جدول المحتويات
- تفسير قوله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ..
- تفسير قوله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ..
- أبرز الفوائد والأحكام من الآيتين
- لكل طلاقٍ أجلٌ.. بيان العدة وأنواعها
- حكم المُراجَعة بعد انقضاء الحيضة الثالثة وقبل الاغتسال
- وجوب الإحسان في حال الطلاق وبعده
- حُرمة إمساك المُطلَّقة بقصد الإضرار بها
- الفرق بين الضرر والضِرار
- فعل المعاصي ظلمٌ للنفس
- تذكُّر النعم من أسباب الشكر
- حُكم النكاح قبل انقضاء العِدَّة
- تحريم العَضْل وإسقاط ولاية الولي المُتسلِّط
- الولي ركنٌ من أركان النكاح
- اعتبار الرضا في عقد النكاح
- رضا المرأة مُعتبَرٌ.. لكن في حدود الشرع
- كمال علم الله ونقص علم الإنسان
- التقوى حصنٌ يحفظ الأسرة من النزاع والفُرقة
المقدِّم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نستكمل وإيَّاكم تفسير آيات الأحكام مع فضيلة ضيفنا الشيخ: سعد بن تركي الخثلان، رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية.
باسمي وباسمكم جميعًا، أُرحِّب بفضيلة الشيخ.
الشيخ: أهلًا، حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
المقدِّم: حيَّاكم الله، شيخنا الفاضل، كنا قد وقفنا عند قول الله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ.. [البقرة:231]، فنستأذنكم في سماع هذه الآيات، ثم نعود بإذن الله للشرح والتعليق.
تفسير قوله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ..
القارئ: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:231-232].
المقدِّم: تفضَّل يا شيخنا بالتعليق على الآية.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فكنا قد وصلنا في تفسير آيات الأحكام إلى قول الله : وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231].
فنبدأ -أولًا- بالكلام عن معاني الكلمات والمعنى الإجمالي للآيات، ثم بعد ذلك -كالمعتاد- ننتقل للفوائد والأحكام.
معنى قوله: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
قوله سبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ... [البقرة:231] هذا خطابٌ لعامة الناس؛ أي: إذا طلَّق الأزواجُ نساءَهم فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:231]، المقصود بالأجل هنا: العِدَّة، هل المقصود: إذا انتهت العِدَّة، أم المقصود: إذا قاربن انتهاء العِدَّة؟
قولان لأهل العلم:
- فمِن أهل العلم مَن قال: إن المقصود: إذا قاربن بلوغ أَجَلهن، فيكون معنى قوله: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ؛ أي: قاربن بلوغ أَجَلهن. قالوا: لأن الإمساك إنما يكون في العِدَّة.
- وقال بعض أهل العلم: إن المقصود: إذا بلغن أجلهن حقيقةً، وذلك بناءً على القول بأن الرَّجُل يجوز له أن يُراجِع زوجته بعد انقضاء العِدَّة، يعني: بعد الثلاث الحيضات، وقبل أن تغتسل.
وهذا قولٌ، وهو المذهب عند الحنابلة، ووردتْ فيه آثارٌ عن بعض الصحابة كما سيأتي إن شاء الله، فتُحمَل الآية على ظاهرها بناءً على هذا القول، وهذا القول هو الأقرب، خاصةً أنه مؤيَّدٌ بآثارٍ عن الصحابة .
فعلى ذلك: العِدَّة لا تنتهي بانقضاء الحيضة الثالثة، وإنما تنتهي باغتسال المرأة، فتكون الفترة الزمنية ما بين انقضاء الحيضة الثالثة والغُسل أيضًا فرصةً ومجالًا للإرجاع. وهذه إن شاء الله سنتكلم عنها بالتفصيل عند الكلام عن الفوائد والأحكام.
على هذا: يكون القول الراجح في معنى الآية: أنها على ظاهرها، فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يعني: انقضَتِ العدة وقبل أن تغتسل المرأة، فإن شئتم فأَمسِكوهن أو سرِّحوهن.
هذا هو معنى الآية.
حكم مُراجَعة المُطلَّقة بقصد الإضرار
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231] المقصود بذلك: أَرجِعوهن إن أردتم الإرجاع، ويكون هذا الإرجاع بمعروفٍ، ولا يكون إضرارًا بالمرأة أو أذيةً لها.
والخيار الثاني: أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231]، إذا كنتم لا ترغبون في هؤلاء الزوجات المُطلَّقات، اتركوهن بدون رجعةٍ، لكن ذلك أيضًا بإحسانٍ.
فإما إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ، وهذا هو الواجب على الزوج، أما أن يُمسِكها بقصد الإضرار بها فهذا لا يجوز.
ويوجد من الأزواج من يُمسِك زوجته فتبقى هذه المرأة المسكينة مُعلَّقةً، لا هي بالمرأة المتزوجة التي تنال حقوقها، ولا هي بالمرأة المُطلَّقة التي تنال حقوق المُطلَّقة أيضًا؛ فإن المرأة المُطلَّقة بعد انقضاء عِدَّتِها ربما تُخطَب، وربما تتزوج برجلٍ تَسْعَد معه ويُعطيها حقوقها ويُعوِّضها عما فاتها مع زوجها الأول. فهذا الإمساك بإضرارٍ وتعليقها بقصد الأذية لها لا يجوز، وهذا ظلمٌ عظيمٌ للمرأة؛ ولهذا فإن الله في هذه الآية قال: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231]، يُقال للزوج: إما إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ، أما أن تُمسِكها بإضرارٍ فهذا لا يَحِلُّ لك.
وبعض الرجال يستقوي على المرأة الضعيفة، ربما تكون هذه المرأة الضعيفة ليس لها من يسندها من أهلٍ، وربما أيضًا يستغل ضعفها لتعلُّقها بأولادها، أو لفقرها، أو لغير ذلك، فيُمسِكها إضرارًا بها؛ ولذلك يُمسِكها ولا يعطيها نفقةً، ويُمسِكها ولا يعطيها الفراش، فتكون هذه المرأة مسلوبةً من حقوقها، فيظلمها بذلك.
وهذا الظلم العظيم لهذه المرأة -التي ربما تدفع معه زهرة شبابها- سيُحاسَب ويُعاقَب عليه هذا الزوج، وربما تكون العقوبة في الدنيا قبل الآخرة؛ ربما يُسلِّط الله عليه أصنافًا من العقوبات، يُسلِّط الله عليه مَن يفعل به كما يفعل بهذه المرأة الضعيفة، أو أن الله يُسلِّط عليه أمراضًا، أو يُسلِّط عليه عقوباتٍ بحسب ما تقتضيه حكمة الله ؛ لأن الظلم عاقبته وخيمةٌ، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: إني حرَّمتُ الظلم على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا، فلا تظالموا [1].
ويقول عليه الصلاة والسلام: واتقِ دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجابٌ [2]، دعوة المظلوم مستجابةٌ.
هذه المرأة التي أمسكها زوجها بقصد الإضرار، هذا من أعظم الظلم لها. فعلى الزوج أن يتقي الله ، فإما إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ؛ ولهذا قال سبحانه: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231]، ثم أكَّد الله على هذا المعنى مرةً أخرى بعبارةٍ أخرى، فقال: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231]، فنهى الله عن إمساك الزوجات لأجل الإضرار، وأن هذا نوعٌ من الاعتداء.
وأيُّ اعتداءٍ أعظم من هذا؟! مَن يعتدي على هذه المرأة التي ربما تذهب زهرةُ شبابها معه، فتكون مسلوبةً من حقوقها، وتكون امرأةً مُعلَّقةً، وربما أنها ليس لها حولٌ ولا قوةٌ، ليس لها مَن يسندها، وربما تكون فقيرةً، وربما تكون مُحتاجةً لهذا الزوج، فلا يجوز إمساكها لقصد الإضرار بها.
وقد كان هذا الإمساك لأجل إضرارٍ موجودًا في الجاهلية، فكانوا يُطلِّقون المرأة، كان الرجل يُطلِّق المرأة، ثم إذا قاربتْ عِدَّتُها على الانتهاء أَرجَعها، ثم يُطلِّقها ثم يُرجِعها. فالله حدَّد المُراجَعة بثنتَيْن، قال: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، ثم قال: فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ [البقرة:230].
فكان هذا الإمساك بقصد الإضرار موجودًا في الجاهلية، فأبطله الإسلام، لكن لا يزال موجودًا عند بعض المسلمين -مع الأسف الشديد- أنهم يُمسِكون المرأة بقصد الإضرار بها، وهذا نوعٌ من الاعتداء عليها والظلم؛ ولهذا قال سبحانه: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231]، ثم أكد الله النهي عن ذلك أيضًا بعبارةٍ أخرى -انظر إلى عِظَم شأن المسألة!- قال: وَمَن يَفعَل ذَلِكَ... يعني: أنه يُمسِكها بقصد الإضرار فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231].
فاعتبر الله هذا -أولًا- ظلمًا للمرأة وظلمًا لنفس الإنسان؛ لأنه أوقعها في الإثم، وإذا أوقع الإنسان نفسه في الإثم فقد ظلمها؛ ولهذا فالكلمات التي تلقّاها آدم لمَّا وقع في المعصية وأكل من الشجرة هو وحوّاء: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَم تَغفِر لَنَا وَتَرحَمنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، فالإنسان بوقوعه في المعصية يظلم نفسه وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231].
ثم أكد الله هذا المعنى أيضًا بعبارةٍ أخرى: وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231] يعني: خُذوا هذا الأمر مأخذ الجِدِّ، لا تتَّخذوا هذه التعليمات مأخذ الهزل، وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، آيات الله عمومًا، وما أمر الله تعالى به في هذا الموضع على وجه الخصوص.
وقد جاء عن عُبادةَ بن الصامت قال: "كان الرجل يقول للرجل: زوَّجْتُك ابنتي، ثم يقول: كنتُ لاعبًا؛ فأنزل الله : وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231]" [3].
المُؤكِّدات التي وردتْ في الآية بالنهي عن الإضرار بالمُطلَّقة
فإذًا، أكَّد الله النهي عن ظُلم المرأة بإمساكها بقصد الإضرار بعدة مُؤكِّداتٍ:
- الأمر الأول: أن الله سبحانه قال: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229].
- الأمر الثاني: أن الله تعالى قال: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا [البقرة:231].
- الأمر الثالث: أن الله وَصَفَ ذلك بأنه اعتداءٌ، قال: لِتَعْتَدُوا [البقرة:231].
- الأمر الرابع: أن الله تعالى وَصَفَ ذلك بأنه مِن ظُلم النفس، قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231].
- الأمر الخامس: أن الله تعالى أشار إلى أن هذا من اتخاذ آيات الله هُزُوًا.
فلاحِظْ هنا خمسة مُؤكِّداتٍ لهذا النهي.
فأيُّ مسلمٍ يسمع مثل هذا ثُمَّ يقع في هذا المحظور؟! لا يجوز إمساك المرأة بقصد الإضرار بها، فالله نهى عن ذلك، وأكد هذا النهي بهذه المُؤكِّدات الخمسة.
وقوله: وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231]، هذه عامةٌ تشمل النهي في هذه الآية وتشمل غيره، فلا يجوز اتخاذ آيات الله هُزُوًا، وعلى المسلم أن يُعظِّم آيات الله وما جاء في النصوص وأوامر الله ونواهيه، أن يُعظِّمها ولا يتَّخذها هُزُوًا.
ذِكْرُ نِعَم الله سبيلٌ إلى شُكرها
ثم قال سبحانه: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [البقرة:231]، أمر الله تعالى بذِكر نعمة الله تعالى على الإنسان، وهذا الذِّكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، فنِعَم الله عظيمةٌ، والمطلوب من العبد أن يشكر هذه النِّعَم، وحتى يشكرها لا بُدَّ من ذِكرها؛ لأن عدم ذِكر النِّعَم يقتضي عدم الشكر، فتذكُّر نِعَم الله سبحانه من أسباب شُكرها، ولهذا نجد أن الله كرَّر هذا الأمر: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
لو تأمَّلت كم مرةً وَرَدَ في القرآن: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ؟ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ [المائدة: 20]، فاذكروا نعمة الله عليكم، هذا جزءٌ من الشكر.
فعلى المسلم أن يحرص دائمًا على أن يتذكَّر نِعَم الله عليه، وأن يُحدٍّث بها على سبيل الشكر؛ لأن بعض الناس تجد أنه كفورٌ، يُنعِم الله عليه بالنِّعَم العظيمة ومع ذلك تجده مُتسخِّطًا مُتبرِّمًا مُتشكِّيًا وكأنه ليس عنده نِعَمٌ.
والواجب على المسلم: أن يشكر الله على نِعَمه، وأن يَذْكُر نِعَم الله تعالى عليه، فتقول: الله تعالى أَنْعَمَ عليَّ، أعطاني الصحة، وأعطاني المال، وأعطاني الزوجة، وأعطاني الأولاد، وأعطاني كذا، وأعطاني كذا، وأعطاني كذا، ونحمد الله على هذه النِّعَم، أحمده، أحمدك يا ربي، وأشكرك على هذه النِّعَم.
فمن أسباب الشكر: أن يَذْكُر المسلم نِعَم الله عليه، وأن يَذْكُرها أيضًا أمام الآخرين: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، فعندما يتشكَّى -مثلًا- بعض الناس ويتضجَّرون، يقول: لا، نحن الآن في نِعَمٍ، نحن في أمنٍ، في أمانٍ، في رخاءٍ، في كذا، في كذا، يُذكِّرهم بنِعَم الله عليهم.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20]، قال هذا موسى لبني إسرائيل. بنو إسرائيل جعل الله فيهم أنبياءَ كثيرين، وهذه نعمةٌ من النِّعَم، أن الله يجعل فيهم أنبياءَ؛ لأن الأنبياء وجودهم خيرٌ عظيمٌ وبركةٌ، يدعونهم إلى الله ، يأمرونهم بطاعة الله، هم الواسطة بينهم وبين الله سبحانه وتعالى في تلقِّي الوحي والأوامر والنواهي، وجود الأنبياء نعمةٌ.
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، يقول موسى لبني إسرائيل: اذكروا نعمةَ الله عليكم بأن جعلكم ملوكًا، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "كان الرجل في بني إسرائيل إذا كان عنده دارٌ ودابَّةٌ وخادمٌ عَدُّوه مَلِكًا" [4]، دارٌ ودابَّةٌ وخادمٌ يعتبرونه مَلِكًا!
ولهذا جاء رجلٌ لعبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما يستفتيه: هل يأخذ من العطاء أم لا؟ قال له عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما: هل عندك دارٌ تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: هل عندك زوجةٌ تَسكُن إليها؟ قال: نعم، قال: فهل عندك خادمٌ؟ قال: نعم، قال: فأنتَ من الملوك. واستدل بالآية: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20]، كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان عنده دارٌ ودابَّةٌ وخادمٌ عَدُّوه مَلِكًا.
كم مِن الناس الآن من يعيش عيشة ملوكٍ ومع ذلك تجد أنه يعتبر نفسه فقيرًا، وتجد أنه مُتبرِّمٌ مُتسخِّطٌ مُتشَكٍّ! هذا من كُفران النِّعَم.
فينبغي للمسلم أن يَذْكُر نعمة الله عليه، أن يَذْكُر نِعَم الله عليه، نِعَم الله تعالى علينا عظيمةٌ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
تأمَّلْ نِعَم الله عليك: نعمة الصحة فقط هذه نعمةٌ لا تُوازيها نعمةٌ، نعمة السمع، نعمة البصر، نعمة العقل، نعمة الإدراك، أيضًا النِّعَم الأخرى التي يُنعِم الله تعالى بها على الإنسان، فنِعَم الله تعالى لا تُعَدُّ ولا تُحصَى.
هذا المعنى يغفل عنه كثيرٌ من الناس -وهو تذكُّر نِعَم الله- مع أن الله تعالى كرَّر الأمر به في عدة آياتٍ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:7]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الأحزاب:9]، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [إبراهيم:6]، تكرَّر الأمر بذكر نِعَم الله تعالى في عدة آياتٍ؛ لأن تذكُّر نِعَم الله يقتضي الشكر، هو من أسباب الشكر.
فعلى المسلم أن يجعل هذا مبدأً له في حياته: أن يتذكَّر نِعَم الله عليه، وأن يشكر الله تعالى على نِعَمه، فإن الشكر رأس الحكمة، وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لقمان:12]، قال العلماء: رأس الحكمة الشكر؛ لأنك إذا شكرت الله تعالى؛ فالله تعالى يزيد عليك النِّعَم، ليس فقط تَقَرُّ النِّعَم بل تزيد: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231]، الله تعالى قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ عمومًا، وخصَّ الله تعالى نعمةً عظيمةً أفردها بالذِّكر، وهي: ما أنزل الله تعالى من الكتاب؛ يعني: القرآن، والحكمة أي: السُّنة. إنزال القرآن والسُّنة لا شَكَّ أن هذا أعظم وأجلُّ وأكبر النِّعم، القرآن والسُّنة هما النور الذي يستنير به المسلم.
كيف يعرف المسلم مُراد الله وأوامره ونواهيه إلا عن طريق القرآن والسُّنة، فإنزال القرآن والسُّنة هذا من أعظم وأجلِّ النِّعم؛ ولهذا خصَّها الله تعالى بالذِّكر: وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231]، ثم خَتَمَ الله تعالى الآية بقوله: يَعِظُكُمْ يعني: يُذكِّركم به، يُذكِّركم بهذه النِّعَم.
تقوى الله أساس صلاح القلوب والأعمال
ثم قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]، ونجد الأمر بتقوى الله تعالى وَرَدَ في آياتٍ كثيرةٍ في القرآن؛ وذلك لأنه بتقوى الله تَصلُح القلوب وتَصلُح الأعمال، ونجد أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يذكر الله تعالى عنهم أنهم يأمرون أقوامهم بتقوى الله: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:123-124]، كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:141-142]، كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:176-177].
لاحظ: أَلَا تَتَّقُونَ، أَلَا تَتَّقُونَ، تجد أنها أول ما يأمر بها الأنبياء أقوامهم، أَلَا تَتَّقُونَ. ذَكَرَ الله تعالى هذا عن الأنبياء أنهم يأمرون أقوامهم بتقوى الله. تقوى الله؛ أي: اتِّباع أوامره واجتناب نواهيه.
وثمرات التقوى عظيمةٌ في الدنيا والآخرة: في الآخرة ثمرة التقوى الجنة، وأما في الدنيا فإن الله تعالى يرزق هذا المُتَّقي خيراتٍ عظيمةً: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5]، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:29]، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:70-71].
ثمرات التقوى كثيرةٌ؛ ولهذا من اتقى الله فاز الفوز العظيم: اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -يعني: يتقي الله- فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]؛ ولهذا ختم الله الآية بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]، أمر الله تعالى عباده بأن يعلموا بأنه سبحانه بكل شيءٍ عليمٌ.
أثر العلم بأن الله بكل شيءٍ عليمٌ
هذا العلم من أعظم وأشرف العلوم؛ أن تعلم بأن الله بكل شيءٍ عليمٌ، لا يَخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، لا تَخفى عليه خافيةٌ، لا يَخفى عليه مثقالُ ذَرَّةٍ في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، يرى دبيب النملة على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء جلَّ وعلا، وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها، ورقة! إذا كان يعلم بحركة ورقةٍ من النبات إذا سقطت؛ فما بالك بحركة الحيوان وحركة الإنسان؟!
هو سبحانه بكل شيءٍ عليمٌ، عِلْمُه أحاط بكل شيءٍ، بكل شيءٍ عليمٌ، السر والجهر عنده سواء، وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الملك:13]، هذا يدل على عظمة الرب سبحانه وتعالى، أحاط بكل شيءٍ علمًا، وهو على كل شيءٍ قديرٌ.
هذا العلم يُورِّث الخشية؛ ولهذا قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]. من أسباب الخشية، من أسباب قوة الخشية لله : هذا العلم؛ أن يَعْلَم المسلم بأسماء الله تعالى وصفاته، ومن ذلك أن يَعْلَم بأن الله بكل شيءٍ عليمٌ، وأن الله على كل شيءٍ قديرٌ، وأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علمًا، لا شكَّ أن هذا سيكون له أثرٌ على المسلم في تعبُّده وفي سلوكه وفي أموره كلها؛ ولهذا أمر الله تعالى بهذا العلم: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231].
تفسير قوله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ..
ثم في الآية التي بعدها أيضًا -وهي لها صلةٌ بهذه الآية- قال سبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:232]، نقول فيها كما قلنا في تفسير الآية السابقة، يعني على القولين:
- قاربن بلوغ أجلهن.
- أو انقضَتِ العِدَّة وقبل الاغتسال من الحيض.
معنى العَضْل وحُكمه
قال: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ يعني: لا تمنعوهن أنتم أيها الأولياء أن ينكحن أزواجهن، إِذَا تَرَاضَوْا: إذا اتفق الزوج والزوجة على النكاح، فليس لكم أنتم أيها الأولياء أن تمنعوهن.
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في الرَّجُل يُطلِّق امرأته طلقةً أو طلقتين فتنقضي عِدَّتُها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يُراجِعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها ذلك، فنهى الله الأولياء عن أن يمنعوها حتى لو انقضَتْ عِدَّتُها، حتى لو انقضَتْ ((تفسير ابن كثير: 2/ 370.)).
ولهذا فالآية فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ على ظاهرها، يعني: حتى لو انقضَتْ عِدَّتُهن؛ لأنه أصلًا قبل انقضاء العدة ليس للمرأة خيارٌ وليس للولي خيارٌ، للرَّجُل أن يُراجِع زوجته بدون رضاها؛ لأنها ما زالت في عصمته. لكن الآية فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يعني: انقضَتْ عِدَّتُهن، هذه المرأة انقضَتْ عِدَّتُها، ثم بعد ذلك خَطَبَها زوجها، يريد أن يتزوجها مرةً أخرى، ورضيتْ هي بذلك؛ فليس للولي أن يعترض ويمنعها من هذا.
سبب نزول الآية
عن مَعْقِلِ بن يَسَارٍ أنه زوَّج أخته رَجُلًا، ثم إنه طلَّقها تطليقةً، ولم يُراجِعها حتى انقضَتْ عِدَّتُها، ثم بعد ذلك خطبها، فقال له مَعْقِلُ بن يَسَارٍ : يا لُكَع، أكرمتُك وزوَّجتُك فطلقتَها، فوالله لا ترجع إليك أبدًا؛ فأنزل الله هذه الآية: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232].
فهذا مَعْقِلُ بن يَسَارٍ زوَّج أخته رَجُلًا، طلَّقها، وانتهت العِدَّة، خَطَبَها، والمرأة تريده، ومَعْقِلُ امتنع، رفض، قال له: يا لُكَع، زوَّجتُك وأكرمتُك، ثم في الأخير تُطلِّقها، والله لا ترجع إليك أبدًا؛ فأنزل الله هذه الآية، فلمَّا سمعها مَعْقِلٌ ، انظر انظر إلى امتثال الصحابة ! لما سمع مَعْقِلٌ الآية نزلت، قال: يا ربي سمعًا لك، يا ربي سمعًا لك وطاعةً، ثم دعا هذا الرجل، وقال: أُزوِّجك وأُكرِمك طاعةً لربي.
انظر، انظر إلى مبادرة الصحابة لمَّا نزلت الآية! امتثل: سمعًا يا ربي لك وطاعةً.
هذه الآية نزلت في مَعْقِلٍ ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ففيه نهيٌ للأولياء عن أن يمنعوا مُولِّياتهم، من الزواج بأزواجهم السابقين، إذا كانت المرأة تريد زوجها فلا يجوز للولي أن يقف حجر عثرةٍ ويمنعها من أن تتزوج بزوجها، حتى وإن انقضَتِ العدة؛ لأن ولاية الولي هي ولايةُ نظرٍ وإصلاحٍ، وليست ولاية تسلُّطٍ.
فبعض الأولياء عنده تسلُّطٌ، يقول لها: هذا الزوج فعل بك كذا وكذا وطلَّقك، طيِّب، هي تُريده، ربما أنها ترى أن هذا في مصلحة الأولاد، أو أن هذا في مصلحتها، وأنها لو بقيتْ في بيت أبيها كانت مُطلَّقة، فما دامت تُريده وهو يُريدها، فلا يجوز لك أنت أيها الولي أن تمنعها من ذلك، لا يجوز؛ لأن ولايتك هي ولايةُ نظرٍ في مصلحتها، ما دامت أنها تريد هذا الزوج وهو يريدها فلا يجوز أن تمنعها.
وهذا المنع يُسمَّى: "عَضْلًا"؛ ولهذا قال سبحانه: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، سمَّى الله هؤلاء "أزواجًا"، مع أنها خرجتْ من عِصْمتِه، لكن هذا باعتبار ما يكون، وباعتبار ما كان أيضًا، باعتبار ما يكون أنه إذا عَقَدَ عليها أصبح زوجًا لها، وباعتبار أنه كان زوجها السابق.
ثم أكد الله هذا المعنى، قال: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ، يعني: هذا التوجيه ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:232]، فالذي يُؤمن بالله واليوم الآخر هو الذي يمتثل لهذه الأوامر ويجتنب النواهي. أما الذي غفل عن الدار الآخرة فتجد أنه لا يمتثل، يُغلِّب جانب الأعراف والعادات وحظوظ النفس، لكن الذي يُؤمن بالله واليوم الآخر لا، يقول: ما دام أن الله تعالى نهى عن عَضْلِ هذه المرأة، إذًا أنا لا أعضلها، أنا أمتثل لربي، كما قال مَعْقِلُ بن يَسَارٍ : سمعًا لك يا ربي وطاعةً.
ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ [البقرة:232]، يعني: هذه الأحكام التي ذكرها الله تعالى أزكى لكم، من الزَّكاء، أزكى لكم في أعمالكم؛ لأنكم أطعتم الله ورسوله، وأطهر لكم من الذنوب.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:232]، الله تعالى أعلم بكم، وأعلم بمصالحكم من أنفسكم، وأرحم بكم من أنفسكم، والله تعالى أرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأنتم لا تعلمون ذلك.
والجملة هنا اسميةٌ في إسناد العلم إلى الله، وفي نفي العلم عن عباده. والله تعالى أعلم وأحكم، هو الذي شَرَعَ هذه الأحكام؛ ولهذا قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
أبرز الفوائد والأحكام من الآيتين
ننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام من هاتين الآيتين:
لكل طلاقٍ أجلٌ.. بيان العدة وأنواعها
أولًا: في الآية الأولى قال سبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231]، يعني: من فوائد الآية أن لكل طلاقٍ أجلًا؛ لأن الله قال: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، لكل طلاقٍ أجلٌ، والمراد بالأجل هنا: العِدَّة، وتكلَّمنا عن العِدَّة في الحلقة السابقة، قُلنا: المرأة التي تحيض عِدَّتُها كم يا شيخ محمد؟
المُقدِّم: ثلاثة قروءٍ.
الشيخ: ثلاثُ حيضاتٍ. والمرأة التي لا تحيض، إما لكِبَر أو لصِغَر أو لغير ذلك، كم عِدَّتُها؟
المُقدِّم: ثلاثة أشهرٍ.
الشيخ: ثلاثة أشهرٍ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4].
طيب، وأيضًا هناك القسم الثالث: المرأة الحامل عِدَّتُها: وضع الحمل.
فهذا معنى بلوغ الأجل، فلكل طلاقٍ أجلٌ، يعني: عِدَّةً، وهذه العِدَّة فُسِّرت في آياتٍ أخرى بأنها ثلاثة قروءٍ؛ لمن تحيض ثلاث حيضاتٍ، وثلاثة أشهرٍ لمن لا تحيض، ووضع الحمل للمرأة الحامل.
حكم المُراجَعة بعد انقضاء الحيضة الثالثة وقبل الاغتسال
من فوائد هذه الآية: استدل بهذه الآية بعض أهل العلم على جواز المُراجَعة بعد انقضاء العِدَّة وقبل الاغتسال من الحيض؛ لأن الله قال: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ... يعني: انقضَتْ عِدَّتُهن فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231].
وهذه المسألة محل خلافٍ بين أهل العلم: هل يجوز للزوج أن يُراجِع زوجته بعد انقضاء الحيضة الثالثة وقبل أن تغتسل من الحيض أو لا يجوز؟
- فمِن أهل العلم مَن قال: إنه لا يجوز، وأن المراد بالآية: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، أي: قاربن بلوغ أجلهن. وقالوا: إنه لا رجعةَ بعد انقضاء الحيضة الثالثة، لا رجعةَ له عليها بعد انقضاء الحيضة الثالثة.
- والقول الثاني في المسألة: أن للزوج أن يُراجِع زوجته بعد انقضاء الحيضة الثالثة وقبل أن تغتسل، وهذا قد رُوِيَتْ فيه آثارٌ عن بعض الصحابة ، رُوِيَ ذلك عن أبي بكرٍ وعن عُمَرَ وعن عليٍّ وعن ابن مسعودٍ قالوا: إن له أن يُراجِعها لوجود أثر الحيض المانع للزوج من الوطء، فأُلحِقَتْ بالحيض.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو القول الراجح، ما دام أنه قد وردتْ فيه آثارٌ عن الصحابة ، والصحابة هم أعلم الأمة بشريعة الله وبمُراد رسول الله ، وأعلم الناس أيضًا بلغة العرب، فما دام أن هذه المسألة وردتْ فيها آثارٌ عن الصحابة ، وأن الصحابة فهموها هذا الفهم؛ فهذا يُرجِّح هذا القول.
ثم أيضًا هذا هو ظاهر الآية؛ لأن الله قال: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، [البقرة:231]، لماذا نقول إن المراد: فقاربن بلوغ أجلهن؟ هذا تأويلٌ، والأصل أنه لا يُصارَ إليه مع إمكان أن يُصارَ إلى المعنى الظاهر. فعلى هذا تكون الآية على ظاهرها: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يعني: انقضَتِ العِدَّة بانقضاء الحيضة الثالثة لكن قبل الاغتسال.
وجوب الإحسان في حال الطلاق وبعده
أيضًا مِن فوائد هذه الآية: وجوب المُعاشَرة بالمعروف حتى بعد الطلاق؛ لقوله : فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231]، وفي الآية الأخرى قال: بِإِحْسَانٍ، فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، فتجب إذًا المُعاشَرة بالمعروف قبل الطلاق وبعد الطلاق أيضًا..
- قبل الطلاق وهي في عصمته، وهذا ظاهرٌ.
- وبعد الطلاق كيف تكون؟ يعني: التسريح بالمعروف كيف يكون؟
في التسريح بالمعروف نقول: يكون بأن يُحسِن الإنسان في طلاق زوجته، يُحسِن إليها، لا يُؤذيها لا بالقول ولا بالفعل ولا بمنع الحقوق.
الواقع أنه أحيانًا عند الطلاق تكون النفوس مشحونةً، فكلٌّ من الزوجين يريد الانتقام من الآخر، فيُؤذيه بأية طريقةٍ وبأية صورةٍ، يحاول أن يُؤذيه وأن يضغط عليه نفسيًّا. وأحيانًا يكون بين الزوجين مماحكاتٌ، وأحيانًا تصل الخصومة إلى القاضي، تصل الخصومة إلى المحكمة بين الزوجين بسبب هذه المماحكات.
الواجب على الزوجين أن يتقيا الله ، ونقول لك أنتَ أيها الزوج: أنتَ الآن طلَّقتها بمعروفٍ، سرِّحها بإحسانٍ، لا يجوز لك أن تبقى تُضارَّها وتُلحِق بها الأذى، إذا أمسكتَها أَمسِكها بمعروفٍ، سرَّحتَها سرِّحها بمعروفٍ، سرِّحها بإحسانٍ.
حُرمة إمساك المُطلَّقة بقصد الإضرار بها
أيضًا من الفوائد: تحريم إمساك المُطلَّقة ومُراجَعتها بقصد الإضرار بها، وهذا قد ذكرناه، وقلنا إن الله أكَّد ذلك بخمسة مُؤكِّداتٍ:
- المُؤكِّد الأول: أن الله سبحانه وتعالى قال: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231].
- الثاني: قال: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا [البقرة:231]، فنهى الله عن الإمساك ضرارًا.
- الثالث: أن الله وَصَفَ هذا بأنه اعتداءٌ، قال: لِتَعْتَدُوا [البقرة:231].
- الرابع: أن الله وَصَفَ مَن فعل ذلك بأنه قد ظلم نفسه، قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231].
- الخامس: أن الله تعالى أشار إلى أن هذا يدخل في اتخاذ آيات الله هُزُوًا، قال: وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231].
فلا يجوز إذًا إمساك المرأة بقصد الإضرار بها.
الفرق بين الضرر والضِرار
أيضًا من الفوائد: أن كل مَن عامل أخاه بقصد الإضرار فهو مُعتدٍ، فإن الله تعالى قال: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231]، فلا يَحِلُّ للمسلم أن يُضارَّ أخاه المسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَن ضارَّ ضارَّ اللهُ به، ومن شاقَّ شقَّ اللهُ عليه [5]، وقال : لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ [6]، وقوله : لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ هو كقاعدةٍ في الشريعة.
لا ضَرَرَ ولا ضِرار، هل هناك فرق بين الضَّرَر والضِرار؟
- مِن العلماء مَن قال: إنه لا فرق.
- والصحيح: أن بينهما فرقًا، فعطف الضِّرار على الضرر يقتضي المُغايَرة، والفرق بينهما: أن الضرر معناه: أن يُدخِل ضررًا على غيره وهو ينتفع بذلك. وأما الضرار فمعناه: أن يُدخِل الضرر على غيره وهو غير مُنتفِعٍ، لكن بقصد الأذية.
وهذا المعنى في الفرق بين الضرر والضرار رجَّحه ابن عبدالبرِّ وابن الصلاح، وهو الأقرب، فالضرر: يضرُّ غيرَه وهو مُنتفِعٌ، لكن الضرار: يضرُّ غيره وهو غير مُنتفِعٍ بقصد الانتقام، بحقدٍ، بكذا.
فلا يجوز لا الضرر ولا الضرار، كلاهما مُحرَّمان لا يجوزان، وهو نوعٌ من الاعتداء؛ ولهذا قال: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231].
فعل المعاصي ظلمٌ للنفس
أيضًا من الفوائد: تحريم ظلم الإنسان لنفسه؛ لأن الله تعالى قال لمّا نهى عن هذه الأشياء: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231]، وهذا يقتضي أن فعل المعاصي ظلمٌ للنفس، ولهذا -كما ذكرنا- أن الكلمات التي تلقّاها آدم وحوّاء عليهما السلام من الله لمَّا أكلا من الشجرة، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37]، ما هي هذه الكلمات؟ جاءت مُفسَّرة في الأخرى: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
هذه الكلمات هي أفضل ما يقوله التائب، أفضل ما يقوله التائب من المعصية: "ربي إني ظلمتُ نفسي، وإن لم تغفر لي وترحمني لأكونن من الخاسرين"؛ لأن أبانا آدم تلقّاها من الله ، فقالها فتاب الله عليه هو وحوّاء عليهما السلام.
فكل معصيةٍ هي ظلمٌ للنفس، فلا يقول الإنسان: أنا حرٌّ أفعل ما أشاء. لستَ حُرًّا، فنَفْسُك مملوكةٌ لله ، نَفْسُ الإنسان مملوكةٌ لله سبحانه، ليست ملكًا للإنسان يفعل بها كما يشاء، إذا ارتكب الإنسان معصيةً فقد ظلم نفسه.
أيضًا من الفوائد: دلَّ قوله: وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231] على تحريم اتخاذ آيات الله هزوًا، سواءٌ اتَّخذها كلها أو اتخذ بعضها هزوًا:
- أما بالكلية: كأن يسخر من شرع الله ، يسخر من شريعة الله ويرى أنها تَخلُّفٌ، ويرى أنها تُعيق عن التنمية، ويرى أنها كذا؛ هذه السخرية وهذا الاستهزاء كُفرٌ وخروجٌ عن الملة.
- أو تكون السخرية ببعض الشريعة: كأن يسخر مثلًا من حُكم قطع يد السارق، أو من رجم الزاني، أو يسخر من أيِّ حُكمٍ من الأحكام الشرعية، أو إعفاء اللحية، أو حجاب المرأة، أو من أيِّ أمرٍ من أمور الشريعة.
فمن سَخِرَ من الشريعة جملةً أو من أيِّ شيءٍ من أمور الشريعة فإنه يكون كافرًا كُفرًا أكبر مُخرِجًا عن ملة الإسلام، كما قال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].
مع أن هؤلاء الذين فعلوا ذلك في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ماذا قالوا؟ انتقدوا فقط الصحابة ، يعني: حتى ما تعرضوا للقرآن والسُّنة، قالوا: ما رأينا مثل قُرائنا هؤلاء -يريدون الصحابة - أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسُنًا، ولا أجبن عند اللقاء؛ فأنزل الله هذه الآية، قالوا: يا رسول الله، نحن كنا نمزح، نقطع الطريق؛ لأنهم كانوا في سفر، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65].
فجعل الله تعالى الاستهزاء بالمؤمنين لأجل إيمانهم أو الاستهزاء بالمتديِّنين لأجل تديُّنهم، استهزاءً بالله ورسوله؛ لأن هؤلاء المنافقين ماذا قالوا؟ استهزؤوا بالصحابة ، ما رأينا مثل قُرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء؛ فأنزل الله هذه الآية: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] [7].
فإذا كان هذا استهزاءً فقط بالصحابة وجعله الله استهزاءً بالله ورسوله وآياته وقال إنه كُفرٌ، فكيف بمن استهزأ بالقرآن والسُّنة، أو استهزأ بشيءٍ من أمور الشريعة؟! هو أولى بالكفر.
أيضًا من الفوائد: أن المُخالَفة نوعٌ من الاستهزاء؛ لأنك إذا آمنت بأن الله هو الرب العظيم الذي له الحُكم، فمُخالَفته ومعصيته نوعٌ من الاستهزاء به، وإن كان هذا ليس من الاستهزاء الذي يقع به الكفر والذي يُخرج عن الملة.
تذكُّر النعم من أسباب الشكر
أيضًا من الفوائد: مشروعية تذكُّر نِعَمِ الله سبحانه، وأنها من أسباب الشكر، ويُشرَع للمُسلم أن يتذكر نِعَمَ الله عليه بقلبه ولسانه وجوارحه، وأن يتحدث بذلك عند الآخرين، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، وأن تَظهر عليه النعمة، كما قال عليه الصلاة والسلام لذلك الرجل الذي رآه بحالةٍ بئيسةٍ: هل عندك مال؟ قال: نعم، عندي إبلٌ، وعندي كذا، وعندي كذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: إن الله إذا أنعم على عبده نعمةً يُحب أن يرى أثر نعمته عليه [8].
فينبغي أن تَظهر آثار النِّعَم على الإنسان، وأن تَظهر عليه بالشكر أيضًا، وأن يتذكرها، فيقول: الحمد لله، أنعم الله عليَّ بكذا وكذا، نحمد الله ونشكره، فتذكُّر نِعَم الله هو من أسباب شكرها.
أيضًا من الفوائد: أن نعمة إنزال القرآن والسُّنة من أعظم وأجلِّ النِّعَم؛ لأن الله تعالى خصَّها بالذِّكر، قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، ثم خصَّ هذه النعمة: وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231].
أيضًا من الفوائد: تحذير المرء من المُخالَفة؛ لأنه إذا عَلِمَ أن الله بكل شيءٍ عليمٌ، فإنه يُحذِّر من مُخالَفته؛ ولهذا أعقبها بعد الأمر بالتقوى، قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231].
ننتقل للآية الثانية لأبرز الفوائد والأحكام:
حُكم النكاح قبل انقضاء العِدَّة
من أبرز الفوائد: أنه لا يَحِلُّ عقد النكاح قبل انقضاء العِدَّة؛ لقوله : فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232]، فالنكاح في العِدَّة باطلٌ، بل إن بعض أهل العلم -وهو مذهب الإمام مالك- يرون أن مَن تزوَّج امرأة في عِدَّتِها فإنها تَحرُم عليه تحريمًا مُؤبَّدًا، وإن كان الجمهور لا يرون ذلك.
تحريم العَضْل وإسقاط ولاية الولي المُتسلِّط
ومنها: تحريم منع الولي مُولِّيته من أن تتزوج بمن رَضِيَتْه، حتى ولو كان ذلك بعد انقضاء العِدَّة، أو كانت المرأة غير مُتزوجةٍ، لكن تقدَّم لها الخاطب الكُفء، فلا يَحِلُّ لوليِّها أن يَعضُلها وأن يمنعها الزواج به؛ لقوله سبحانه: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232].
لا يجوز العَضْل، فهذا الولي ولايته ولاية نظرٍ في المصلحة وليست ولاية تَسلُّطٍ؛ ولذلك إذا عضل الولي مُولِّيته فتَسقُط ولايته، وتنتقل لمن بعده، ثُم لمن بعده، حتى ربما تصل للقاضي، المرأة التي يَعضُلها وليُّها لا تبقى ضحيةً له، بعض الأولياء قد يكون سيئ التدبير، بعضهم قد يكون لديه مشاكلُ نفسيةٌ، بعضهم قد يكون مُتسلِّطًا، فلا تبقى هذه المرأة ضحيةً لهذا الولي إذا عَضَلها على أن تتزوج برَجُلٍ قد رَضِيَتْه، وهو مَرْضِيُّ الدِّين والخُلُق، فتَسقُط ولايته، لكن يكون ذلك عن طريق المحكمة وعن طريق القاضي.
الولي ركنٌ من أركان النكاح
أيضًا من الفوائد: أن النكاح لا بُدَّ فيه من الولي، وأن المرأة ليس لها أن تُزوِّج نفسها؛ لأنه لو كانت المرأة تملك العقد لنفسها ما كان للعَضْل تأثيرٌ، ما الفائدة إذًا من العَضْل؟ ولا كانت هناك حاجةٌ لنهي الأولياء عن العَضْل، قال: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232].
وهذا هو قول الجماهير من المالكية والشافعية والحنابلة، خلافًا لمن قال بأن المرأة لها أن تُزوِّج نفسها، وهو قولٌ ضعيفٌ، والأدلة من القرآن والسُّنة تدل على أنه لا بُدَّ من الولي، وأيُّما امرأةٍ نكحت نفسها بغير إذن وليِّها فنكاحها باطلٌ، باطلٌ، باطلٌ [9].
اعتبار الرضا في عقد النكاح
أيضًا من الفوائد: اعتبار الرضا في عقد النكاح، سواءٌ أكان من الزوج أو من الزوجة؛ لقوله : إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، وهذا يؤكِّد رجحان القول بأنه لا بُدَّ من رضا المرأة، حتى وإن كانت بِكرًا، فلا بُدَّ مِن أن ترضى بالنكاح، أما إذا لم تَرضَ به فلا يجوز لوليِّها أن يُزوِّجها كارهةً، ليس له أن يُكرِهها، هذا هو القول الراجح في المسألة.
رضا المرأة مُعتبَرٌ.. لكن في حدود الشرع
أيضًا من الفوائد: أن المرأة لو رَضِيَتْ بزوجٍ على وجه غير معروفٍ -يعني: على وجه مُنكَرٍ لا يُقرُّه الشرع- فلا تُمكَّن من ذلك؛ لأن الله قال: بِالْمَعْرُوفِ، إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، يعني: إذا اختارت مثلًا رجلًا فاسقًا لأجل فِسقه، لا تُمكَّن من ذلك، أو اختارت إنسانًا مُلحِدًا مثلًا وهي امرأة مُسلمةٌ، أو اختارت رجلًا لا يَحِلُّ لها أن تتزوج به، فلوليِّها أن يمنعها من ذلك؛ لأن الله قال: بِالْمَعْرُوفِ.
أيضًا من الفوائد: أن الاتعاظ بأحكام الله فيه تزكيةٌ للنفس؛ لقوله : ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ [البقرة:232]، فالالتزام بأحكام الله تعالى وشرعه فيه طهارةٌ وتزكيةٌ للنفس؛ لأن الله قال: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ.
كمال علم الله ونقص علم الإنسان
أيضًا من الفوائد: الإشارة إلى سَعة علم الله سبحانه، وأن الله بكل شيءٍ عليمٌ، وقال هنا في هذه الآية: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:232]، وفيها إشارةٌ أيضًا إلى نقص الإنسان ونقص علمه، فالإنسان ضعيفٌ ومحدودُ المدارك، وعِلمه قليل: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].
ولهذا فعليه أن يُسلِّم وأن يستسلم لحكم الله تعالى ولشريعته، والله تعالى إذا أمر بشيءٍ أو نهى عن شيءٍ لا يأمر إلا لحكمةٍ ولا ينهى إلا لحكمةٍ، فلله الحكمة، فشرعه وأمره ونهيه حكمةٌ وغاية الحِكَم، سواءٌ عرفنا الحكمة أو لم نعرفها؛ لأننا على يقين بأن الله تعالى حكيمٌ عليمٌ، وأنه سبحانه أحكم الحاكمين.
هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهاتين الآيتين.
المُقدِّم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
التقوى حصنٌ يحفظ الأسرة من النزاع والفُرقة
شيخنا الفاضل، نلاحظ في آيات الطلاق أن الله أكثر من الوصية بالتقوى، فهل -يعني- يصح أن نقول: إن سبب كثيرٍ من المشكلات اليوم في الطلاق ونحوها هو قلة التقوى عند كثيرٍ من الناس؟
الشيخ: نعم، هذا صحيحٌ.
مَن اتقى الله في أمر الطلاق فلا تتعلَّق نفسه بالمرأة أولًا، ولا يندم، ولا يحتاج أصلًا إلى أحدٍ أن يُفتِيَه، كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: لو أن الناس اتقوا الله تعالى، لما احتاجوا لمن يُفتيهم؛ لأن من يتقي الله سيُطلِّق المرأة طلقةً واحدةً في طُهْرٍ لم يُجامِعها فيه، ويبقى له حق المُراجَعة ما دامت في العِدَّة إن كانت ممن تحيض ثلاث حيضاتٍ، وإن كانت ممن لا تحيض فثلاثة أشهرٍ. ويعني: ثلاث حيضاتٍ أيضًا غالبًا أنها ثلاثة أشهرٍ، ثلاثة أشهرٍ إذا لم يُراجِع المرأةَ فيها معنى ذلك: أن نفسه قد طابت منها، ثم أيضًا طلقةً واحدةً لو أراد أن يُراجِع راجعها، حتى لو انقضتِ العِدَّة فله أن يتزوجها بعقدٍ ومهرٍ جديدين.
فمن اتقى الله فإنه لا يندم، لكن تأتي المصيبة من عدم تقوى الله سبحانه وتعالى، فإذا لم يتقِ اللهَ الزوجُ في الطلاق فهنا يقع الندم، وأيضًا يحتاج إلى من يُفتيه، ويبحث عمن يُفتيه في مسألة الطلاق، وربما يترتب على ذلك أيضًا الفتوى بتحريمها عليه، خاصةً إذا طلَّقها ثلاث تطليقاتٍ، ربما يُفتَى بتحريمها عليه، ويتسبب ذلك في تشتيت أسرته وفي أمورٍ كثيرةٍ، لكن لو أنه اتَّقى الله سبحانه، سيُطلِّق طلقةً واحدةً فقط، وله حقُّ المُراجَعة ما دامت في العِدَّة؛ ولذلك تكرر الأمر بتقوى الله تعالى في آيات الطلاق.
المُقدِّم: أحسن الله إليكم، وأثابكم، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.
في ختام هذه الحلقة نشكركم -أيها المشاهدون- على طِيب المتابعة، ونلقاكم في حلقة قادمة بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
| ^1 | رواه مسلم: 2577. |
|---|---|
| ^2 | رواه البخاري: 2448، ومسلم: 19. |
| ^3 | تفسير ابن كثير: 1/ 476. |
| ^4 | تفسير ابن كثير: 3/ 73. |
| ^5 | رواه أبو داود: 3635، وابن ماجه: 2342، والترمذي: 1940، وأحمد: 15755. |
| ^6 | رواه ابن ماجه: 2341، وأحمد: 2865. |
| ^7 | أسباب النزول، للوحدي ص255. |
| ^8 | رواه أحمد: 19934، والبيهقي: 6162. |
| ^9 | رواه أبو داود: 2083، والترمذي: 1102، والنسائي: 5373، وابن ماجه: 1879، وأحمد: 25326. |



