عناصر المادة
- تفسير قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ..
- تفسير قوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ..
- تفسير قوله تعالى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ..
- تفسير قوله تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ..
- تفسير قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ..
- تفسير قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ..
- الفوائد والأحكام من الآيات
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9].
على جميع المكلفين أن يتعلموا دينهم، وأن يتفقهوا في دينهم، كل واحد من الرجال والنساء عليه أن يتفقه في دينه، عليه أن يتعلم ما لا يسعه جهله، هذا واجب؛ لأنك مخلوق لعبادة الله، ولا طريق إلى معرفة العبادة، ولا سبيل إليها إلا بالله، ثم بالتعلم والتفقه في الدين، فالواجب على المكلفين جميعًا أن يتفقهوا في الدين، وأن يتعلموا ما لا يسعهم جهله، كيف يصلون؟ كيف يصومون؟ كيف يزكون؟ كيف يحجون؟ كيف يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ كيف يعلمون أولادهم؟ كيف يتعاونون مع أهليهم؟ كيف يدعون ما حرم الله عليهم؟ يتعلمون، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين [1].
المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أيها المشاهدون الكرام في حلقة جديدة من برنامجكم البناء العلمي، نسعد وإياكم باستكمال درسنا في “تفسير آيات الأحكام” مع فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن تركي الخثلان رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، وأستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام، باسمي وباسمكم جميعًا أيها المشاهدون نرحب بفضيلة الشيخ، مرحبًا بكم فضيلة الشيخ.
الشيخ: أهلًا، وحياكم الله، وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المشاهدين.
المقدم: بارك الله فيكم، كنا وقد صلنا يا فضيلة الشيخ إلى قول الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، تحدث الله في هذه الآية إلى قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:227] عن أحكام الحيض والإيلاء، نستأذنكم فضيلة الشيخ في سماع تلاوة لهذه الآيات، ثم نعود بإذن الله لاستكمال الشرح والتعليق.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:222-227].
المقدم: مرحبًا بكم من جديد، تفضل يا شيخنا بشرح الآيات.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
تفسير قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ..
فهذه الآية قول الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، قوله: وَيَسْأَلُونَكَ يدل على أن سؤالًا أتى للنبي ؛ وذلك أن اليهود كانوا إذا حاضت عندهم المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها، وعزلوها في مكان.
فسأل بعض الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام عن فعل اليهود هذا، هل هو صحيح أو ليس بصحيح أو ماذا؟ وكيف يكون التعامل مع المرأة الحائض؟
فأنزل الله هذه الآية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ وهذا يدل على أن الحديث عن أحكام الحيض ونحوها أنه لا بأس بها، ولا يستحيا منها، أنها من شرع الله، ومن دين الله، الله في القرآن الكريم تكلم عن أحكام الحيض: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222] ثم ذكر أحكام الحيض.
ولهذا نجد أن هناك من الناس من يعيب على بعض المشايخ وبعض الفقهاء الذين يتكلمون عن أحكام الحيض، والأحكام التفصيلية له، وهذا الذي يعيب هو المعيب حقيقة، فهم يتكلمون عن شرع الله، كل من تكلم عن مسألة من مسائل الشرع فلا يعاب عليه، ويقول مثلًا: كيف تتكلم عن أحكام الحيض والنفاس، وترى مآسي المسلمين وكذا؟
طيب أحكام الحيض والنفاس هي من شرع الله ، هل معنى ذلك الناس يعطلون الكلام عن دين الله، وعن شرع الله، ويحصرون الكلام عن جانب معين، هذا غير صحيح، طريقة التفكير بهذه الطريقة غير سوية وغير صحيحة.
بل بعضهم ذهب إلى ما هو أسوأ من هذا، يلمز الفقهاء الذي يتكلمون عن أحكام الحيض والنفاس، فيقول: هؤلاء فقهاء الحيض والنفاس، وهذا يعني كلام معيب، وكلام غير لائق، هم يتكلمون بما تكلم الله به، وما تكلم به رسوله.
الله تعالى في القرآن قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222] فذكر الله أحكامه، فليس للإنسان أن يعيب الكلام عن هذه الأمور، هذه أمور تحتاج لها شريحة كبيرة من المجتمعات الإسلامية، بل نصف الأمة نساء، يحتجن إلى بيان هذه الأحكام، فلا بد من تبيينها، ولا بد من توضيحها.
فالله تولى بنفسه جل وعلا بيان هذه الأحكام الدقيقة للحيض، فقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222] وقوله: عَنِ الْمَحِيضِ المحيض: مصدر ميمي بمعنى الحيض.
قُلْ هُوَ أَذًى الحيض أذى للمرأة تتأذى به؛ لأنه يكون مؤلمًا لها، لأن الحيض يكون عندما تنفجر البويضة؛ لأن المرأة يخرج منها كل شهر تقريبًا، أو كل أربعة أسابيع بويضة، وهذه البويضة إن لم تلقح فإنها تنفجر، فإذا انفجرت خرج منها دم الحيض، والغالب أنه يستمر مدة سبعة أيام، قد تزيد وقد تنقص، لكن غالب النساء تكون عندهن سبعة أيام.
فهذا الانفجار للبويضة يؤلم المرأة، وأحيانًا يكون الألم شديدًا لدى بعض النساء، الألم يكون ألمًا حسيًّا جسديًّا، ويكون أيضًا ألمًا نفسيًّا، وتضطرب الهرمونات لدى المرأة، وتضطرب نفسيتها، فالمرأة تتأذى من الحيض: ولذلك وصفه الله تعالى بالأذى.
ولهذا لما دخل النبي على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حجة الوداع لما كانت عائشة أحرمت بالعمرة تريد التمتع، فلما وصلوا إلى مكان يقال له: سرف، قريب من مكة، دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام وهي تبكي.
فقال: ما يبكيك، لعلك نفست؟ يعني: حضت، قالت: نعم، فعرف عليه الصلاة والسلام هذا، إما أنه وقت عادة عائشة، أو أن الدورة أتت إليها مبكرة بسبب الإجهاد في السفر، فقال عليه الصلاة والسلام جابرًا لخاطرها: إنّ هذا شيء كتبه الله على بنات آدم والشيء الذي يشترك الناس معه فيه تخف مصيبته عليه إنّ هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت [2]، فهذا قد قدره الله، وكتبه على النساء، وعلى بنات آدم، بل إن المرأة إذا كانت لا تحيض، بل حتى لو كانت دورتها غير منتظمة لا تحمل أصلًا، لا يمكن أن تحمل والحيض منقطع عنها، بل لا يمكن أن تحمل والحيض مضطرب ليس منقطع بل مضطرب.
ولذلك تجد أن المرأة عندما تسعى للحمل تسعى لاستقرار دورتها الشهرية، وعدم اضطرابها، ولو كان الحيض انقطع عنها تذهب وتسعى لاستجلابه، فلا يمكن أن تحمل وتنجب إلا إذا أتتها الدورة الشهرية بصورة منتظمة.
فإذن قول الله تعالى: قُلْ هُوَ أَذًى يعني: هذا تعبير دقيق يصف المرأة عندما يأتيها الحيض، المرأة تتأذى لا تتضرر، وإنما تتأذى، فتأمل دقة التعبير: قُلْ هُوَ أَذًى هو ليس ضررًا على المرأة، هو شيء طبيعي، قدره الله تعالى، بل المرأة لو ما أتاها الحيض لعدت غير طبيعية.
المرأة الآن عندما ينقطع عنها الحيض تذهب للطبيبة تسأل: لماذا لم يأتها الحيض؟ إذن الحيض ليس ضررًا على المرأة؛ ولذلك لم يقل الله: قل هو ضرر، لا، بل مجرد أذى، هو شيء طبيعي بالنسبة للمرأة، لكن المرأة تتأذى به، وتتألم منه، وما يصيبها من الأذى يكفر الله تعالى عنها به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ما يصيب المؤمن من نصب، ولا وصب، ولا هم، حتى الشوكة يشاكها، وحتى الهم يهمه، إلا كفر الله عنه به من سيئاته. [3].
فكيف بهذا الأذى الذي يأتي للمرأة بسبب الحيض، آلام الحيض، والأذى النفسي الذي يأتيها هذا يكون كفارة لها، وهذا مما يعني يجبر خاطر الأخوات النساء، نقول يعني: لا تتبرمي من هذا، هذا شيء قد كتبه الله على بنات آدم، وأنت يُكفّر الله عنكِ من سيئاتك بهذا الأمر، ولله تعالى الحكمة البالغة.
قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ [البقرة:222] أمر الله تعالى باعتزال النساء، وفسّر ذلك بعدم القربان حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222] والسنة دلت على أن المقصود بالاعتزال وعدم القربان، المقصود به ترك الوطء، وأن المرأة الحائض فقط يعتزلها زوجها في الفراش، يعني في الوطء فقط، بل له أن يباشرها.
تقول عائشة رضي الله عنها: “كان النبي إذا كنت حائضًا يأمرني أن أأتزر، ويباشرني وأنا حائض” [4]، فلا بأس بأن يستمتع بها وهي حائض، لكن من غير وطء، فإذن المرأة الحائض يعني زوجها ممنوع فقط من وطئها، وأما المباشرة فليس ممنوعًا منها.
فعلى هذه يفسر قول الله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ بأن المقصود بذلك القربان ليس المقصود به المباشرة، المقصود به الوطء، بدليل تفسير السنة في ذلك، السنة مفسرة للقرآن، وفيه رد على اليهود الذين كانوا إذا حاضت المرأة يعني كأنها مذنبة عزلوها، ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يقربوها.
المقدم: محتقرة.
الشيخ: نعم، يعني يعزلونها في مكان كأنها مجرمة، ويحتقرونها بهذه الطريقة، هذا ليس من شريعة الإسلام، الإسلام المرأة فيه مُكرّمة، فإذا أتتها الدورة الشهرية فقط لا يطؤها زوجها، ولا تصلي لا تصوم، وما عدا ذلك هي كغيرها كالطاهرة تمامًا؛ ولذلك أحيانًا تكون المرأة في البيت لا يعلم أهل البيت أصلًا بأنها أتتها الدورة الشهرية، لا يعلمون بها، فانظر إلى كرامة الشريعة الإسلامية للمرأة، هذا فيه رد على اليهود الذين كانوا يتعاملون مع المرأة الحائض بهذه الطريقة.
وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]؛ يعني: ائتوهن في الفرج، وليس في الدبر مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ثم ختم الآيات بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
تفسير قوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ..
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] هذه الآية أيضًا نزلت يعني تلاحظ بعض الآيات تنزل في سياق معين؛ لأن المسلمين في المدينة كانوا مخالطين لليهود، سورة البقرة سورة مدنية، فالمسلمين لما خالطوا اليهود يعني كانت هناك بعض الاختلافات بين ما كان معمولًا عند اليهود وعند المسلمين، فبعض المسلمين يسألون النبي عليه الصلاة والسلام عن تصرفات اليهود هذه، هل هي صحيحة أو غير صحيحة؟
فنحن ذكرنا في الحيض أنزل الله تعالى الآية في الرد على اليهود، وأن تصرفهم مع المرأة الحائض أنه غير صحيح، المرأة الحائض فقط يجتنب وطؤها، وما عدا ذلك لا تجتنب المرأة الحائض، هي كغيرها من النساء كالمرأة الطاهرة تمامًا.
أيضًا هنا يقول جابر : كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها إن الولد يكون أحول، كان هذا اعتقاد شائع عند اليهود، يقولون: الرجل إذا أتى المرأة من الخلف في القبل، يكون الولد أحول.
فسألوا النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا، فأنزل الله الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] يعني: هذا الكلام غير صحيح، المرأة هذه حرث للرجل، فإذا أتاها من أي جهة يكون في القُبل، وأما كون الولد يأتي أحول هذا غير صحيح.
أيضًا حصلت قصة وذلك أن المهاجرين كان لهم في المعاشرة الزوجية طريقة؛ لما أتوا إلى المدينة الأنصار لهم طريقة مختلفة في المعاشرة، تزوج مهاجري أنصارية، ويبدو أن هذه الأنصارية مطلقة، يعني كان لها زوج سابق أنصاري، فأراد هذا القرشي أن يأتي امرأته الأنصارية بالطريقة التي يأتون بها نساء قريش من الخلف في القبل، فهي قالت: لا، نحن عندنا الأنصار يأتونها من الأمام، فحصل بينهما خلاف.
وانتشر الكلام في المدينة، فنزلت الآية، فبيّن الله تعالى أن الأمر واسع، أتيتها من أي طريقة، فالأمر واسع من الأمام من الخلف المهم ألا يكون في الدبر، يكون في القبل، لكن بأي طريقة يريد الزوج.
ولهذا قال سبحانه: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] وقوله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أي: موضع حرث، كما تكون الأرض حرثًا للزراعة، ويلقي الإنسان البذرة في هذه الأرض ويسقيها بالماء فتنبت.
كذلك أيضًا الزوج عندما يأتي امرأته يلقي النطفة من المني في هذا الحرث في هذا الموضع، فتكون في الرحم، وتلقح هذه النطفة من المني تلقح البويضة فيأتي الولد بإذن الله ، فجعل الله تعالى هذه كالحرث، جعل الزوجة بالنسبة للزوج كالحرث، فالولد من ابن وبنت يخلق من نطفة من مني يُمنى.
الحيوانات المنوية سبحان الله يعني هذا من عظمة الله وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] يعني: الحيوانات المنوية يقولون: لا يمكن للرجل أن يكون قادرًا على الإنجاب إلا إذا كان عدد الحيوانات المنوية لا يقل عن عشرين مليون، هذه العشرين مليون حيوان منوي واحد منها فقط هو الذي يلقح البويضة، فيحصل الحمل والإنجاب، فانظر إلى عظمة الله سبحانه.
لو قلّت الحيوانات المنوية عن عشرين مليون ما يكون قادرًا على الإنجاب، طيب هذه الحيوانات المنوية عشرين مليون أو أكثر ما يلقح البويضة منها إلا حيوان منوي واحد، فلذلك هنا يعني انظر دقة تعبير القرآن: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ كالحرث كأن الإنسان يلقي البذر في المزرعة، أيضًا الحيوان المنوي هو الذي يخرج من هذا الرجل، ويلتقي بالبويضة، فيكون الحمل بإذن الله .
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ [البقرة:223] وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ يعني: سبحان الله! كيف أتت وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ يعني: بالطاعات وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ بالأعمال الصالحة، طيب ما مناسبة ذكرها هنا؟
مناسبة ذكرها هنا: أنّ الله تعالى لما بين للمسلمين يعني كيف تكون المعاشرة الزوجية، وأن الزوج حر في الطريقة التي يأتي بها امرأته، والمهم أن يكون في القُبل نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] أراد الله أن يلفت النظر إلى أنه ينبغي ألا يستغرق الإنسان في متعة الجسد والملاذ الدنيوية، بل ينبغي أن يحرص أيضًا على أن يقدم الأعمال الصالحة التي تنفعه في الدار الآخرة.
فكأنه قيل: يعني كما أن الله تعالى يقول: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] أيضًا لا تنس أمور الآخرة، لا تنس أمور الطاعات، لا تستغرق في متع الدنيا، لا تستغرق في متع الجسد، هذه أمور أباحها الله تعالى، لكنك لا تستغرق فيها، فتكون على حساب ما تقدم لنفسك من الطاعات، ومن التزود بزاد التقوى، فهذه والله أعلم هي مناسبة ذكر وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ [البقرة:223].. وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223].
تفسير قوله تعالى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ..
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224] أحد الصحابة حلف على ألا يدخل على صاحب له، ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين زوجته، فقيل له، قال: والله أنا حلفت، ولا يمكن أن أترك ما حلفت عليه، لا بد أن أبر بقسمي، فأنزل الله هذه الآية: أنك لا تجعل الله تعالى عُرْضَةً يعني: مانعًا من الخير، لا تجعل الحلف بالله وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ يعني: الحلف بالله عُرْضَةً يعني: مانعًا لكم.
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا [البقرة:224] مانعًا لكم من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فيكون معنى الآية: لا تجعلوا الحلف بالله معترضًا بينكم وبين البر والتقوى، والإصلاح بين الناس.
بل من حصل منه ذلك وحلف على ألا يفعل برًّا أو تقوى أو إصلاحًا بين الناس، فيكفّر عن يمينه، ويأتي بهذه الأمور، فلا يقول الإنسان: والله حلفت، خلاص أنا حلفت لن أفعل هذا الشيء، وهذا من البر، هذا خطأ، أو يقال له مثلًا: لماذا لا تصلح بين فلان وبين فلان؟ قال: والله حلفت أني ما أصلح بينهما.
نقول: أنت حلفت، لكن لا تجعل هذا الحلف مانعًا لك من الإصلاح، بل أصلح بينهم، وكفّر عن يمنيك، هذا معنى الآية وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً [البقرة:224] يعني: مانعًا لكم، لا تجعلوا الحلف بالله مانعًا لكم من أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224].
ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: لأن يلج أحدكم في يمينه، آثم له عند الله من أن يأتي الكفارة التي فرض الله عليه [5]، وهذا الحديث في صحيح البخاري، ما معنى الحديث؟ يعني لأن يلج يعني: يتمادى في أن يتمسك بيمينه، هذا أقرب للإثم من ألا يتمسك بما حلف عليه، ويأتي بالكفارة، فإذن ينبغي ألا يكون الحلف مانعًا للإنسان من البر، ومن التقوى، ومن الإصلاح بين الناس، ومن فعل الخير.
إذا وجدتَ أن أمرًا فيه خير، فكفّر عن يمينك، وأت الذي هو خير، هذا هو معنى الآية وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224].
تفسير قوله تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ..
ثم قال سبحانه: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225] اللغو في اليمين هو أن يقول الرجل: لا والله، وبلى والله، غير قاصد لليمين، تقول لإنسان: تذهب معي، قال: لا والله، هل حصل كذا؟ بلى والله، هذه اليمين التي تأتي على اللسان من غير قصد، هذه لا يُؤاخذ بها الإنسان، فهي من اللغو، وليس فيها كفارة، ليس فيها إثم ولا كفارة.
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225] وهذه أيضًا أتت في سورة المائدة لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [المائدة:89] وهنا قال: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225].
فإذن لغو اليمين أن يقول الرجل: لا والله، وبلى والله، غير قاصد لليمين، وألحق بعض العلماء بذلك ما إذا حلف ألا يفعل أمرًا، ففعله ناسيًا، فيقولون: إنّ هذا ليس فيه كفارة، وهو ملحق باللغو في اليمين.
تفسير قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ..
ثم قال سبحانه: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226] يُؤْلُونَ: من الإيلة، والإيلة هو الحلف، يعني: يحلفون على ترك وطء زوجاتهم، هذا معنى يؤلون، وكانوا في الجاهلية إذا كان الرجل لا يريد المرأة، ولا يريد أن يطلقها، حتى لا تتزوج غيره يحلف ألا يطأها أبد الدهر، فتبقى هذه المرأة معلقة، لا هي بالزوجة التي تعاشر، ولا هي بالمطلقة التي ربما ترزق بزوج، فأبطل الإسلام هذا.
وجعل الله الأجل أربعة أشهر، إذا آلى الرجل من زوجته حلف ألا يطأ زوجته، يحدد له أربعة أشهر، فيقال له: إما أن تطأ، أو تطلق، أما تترك المرأة معلقة بهذه الطريقة، هذا لا يجوز، هذا فيه إضرار عظيم بالمرأة، فحدد الله مدة الإيلاء بأربعة أشهر فقط.
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ تَرَبُّصُ يعني: انتظار أربعة أشهر فَإِنْ فَاؤوا يعني: رجع وعاشر زوجته فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر الله تعالى له.
لكن إن عزم الطلاق يعني: قصد الطلاق؛ ولهذا قال: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ [البقرة:227].. لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤوا [البقرة:226] يعني: رجعوا إلى نسائهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:226].
تفسير قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ..
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ [البقرة:227] يعني: قصدوا الطلاق بعزيمة تامة فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:227] يقال له: إذن إما أن ترجع، وهذا هو الأحب والأفضل؛ ولهذا ختم الله تعالى الآية بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:226] لكن تريد أن تطلق طلق، لكن لا تتركها هكذا معلقة وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:227].
الفوائد والأحكام من الآيات
نأتي بعد ذلك للفوائد والأحكام:
أولًا: من فوائد هذه الآيات: حرص الصحابة على العلم لسؤالهم النبي عن هذه الأمور الدقيقة، سألوه عن الحيض، وسألوه عن أيضًا كيفية إتيان المرأة، وسألوه عن أمور دقيقة؛ لأنهم استشكلوها من مخالطتهم لليهود، فاستشكلوا في مسائل وأمور، فسألوا عنها النبي .
فأجابهم الله سبحانه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222] فيعني السؤال من مفاتيح العلم، ولهذا لما سُئل ابن عباس رضي الله عنهما بم عقلت العلم؟ قال: بقلب عقول، ولسان سؤول، فالإنسان يسأل إذا أشكل عليه شيء، يسأل حتى يزول عنه الإشكال.
والسائل إذا سأل وتسبب في تعليم غيره، فيكون هو المعلم لغيره؛ ولهذا في قصة جبريل لما أتى للنبي وعنده بعض الصحابة، أتاه على صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد من الصحابة، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وسأل النبي عدة أسئلة.
قال: ما الإسلام؟ فأجابه، قال: ما الإيمان؟ فأجابه، قال: ما الإحسان؟ فأجابه، قال: متى الساعة؟ فأجابه، قال: ما أماراتها؟ فأجابه، ثم بعد ذلك انصرف، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتعرفون هذا؟ قالوا: لا، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم [6].
طيب لو تأملنا هذه القصة المعلم من؟ أن المعلم هو رسول الله ، هو الذي قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.. وجبريل فقط سائل، طرح هذه الأسئلة فقط، ومع ذلك اعتبر النبي جبريل معلمًا للصحابة؛ لماذا؟ لأنه بطرح هذه الأسئلة تسبب في التعليم، فدل ذلك على أن من تسبب في تعليم غيره بطرح سؤال، ونحو ذلك أنه يكون معلمًا لهم، وهذا يدل أيضًا على أنه لا بأس أن يسأل الإنسان أسئلة يعرف جوابها؛ لأجل أن يعرف الحاضرون الجواب.
فلو كان الإنسان في مجلس، ورأى أن الحاضرين يحتاجون لتوضيح مسألة معينة، هو يعرف الحكم، وكان عنده عالم من العلماء، فقال: يا شيخ ما رأيك في كذا؟ لأجل أن يعرف الحاضرون الجواب، هذا لا بأس به، بل إنه يكون مأجورًا على ذلك؛ لأنه تسبب في تعليمهم.
فالنبي عليه الصلاة والسلام اعتبر جبريل معلمًا، وهو إنما فقط طرح أسئلة؛ لأنه تسبب في تعليم الصحابة بإجابات النبي عن هذه الأسئلة.
أيضًا من الفوائد: دلت الآية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222] على نجاسة الحيض، لأن الله تعالى وصفه بالأذى، وقد بينت السنة ذلك، وأمر النبي بغسل دم الحيض قليله وكثيره فهو نجس، دم الحيض نجس.
ودم الإنسان عمومًا نجس، الدم الخارج من الإنسان نجس، وقد حُكي الإجماع على ذلك، نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم، إلا أنه يُعفى عن يسيره.
أيضًا من الفوائد: وجوب اعتزال المرأة حال الحيض؛ لقوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222] وقد بينت السنة المراد بالاعتزال، وهو ترك الوطء فقط، ويباح للرجل المباشرة، وأن يستمتع بها فيما دون الفرج.
أيضًا من الفوائد: أنه يجب على المرأة بعد الحيض الاغتسال؛ لقول الله تعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] يعني: اغتسلن فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم: أن المرأة يجب عليها بعد الحيض أن تغتسل، وهكذا بعد النفاس، إذا طهرت من حيض أو من نفاس يجب عليها أن تغتسل.
أيضًا من الأحكام: تحريم الوطء بعد الطهر وقبل الغسل؛ لقول الله تعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222].. فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222] يعني: حتى ينقطع دم الحيض فَإِذَا تَطَهَّرْنَ يعني: اغتسلن فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] وهذا يدل على تحريم الوطء بعد الطهر وقبل الاغتسال.
أيضًا من الفوائد: إثبات المحبة لله؛ لقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، ومعتقد أهل السنة والجماعة هو إثبات صفة المحبة لله ، محبة حقيقية على الوصف اللائق بالله سبحانه، ليست كمحبة المخلوقين، وإنما على الوصف اللائق بالله .
وقد أخطأ في ذلك من أول المحبة، بأنها إرادة الخير، أو إرادة فعل الخير، هذا تأويل باطل، وما عليه الصحابة والتابعون هو إثبات صفة المحبة لله حقيقة، فالله تعالى يحب عباده المؤمنين، يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب المحسنين، ويحب المتقين.
فهو يحب بعض عباده ويحبونه، كما قال سبحانه: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] هذا هو المعنى الصحيح الذي دل له القرآن والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين إثبات صفة المحبة لله محبة حقيقية على الوصف اللائق بالله سبحانه كسائر صفاته، كسمعه وبصره وسائر صفاته.
أيضًا من فوائد هذه الآية: أنّ المحبة من الصفات الفعلية؛ لأنها علقت بالتوبة، والتوبة من فعل العبد تتجدد، فكذلك محبة الله قد تتعلق بأسبابها، محبة الله تتعلق بأسبابها، وكل صفة من صفات الله تعالى تتعلق بأسبابها، فهي من الصفات الفعلية.
أيضًا من الفوائد: فضل التوبة، وأنها من أسباب محبة الله سبحانه؛ لقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة:222] وقوله سبحانه: التَّوَّابِينَ تواب صيغة مبالغة، يعني: كثير التوبة، وهذا يدل على أن الله تعالى يحب من الإنسان أن يكثر من التوبة، وإذا وقع في معصية يتوب، وإذا وقع في ذنب يتوب.
ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: ما من عبد يذنب ذنبًا، ثم يقوم ويتوضأ، ويصلي ركعتين ويستغفر الله، إلا غفر الله له [7]، إذا وقعت في ذنب، قم وتوضأ وصل ركعتين، واستغفر الله، يغفر الله لك، اجعل هذا مبدأ لك في الحياة، كلما وقعت في معصية قم وتوضأ وصل ركعتين واستغفر الله.
ولهذا قال سبحانه: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:133-135].
المسلم إذا وقع في ذنب لا يصر على ما فعل، إنما يقوم ويستغفر الله، ويتوب إلى الله، فالله تعالى يحب من عبده أن يكثر من التوبة، والنبي كان يعد له في المجلس الواحد قول: رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة.
أيضًا من فوائد الآية: فضل التطهر؛ لقوله: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] وينبغي أن يستشعر المسلم هذا المعنى: أن الله تعالى يحب المتطهر، فعندما يتوضأ، فإنه يتطهر يكون متطهرًا، عندما يغتسل يكون متطهرًا، الله تعالى يحب من العبد أن يكون متطهرًا، وأن يحب الطهارة، وأن يبتعد عن النجاسة.
وهذا يسوقنا إلى مسألة، وهي ما حكم تجديد الوضوء؟ قد يقول قائل: الله تعالى يحب المتطهرين، وأنا أحب أن أجدد الوضوء، فهل تجديد الوضوء مشروع أو غير مشروع؟
نقول: إذا كان قد صلى بهذا الوضوء صلاة، ولو صلاة نافلة، فيستحب له أن يجدد الوضوء، حتى يدخل في هذا الفضل، وينطبق عليه وصف المتطهرين الذين يحبهم الله، أما إذا كان لم يصل به صلاة، فلا يشرع تجديد الوضوء؛ لأن هذا يؤدي لوسواس، يتوضأ، ثم يتوضأ، ثم يتوضأ، هذا يؤدي لوسواس.
لكن لو أن هذا الوضوء مثلًا صلى به صلاة الضحى، ثم أذن الظهر فيستحب أن يجدد الوضوء، حتى يدخل في وصف المتطهرين.
أيضًا من الفوائد في الآية الأخرى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] أن للزوج أن يأتي امرأته بالطريقة التي يريدها، بشرط أن يكون ذلك في الفرج نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] بأي طريقة تريد من الأمام، من الخلف، من أي جهة، لكن بشرط أن يكون ذلك في الفرج، ولا يكون في الدبر، ولا يجوز إتيان المرأة في دبرها، قد ورد الوعيد في حق من فعل ذلك: ملعون من أتى امرأته في دبرها [8] لا يجوز الإتيان من الدبر، ويسميها العلماء باللوطية الصغرى، إتيان المرأة في الدبر، وإنما يأتي الرجل امرأته في القبل، وليس في الدبر؛ ولهذا قال سبحانه: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ [البقرة:223] يعني: موضع الحرث، وهو القُبل، أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223].
أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي أن يقصد المتزوج من الزواج تحصيل الذرية والنسل؛ لأن الله سمى ذلك حرثًا، سمى إتيان الرجل لامرأته حرثًا فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] فمن أعظم مقاصد النكاح: قصد تحصيل الذرية والنسل.
أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي للمسلم ألا ينهمك في الاستمتاع بمتع الدنيا على حساب ما يقدمه في الآخرة من الطاعات؛ لقوله: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ [البقرة:223].. نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ [البقرة:223] كأنه يقال: يعني لا تستغرق في هذا الأمر في هذه المتع متع البدن لا تستغرق فيها كثيرًا على حساب ما تقدم لنفسك من الطاعات، هذه أمور مباحة، لكن ينبغي أن يأتيها الإنسان باعتدال، وكل شيء خرج عن حد الاعتدال فهو مذموم.
أيضًا من الفوائد: في قوله سبحانه: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223] البشارة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأما في الآخرة فتبشرهم الملائكة بالجنة وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] فتكون هذه البشارة من حين قبض الروح.
كما قال : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ يعني: عند الاحتضار، وتقول لهم: أَلَّا تَخَافُوا لا تخافوا مما أمامكم وَلَا تَحْزَنُوا على ما تركتم، وما خلفتم في الدنيا من مال وأهل وَأَبْشِرُوا ويبشرهم بهذه البشارة العظيمة، ويا لها من بشارة، بشارة عظيمة وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
فالبشرى للمؤمنين في الآخرة بهذه الجنة العظيمة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71] خَالِدُونَ أبد الآباد إلى ما لا نهاية، فهذه البشارة للمؤمنين في الآخرة.
أما البشارة في الدنيا، فهي كل ما يسر المؤمن، ومن ذلك مما وردت به السنة: الرؤيا الصالحة تدخل في البشارة للمؤمن، من عاجل بشرى المؤمن الرؤيا الصالحة يراها المؤمن، أو ترى له، فهي من عاجل بشرى المؤمن، كما أخبر بذلك النبي .
أيضًا من البشارة للمؤمن في الدنيا: الذكر الحسن الذي لم يطلبه الإنسان، ولم يسع إليه، وقد سُئل النبي كما جاء في صحيح مسلم: سُئل عن الرجل يعمل العمل من الخير، فيثني عليه الناس، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن [9].
يعني إنسان ما قصد رياء، ولا قصد سمعة عمل أعمالًا في الخير من صلاة وصيام وصدقات ونشر علم، ونحو ذلك، فالناس يثنون عليه، له سمعة حسنة في المجتمع، وسيرة عطرة، هذه من عاجل بشرى المؤمن، هذه الذكر الحسن من عاجل بشرى المؤمن.
كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96] فالود الذي يجده المتقي لله، الذي يجده في قلوب الناس، الود والاحترام والتوقير، هذا من عاجل بشرى المؤمن، هذه من البشارة التي تكون للمؤمنين.
ولهذا قال سبحانه: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [يونس:62-64] في الآخرة معروف أنها هي الجنة، لكن في الحياة الدنيا ما هي؟ من ضمنها: الذكر الحسن، والسمعة الحسنة للإنسان، والود الذي يلقيه الله في قلوب الناس له لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:64] لا يستطيع أحد أن يبدل هذا مهما فعل، من أراد أن يقلل من شأن هؤلاء المؤمنين الصادقين.
قد يسعى بعض الناس للتقليل من شأنهم واحتقارهم، ويفعل أمورًا للتقليل منهم لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:64] هذا لن يكون أبدًا مهما فعلت لأجل التقليل من شأنهم، وتحقيرهم في نفوس الآخرين لن يحصل هذا.. لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:64] فهذه من البشارة للمؤمن وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223].
أيضًا من الفوائد: نهي الإنسان عن جعل اليمين مانعة له من فعل البر والتقوى، والإصلاح بين الناس، فلا يجعل الإنسان يقول: أنا حلفت لن أفعل كذا، أنا والله حلفت لن أدخل في الإصلاح بين الناس، حلفت لن أفعل كذا، فإذا كان هذا الذي تريد أن تفعله برًّا أو تقوى أو إصلاحًا بين الناس، فلا تجعل اليمين مانعة من ذلك؛ لقوله: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] يعني: مانعة لكم من أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224].
ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام في حديث عبدالرحمن بن سمرة : إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفّر عن يمينك، وأت الذي هو خير [10]، متفق عليه.
أيضًا من الفوائد: الحث على البر والتقوى والإصلاح بين الناس؛ لقوله: أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224] فالله تعالى يقول: إن هذه الأمور أمور خير ينبغي ألا تجعل اليمين مانعة من هذه الأمور، وفيه حث عليها.
أيضًا من الفوائد: فضيلة الإصلاح بين الناس، ووجه ذلك: أن الله نص عليه، وخصه بالذكر مع أنه داخل في البر أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا [البقرة:224] فالإصلاح من أعظم البر، ومع ذلك خصه الله بالذكر لعظيم شأنه.
ولهذا جاء في حديث أبي الدرداء أن النبي قال: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، بل تحلق الدين [11]، هذا الحديث رواه الترمذي بسند صحيح.
فانظر كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل إصلاح ذات البين درجة أعلى من الصلاة، ومن الصيام، ومن الصدقة، والله تعالى يقول: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114] فالنصوص تدل على الأجر العظيم الكبير المرتب على الإصلاح بين الناس.
الإصلاح بين الناس من أعظم الأعمال الصالحة، درجته أعلى من الصلاة والصيام والصدقة، وتجد بعض الناس سلبي في هذا، ربما يجد أن أخته مثلًا، أو قريبة له، أو أخاه بينه وبين زوجته خصومة، أو كذا ما يسعى للإصلاح، يقول: ما عليَّ من أحد، هذا غير صحيح.
لو سعيت للإصلاح تنال هذه الأجور العظيمة، درجة الإصلاح أعلى من الصيام والصدقة والصلاة، أو يرى بعض جيرانه مختلفين ما يسعى للإصلاح بينهم، أو يرى بعض زملائه بينهم هجران وشحناء، هذه سلبية، ينبغي أن يكون المسلم مبادر يسعى للإصلاح كل ما رأى متخاصمين يسعى للإصلاح وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114] درجته أعلى من درجة الصيام والصلاة والصدقة.
أيضًا من الفوائد: أن لغو اليمين لا يوجب الكفارة؛ لقوله: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225] وفي آية المائدة: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [المائدة:89] أي: بما قصده الإنسان بقلبه، أما ما يرد على اللسان من غير قصد فلا يؤاخذ عليه، مثل قوله: لا والله، وبلى والله، ونحو ذلك، أو حلف على ألا يفعل أمرًا ففعله ناسيًا، فهذا أيضًا يدخل في لغو اليمين الذي لا يؤاخذ به الإنسان.
أيضًا من الفوائد: عدم مؤاخذة العبد بما لم يقصده من لفظه، ولو جرى على لسانه، فإذا كان الإنسان تلفظ بكلام لم يقصده فلا يؤاخذ به، حتى لو كان الكلام كفريًّا، إنسان نطق بكلمة كفر، لكنه لم يقصدها لا يؤاخذ بها.
ولهذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث التوبة قصة الرجل الذي قال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح [12]، وأيضًا أخذ العلماء من هذا: أن الإنسان إذا طلق زوجته ولم يقصد الطلاق أنه لا يقع الطلاق، وهذا يعني في الطلاق المعلق على القول الراجح، كقول ابن تيمية رحمه الله، وإن كان خلاف المذاهب الأربعة، لكن أصبحت الفتيا في العالم الإسلامي كله على رأي ابن تيمية، وهو: أن الطلاق المعلق الذي لم يقصد به الطلاق، لم يقصد الزوج به الطلاق، وإنما قصد به حثًا أو منعًا أو تصديقًا، أو تكذيبًا أنه لا يقع، وفيه كفارة يمين؛ لأنه لم يقصد الطلاق.
وهكذا لو كان مكرهًا وتلفظ بالطلاق، فالقصد لم يتمحض هنا فلا يقع، ولو كان أيضًا غضبان غضبًا شديدًا، الغضبان غضبًا شديدًا هو كالمكره، كما قال ابن القيم وغيره، فلم يتمحض القصد لم يقصد الطلاق بإرادته، فلا يقع الطلاق.
هكذا أيضًا الموسوس الذي يقع منه الطلاق، لا يقع طلاق الموسوس؛ لأنه لم يقصد الطلاق، فإذن الألفاظ التي تجري على اللسان بغير قصد لا يؤاخذ بها العبد.
أيضًا من الفوائد: أن المدار على ما في القلوب؛ لقوله: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225] فالمؤاخذة والمدار على ما في القلب، اللسان مجرد معبر عما في القلب؛ ولهذا إذا اختلف اللسان عن القلب، فالمعول عليه هل ما في القلب، أو ما نطق به اللسان؟ ما في القلب.
لو أن مثلًا أحدًا أراد أن يضحي عن إنسان، قال: بسم الله، الله أكبر، اللهم هذه منك ولك، اللهم هذه الأضحية عن فلان، وهو يقصد فلانًا أخطأ، فالعبرة بنيته، العبرة بما نوى، فإذن المعول عليه المعتبر هو ما في القلب، وأما اللسان فهو مجرد معبر عما في القلب، فإذا اختلف اللسان مع ما في القلب لا يعتبر ما نطق بلسانه لا يعتبر، المعتبر ما في قلبه.
ولهذا كما ذكرنا إذا لم يقصد الطلاق لا يقع طلاقًا، ما نوى بقلبه الطلاق، ولا قصد الطلاق لا يقطع طلاقًا.
أيضًا من الفوائد: أنّ للقلوب كسبًا كما للجوارح، فالقلوب لها كسب، الكبر مثلًا متعلق بالقلب، لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر [13]، الكبر والعجب وأمراض النفوس هذه كلها متعلقة بالقلب، ولكن من رحمة الله بعباده أن حديث النفس لا يؤاخذ عليه الإنسان؛ لقول النبي : إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم [14].
أيضًا من الفوائد: ثبوت حكم الإيلاء، وهو تربص أربعة أشهر، من حلف على ألا يطأ زوجته، فيمهل أربعة أشهر، وبعد الأربعة أشهر يقال له: إما أن تطأ وترجع لمعاشرة الزوجة، أو تطلق، فإذا أبى أن يطأ أو يطلق أجبره القاضي على الطلاق، فإذا أبى فسخ القاضي النكاح، ولا تبقى هذه المرأة معلقة، هذا هو حكم الإيلاء.
أيضًا من الفوائد: مراعاة حقوق المرأة، يعني هذه الآية نزلت مراعاة لحقوق المرأة؛ لأن هذا الرجل حلف على ترك وطأ زوجته، طيب الزوجة لها حق في الوطء، لها حق في المعاشرة الزوجية، فهنا يجبر الزوج إما بمعالجة وضعه، إما بإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، إما أنك تطأ وترجع وتعاشر هذه الزوجة، أو أنك تطلقها، فهذا يدل على عناية الشريعة بحقوق المرأة.
وليس هناك دين من الأديان، أو ملة من الملل احترمت حقوق المرأة كشريعة الإسلام، أعطتها حقها كاملًا، وهناك ممارسات من بعض المسلمين ممارسات خاطئة، وإلا فالشريعة الإسلامية راعت حقوق المرأة وأعطتها وأنصفتها، بل جعلت الزوج، بل الرجل عمومًا، سواء كان زوجًا أو أبًا أو أخًا ملزمًا بدفع النفقة على هذه المرأة، إن كان زوجًا على زوجته، الأب على ابنته.
حتى لو لم يكن لها زوج ولا أب، الأخ ملزم بالنفقة عليها، فانظر إلى حماية الشريعة للمرأة، هذه المرأة امرأة ضعيفة ينبغي أن ينفق عليها، لأن لها مهام أخرى، لها مهام تقوم بمهمة الحمل والولادة وتربية الأطفال، فينفق عليها الزوج، فانظر إلى كثير من الآيات القرآنية فيها حماية للمرأة، ومراعاة لحقوق المرأة، فشريعة الإسلام سبقت الآن ما يتشدق به بعض الناس من حقوق المرأة.
نقول: الشريعة الإسلامية حفظت حقوق المرأة، الله تعالى هو خالق البشر، وهو أعلم بما تصلح به أحوال البشر، الشريعة الإسلامية حفظت حق المرأة في كل شيء.
حتى في أخص الخصائص، حتى في حلف الرجل على ترك وطء زوجته، أنزل الله في ذلك قرآنًا: أن هذا الزوج يُمهل أربعة أشهر، ثم يعالج وضعه ولو بالقوة، إما أن تطأ أو تطلق، إذا رفض أن يطأ أو يطلق، طلق عليها القاضي وفسخ النكاح…، ما تترك هذه المرأة هكذا معلقة، كانوا في الجاهلية يحلفون ويتركون المرأة، يؤلون منها ويتركونها، فحددت هذه المدة وهي أربعة أشهر.
أيضًا: يعني حقوق المرأة تكون لها من غير أن يُظلم الرجل، يعني الآن بعض الشعارات الموجودة الآن يعطون المرأة حقًّا على حساب الرجل، وهذا لا يجوز أيضًا، يعني تعطي إنسانًا فوق حقه، وتظلم به طرفًا آخر هذا لا يجوز، كما أنها أيضًا لا تُظلم المرأة أيضًا لا يُظلم الرجل.
ولذلك فالله تعالى خالق البشر، هو أعلم بما تصلح به أحوال البشر، وأعلم بحقوق الرجل وحقوق المرأة وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] فحكم الله، وشريعة الله هي التي هي الصالحة والمصلحة لأحوال البشر.
أيضًا من الفوائد: أنه لا يصح الإيلاء من غير الزوجة؛ لقوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [البقرة:226] فلو حلف على ألا يطأ أمته، أو حلف على ألا يطأ امرأة، ثم تزوجها، فلا يصح هذا الإيلاء.
ونكتفي بهذا القدر في الفوائد، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
المقدم: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين، في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم في حلقة قادمة بإذن الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 305، ومسلم: 1211. |
^3 | رواه البخاري: 5641، ومسلم: 2573. |
^4 | رواه البخاري: 290. |
^5 | رواه البخاري: 6625، ومسلم: 1655. |
^6 | رواه مسلم: 8. |
^7 | رواه أبو داود: 1521. |
^8 | رواه أبو داود: 2162. |
^9 | رواه مسلم: 2642. |
^10 | رواه البخاري: 6622، ومسلم: 1652. |
^11 | رواه أبو داود: 4919، والترمذي: 2509، وأحمد: 27508. |
^12 | رواه مسلم: 2747. |
^13 | رواه مسلم: 91. |
^14 | رواه البخاري: 5269، ومسلم: 127. |