logo

(3) تتمة تفسير آيات الصيام

مشاهدة من الموقع

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9].

على جميع المكلفين أن يتعلموا دينهم، وأن يتفقهوا في دينهم، كل واحد من الرجال والنساء عليه أن يتفقه في دينه، عليه أن يتعلم ما لا يسعه جهله، هذا واجب؛ لأنك مخلوق لعبادة الله، ولا طريق إلى معرفة العبادة ولا سبيل إليها إلا بالله، ثم بالتعلم والتفقه في الدين، فالواجب على المكلفين جميعًا أن يتفقهوا في الدين، وأن يتعلموا ما لا يسعهم جهله، كيف يصلون؟ كيف يصومون؟ كيف يزكون؟ كيف يحجون؟ كيف يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ كيف يعلمون أولادهم؟ كيف يتعاونون مع أهليهم؟ كيف يدعون ما حرم الله عليهم؟ يتعلمون، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين [1].

المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم البناء العلمي، نستكمل وإياكم ما بدأناه في سلسلة شرح آيات الأحكام من كتاب الله ​​​​​​​.

نرحب وإياكم بضيف هذا البرنامج فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن تركي الخثلان، رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، وأستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام، فمرحبًا بكم يا فضيلة الشيخ.

تتمة تفسير آيات الصيام

الشيخ: أهلًا، حياكم الله، وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المشاهدين.

المقدم: الله يحييك، كنا قد وصلنا يا فضيلة الشيخ عند آيات الصيام في سورة البقرة، فنستكمل بإذن الله شرحها وتفسيرها في هذا اليوم، نستأذنكم أيها المشاهدون في سماع تلاوة لهذه الآيات، ثم بإذن الله نأخذ الشرح.

بسم الله الرحمن الرحيم

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۝أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187-186].

المقدم: فضيلة الشيخ موضوعنا في هذا اليوم آيات الصيام من سورة البقرة، كنا قد وقفنا عند قول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ.. [البقرة:186].. إلى آخر الآيتين.

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

كنا قد تكلمنا عن أبرز المعاني والأحكام والفوائد المستنبطة من الآيتين الأوليين من آيات الصيام، أو الثلاث الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ.. [البقرة:183] ثم بعد ذلك: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] ثم: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185].

تفسير قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي..

فتكلمنا عن هذه الآيات الثلاث في الحلقة السابقة، وفي هذه الحلقة نستكمل الحديث عن بقية آيات الصيام، فنستكمل الحديث عن الآية التي بعدها، وهي: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] ثم الآية التي بعدها: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187].

نبدأ بالآية الأولى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] هذه الآية في الدعاء، وقد وقعت بين آيات الصيام، الآية التي قبلها: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] والآية التي بعدها: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] هذا لا بد أن يكون لحكمة؛ لأن هذا القرآن جعله الله تعالى آية ومعجزة في كل شيء، حتى في ترتيب الآيات.

الحكمة من وقوع آية الدعاء بين آيات الصيام

فوقوع آية الدعاء بين آيات الصيام، هذا له مغزى، وله معان عظيمة، ومن أبرز هذه المعاني: أن شهر رمضان الدعاء فيه حري بالإجابة، وأنه ينبغي للمسلم أن يستكثر من الدعاء في شهر رمضان، فكأنه يقال: أنت أيها المسلم أكثر من الدعاء في شهر رمضان، فإن الله قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.

والدعاء في شهر رمضان خاصة وقت الصيام يكون حريًّا بالإجابة، وكما جاء في الحديث عن النبي : إنَّ للصائم عند فطره دعوة لا ترد [2] فهذا هو المغزى، والسبب الذي لأجله وقعت آيات الدعاء بين آيات الصيام.

وأيضًا في العشر الأواخر من رمضان الدعاء أيضًا يكون حريًّا بالإجابة؛ لأن فيها ليلة القدر التي الدعاء فيها أيضًا مستجاب، أو حري بالإجابة.

فشهر رمضان من مواطن إجابة الدعاء؛ ولهذا ينبغي أن يستكثر المسلم من الدعاء في هذا الشهر؛ ولعل هذا هو السبب الذي لأجله وقعت آية الدعاء بين آيات الصيام.

يقول ربنا سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] وإذا سألك: هذا يدل على أنه هناك سؤال قد وقع؛ وذلك أن النبي أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت الآية: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] [3]، فكان الجواب: بأن الله قريب.

صفة القرب لله عز وجل

والمقصود بالقرب هنا: القرب الحقيقي على الوصف اللائق بالله ​​​​​​​؛ لأن جميع صفات الله سبحانه الأصل أنها تحمل على حقيقتها، ولا تؤول، وهذا هو معتقد السلف وأهل السنة والجماعة، كصفة السمع، والبصر، واليد، وجميع صفات الله، والرحمة، وجميع صفات الله .

فمعتقد الصحابة والتابعين والسلف الصالح، وأهل السنة والجماعة: أن صفات الله سبحانه أنها على حقيقتها، لكنها على الوصف اللائق بالله سبحانه، ليست كصفات المخلوقين، فسمع الله ليس كسمع المخلوقين، وبصر الله ليس كبصر المخلوقين، ورحمة الله ليست كرحمة المخلوقين، وهكذا.

هكذا أيضًا نقول في القرب هنا: قرب الله ، يعني هناك من السلف من قال: إن المقصود بالقرب قرب الإجابة، هذا قول عند السلف، ولكن الأقرب -والله أعلم- أن يقال: إنه قرب حقيقي على الوجه اللائق بالله ، مع علوه علو ذات.

فالسلف يثبتون لله ​​​​​​​ العلو بجميع أنواعه: علو الذات، وعلو القهر، وعلو القَدْر، وقد دل لهذا أدلة كثيرة ليس هذا المقام مقام الحديث عنها، أدلة من الكتاب ومن السنة، وكذلك من إجماع الصحابة، وكذلك من الفطرة والعقل على إثبات صفة العلو لله  علو الذات.

فعلى هذا نقول: إن القرب هنا هو قرب حقيقي مع علو الله تعالى، مع إثبات صفة العلو علو الذات لله ، والله سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] والله لا يشبهه شيء من خلقه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فتأمل قول الله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

أقوى التشبيه أن تحذف الأدوات، مثلًا: فلان أسد، هذا أقوى ما يكون من التشبيه، أضعف منه عندما يؤتى بأداة واحدة كالأسد، عندما يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] هنا أتى بالكاف والمثل مع النفي، يعني لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ولو من وجه بعيد جل وعلا، فالله  لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] عرفنا إذن أن المقصود بالسؤال أن بعض الناس سألوا النبي ، فأنزل الله ​​​​​​​ هذه الآية: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]؛ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي: ليستجيبوا لفعل الطاعات، وليستجيبوا لي إذ دعوتهم وَلْيُؤْمِنُوا بِي بجميع ما أمر الله بالإيمان به، ومن ذلك: الإيمان بأن الله قادر على إجابة الدعاء لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ يعني: لعلهم أن يصيبوا الحق، الرشد هو إصابة الحق.

فوائد من الآية وإذا سألك عبادي عني..

هذه الآية يستفاد منها فوائد:

أولًا: فضل الدعاء: فإن الله ​​​​​​​ أمر به، والدعاء من أسباب تحقيق الأمنيات للإنسان في الدنيا والآخرة؛ لأن الله على كل شيء قدير، فأنت تدعو ربًّا عظيمًا، وهو بيده خزائن السماوات والأرض إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:50] يعني: أمر الله ​​​​​​​ مجرد أن يقول له: كن، فيكون كلمح بالبصر فإذا هو كائن.

فالدعاء من أسباب تحقيق ما يتمناه الإنسان وما يرجوه؛ ولذلك ينبغي أن يحرص المسلم على الدعاء، والله ​​​​​​​ يحب من عبده أن يدعوه، وأن يسأله، بل إن الله كما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وذلك كل ليلة [4]، كل ليلة ينادي الرب ​​​​​​​ عباده بهذا النداء.

ويقول الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]؛ فهذه الآية إذن تدل على فضل الدعاء، وأنه ينبغي أن يحرص عليه المسلم، رب دعوة واحدة تستجاب للمسلم يكتب الله تعالى بسببها خيرًا عظيمًا، رب دعوة واحدة يكتب الله تعالى بسببها خيري الدنيا والآخرة.

فعلى المسلم أن يحرص على الدعاء، أن يدعو الله تعالى كل يوم، كل يوم يدعو الله ​​​​​​​، يدعو الله تعالى بخيري الدنيا والآخرة؛ وليحرص على الدعاء بالمأثور، ويتخير من الدعاء ما أعجبه، حوائجك كلها اطرحها بين يدي ربك سبحانه، فالله يجيب دعوة الداعي وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].

الله تعالى في هذه الآية قال: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] طيب إذا نظرنا للواقع نجد أنه ليس كل من دعا أستجيب له، فكيف نوفق بين هذا، وبين ما ذكره الله تعالى في قوله: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]؟

المقدم: الحديث المذكور.

الشيخ: وهو؟

المقدم: أنه إذا دعا العبد يكون له أحد ثلاث.

الشيخ: أحسنت، نعم، نقول: فسر النبي عليه الصلاة والسلام المقصود: بأنه ما من داعٍ يدعو إلا كان له بها إحدى ثلاث: إما تعجل له في الدنيا، أو تدخر له في الآخرة، أو يصرف عنه من السوء مثلها [5]، أخرجه أحمد بسند صحيح.

فلما سمعوا الصحابة هذا قالوا: يا رسول الله، إذن نكثر، قال: الله أكثر وهذا يدل على أن إجابة الدعاء أعم من قضاء الحاجات، فإجابة الدعاء أعم، قد تدعو وتستجاب الدعوة، لكن لا تقضى حاجتك.

المقدم: بقبولها.

الشيخ: نعم، تدعو مثلًا أن الله تعالى يدخرها لك في الآخرة، تدعو أن الله تعالى تكون إجابة الدعاء بأن الله تعالى يصرف عنك من السوء مثلها، فإجابة الدعاء أعظم، أو أعم، إجابة الدعاء أعم من قضاء الحاجات.

ولهذا في حديث النزول: هل من داعٍ فأستجيب له، هل من سائل فأعطيه؟ ذكر الأمرين جميعًا، ذكر قضاء الحاجات، السؤال، وذكر الدعاء، فالدعاء إذن أعم من قضاء الحاجات؛ ولذلك فالداعي على خير؛ ولهذا لما سمع الصحابة هذا الحديث قالوا: يا رسول الله، إذن نكثر، قال: الله أكثر.

بعض آداب الدعاء

أيضًا من الفوائد: دلت الآية على بعض آداب الدعاء، فإن الله تعالى قال: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]؛ فقوله: إذا دعان فيه إشارة إلى أهم أدب من آداب الدعاء وهو الإخلاص لله سبحانه إذا دعان يعني: أخلص لله في دعائه.

فهذا الإخلاص هو من أعظم الأسباب، ويدل لذلك قول الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]؛ فهذا الإخلاص الذي صحب دعوة المضطر كان سببًا لإجابة الدعاء، مع وجود المانع وهو الشرك، يعني هؤلاء مشركون، ومع ذلك أخلصوا لله تعالى في دعائهم بسبب الاضطرار، فاستجاب الله لهم، فأصبح الإخلاص أقوى فدفع المانع، يعني قوة الإخلاص دفعت وجود المانع، فهذا يبين لنا أهمية الإخلاص.

ولذلك المضطر تستجاب دعوته، حتى وإن كان كافرًا؛ لأن المضطر يصحب قلبه شيء من الإخلاص لله : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] فالله تعالى يجيب دعوة المضطر، وقد ذكر الله تعالى هذا في الآيات الدالة على ربوبيته ووحدانيته: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [النمل:60] أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا [النمل:61] ثم قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] لماذا؟

لأن هذا من الأدلة على ربوبية الله ووحدانيته، كون الإنسان إذا اضطر يجد إجابة الدعاء، فهذا دليل على وجود الله، وعلى وحدانيته سبحانه، وأن معرفة الله مركوزة في فطرة الإنسان، فهذا إذن الأدب هو من أعظم الآداب.

فإذا دعوت الله تعالى، وكنت على حالة كحالة المضطر تأتي الإجابة، إذا دعوت الله كأنك مضطر، كأنك في سفينة تكاد تغرق، تقول: يا رب، يا رب، تجد إجابة الدعاء مباشرة، لكن الذي يدعو بقلب غافل لاه، هذا هو الذي لا تستجاب دعوته.

طيب المظلوم، المظلوم تستجاب دعوته؛ لماذا؟ لأنه يدعو الله بإخلاص بحرارة، بسبب الظلم الواقع عليه يدعو الله بحرارة وبإخلاص، فتستجاب دعوته، كما قال عليه الصلاة والسلام: واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب [6]، فعندنا المضطر والمظلوم تستجاب دعوتهما بسبب ما يقوم بقلبيهما من الإخلاص العظيم لله ، والحرارة التي تكون في القلب، والاضطرار إلى الله .

وفي قوله: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، في قوله: وَلْيُؤْمِنُوا بِي على قول بعض المفسرين: أي أني قادر على إجابة دعوته، هذا فيه إشارة لأدب من آداب الدعاء، وهو أن الداعي يدعو الله تعالى وهو موقن بالإجابة، ولا يستبعد إجابة الدعاء، أي: يحسن الظن بالله سبحانه.

فإن بعض الناس يقول: دعوت، دعوت، ولم يستجب لي، هذا من أعظم أسباب موانع الدعاء؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت، قد دعوت، فلم يستجب لي [7]؛ فمن أعظم أسباب موانع الدعاء: الاستعجال في الإجابة، إذا دعوت الله تعالى لا تستعجل في الإجابة لا تستعجل، ادع الله تعالى، واستمر في الدعاء يستجاب لأحدكم ما لم يعجل.

كثير من الناس يستعجلون؛ يدعو الله مرة مرتين ثلاث، ثم يقول: لم أر أثرًا للإجابة، فيدع الدعاء، هذا من أعظم موانع إجابة الدعاء، فعلى المسلم أيضًا إذا دعا الله ألا يستعجل الإجابة، وإنما يستمر في دعائه لله .

أيضًا من الآداب: التضرع: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55] فذكر الله تعالى أدبين من آداب الدعاء:

  • الأدب الأول: التضرع: الله تعالى يحب من عبده حين يدعوه أن يدعوه بتضرع إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، يعني: كثير التأوه، يدعوه بتأوه وبتضرع، وبانطراح بين يديه وبتمسكن، هذا من أعظم أسباب إجابة الدعاء.
  • كذلك أيضًا: وَخُفْيَةً إخفاء الدعاء، عدم رفع الصوت به، رفع الصوت ينافي التضرع، وينافي الخشوع المطلوب، وأيضًا: هو نوع من الاعتداء في الدعاء: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، هذا يدل على أن رفع الصوت أنه اعتداء.

حكم رفع الصوت عند الدعاء

ولذلك يعني الذين يرفعون أصواتهم في الدعاء، نقول: إن هذا نوع من الاعتداء، ويلاحظ هذا مثلًا في دعاء القنوت لبعض أئمة المساجد عندما يدعو يرفع صوته، كأنه يخطب خطبة جمعة، هذا نوع من الاعتداء، ينبغي أن يخفض الصوت بقدر ما يسمع من خلفه فقط، بصوت خاشع، أما رفع الصوت بهذه الطريقة التي نراها من بعض أئمة المساجد، يرفع صوته بهذه الطريقة هذه ما في خشوع، المطلوب منه إخفاء الدعاء ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55].

ثم أنت الآن تريد أن تسمع من خلفك فقط؛ لكي يؤمنوا على الدعاء، وإلا الله تعالى يعلم السر وأخفى، فلا داعي لرفع الصوت عند الدعاء، ينبغي أن تخفض صوتك بقدر ما تسمع من خلفك من غير حاجة لرفع الصوت.

بل ينبغي أن يكون صوتك أثناء الدعاء أقل من صوتك أثناء التلاوة، هذا من الفقه، وينبغي أن يكون أيضًا الدعاء بتضرع، يعني يلاحظ أيضًا من بعض أئمة المساجد عندما يدعو دعاء القنوت يأتي به ملحنًا منمقًا مسجوعًا، سبحان الله! كأنه يريد فقط أن يعني يزوق العبارات، ويجملها في أسماع الحاضرين، لا، هذا ينافي المقصود من الدعاء.

ينبغي أن يكون الدعاء بتضرع بخشوع بتذلل بانطراح بتمسكن، مع إخفاء الصوت ما أمكن، هذا هو الدعاء الذي يكون حريًّا بالإجابة؛ ولذلك فكون الداعي يدعو من غير تلحين هذا أقرب.

أنت إذا كنت وحدك، الآن يا شيخ محمد عندما تدعو وحدك، هل تلحن؟ ما تلحن، طيب لماذا إذا كنت إمامًا تلحن؟ هذا ينافي المقصود من الدعاء؛ ولهذا يعني نبهت على هذا قبل سنوات، ولاحظت في الآونة الأخيرة ولله الحمد في تجاوب من بعض طلبة العلم، وبعض أئمة المساجد، فأصبحوا لا يأتون بهذا التلحين غير المقبول، لا نقول له: حرام، لكن نقول له: أنه خلاف الأولى، وأن الأولى أن يأتي المسلم بالدعاء بخشوع وتذلل وتضرع وتمسكن مع إخفاء الصوت أيضًا ما أمكن يعني، لا يرفع صوته، وإنما يأتي بصوت بقدر ما يسمع الحاضرين.

أيضًا من آداب الدعاء: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف:56] أن يصحب الدعاء الخوف والطمع، الطمع في ماذا؟ الطمع في الإجابة، إذا دعوت الله تعالى يقوى عندك الرجاء والطمع في الإجابة، مع الخوف من الله وخشيته، وخوفًا من الله ما يقبل منك هذا العمل.

فيكون هذا الخوف، هذا الشعور بالخوف والطمع يكون مصاحبًا للدعاء، هذا أيضًا من أسباب الإجابة.

أيضًا من أسباب الإجابة: ولعلي أختم بها، أن يتقدمه الثناء، وقد علمنا الله في سورة الفاتحة، سورة الفاتحة فيها دعوة عظيمة، فيها دعاء عظيم أعظم ما يكون من الدعاء، دعاء يحتاج له المسلم كل يوم اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] سؤال الله الهداية للصراط المستقيم، هذا دعاء عظيم.

لكن انظر كيف أن الله سبحانه قدم قبل هذا الدعاء الثناء: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]  الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] ثناء، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] تمجيد، كل هذا؛ ولذلك إذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يقول الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يقول الله: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يقول الله: مجدني عبدي، وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يقول الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين، وإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ قال الله: سألني عبدي ولعبدي ما سأل [8].

فعلمنا الله تعالى أن نقدم بين يدي دعائه الثناء عليه، في سورة الفاتحة تقدم على الدعاء بالهداية: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هذا الثناء على الله سبحانه؛ ولهذا النبي في الشفاعة العظمى عندما الناس يحشرون في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يوم يجعل الولدان شيبًا، يوم تدنو فيه الشمس، حتى تكون من الخلائق على قدر ميل، يصيب الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون معه، ولا يحتملون، فيكلم الناس بعضهم بعضًا، لماذا لا نذهب لأحد يشفع لنا عند الله؛ لكي يفصل ويقضي بين عباده.

فيذهبون لآدم ويعتذر، ويذهبون لأولي العزم من الرسل: لنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، كلهم يعتذرون، حتى يأتون محمدًا فلا يعتذر، فيسجد تحت العرش، يقول عليه الصلاة والسلام: فيفتح الله عليَّ من محامده، وحسن الثناء عليه شيئًا لا أحصيه الآن [9]، ثم يدعو يسأل الله يشفع بأن الله يفصل ويقضي بين عباده، فيجيب الله دعاءه، فلاحظ كيف أن هذا الدعاء سبقه الثناء على الله ​​​​​​​، فهذا يدل على أن من أعظم أيضًا آداب الدعاء أن يسبق الدعاء الثناء على الله سبحانه.

ولهذا لما سمع النبي رجلًا يدعو، ولم يحمد الله، ولم يصل على رسوله، قال: عجل هذا [10]؛ فينبغي أن يسبق الدعاء أن يسبقه ثناء وتمجيد لله ​​​​​​​، وصلاة على رسوله .

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] إذا استشعر المسلم هذا القرب من الله قرب الله من الداعي؛ ولهذا يعني في آيات القرآن التي ورد فيها السؤال يكون الجواب مقرونًا بـــ قل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222]، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه:105]، كلها فيها قل، إلا هذه الآية ما فيها قل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] هذا فيه إشارة إلى قرب الله ​​​​​​​ من الداعي.

فلم يجعل الله تعالى حتى الواسطة للنبي عليه الصلاة والسلام يقول له: قل، فإن الله قريب، إشارة إلى قرب الله تعالى من الداعي، قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ مباشرة، لكن كما ذكرنا هو قرب على الوصف اللائق بالله ، ليس كقرب المخلوقين؛ لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

هذه أبرز الفوائد المستنبطة من هذه الآية، وننتقل في بقية الحلقة للآية التي بعدها.

المقدم: هل تسمحون يا شيخ ببعض الأسئلة؟

الشيخ: نعم، تفضل.

أرجى أوقات الإجابة

المقدم: أوقات الإجابة هل ممكن يا شيخنا أن ترشدنا إلى بعض أوقات الإجابة التي يندب الداعي إليها؟

الشيخ: هناك أوقات يكون الدعاء فيها حريًّا بالإجابة، ومن ذلك:

  • ساعة الجمعة، وأرجى ما قيل فيها: أنها آخر ساعة من الجمعة بعد العصر، والمقصود بالساعة ليست ستين دقيقة، إنما لحظات التي تسبق غروب الشمس.
  • وأيضًا: من دخول الخطيب إلى أن تقضى الصلاة.
  • كذلك أيضًا: هناك ساعة إجابة في الليل، كما قال عليه الصلاة والسلام: إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه الله إياه [11]، رواه مسلم، يعني: لحظات يستجاب فيها الدعاء، وأرجى هذه اللحظات: آخر الليل قبيل أذان الفجر.
  • كذلك أيضًا: السجود أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم [12].
  • كذلك أيضًا: الصائم عند فطره: إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد [13]، وهي اللحظات التي تسبق الإفطار.
  • كذلك أيضًا: بين الأذان والإقامة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وغيره: لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة [14]، فإذا أتيت المسجد، وأتيت بالسنة الراتبة وتحية المسجد، ارفع يديك وادع إلى أن تقام الصلاة، هذا الدعاء حري بالإجابة.

المقدم: الخيرة يا شيخنا في الدعاء، بعضهم يعني يستدل على تأخر الإجابة بأن خيرة الله ​​​​​​​ في تأخير الإجابة، مثلًا النبي حوصر في الشعب ثلاث سنوات، وكان يدعو، ولم تأت الإجابة إلا بعد ثلاث سنوات، فهذا يدل على أن تأخير الإجابة هو خيرة الله في هذا العبد في هذا الأمر الذي دعا به.

الشيخ: نعم، إذا دعا المسلم ربه، لا يشترط على ربه وقتًا معينًا، الله تعالى حكيم عليم، الله أحكم الحاكمين جل وعلا، فقد تتأخر إجابة الدعاء، وقد تدخر في الآخرة، لا تقضى حاجته أصلًا، وإنما تدخر في الآخرة، وقد يدفع عنه من السوء مثلها، فالله تعالى هو أحكم الحاكمين جل وعلا.

ولهذا كان عمر  يقول: أني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة.

تفسير قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ..

ننتقل إلى الآية التي بعدها، يقول الله ​​​​​​​: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187].

قوله: أُحِلَّ لَكُمْ: فيه إشارة إلى النسخ؛ وذلك أنه كان في أول الإسلام كان من غربت عليه الشمس وهو نائم، فلا يحل له أن يفطر إلا بعد غروب شمس اليوم التالي، لا يحل له الأكل ولا الشرب ولا الجماع.

وقد جاء في صحيح البخاري: أن قيس بن صرمة الأنصاري كان يعمل في حقله طيلة النهار، وعندما رجع إلى بيته لم يجد ما يأكله، فذهبت زوجته تبحث له عن طعام، فلما رجعت وجدته نائمًا، قالت: خيبة لك، فاستمر صائمًا حتى اليوم التالي لم يأكل ولم يشرب، وفي نهار اليوم التالي أغمي عليه من شدة الجوع والعطش، فأنزل الله ​​​​​​​ هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] [15].

وروي أيضًا بالنسبة للجماع أن عمر لما رجع إلى بيته في ساعة متأخرة من الليل أراد جماع زوجته، فقالت: إني كنت نائمة، يعني وقت غروب الشمس، ومن كان نائمًا يلزم الصيام إلى غروب شمس اليوم التالي.

فظن عمر أنها تتعلل لأجل ألا يواقعها، فواقعها، وفي الصباح ذهب إلى رسول الله فأخبره، قال عليه الصلاة والسلام: لم تكن حقيقًا بذلك يا عمر، كيف تفعل هذا؟ فقال عمر : ظننتها غير نائمة، وكلهم يفعلون ذلك، كل الحاضرين يفعلون، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام الحاضرين عن ذلك، فقام عدد كبير منهم قالوا: نعم، فأنزل الله ​​​​​​​ الآية: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:187] [16].

لكن انظر إلى رحمة الله بعباده: فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]؛ فنسخ ذلك الحكم رحمة من الله ​​​​​​​ بعباده، فأصبح إذا غربت الشمس حل كل شيء للصائم، حل كل شيء كان محرمًا عليه بالصيام من الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر، فنسخ ما كان موجودًا في أول الأمر، وهذا من رحمة الله ​​​​​​​ بعباده.

فقوله: أُحِلَّ لَكُمْ [البقرة:187] فيه إشارة إلى النسخ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] الرفث المقصود به الجماع.

هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ يعني: يسترنكم عن الوقوع في المحرمات وأنتم أيضًا تسترونهن، فالمقصود بذلك يعني الستر عن الوقوع في المحرمات، وأيضًا اللباس فيه إشارة إلى القرب، وإلى الملابسة يعني كأنه أثناء الجماع كأنه يلبسها وتلبسه، ففيه إشارة إلى ذلك.

عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:187] فيه إشارة للمعنى الذي ذكرت: أن بعض الصحابة كان يقع في الجماع في أول الأمر، وكانوا ممنوعين منه.

فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187] قيل: إن في تفسير الآية: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني: في طلب الولد؛ لأن الإنسان يطلب الولد بالجماع إذا حصل منه الجماع، فإنه يكون قد تسبب في طلب الولد، والولد قد يحصل منه منافع كثيرة وكبيرة، وهم من زينة الحياة الدنيا: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46] فمن أسباب تحصيل الولد: هو المواقعة للزوجة؛ ولهذا قال: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187].

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] المقصود بذلك: بياض النهار من سواد الليل الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ هو بياض النهار، والْخَيْطِ الْأَسْوَدِ هو سواد الليل.

وقد جاء في صحيح مسلم وغيره: عن عدي بن حاتم: أنه لما نزل قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] قام عدي وأحضر خيطين أبيض وأسود، وجعلهما تحت وسادته، وجعل يأكل ويشرب، حتى يطلع الصبح فيرى الأبيض من الأسود، فلما علم النبي قال له: إن وسادك إذًا لعريض، إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل [17]، ونزل قول الله تعالى: مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] لأن أول ما نزل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة:187] فلما حصلت هذه القصة من عدي نزل قول الله تعالى: مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] من باب زيادة التوضيح.

لكن قوله عليه الصلاة والسلام: إن وسادك إذًا لعريض يعني بعض العلماء قالوا: إن هذا الكلام على ظاهره، يعني: كيف يكون وسادك تسع لأن تنام عليه ولوضع الخيطين عليه إذن هذا وساد عريض.

وقيل: إن هذا فيه تعريض، يعني لهذا الصحابي يعني كيف تفهم هذا الفهم، وأن العرب كانوا يقولون مثل هذا الكلام، يعني أن رقبتك عريضة، أنك لعريض القفا، يعني أنك غبي، كيف لم تفهم هذا، وبكل حال، فالذي يظهر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقصد بذلك الإساءة لعدي، وإنما يعني قصد إما المعنى الأول، النص على ظاهره، أو قصد ممازحته وملاطفته بهذه العبارة.

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] الليل يبدأ بغروب الشمس.

وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] فنهى الله تعالى عن الجماع ومقدماته للمعتكف في المسجد.

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187] هذه يعني معاني الكلمات.

فوائد من الآية أحل لكم ليلة الصيام الرفث..:

ننتقل بعد ذلك للأحكام والفوائد:

أولًا: دلت هذه الآية على امتنان الله ​​​​​​​ على عباده، ورحمته بهم بإباحته الرفث إلى نسائهم في ليالي رمضان بعد أن كانوا ممنوعين منه، هذه نعمة من الله ​​​​​​​، وقد كان بعض الصحابة لم يتحمل، فكانوا يختانون أنفسهم، كانوا يقعون في الرفث في الليل، وهم ممنوعون منه، ولكن الله ​​​​​​​ من رحمته بعباده وكرمه وفضله وجوده أباح ذلك، فنسخ ذلك الحكم.

أيضًا من الفوائد: أن الزوجة ستر للزوج، والزوج ستر للزوجة، وبينهما في القرب كما بين الثياب ولابسيها، ثم إن كل من الزوج والزوجة يكون سببًا لإحصان الطرف الآخر، فهو سبب لإحصان الفرج، وغض البصر، فالنكاح فيه فوائد كثيرة؛ ولهذا جعله الله تعالى من سنن المرسلين: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
ولما أراد بعض الصحابة يعني لما سألوا عن عبادة النبي عليه الصلاة والسلام تقالوها، ثم قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم الليل ولا أرقد أبدًا، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء، فقال عليه الصلاة والسلام: أما إني أخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني [18].
فبين عليه الصلاة والسلام أن الرغبة عن الزواج لأجل التبتل للعبادة أن هذا خلاف السنة، وأن هذا رغبة عن السنة، وهذا ليس موجودًا في شريعة الإسلام، لا رهبانية في الإسلام، هذا موجود في بعض الديانات، تجد أن الراهب مثلًا النصراني ينقطع ويتبتل ولا يتزوج، هذا ليس موجودًا في الإسلام، لا رهبانية في الإسلام.
ولهذا استأذن بعض الصحابة في الاختصاء فلم يأذن لهم؛ لأن الإنسان إذا اختصى، يعني إذا قطعت خصيته انعدمت الشهوة عنده تمامًا، فيقول: نحن نريد التفرغ للآخرة، وهذه الشهوة قد تشوش علينا هذا التعبد لله، فلم يأذن لهم النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الإسلام يريد من الإنسان أن يندمج في الحياة، فلا رهبانية في الإسلام، أن تندمج في الحياة، وأن تكون..، تفهم العبادة بمعناها الشامل، العبادة تكون في كل شيء، اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، حتى في إتيانه لأهله.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته فيكون له أجر؟ قال: أرأيت إن وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال [19].

أيضًا من الفوائد: عِلم الله ​​​​​​​ بما في النفوس؛ لأن الله تعالى قال: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:187] فالله تعالى يعلم بما في نفس العبد، بل يعلم السر وأخفى، ما هو أخفى من ذلك، وهو ما تحدث به نفسك قبل أن تحدث به نفسك، سبحان الله!
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:14] فالله تعالى عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، هو يعلم ما في النفوس جل وعلا: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:14]، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:187].

أيضًا من الفوائد: أن الإنسان كما يخون غيره، فقد يخون نفسه؛ ولهذا قال: تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:187] فالإنسان قد يخون نفسه عندما يوقعها في المعاصي في معصية الله سبحانه، أو عندما يقصر في طاعة الله سبحانه يكون بهذا قد خان نفسه، ويكون بهذا عدو لنفسه؛ ولهذا انظر إلى قول الله سبحانه: تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:187].

أيضًا من الفوائد: استحباب السحور؛ لقوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] فأذن الله تعالى في الأكل والشرب إلى أن يتبين الصبح، وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي السحور؛ لأنه إذا كان الأكل إلى الصبح فمعنى ذلك أنه يستحب أن يكون هناك أكل قبل الفجر حَتَّى يَتَبَيَّنَ كلوا.. حتى يتبين.
وهذا قد جاء مصرحًا به في السنة، فقال عليه الصلاة والسلام: تسحروا، فإن في السحور بركة [20]، رواه مسلم، وهذا أمر، وأقل ما يفيده الأمر الاستحباب، وهذا يدل على أن السحور للصائم سنة.
وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن فيه بركة، فمن بركته أولًا: اتباع السنة، ومن بركته: تقوي الصائم في نهاره، وهذا أمر ملاحظ، أن الصائم إذا تسحر يكون نشيطًا في نهاره، بخلاف إذا لم يتسحر فإنه يضعف.
فعلى المسلم أن يحرص على تطبيق السنة، وأن ينوي بذلك إصابة السنة، بعض الناس لا يتسحر، تجد أنه ينام، ثم يقوم لصلاة الفجر ناويًا الصيام هذا خلاف السنة، ينبغي أن تقوم قبيل أذان الفجر وتتسحر، ليس المقصود بالسحور كما يفهم بعض العامة أنه لا بد من الوجبة كاملة لا، حتى تمرات تأكلها فقط، تأكل مثلًا تمرة أو تمرتين أو ثلاث تمرات مع كوب ماء هذا يكفي.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: نعم سحور المؤمن التمر [21]، رواه أبو داود بسند صحيح، فيعني معنى السحور أن تأكل شيئًا قبيل أذان الفجر، فهذا سنة للصائم، سواء كان صيامه صيام فريضة، أو صيام نافلة.

أيضًا من الفوائد: جواز أن يصبح الصائم جنبًا، من أين أخذنا هذه الفائدة؟ أخذناها من أن الله ​​​​​​​ قال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] وكلوا واشربوا، يعني: وما يتبع ذلك من الجماع ونحوه؛ لأنه قال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ [البقرة:187] ثم قال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ [البقرة:187] فمعنى ذلك: أن الصائم مسموح له في الليل بالأكل والشرب والجماع طيلة الليل، حتى يتبين الفجر، فإذا كان مسموح له بالجماع حتى يتبين الفجر، فهذا يستلزم أن يطلع عليه الفجر وهو جنب، وهذا لا يضر، وقد كان النبي يصبح وهو جنب، ويغتسل بعد طلوع الصبح، كما أخبر بذلك زوجاته عليه الصلاة والسلام.
فكون الإنسان لا يغتسل إلا بعد طلوع الفجر لا يضر بالنسبة للجنب، ولا حتى بالنسبة للمرأة الحائض مثلًا إذا طهرت قبل أذان الفجر، ولم تغتسل إلا بعد الأذان، فصومها صحيح.

أيضًا: أن الفجر الصادق الذي يحرم الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات على الصائم هو الذي يكون بتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ ولهذا قال سبحانه: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] يعني: طلوع الفجر الصادق.
وهناك الفجر الكاذب والفجر الصادق، الفجر الكاذب: هو الذي يكون كذنب السرحان يكون عموديًّا، أما الفجر الصادق فهو الذي يخرج معترضًا في الأفق، وإذا خرج فإنه يزداد ضوؤه شيئًا فشيئًا حتى ينفجر، فهذا هو الذي يحرم الأكل والشرب على الصائم، وهو الذي أيضًا يدخل معه وقت صلاة الفجر.

أيضًا من الفوائد: أن من أكل أو شرب وهو شاك في طلوع الفجر أن صومه صحيح، أخذنا هذا من قول الله سبحانه: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ [البقرة:187] يعني: بشكل واضح، فمن أكل أو شرب وهو شاك لم يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيكون صومه صحيحًا، وهذا قد نص عليه الفقهاء، وقالوا: من أكل أو شرب وهو شاك في طلوع الفجر فإن صومه صحيح؛ لأن الأصل بقاء الليل.

أيضًا من الفوائد: أن وقت الصيام ينتهي بالليل: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] والليل يبدأ بغروب الشمس، طيب غروب الشمس كيف يكون غروب الشمس؟ غروب الشمس يكون بسقوط القرص تحت الأفق في المكان المستوي، وليس بذهاب الحمرة، وإنما بسقوط القرص، مجرد أن القرص يسقط فيجوز الفطر للصائم، وأيضًا يجوز أن يدخل وقت صلاة المغرب، فهذا يكون بسقوط القرص، وليس بذهاب الحمرة.
ويمكن الآن أن يستدل للغروب بالتقاويم، وكذلك أيضًا أجهزة الإحداثيات هي دقيقة بالنسبة لشروق الشمس وغروبها، لكن في المكان المستوي، أما في المكان المرتفع فلا، المكان المرتفع أحيانًا يحصل فيه يعني إشكال، لا بد من حساب الارتفاع، لكن في المكان المستوي، أو الهضبة المستوية مثل مدينة الرياض مثلًا غروب الشمس في التقاويم دقيق فيعتمد عليه.

أيضًا من الفوائد: مشروعية الاعتكاف؛ لقول الله تعالى: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] وقد كان النبي يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، والاعتكاف معناه: لزوم المسجد لطاعة الله سبحانه، وهو مشروع للرجال وللنساء.

أفضل أوقات الاعتكاف

وأفضل أوقات الاعتكاف العشر الأواخر من رمضان، والآية فيها إشارة لذلك في أن الله تعالى ذكر الاعتكاف في آخر آيات الصيام، ذكر الله تعالى الاعتكاف في آخر آيات الصيام، وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الاعتكاف في آخر شهر الصيام في العشر الأواخر من رمضان، وهذا كان النبي غالبًا يفعل ذلك، كان معظم الأشهر يعتكف في العشر الأواخر.

لكن كان في أول الأمر اعتكف في العشر الأول طلبًا لليلة القدر، فقيل: إن ليلة القدر أمامك، فاعتكف في العشر الأواسط، فقيل: ليلة القدر أمامك، ثم استقر اعتكافه على العشر الأواخر إلا في سنة من السنوات تنافس زوجاته كل زوجة أتت بخباء لكي تعتكف معه في المسجد، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأخبية قال: آلبر تردن؟ [22]، ثم أمر بنزع الأخبية، ولم يعتكف هذا العام.

لكنه عليه الصلاة والسلام قضى هذا الاعتكاف في العشر الأولى من شهر شوال، وما عدا ذلك كان عليه الصلاة والسلام يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فأفضل ما يكون الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وهو كما ذكرت مشروع للرجال وللنساء.

وفي قول الله سبحانه: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] فيه إشارة إلى أن الجماع ومقدماته أنه يبطل الاعتكاف، فلا يجوز للمعتكف أن يجامع، ولا أن حتى يأتي بمقدمات الجماع.

وهذه المسألة قد يحتاج لها فيما لو اعتكف في المسجد، ثم مثلًا ذهب لدورة المياه في بيته مثلًا؛ لعدم وجود دورة مياه في المسجد، أو لكونها غير مهيأة، أو لحاجة، فهنا ليس له أن يأتي أهله، ولا حتى بمقدمات الجماع؛ ولهذا قال: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا يعني: المقصود بحدود الله في الآية: أنها محارم الله، والحدود قد تطلق على المحارم، وقد تطلق على الحلال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]، هنا فلا تقربوها، يعني: على محارم الله تعالى، ما حرم الله تعالى ما تقربه.

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187] وضح الله تعالى وبين لأجل تحقيق التقوى لله سبحانه، ولاحظ هنا أن التقوى تتكرر في آيات الصيام، في الآية الأولى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] وفي آخر آية من آيات الصيام قال أيضًا: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187] وهذا فيه إشارة إلى أن المقصود من الصيام هو تحقيق التقوى لله .

ولهذا فالصائم الذي لا يحقق هذه الثمرة لا يكون قد حقق المقصود من الصيام، ولا يؤجر على الصيام، بل يكون لا أجر له، وإن كان هذا الصيام تحصل به براءة الذمة، كما قال عليه الصلاة والسلام: من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه [23]، أخرجه البخاري في صحيحه، يعني: من لم يتأدب بآداب الصيام، ويمسك عن المحرمات القولية والفعلية، القولية أشار لها بقوله: قول الزور، والفعلية بقوله: والعمل به؛ فقد يصل إلى مرحلة أن ليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، يعني لا يؤجر على هذا الصيام فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه لأن الصيام ليس فقط إمساك عن الأكل والشرب والجماع والمفطرات الحسية فحسب، بل يشمل كذلك الإمساك عن المعاصي، كل معصية تخدش الصوم، كل معصية تنقص من أجر الصائم، إذا كثرت المعاصي قد يصل إلى هذه المرحلة المذكورة في الحديث: فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.

المقدم: في فرصة للأسئلة.

الشيخ: نعم، تفضل.

حكم الأكل أو الشرب عند الأذان

المقدم: ما حكم الأكل على الأذان، أن يأكل الإنسان أو يشرب والمؤذن يؤذن؟

الشيخ: لا بأس بذلك، أولًا: لأن السنة قد دلت لهذا، كما في قول النبي : إذا سمع أحدكم النداء، والإناء في يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه [24]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود، وله عدة طرق وشواهد، وهو ثابت بمجموعها، وهذا نص في المسألة.

أيضًا من جهة النظر الفجر عندما يطلع لا يخرج دفعة واحدة، يعني كمصباح يضيء، هو ليس كبقية الأوقات يعني مثلًا الزوال تزول الشمس في لحظة مثلًا، العصر مثلًا حين يصبح ظل كل شيء مثله…، أيضًا في لحظة، غروب الشمس يأتي في لحظة.

لكن الفجر لا، الفجر حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ [البقرة:187] الإضاءة تزداد شيئًا فشيئًا؛ ولذلك قد يرقب الفجر اثنان فيختلفان أحدهما يقول: طلع، والآخر يقول: ما طلع.

ولهذا نقول: لا بأس أن يأكل الإنسان أو يشرب وقت الأذان: إذا سمع أحدكم النداء، والإناء في يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه.

المقدم: متى يقف، مع نهاية الأذان؟

الشيخ: يقف مع نهاية الأذان، نعم.

المقدم: أحسن الله إليكم.

الشيخ: بارك الله فيكم.

المقدم: في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونشكر فضيلة ضيفنا الأستاذ الدكتور الشيخ سعد بن تركي الخثلان، شكرًا لكم يا فضيلة الشيخ.

الشيخ: وشكرًا لكم، وللإخوة المشاهدين.

المقدم: أيها المشاهدون نلقاكم في حلقة قادمة، نستودعكم الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2 رواه ابن ماجه: 1753.
^3 أخرجه عبد الله بن أحمد في “السنة”: 522.
^4 بنحوه رواه البخاري: 1145، ومسلم: 758.
^5 رواه الترمذي: 3573، وأحمد: 11133.
^6 رواه البخاري: 1496، ومسلم: 19.
^7 رواه البخاري: 6340، ومسلم: 2735.
^8 رواه مسلم: 395.
^9 بنحوه رواه البخاري: 4712، ومسلم: 194.
^10 رواه أبو داود: 1481، والترمذي: 3477، وأحمد: 23937.
^11 رواه مسلم: 757.
^12 رواه مسلم: 482.
^13 سبق تخريجه.
^14 رواه أبو داود: 521، والترمذي: 212، وأحمد: 12200.
^15 رواه البخاري: 1915.
^16 رواه أحمد: 15795.
^17 رواه البخاري: 4509، ومسلم: 1090.
^18 رواه البخاري: 5063، ومسلم: 1401.
^19 رواه مسلم: 1006.
^20 رواه البخاري: 1923، ومسلم: 1095.
^21 رواه أبو داود: 2345.
^22 رواه البخاري: 2033، ومسلم: 1173.
^23 رواه البخاري: 1903.
^24 رواه أبو داود: 2350.
مواد ذات صلة
zh