جدول المحتويات
المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزاءنا المُشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نحن معكم في سلسلةٍ بعنوان: "تفسير آيات الأحكام" يُقدمها فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان.
باسمي وباسمكم جميعًا أُرحب بفضيلة الشيخ.
الشيخ: أهلًا، حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المُشاهدين.
آيات الأحكام في سورة النساء
المقدم: شيخنا الكريم، انتهينا -ولله الحمد- من تفسير سورة "البقرة" في آيات الأحكام، والآن ننتقل -بإذن الله تعالى- إلى سورة "النساء"، وأول آيةٍ في الأحكام هي قول الله تعالى في أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ... الآية [النساء:1].
نستأذنكم في سماع تلاوةٍ لها، ثم نعود -بإذن الله- للشرح والتَّعليق.
الشيخ: لا بأس، إن شاء الله.
تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ...
القارئ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
المقدم: تفضل يا شيخنا بالتَّعليق على الآية.
الشيخ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
بعدما تكلمنا عن تفسير أبرز آيات الأحكام في سورة "البقرة"، ننتقل بعد ذلك للكلام عن تفسير أبرز آيات الأحكام في سورة "النساء"، وإنما تجاوزنا سورة "آل عمران"؛ لأن سورة "آل عمران" ليس فيها آياتٌ بارزةٌ في الأحكام، وإنما صَدْر سورة "آل عمران" نزل عام الوفود، ثم الآيات الأخرى نزلتْ في شأن غزوة أحد وما بعدها، وفي الكلام عن النفاق والمنافقين، فالأحكام كانت بارزةً في سورة "البقرة"، يليها بعد ذلك سورة "النساء"؛ ولهذا انتقلنا مباشرةً إلى سورة "النساء".
الفرق بين المكي والمدني
سورة "النساء" سورةٌ مدنيةٌ، والفرق بين المدني والمكي:
- أن المدني: ما نزل بعد الهجرة، ولو نزل في مكة.
- والمكي: ما نزل قبل الهجرة، ولو نزل في غير مكة.
هذا هو التعريف الصحيح للمكي والمدني.
فسورة "النساء" سورةٌ مدنيةٌ.
من سمات السور المكية: أنها قصيرةٌ، مثل: الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1- 2]، إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الواقعة:1]، فَقِصَر الآيات من ميزات السور المكية، وقوة الأسلوب، وموضوعها -في الغالب- مُتعلقٌ بالتوحيد وتقرير العقيدة.
أما السور المدنية فالغالب عليها طول الآيات، مثل: سورة "البقرة"، وسورة "آل عمران"، وسورة "النساء"، وموضوعها -في الغالب- يكون في الأحكام، وفي الفروع، وأيضًا في الكلام عن النفاق والمنافقين وما يتعلق بذلك.
والغالب في النداء في السور المكية: "يا أيها الناس"؛ لأن أكثر المُخاطَبين بها ليسوا مؤمنين، وفي السور المدنية: "يا أيها الذين آمنوا"، وهذا ليس دائمًا كما في هذه السورة، فهذه السورة مدنيةٌ، ومع ذلك ابتدأتْ بـ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ لأن هذا ليس دائمًا، وإنما على سبيل الأغلب.
النِّداء العام بالتقوى في افتتاح سورة النساء
ابتدأ الله هذه السورة بكلامٍ عن أصل الخِلْقَة، ثم بعد ذلك تكلم عن المواريث، ثم تكلم عن بعض أحكام النكاح والشِّقاق بين الزوجين، ثم بعد ذلك بقية هذه السورة في مُخاطبة اليهود والمنافقين.
سُميت هذه السورة بـ"سورة النساء"؛ لذكر النساء فيها في عدة آياتٍ وأحكامٍ مُتعلقةٍ بالنساء.
الآية الأولى ابتدأها الله بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، ونحن قلنا: إن من سمات السور المدنية: أن النداء فيها بـ"يا أيها الذين آمنوا"، وقلنا: غالبًا، وهذا من غير الغالب أن يكون النِّداء بـ"يا أيها الناس"؛ وذلك لبيان أن رسالة النبي عامَّةٌ لجميع الناس.
قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ فأمر الله بتقواه، وتقوى الله تعالى هي: أن يجعل الإنسانُ بينه وبين عذاب الله وقايةً بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
شرف الإنسان وتكريمه
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] هذه النفس الواحدة هي آدم ، فإن الله خلق جميع الناس وجميع البشر من نفسٍ واحدةٍ، وهو آدم أبو البشر الذي خلقه الله تعالى من ترابٍ، ثم نفخ فيه من روحه جلَّ وعلا.
أراد الله سبحانه أن يُظْهِر شرفه للملائكة بأمرين:
- الأمر الأول: أن الله علَّمه أسماء كل شيءٍ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [البقرة:31- 33]، فأظهر الله تعالى شرف أبينا آدم بأفضل وأشرف صفةٍ في الإنسان وهي: العلم.
- الأمر الثاني الذي أراد الله تعالى أن يُظْهِر به شرف أبينا آدم : أن الله أمر الملائكة بالسجود له: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة:34]، فسجدت الملائكةُ تكريمًا له.
فانظر إلى تكريم الله لهذا الإنسان وعظيم عنايته به، كيف أن الله أمر ملائكته بالسجود له، وعلَّمه أسماء كل شيءٍ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ.
هذا يُبيِّن أن الله كرَّم هذا الإنسان على كثيرٍ من المخلوقات، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70].
فينبغي للإنسان أن يعرف مقدار هذا التَّكريم، وأن يعبد الله كما أمره الله ، فالله فَضَّل الإنسان على أجناسٍ كثيرةٍ، وعلى مخلوقاتٍ كثيرةٍ؛ فَضَّله على الجمادات، وعلى النباتات، وعلى الحيوانات، وعلى مخلوقاتٍ كثيرةٍ.
ثم أظهر الله تعالى هذا الشرف وهذا التَّكريم للإنسان بأن الله أمر الملائكة بأن تسجد لأبينا آدم ، وعلَّمه أسماء كل شيءٍ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ، يُظْهِر الله تعالى شرف هذا المخلوق؛ ولهذا حسده إبليس وقال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]، وقال في الآية الأخرى: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، وفي زعمه أن النار أفضل من الطين، مع أن هذا غير صحيحٍ، ناقشه ابن القيم وغيره وقال: لا، الطين أفضل. لكن إبليس كان يعتقد هذا، كان يقول: كيف أسجد له وأنا أفضل منه: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ؟! فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟! فلعنه الله وطرده.
خَلْق حواء من آدم وقصة الخروج من الجنة
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] خلق من هذه النفس الواحدة زوجها، وهي حواء.
والزوج يُطلق على الذكر والأنثى، يقولون: الأفصح أن يُقال: زوجها، والمقصود به: أُمّنا حواء، خلقها الله تعالى من ضِلَعٍ من أضلاع آدم اليُسرى، فَخُلِقَت المرأة من ضِلَعٍ كما قال عليه الصلاة والسلام: وإن أعوج شيءٍ في الضِّلَع أعلاه إشارةً إلى اللسان، أي: أن المرأة يكون في لسانها ما يكون من العِوَج، ومن البَذَاءة، ونحو ذلك: فإن استمتعتَ بها استمتعتَ بها وبها عِوَجٌ، وإن ذهبتَ تُقِيمها كسرتَها، وكسرها طلاقها [1].
فالمرأة مخلوقةٌ من الرجل، خلق الله تعالى أُمَّنا حواء من أبينا آدم عليهما السلام: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وهذا أيضًا من تكريم الله للإنسان: أن الله تعالى خلق زوجه منه، ولم يجعله من جنسٍ آخر، وإنما منه، وجعل بين الرجل والمرأة مودةً ورحمةً.
ثم إن الله تعالى أمر أبانا آدم وأُمَّنا حواء عليهما السلام أن يَسْكُنَا الجنة، وأن يأكلا منها رغدًا حيث شاءا، ونهاهما فقط عن الأكل من شجرةٍ واحدةٍ، ونهاهما عن أن يَغُرَّهما الشيطان: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، ومع ذلك أتى الشيطان إلى أبينا آدم وأُمِّنا حواء عليهما السلام، ونظر إلى أضعف نقطةٍ في الإنسان.
أضعف شيءٍ في الإنسان هو الطمع، فالطمع هو الذي يُذْهِب عقول بني آدم، سبحان الله!
يعني: إلى الآن نرى كثيرًا من الناس تذهب تجاراتهم وأموالهم بسبب الطمع، فالطمع هو الذي يذهب معه عقل الإنسان، وما يُفكر بالطريقة الصحيحة.
فنظر الشيطان إلى نقطة الضعف هذه عند آدم وحواء عليهما السلام؛ فأراد أن يُطَمِّعهما، قال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20]، يعني: هذه الشجرة فيها سِرٌّ.
كان يمكن أن يقول آدم له: إذا كنت عرفتَ هذا السر فلماذا لا تأكل منها وتكون ملكًا وتكون من الخالدين؟!
لكن غَرَّهُ وحلف له بالله العظيم أنه صادقٌ: وَقَاسَمَهُمَا يعني: أقسم لهما بالله إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]؛ فأكلا من الشجرة.
سبحان الله!
فلما أكلا منها: بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [الأعراف:22] يعني: طار لباس الجنة عنهما، وانكشفت العورة، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف:22] أخذا ورق الجنة وجعلا يُلصقانه على العورة؛ حتى يَسْتُرَا به العورة.
وهذا يدل على أن الحياء من كشف العورة أمرٌ فطريٌّ.
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف:22]، جعلا يبكيان، وهما نادمان، لكن لم يعرفا كيف يتوبان.
ومن رحمة الله : أن تلقَّى آدم من ربه كلماتٍ، وهي: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، فقالها آدم وحواء عليهما السلام؛ فتاب الله عليهما، لكن مع ذلك قال الله: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طه:123]، أنت يا آدم وحواء وإبليس بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.
اختار الله هذا الكوكب -الأرض- الذي نعيش عليه، وهَيَّأَهُ لعيش بني آدم عليه؛ لأن الكواكب الأخرى القريبة منَّا والبعيدة غير مُهَيَّأةٍ؛ فهي إما أن تكون شديدة الحرارة، أو شديدة البرودة، لكن الأرض هَيَّأَها الله قبل إهباط أبينا آدم .
فأهبط الله أبانا آدم وأُمَّنا حواء عليهما السلام، وأهبط معهما الشيطان، وقال: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]، وأرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وبَيَّن ما يريده من عباده، وأقام الحُجَّة، واتَّضحت المَحَجَّة.
فهذه النفس الواحدة التي خلقها الله المقصود بها: أبونا آدم، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا المقصود: أُمّنا حواء عليهما السلام.
رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ... دلالة التعبير القرآني
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1] يعني: بَثَّ من آدم وحواء عليهما السلام رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً يعني: ذكورًا وإناثًا.
وهنا قال: رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، ولم يقل: ونساءً كثيراتٍ.
هنا المُفسرون اختلفوا: لماذا لم يقل الله : "ونساءً كثيراتٍ"؟
- قال بعضهم: إن الكثرة في الرجال عِزٌّ، بخلاف كثرة الإناث، خاصةً عند العرب، وعند بعض الناس، وإلى الآن في بعض الدول التي فيها كثافةٌ سكانيةٌ عاليةٌ، ولا يسمحون إلا بإنجاب مولودٍ واحدٍ فقط؛ يذهبون للطبيب، ويكشفون على مَن في رحم هذه المرأة، فإن كان ذكرًا أَبْقَوه، وإن كانت أنثى أَجْهَضُوها.
فالنفوس مجبولةٌ على حبِّ الذكور أكثر من الإناث، وإن كانت الشريعة الإسلامية قد حفظت الحقوق للإناث، وحَمَت الإناث، وكَرَّمَت المرأة تكريمًا عظيمًا ليس له نظيرٌ في أيِّ دينٍ من الأديان، ولا ملةٍ من الملل. - وقال بعضهم: إن الله لم يقل: "رجالًا كثيرًا ونساءً كثيراتٍ"؛ لأن الأصل في النساء القرار في البيت، فينبغي ألا تظهر كثرتهنَّ، وإنما تكون الكثرة للرجال.
والله تعالى أعلم وأحكم جلَّ وعلا.
تقوى الله: الوصية الجامعة للأنبياء والرسل
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [النساء:1] كرر الله الأمر بتقواه، والله تعالى أمر بتقواه في مواضع كثيرةٍ في القرآن، وذكر الله تعالى عن الرسل أنهم يأمرون أقوامهم بتقواه جلَّ وعلا: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:106]، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:124]، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:142]، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:161]، إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:177].
كل الأنبياء والرسل يأمرون بتقوى الله ، فهي أعظم وصيةٍ، وهي وصية الله للأولين والآخرين.
الأرحام بين قراءة الجَرِّ والفتح
ثم قال جلَّ وعلا: وَالْأَرْحَامَ، فيها قراءتان: قراءة الجَرِّ، وقراءة الفتح.
فإذا كانت على قراءة الفتح: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ يعني: اتَّقوا الله، واتَّقوا الأرحام، كأنه قال: اتَّقوا الله، واتَّقوا الأرحام أن تقطعوها.
أما على قراءة الجَرِّ: {الذي تساءلون به والأرحامِ} يعني: يسأل بعضُكم بعضًا بالرحم.
كان من عادة العرب أن يقولوا: "أسألك بالله وبالرحم"، أو "أسألك بالرحم التي بيني وبينك"، فهم يُقَدِّرون الرحم ويحترمونها، ويقولون: "أسألك بالرحم التي بيني وبينك"، أو "أسألك بالله وبالرحم"، فكانوا يتساءلون بالأرحام.
فهما قراءتان صحيحتان، ولا مُنافاة بينهما، وكلا المعنيين صحيحٌ؛ إما أن يكون المعنى: اتَّقوا الأرحام أن تقطعوها، أو يكون المعنى: الأرحام التي تتساءلون بها، "يتساءلون به والأرحامَ" يعني: يسأل بعضكم بعضًا بالرحم بأن يقول: "أسألك بالله وبالرحم"، أو "أسألك بالرحم التي بيني وبينك".
فهما معنيان صحيحان تُفيدهما هاتان القراءتان بالنَّصب والجَرِّ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ، {واتَّقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ}.
معنى الرقابة الإلهية وعلم الله بكل شيءٍ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] لما أمر الله بتقواه مرتين في الآية قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا يعني: يُراقبكم في جميع أحوالكم: هل اتَّقيتُموه أو لم تَتَّقوه؟
الله مُطَّلعٌ على عباده، لا تخفى عليه خافيةٌ؛ ولذلك تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265]، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283]، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات:18]، وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].
يُبيِّن الله لعباده أنه مُطَّلعٌ عليهم، لا يخفى عليه شيءٌ، فلا يظنّ الإنسان أن الله تعالى غافلٌ عما يعمل، أبدًا، الله تعالى حليمٌ جلَّ وعلا.
ما أحلم الله على عباده!
لكنه مُطَّلعٌ على عمل الإنسان، يعلم جلَّ وعلا ماذا يعمل الإنسان؟ ويعلم ما في صدره، ويعلم ما تُوسوس به نفسه، يعلم السرَّ وأخفى من السرِّ، يعلم ما تُوسوس به نفس الإنسان قبل أن تُوسوس به، فعلمه جلَّ وعلا محيطٌ بكل شيءٍ.
فلا يظن الإنسان أنه خافٍ على الله ، أو أن الله غافلٌ عنه، أبدًا، فالله مُطَّلعٌ عليه ورقيبٌ جلَّ وعلا.
فالرقيب عندما يُجْعَل على مستوى البشر: فلانٌ جُعِلَ عليه رقيبٌ يُراقبه مُراقبةً، مثلًا: مُراقبة الطلاب في الاختبار، تجد أن هذا الرقيب يُلاحظ هذا الإنسان، ما يغفل عنه؛ حتى لا يغشَّ إذا كان طالبًا، وحتى لا يهرب -مثلًا- إذا كان هذا الرقيب عسكريًّا، فالله تعالى رقيبٌ على عباده جلَّ وعلا، لا تخفى عليه خافيةٌ سبحانه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا.
أهم فوائد الآية
أبرز فوائد هذه الآية:
أولًا: وجوب تقوى الله على جميع الناس
كرر الله تعالى الأمر بالتقوى في هذه الآية مرتين، قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ [النساء:1]، وهذا يدل على أهمية التقوى وعظيم شأنها.
ثانيًا: خلق الإنسان من العدم رَدٌّ على نظرية التَّطور
أيضًا من فوائد هذه الآية: أن الناس أوجدهم الله من العدم، وفي هذا رَدٌّ على الملاحدة، وعلى مَن زعم أنَّ الإنسان كان أصله قردًا ثم تطور.
وهذه النظرية -كما يُقال- نظريةٌ غبيةٌ، فلو كان أصل الإنسان قردًا لماذا لم تتحول القرود الآن؟! فمنذ آلاف السنين القرود على وضعها، لماذا لم تتحول إلى بشرٍ؟!
يعني: هذه نظريةٌ من أغبى النَّظريات، كيف يكون أصل الإنسان قردًا؟! لماذا لم تتحول القرود منذ آلاف السنين؟! إذا كان هذا هو أصل الإنسان لماذا القرود باقيةٌ على وضعها وعلى حالها؟!
ثم أيضًا كيف يكون أصل الإنسان قردًا ثم يكون ذكرًا وأنثى؟!
لو كان أصل الإنسان قردًا لكان شخصًا واحدًا، كيف يكون ذكرًا وأنثى؟!
فهذا من كلام الملاحدة، ومن البعيدين عن نور الوحي والنبوة.
الإنسان خلقه الله تعالى من عدمٍ، وخلقه الله من طينٍ، ثم نفخ فيه من روحه جلَّ وعلا، وجعل أصل البشر أبانا آدم، ثم خلق حواء من آدم عليهما السلام.
ثالثًا: نعمة الله في خلق الزوج من جنس الإنسان
من فوائد هذه الآية: التَّذكير بنعمة الله بما خلق الله تعالى للإنسان من الأزواج، فقال: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، فلو كان زوج الإنسان من غير جنسه لم يكن من الممكن أن يركن إليه، ولا يمكن أن يحصل السكن، بل ينفر منه، فمن رحمة الله بالإنسان أن جعل زوج الإنسان من جنسه.
رابعًا: حكم قول: أسألك بالله، ومتى تجب الإجابة
أيضًا من الفوائد: أن التَّساؤل بالله تعالى -قول: أسألك بالله- أمرٌ واقعٌ عند العرب؛ لقوله: تَسَاءَلُونَ بِهِ [النساء:1] أن يقول: أسألك بالله. لكن ما حكم قول الإنسان لغيره: أسألك بالله؟
إن كان المقصود بذلك التَّذكير فلا بأس، أما إذا كان المقصود بذلك الإلزام فهذا قد يكون فيه إحراجٌ على المسؤول؛ ولذلك ينبغي اجتناب هذا إلا عند الحاجة.
طيب، إذا قال: أسألك بالله، هل تجب إجابته؟
إذا كان في أمرٍ واجبٍ تجب؛ ولذلك يقول بعض العلماء في قول النبي عليه الصلاة والسلام: مَن سألكم بالله يعني: مَن سألكم حقًّا واجبًا على المسؤول فَأَجِيبُوه.
أما إذا كان في أمرٍ مُحَرَّمٍ فلا، وإذا كان في أمرٍ مُباحٍ قال: "أسألك بالله كذا" فلا تجب إجابته، لكن تُستحب إلا إذا كان يلحق الإنسانَ الضَّررُ، يعني: إذا قال: "أسألك بالله" تتأكد إجابته إذا تيسر ذلك، لكنها لا تجب إلا أن يكون المسؤول أمرًا واجبًا.
خامسًا: وجوب صلة الرحم وتأكُّد حقِّها
أيضًا من فوائد هذه الآية: وجوب صلة الرحم وتأكُّد حقِّها، فإن الله ذكر هنا قال: تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ على القراءتين، وهذا يدل على تأكُّد الرحم.
والرحم قد دلَّت النصوص على عظيم شأن صلتها، والأجر العظيم والثواب الجزيل المُرتب على ذلك.
وأيضًا عظيم شأن قطيعتها، والعقاب العظيم المُرتَّب على ذلك.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين-: إن الله خلق الخَلْقَ حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله: أما تَرْضَيْنَ أن أصل مَن وصلكِ، وأقطع مَن قطعكِ؟ قالت: بلى. قال: فذاكِ لكِ [2]، فتكفل الله بأن يصل مَن وصل رحمه، وأن يقطع مَن قطع رحمه.
مَن يجب وصلهم، ومَن يُستحب وصلهم
طيب، كيف تكون صلة الرحم؟
ما دَلَّ عليه العُرْف؛ ولذلك الناس يُفَرِّقون، يقولون: فلانٌ واصلٌ، وفلانٌ قاطعٌ.
فكل ما كان فيه إدخالٌ للسرور على الرحم يدخل في صلة الرحم، وكل ما كان فيه أذيةٌ للرحم يدخل في قطيعة الرحم.
والأرحام ينقسمون إلى قسمين:
- أرحامٌ تجب صلتهم.
- وأرحامٌ تُستحب.
فالأرحام الذين تُستحب صلتهم جميع الأقارب، لكن الأرحام الذين تجب صلتهم ويترتب الإثم على قطيعتهم أرجح الأقوال في الضابط في هذا: أنهم هم المحارم، وهم الذين لو افترضتَ أن أحدهم ذكرٌ والآخر أنثى لما جاز أن يتزوج أحدهما بالآخر، هذا هو الضابط.
فالأرحام الذين تجب صلتهم: الوالدان وإن عَلَوَا، والأولاد وإن نزلوا، والإخوة، والأعمام، والأخوال، والخالات.
المقدم: الإخوة والأخوات؟
الشيخ: نعم، قلنا: الوالدان وإن عَلَوَا، والأولاد وإن نزلوا، والإخوة والأخوات، والأعمام والعمَّات، والأخوال والخالات.
هؤلاء تجب صلتهم، تجب وجوبًا، ويأثم الإنسان بقطع هذه الصلة، لكن مَن عداهم من الأقارب تُستحب، مثلًا: ابن عمٍّ تُستحب، ما تجب، وابن خالٍ تُستحب، ما تجب.
المقدم: شيخنا، أخوال الأب، وأخوال الأم، وأعمام الأب، وأعمام الأم؟
الشيخ: نُطبق الضابط، فإذا طبَّقنا الضابط -يعني- لو كان أحدهما ذكرًا، والآخر أنثى، لم يَجُزْ لهما أن يتزوجا؛ هنا تجب صلته، لكن -مثلًا- أبناء العم: لو كان أحدهما ذكرًا، والآخر أنثى، لجاز أن يتزوج بنت عمِّه، أو بنت خاله، أو بنت خالته.
سادسًا: التَّحذير من مُخالفة الله
أيضًا من الفوائد: التَّحذير من مُخالفة الله ؛ لقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، ومَن آمن بأنَّ الله رقيبٌ عليه سيحذر من مُخالفة الله .
ويُؤخذ من ذلك اسم الله "الرَّقيب"، فمن أسماء الله : "الرَّقيب"، فهو رقيبٌ على عباده، مُطَّلعٌ عليهم، لا تخفى عليه خافيةٌ.
وبذلك نكون قد انتهينا من الكلام عن الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.
تفسير قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ...
المقدم: ثم قال الله تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2].
نستمع لها ونعود -بإذن الله- للشرح والتَّعليق.
القارئ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2].
المقدم: تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية.
الشيخ: نعم.
ثم قال : وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا.
قال: وَآتُوا يعني: أعطوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ.
تعريف اليتيم
الْيَتَامَى جمع يتيمٍ، واليتيم معناه لغةً وشرعًا: هو مَن مات أبوه قبل البلوغ، يُعتبر يتيمًا، أما بعد البلوغ فلا يُعتبر يتيمًا.
"مَن مات أبوه" طيب، مَن ماتت أمه قبل البلوغ يُعتبر يتيمًا أو لا يُعتبر؟
لا يُعتبر يتيمًا، وبعضهم يُسَمِّيه "لطيمًا"، لكن لا يُعتبر يتيمًا؛ لأن فقد الأب أشدّ، فالأم يمكن أن يُؤْتَى بحاضنةٍ تُربِّي هذا الإنسان، لكن الأب هو الذي يُنْفِق على الإنسان ويقوم عليه ويرعاه، فَفَقْدُه مُؤلمٌ أكثر من فَقْد الأم.
وإن كانت الأم حقّها أعظم، فحقُّ الأم أعظم من حقِّ الأب، لكن حضانة هذا الطفل والقيام على شؤونه يمكن أن يقوم بها أيُّ أحدٍ؛ تقوم بها جدَّته، أو تقوم بها خالته، أو يُؤْتَى بخادمٍ، لكن الأب إذا فُقِدَ مَن الذي يرعى هذا اليتيم ويقوم على شؤونه ويُنْفِق عليه؟
لذلك اليتيم معناه في اللغة وفي الشرع: هو مَن مات أبوه قبل البلوغ.
لماذا قال الله: وَآتُوا ولم يقل: "ادفعوا أموال اليتامى"؟
قال: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ هنا قال: وَآتُوا، فكيف نُعطي اليتيم ماله وهو ما زال يتيمًا؟
هنا قال أهل العلم: إن هناك فرقًا بين الإيتاء والدفع؛ فالدفع لا يكون إلا بعدما يبلغ اليتيم ويكون راشدًا، كما في الآية التي بعدها: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6] هذا الشرط الأول، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] الشرط الثاني؛ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6].
دفع المال لليتيم لا يكون إلا بهذين الشرطين: بالبلوغ وإيناس الرشد، لكن الإيتاء -كوننا نُؤْتِي اليتيم ماله- ليس معناه: أن ندفعه له، وإنما المقصود أن أموال اليتامى لا تخونوا منها شيئًا، ولا تكتموا منها شيئًا، ولا تُفسدوها، بل أعطوهم إياها كما كانت، احفظوها لهم ونَمُّوها، هذا معنى الإيتاء.
المقدم: هل يُنْفق عليهم منها؟
الشيخ: يُنْفق عليهم منها، ويُنَمَّى هذا المال ويُحْفَظ لهم، هذا معنى الإيتاء.
إذن فرقٌ بين الإيتاء والدفع؛ فمعنى الإيتاء: أنك تقوم على مال هذا اليتيم؛ تُنْفِق عليه منه، وتُنَمِّيه، وتحفظه له، ولا تأكله؛ هذا هو إيتاء اليتيم.
أما الدفع فشيءٌ آخر؛ الدفع يكون بعد البلوغ وإيناس الرشد، وهذا ستتكلم عنه الآية الآتية: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6].
إذن لا بد أن نُفرِّق بين المعنيين: بين إيتاء اليتيم ماله، ودفع المال لليتيم، فهناك فرقٌ بين الأمرين.
يعني: كأنه يقول: مال اليتيم احفظه له، لا تأكله، نَمِّهِ له، أَنْفِقْ عليه منه.
معنى قوله تعالى: وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ
أكَّد الله هذا المعنى فقال: وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2] يعني: لا تأخذوا الخبيث بدلًا عن الطيب.
وهذا فيه معنيان عند المُفسرين:
- المعنى الأول: ألا تأخذوا الطيب من أموالهم وتُعطوهم الخبيث، كأن يكون لليتيم -مثلًا- شاةٌ سمينةٌ، وعند وَلِيِّه شاةٌ هزيلةٌ رديئةٌ، فيأخذ شاة اليتيم، ويُعطيه شاته الرديئة.
وهذا كان موجودًا عند العرب، كان أحدهم إذا وَلِيَ مال اليتيم يأخذ النَّفيس من مال اليتيم، ويُعطيه الرديء.
فهذا هو المعنى الأول لقوله : وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ. - المعنى الثاني: لا تأخذوا من أموالهم شيئًا؛ لأن أموالهم حرامٌ عليكم، والحرام خبيثٌ، فيكون المعنى: لا تأخذوا أموالهم فَتَسْتَغْنُوا بها عن الطيب الذي تكتسبونه بوجهٍ حلالٍ: وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ يعني: لا تأخذوا أموالهم، فإن أخذ أموالهم خبيثٌ، وابحثوا عن الطيب مما أباح الله تعالى لكم.
هذا هو المعنى الثاني للآية، وكلا المعنيين صحيحٌ.
التَّحذير من أكل أموال اليتامى خفيةً
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2]: إِلَى هنا بمعنى "مع"؛ أي: لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم.
وقيل: إن المعنى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ وأنها ضُمِّنَتْ معنى "تضم"؛ أي: لا تَضُمُّوا أموالهم إلى أموالكم وتأكلوها.
وهذا المعنى أقرب؛ لأن تضمين الفعل معنى فعلٍ آخر كثيرٌ في القرآن.
والفائدة من تخصيص ذكر الأكل فقط هنا: لأنه هو الغالب، وهو الأعمُّ فيما يكون من الانتفاعات، وإلا فيشمل ذلك غير الأكل: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ.
وإنما ذكر الله هذا: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا؛ لأن فيه مَغْزًى، يعني: لو قال الله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ كفى، فلماذا قال: إِلَى أَمْوَالِكُمْ؟
لأن وَلِيَّ اليتيم قد يستتر ويُدْخِل مال اليتيم إلى ماله، ولا يعلم به أحدٌ؛ ولهذا قال: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ.
فقوله: إِلَى أَمْوَالِكُمْ فيه هذه الفائدة، فتجد أن وَلِيَّ اليتيم ما يأخذه صراحةً أمام الناس، فالناس ربما يَعِيبون عليه، لكن يستتر ويضمّ مال اليتيم إلى ماله ويأكله بطريقةٍ خفيةٍ، فكأنَّ الآية تُشير لهذا المعنى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ.
إِنَّهُ يعني: تبديل الخبيث بالطيب وأكل أموال اليتامى كَانَ حُوبًا كَبِيرًا يعني: إثمًا كبيرًا، إثمًا عظيمًا ومن كبائر الذنوب.
هناك من العلماء مَن قال: إن هذه الآية منسوخةٌ بقوله: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220]، ولكن هذا غير صحيحٍ؛ لأن قوله: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ليس هو الأكل الذي نهى الله عنه حتى يقال: إن فيه نسخًا، وإنما الله تعالى يقول: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ يعني: لا تخلطوها لأجل أن تأكلوها، أما إذا خلطها لأجل الإصلاح، أو لأجل مصلحةٍ؛ فلا بأس بذلك.
أهم فوائد الآية
أبرز فوائد هذه الآية:
أولًا: بيان رحمة الله باليتامى
أولًا: بيان رحمة الله حيث أوصى بهؤلاء اليتامى؛ لأن اليتيم طفلٌ قد انكسر قلبه بموت والده، فربما لا يعرف مرارة اليُتْم إلا مَن جرَّبه، فاليتيم انكسرت نفسه، وانكسر قلبه، فهو يرى أقرانه لهم آباء، وهو ليس له أبٌ، وله حاجاتٌ لا يستطيع أن يُحصِّلها بسبب أنه ليس له أبٌ يطلب منه هذه الحاجات، فهو مُنْكَسِرُ النفس.
ولذلك أوصى الله باليتامى في مواضع كثيرةٍ، أكثر من عشرين موضعًا أوصى فيها بإكرام اليتيم، ليس فقط حفظ ماله، بل إكرامه، وعدم كسره، وعدم نَهْرِه.
فاليتيم ينبغي أن يكون في المجتمع محل الرعاية والعناية والتَّكريم، وألا يشعر بأدنى درجات الإهانة أو الكسر، فأوصى الله بهذا اليتيم.
ثانيًا: وجوب حفظ أموال اليتامى
أيضًا من فوائد هذه الآية: وجوب حفظ أموال اليتامى؛ لأنه يلزم من إيتائهم أموالهم الحفظ، ولو فرَّط الولي وأهمل وضاعت الأموال لم يكن قد آتاهم أموالهم.
ثالثًا: إطلاق اسم الخبيث على الرديء
أيضًا من فوائد هذه الآية: إطلاق اسم الخبيث على الرديء، وهذا واردٌ في القرآن في عدة مواضع، كما في هذا الموضع، وكما في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا يعني: تقصدوا الْخَبِيثَ يعني: الرديء مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ [البقرة:267]، فَسَمَّى الله الرديء: خبيثًا.
والنبي عليه الصلاة والسلام سمَّى البصل والثوم: شجرًا خبيثًا، قال: مَن أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئًا فلا يَقْرَبَنَّا في المسجد [3].
إذن الخبيث يُطلق في الشرع على الرديء، يعني: الرديء من المال يُسمَّى: خبيثًا.
رابعًا: حكم ضَمِّ مال اليتيم إلى مال الولي
أيضًا من فوائد هذه الآية: تحريم ضَمِّ مال اليتيم إلى مال الولي بقصد الإتلاف، وبقصد الأخذ منه؛ لقوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ.
أما إذا ضَمَّ ماله إلى ماله لا لقصد الإتلاف، وإنما لقصد الحفظ والتجارة أو الإصلاح فلا بأس بذلك؛ لأنه إحسانٌ.
ولذلك وضع الله لنا قاعدةً عظيمةً في هذا الباب فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، وَاللَّهُ يَعْلَمُ هل نية هذا الإنسان بهذا التَّصرف الإصلاح أم نيته غير الإصلاح؛ الإفساد؟
هذه التَّصرفات التي يفعلها وليُّ اليتيم مع اليتيم: ما قصدك؟ ما غرضك؟
إذا كان غرضك الإصلاح فلا حرج عليك، بل أنت مأجورٌ.
أما إذا كان غرضك الإفساد فأنت تأثم بهذا، بل تكون مُرتكبًا لكبيرةٍ من الكبائر.
ولهذا حتى لا يتحرج وليُّ اليتيم في أن يتصرف في مال اليتيم تصرفًا بالتي هي أحسن رفع الله تعالى الجناح والحرج فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، هذه قاعدةٌ، ليست فقط في اليتيم، بل في غير اليتيم، مَن يَلِي أموالًا لغيره؛ مَن يَلِي -مثلًا- أوقافًا، أو يَلِي أموالًا مُسْتَأْمَنٌ عليها، ونحو ذلك، نقول له: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، إذا كنت بهذه التَّصرفات تريد الإصلاح فلا حرج عليك، بل أنت مأجورٌ.
أما إذا كنت تريد الإفساد، وتُراعي مصالحك الشخصية، أو تَنْهَب منها بطريقٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ؛ فتأثم بهذا إثمًا عظيمًا.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ هذه قاعدةٌ عظيمةٌ فيمَن يَلِي أموال الآخرين؛ أننا نقول له: إن الله يعلم المُفسد من المُصلح، هل نيتك بهذا التَّعامل الإصلاح أم الإفساد؟
إذا كانت نيتك الإصلاح فأنت على خيرٍ، وأنت مأجورٌ.
وإذا كانت نيتك الإفساد بطريقٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ فأنت على إثمٍ كبيرٍ، ومُرتكبٌ لكبيرةٍ من الكبائر.
خامسًا: الاعتداء على مال اليتيم من كبائر الذنوب
أيضًا من فوائد هذه الآية: أن الاعتداء على مال اليتيم من كبائر الذنوب؛ لقوله: إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2]، وصف الله هذا الإثم بأنه كبيرٌ.
يعني: هذه الآية كالنصِّ في أن الاعتداء على مال اليتيم من الكبائر، مع الآية الأخرى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، هل هناك وعيدٌ أعظم من هذا؟
انظر كيف توعَّد الله مَن يعتدي على مال اليتيم بهذا الوعيد الشديد:
- أولًا: وصف الله هذا الاعتداء على مال اليتيم بأنه كَانَ حُوبًا كَبِيرًا.
- ثانيًا: قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا.
- ثالثًا: قال: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا.
أراد الله أن يحمي هذه الطبقة من المجتمع: هؤلاء الأيتام الضعفاء، المساكين.
هذا طفلٌ ليس له أحدٌ يُدافع عنه، فيأتي إنسانٌ ويأكل أمواله، فهذا الذي أكل ماله قد ارتكب إثمًا عظيمًا، وقد أكل في بطنه نارًا، وسيَصْلَى سعيرًا.
كل هذا لأجل حماية هذا الطفل المسكين، فهذا من عناية الله بهذه الطبقة من المجتمع، وهم هؤلاء اليتامى.
ومع الأسف نجد أكل مال اليتيم والتَّعدي على ماله شائعًا وموجودًا من مسلمين يصومون ويُصلون ويَحُجُّون ويعتمرون ويتصدقون، ومع ذلك يعتدون على أموال اليتامى!
وربما يتأول بعضهم، وهذا التَّأوُّل لا ينفعه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، بعضهم يتأول يقول: أنا هدفي كذا، أنا قصدي أن أحفظ ماله، أنا قصدي كذا. وهو قصده الاختلاس من ماله، وأن يستخدم ماله لمصالحه الشخصية.
ولهذا قال أهل العلم: إنه لا يجوز الاقتراض من مال اليتيم، أنك تقترض من مال اليتيم لا يجوز؛ لأن الله قال: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]، فأيُّ تصرفٍ بغير التي هي أحسن لا يجوز، كونك تقترض أو تُقْرِض مال اليتيم لا يجوز؛ لأنه ليس من التَّصرف بالتي هي أحسن.
سادسًا: حكم استثمار أموال اليتامى
أيضًا من الفوائد هنا في قول الله : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ، ذكرنا وقلنا: إن الله قال: إِلَى أَمْوَالِكُمْ أن وليَّ اليتيم قد يستتر ويُدْخِل مال اليتيم إلى ماله، لكن إذا ضَمَّ مال اليتيم إلى ماله فخسر فما الحكم؟
نقول: لا يخلو أن يكون ضَمَّ مال اليتيم إلى ماله بقصد الإصلاح أو بقصد الإفساد؛ فإن كان بقصد الإفساد فإنه ضامنٌ، كأن يكون -مثلًا- يتسلَّف مال اليتيم ثم يخسر، فهو ضامنٌ لمال اليتيم.
لكن إذا كان بقصد الإصلاح؛ وضعه في تجارةٍ قليلة المخاطر، واتَّقى الله في ذلك ما استطاع، ثم خسرتْ هذه التجارة، فليس عليه شيءٌ، والله تعالى يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وكل إنسانٍ له ولايةٌ في التَّصرف حتى لو تبيَّن خطؤه لا ضمان عليه؛ لأننا لو قلنا بهذا ما وَلِيَ أحدٌ مال اليتيم.
فإذا كان قد تاجر في أموال اليتامى تجارةً قليلة المخاطر، لكن خسرتْ هذه التجارة، فليس عليه شيءٌ، لا يأثم، ولا يجب عليه الضمان.
وهذا مما يُشجع أولياء اليتامى.
نقول لِوَلِيِّ اليتيم: ينبغي أن تُتاجر بمال اليتيم، كما قال عمر : "ابتغوا في أموال اليتامى؛ لا تستهلكها الصدقة" [4]؛ لأنك لو أبقيتَ مال اليتيم بغير تجارةٍ وبغير تنميةٍ ستأكله الزكاة.
يعني مثلًا: لو أن هذا اليتيم عمره سنة، وخلَّف أبوه أربعين ألفًا، فزكاة الأربعين ألفًا ألفٌ، فإذا بلغ -مثلًا- النكاح وإيناس الرُّشد وعمره عشرون سنةً، معنى ذلك أنه يكون قد دفع كم في الزكاة؟
كل سنةٍ ألفٌ، يعني: تُقارب العشرين ألفًا، تقلُّ لكنها مُقاربةٌ، يعني: ما يُقارب نصف هذا المال ذهب في الزكاة؛ لذلك ينبغي الاتِّجار بأموال اليتامى؛ كي لا تأكلها الزكاة.
تفسير قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى
المقدم: ننتقل -بإذن الله- لقول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3]، نستمع لتلاوة الآيات ونعود، بإذن الله.
القارئ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3].
المقدم: تفضل يا شيخنا بالتَّعليق.
الشيخ: ثم قال سبحانه: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً.
الآية الأولى في أموال اليتامى، وهذه الآية في أبضاع اليتامى، فقال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، والمقصود هنا: النساء، اليتامى من النساء، وكان هذا في الجاهلية: إذا تولى الإنسان على يتيمةٍ -كابنة عمِّه مثلًا- فإنه يتزوجها -وهي كارهةٌ- بدون مهرٍ، أو بمهرٍ قليلٍ، لكنه يريد أن يَتَحَجَّرها، وأن يظلمها بذلك، وقد استضعفها، فنهى الله عن هذا، وهذا كان شائعًا في الجاهلية.
عندما يَلِي -مثلًا- ابنة عمِّه اليتيمة فإنه يتزوجها بدون مهرٍ أو بمهرٍ قليلٍ، فنهى الله عن هذا وقال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا يعني: ألا تعدلوا في هؤلاء اليتامى من النسوة بأن تُعطوهنَّ المهور كاملةً؛ فلا تنكح هذه اليتيمة، اعْدِلْ إلى غيرها: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ من غير هذه اليتيمة مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ.
فقوله: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ يعني: النساء كثيرات، يعني: ما بقي إلا هذه اليتيمة حتى تتزوجها؟!
إذا خِفْتَ ألا تعدل انكح غيرها.
التَّعدد الشرعي المُباح
قوله: مَا طَابَ أي: ما حسن ورأيتُموه طيبًا، وتطيب النفس كما جاء في الحديث: تُنْكَح المرأة لأربعٍ: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، هذا مما تطيب به المرأة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك [5].
وقوله: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يعني: منكم مَن ينكح ثنتين، ومنكم مَن ينكح ثلاثًا، ومنكم مَن ينكح أربعًا.
الاقتصار على الزوجة الواحدة عند الخوف من الجور
ثم قال سبحانه: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً إذا خشيتُم ألا تعدلوا بالتَّعدد بأن تجوروا فاقتصروا على زوجةٍ واحدةٍ.
بعض الناس يعرف من نفسه أنه ما عنده قدرةٌ على العدل، إنسانٌ غير مُرَتَّبٍ، ما يستطيع أن يعدل، هنا يقتصر على واحدةٍ.
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أو مِلْك اليمين، يعني: الرجل له أن ينكح ما مَلَكَتْ يمينه من الرَّقيقات.
والرِّقُّ الآن انقرض في العالم كله، وأصبح مُجَرَّمًا في جميع دول العالم، وليس موجودًا، لكن فيما سبق كان موجودًا، إلى وقتٍ ليس بالبعيد كان موجودًا، وقت نزول هذه الآيات كان موجودًا، والرجل يَتَسَرَّى بما شاء من الإماء، وهذا معنى قوله: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.
معنى قوله: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا
ذَلِكَ أَدْنَى يعني: نكاح الواحدة عند خوف عدم العدل -أن يتزوج الإنسان واحدةً عند خوف عدم العدل- أَدْنَى يعني: أقرب أَلَّا تَعُولُوا يعني: ألا تَجُوروا.
وهذا قول الجمهور.
ورُوِيَ عن الشافعي أن المعنى: ألَّا تكثر عيالكم إذا اقتصرتم على زوجةٍ واحدةٍ.
لكن هذا القول قولٌ ضعيفٌ؛ لأن كثرة العيال مرغوبةٌ عند الله ؛ ولأن العيال يكثرون إذا وطئ الإنسان أَمَتَه، والله تعالى قال: فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فهذا المعنى معنًى ضعيفٌ، ويكون المعنى الصحيح لقوله: أَلَّا تَعُولُوا يعني: ألا تَجُوروا.
أهم فوائد الآية
أبرز الفوائد والأحكام:
أولًا: أن الإنسان إذا كانت عنده يتيمةٌ وأراد أن يتزوجها فيجب عليه أن يعدل ويُعطيها مهرها كاملًا، ولا يجوز له أن يَبْخَسها شيئًا من مهرها، وإذا خشي أن يَبْخَسها شيئًا من مهرها فإنه يعدل إلى غيرها من النساء مما أباح الله له؛ إن شاء واحدةً أو ثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا.
ثانيًا: الاحتياط عند خوف الوقوع في المُحَرَّم
من فوائد الآية: أنه يجب على الإنسان الاحتياط إذا خاف الوقوع في المُحرم؛ لقوله : وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ يعني: ولا تُعرِّضوا أنفسكم للجور.
ثالثًا: اختيار الزوجة بما تطيب به النفس
أيضًا من فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يتزوج أن يتزوج مَن تطيب نفسُه بها، ولا يتزوج وهو كارهٌ، فهذا أقرب إلى أن يُؤْدَم بينهما، فينظر إلى مخطوبته، ويعرف أحوالها، فإذا اقتنع بها وطابتْ نفسه بها تزوجها.
وهكذا أيضًا بالنسبة للمرأة، فالزواج من القرارات الكبيرة في حياة الإنسان، لا يخضع لعاطفةٍ ولا مُجاملةٍ.
المقدم: أو عجلةٍ.
الشيخ: أو عجلةٍ، لا بد فيه من اقتناعٍ كاملٍ، وأن تطيب نفس الزوج والزوجة بهذا الزواج؛ بأن يقتنع هذا الخاطب بمخطوبته، والمخطوبة تقتنع بخاطبها، وتطيب نفس كلٍّ منهما بالآخر؛ ولهذا قال: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ.
رابعًا: حدود التَّعدد وواجب العدل بين الزوجات
أيضًا من الفوائد: مشروعية التَّعدد؛ لأن الله تعالى ذكره هنا قال: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، لكن هذا بشرط: أن يكون الزوج قادرًا على العدل.
أما إذا كان لا يقدر على العدل فلا يجوز له أن يُعدِّد، وإنما يقتصر على واحدةٍ؛ ولذلك قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً.
وهناك بعض الرجال أساؤوا للتَّعدد؛ فهم يُعدِّدون لكنهم لا يعدلون، يُسِيؤون للأولى أو للثانية أو للثالثة أو للرابعة، هذا لا يجوز.
وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: مَن كانت له امرأتان فَمَالَ إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشِقُّه مائلٌ [6]، وهذا يدل على وجوب العدل بين الزوجات.
أيضًا دلَّت الآية على أنه لا تجوز الزيادة على أربعٍ؛ لقوله : مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، فأقصى ما يتزوجه الرجل أربع زوجاتٍ، وهذا محل إجماعٍ.
هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.
المقدم: شكر الله لكم، ونفع بكم، وأحسن إليكم.
في ختام هذه الحلقة نشكركم -أيها المشاهدون- على طِيب المُتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقةٍ قادمةٍ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
