذا قبل قليل وقلنا: إن القول الراجح في متعة المرأة أنها تجب للمرأة المطلقة غير المدخول بها التي لم يُسمَّ لها المهر، وأنها تُستحب لسائر المطلقات؛ لقول الله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241].

وإنما قلنا بذلك؛ لأن المطلقة غير المدخول بها التي لم يُسمَّ لها مهر هي التي لا تأخذ شيئًا من الرجل، بينما المطلقة المدخول بها استقر لها المهر، والمطلقة غير المدخول بها التي فُرض لها المهر يكون لها نصف المهر، فيكون إمتاع تلك المطلقة مستحبًّا، أما هذه المرأة فيكون واجبًا؛ ولهذا أكد الله الأمر بإمتاع هذه المرأة، قال: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ يعني: على الغني قدره وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ثم أكَّد ذلك بقوله مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236].

لكن إذا خلا الرجل بالمرأة ولم يمسَّها ثم طلقها، فهل لها نصف المهر أو لها المتعة فقط؟

محل خلاف بين العلماء، والقول الراجح أن لها المتعة فقط، وأنها لا تأخذ حكم المدخول بها، وسيأتي الكلام عن هذا مفصلًا إن شاء الله.

أيضًا من الفوائد: أن العبرة في قدر المتعة للمطلقة بحال الزوج؛ لقوله ​​​​​​​: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236]، وليس بحال الزوجة، وإنما بحال الزوج.

وأيضًا من الفوائد: أن للعُرف اعتبارًا شرعيًّا؛ لقوله: مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:236]، وهذا يدل على اعتبار العُرف.

وأيضًا من الفوائد -من فوائد الآية الثانية-: أن الرجل إذا طلق امرأته قبل المسيس وقد فَرَض لها صداقًا فإن لها نصف المهر؛ لقوله سبحانه: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237].

وإذا خلا بها ولم يَمَسَّها فهل تُلحَق بالمطلقة في هذه الآية؟ أو المطلقة في الآية السابقة؟ يعني: هل يثبت لها نصف المهر؟ أو ليس لها إلا المتعة؟

قولان لأهل العلم، والقول الراجح أنه ليس لها إلا المتعة، وأنه لا يثبت لها نصف مهر، وأيضًا ليس عليها عدة؛ فإن الله تعالى قال في سورة "الأحزاب": يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، والمسيس هو الجماع؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسُّها، ثم يُطلقها؟ قال: "ليس لها إلا نصف الصداق"، قال الشافعي: "وهذا أقوى".

القول الثاني: إن المرأة إذا خلا بها الزوج وأغلق الباب وأرخى الحجاب؛ فحكمها حكم المدخول بها، وقالوا: لآثارٍ رُويت عن الخلفاء الراشدين ، لكن هذه الآثار لا تثبت من حيث الصناعة الحديثية، أثر زُرَارة بن أوفى: أن الخلفاء الراشدين قالوا: "إذا أُغلق الباب وأُرخي الحجاب يكون حكمها حكم المدخول بها؛ فعليها العدة"، هذا لا يثبت، فالآثار لا تثبت، وظاهر الآية لا تثبت العدة إلا بالمسيس: وهو الوطء. وكذلك أيضًا فيما يتعلق باستقرار المهر.

وعلى هذا نقول: إذا خلا بها ولم يطأها فلا يخلو: إما يكون قد سمى لها صداقًا، أو لم يُسمِّ. إن كان قد سمى لها صداقًا فلها نصف مهر، وإن كان لم يُسمِّ لها صداقًا فلها المتعة. لكنها لا تأخذ حكم المدخول بها على القول الراجح.

أيضًا من الفوائد: أن تعيين وتحديد المهر إلى الزوج وليس إلى الزوجة؛ لقوله ​​​​​​​: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة:237].

أيضًا من الفوائد: أن المرأة يجوز لها أن تُسقط ما وجب لها من المهر من الزوج كله أو بعضه؛ لقوله: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ [البقرة:237]، بشرط أن تكون هذه المرأة حرةً عاقلةً بالغةً رشيدة.

وأيضًا من الفوائد: أن المرأة يجوز لها أن تتصرف في مالها ولو على سبيل التبرع من غير إذن وليِّها؛ لقوله: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ.

وأيضًا من الفوائد: أن الزوج يجوز له أن يعفو عما تبقى له من المهر إذا طلق قبل الدخول؛ لقوله: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]. لكن قد يرد إشكال: كيف يُسمى هذا عفوًا؟ يعني نقول للزوج: لا يجب عليك إلا نصف المهر، فكيف يُقال إن هذا عفوٌ؟

نقول: الجواب عن هذا: أنه جرت عادة أكثر الناس أنهم يُقدِّمون المهر كاملًا، فمعنى ذلك: أنه لا يسترد نصف المهر، وإنما يعفو عنه، هذا هو المقصود.

أيضًا من الفوائد: أن النكاح عقدٌ من العقود؛ لقوله ​​​​​​​: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]، فهو عقدٌ كسائر العقود، وعلى ذلك يجوز التوكيل في عقد النكاح، يجوز للوليِّ أن يُوكِّل في عقد النكاح لمولِّيته، ويجوز للزوج أن يُوكِّل في قبول النكاح، هو عقدٌ من العقود.

أيضًا من الفوائد: الترغيب في العفو؛ لقوله ​​​​​​​: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، ولكن هنا لم يقل العفو من صفات المتقين، بل قال: أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، فالعفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسُّك بالحق لا يُنافي التقوى، لكنه يُؤذِن بتصلُّب صاحبه وشدته، والعفوُ يُؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد، يعني لو أن أحدًا تمسَّك بحقه -الزوج أو الزوجة- هذا لا يُنافي صفات التقوى، لكن كونه يسمح هذا أقرب للتقوى من كونه يتمسَّك بحقه، لكن لو تمسَّك بحقه لا ملامة عليه، ولا يقال: إن هذا يُنافي التقوى، لكن كونه يسمح هذا أقرب إلى التقوى من كونه لا يسمح.

أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي للإنسان ألا ينسى الفضل مع من يعامله خاصة الزوجة؛ لقوله ​​​​​​​: وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]. كذلك أيضًا مع من يتعامل معه من إخوانه وأصحابه: وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ؛ يعني: الزوجان ينبغي ألا ينسيا الفضل لكل واحد منهما على الآخر، ومن ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف، والرجل بإكمال المهر، وهو إرشادٌ لترك التقصِّي والمسامحة.

وكذلك أيضًا يُقال بعموم هذه الآية في جميع التعاملات، يعني صاحب لك، صديق لك، أخ لك، نقول: لا تنسوا الفضل بينكم، يعني السماحة مطلوبة في التعامل: رحم الله امرأً سَمْحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى[9].

فالمطلوب من المسلم أن يكون هينًا لينًا سَمْحًا، لا يتقصَّى في أخذ حقه ويكون صلبًا شديدًا، فهذا هو معنى الآية: وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ يعني: الإحسان بَيْنَكُمْ.

وأيضًا نختم بهذه الفائدة: إحاطة علم الله وبصره بكل ما يعمله العباد؛ لقوله ​​​​​​​: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237].

وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن أبرز الفوائد والأحكام في هاتين الآيتين الكريمتين.

المقدم: شكر الله لكم فضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.

الشيخ: وشكر لكم وللإخوة المشاهدين.

المقدم: في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طِيب المتابعة، ونلقاكم بإذن الله في حلقة قادمة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه الترمذي: 3407، والنسائي: 1304، وأحمد: 17114.
^2, ^3, ^4, ^5, ^7 رواه مسلم: 1480.
^6 رواه مسلم: 180.
^8 رواه البخاري: 5269، ومسلم: 127.
^9 رواه البخاري: 2076.
مواد ذات صلة
zh