logo
الرئيسية/برامج تلفزيونية/تفسير آيات الأحكام/(17) تفسير آيات الأحكام- من قوله "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة.."

(17) تفسير آيات الأحكام- من قوله "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة.."

مشاهدة من الموقع

المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي".

نحن وإياكم في سلسلة تفسير آيات الأحكام، يقدمها فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ.

الشيخ: أهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المشاهدين.

تفسير قوله: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً..

المقدم: شيخنا الفاضل، لا زلنا في الحديث في سورة "النساء"، ووصلنا إلى قول الله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4].

أستأذنكم في سماع تلاوة لهذه الآيات، ونعود بإذن الله للشرح والتعليق.

القاري: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4].

المقدم: تفضل يا شيخنا بالتعليق.

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

يقول الله وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً.

وَآتُوا النِّسَاءَ يعني: أعطوا النساء صَدُقَاتِهِنَّ المقصود: مهورهن. والصداق يطلق على المهر.

والرجل يجب عليه إذا أراد أن يتزوج أن يبذل عوضًا للمرأة، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: الْتمس ولو خاتمًا من حديد[1]، فلا بد أن يبذل الرجل الصداق، وهذا هو الذي دلت له الشرائع، وهو الذي يتوافق مع الفطرة السليمة، خلافًا لما تفعله بعض الشعوب من أن المرأة هي التي تدفع الصداق، أو أنه مشتركٌ بينهما، هذا كله خلاف شرع رب العالمين؛ الله تعالى أمر الرجل أن يدفع الصداق للمرأة: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ [النساء:4].

لمن الخطاب في قوله: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ؟

وهنا قوله: وَآتُوا هل الخطاب للأزواج أو الخطاب للأولياء؟

قولان لأهل العلم:

  • فمن أهل العلم من قال: إن الخطاب للأزواج، أمرهم أن يعطوا النساء مهورهن عن طيبة نفس بدون مماطلة.
  • والقول الثاني: إن الخطاب للأولياء، أن الأولياء إذا أخذوا المهر من الأزواج فيجب عليهم أن يعطوا المولية هذا المهر؛ وهذا لأن العرب -بعض العرب- في الجاهلية كانوا إذا زوج الرجل ابنته أخذ مهرها كاملًا ولم يعطها شيئًا، فأنزل الله هذه الآية.

وكلا المعنيين تحتمله الآية؛ فكلا المعنيين صحيح، فيكون هذا الخطاب موجَّهًا للأزواج فيجب عليهم عند الزواج أن يدفعوا المهر، وموجَّهًا كذلك للأولياء أنهم لا يجوز لهم أن يبخسوا مولياتهم مهورهن، فالمهر حقٌّ للمرأة، إن طابت نفسها عن شيءٍ -كما سيأتي في الآية- فلا بأس، وإلا المهر حقٌّ لها؛ ولذلك قال سبحانه: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، نِحْلَةً: يعني عطيةً طيبةً بها نفوسكم.

وهذه الطِّيبة للنفس هذه مهمة جدًّا في العطية؛ ولذلك سيتكرر هذا المعنى في آيات أخرى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء:6]، ثم قال: فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا [النساء:8].

فالإنسان عندما يعطي مالًا لغيره -سواءٌ أعطاه حقه الذي أوجبه الله له، أو أعطاه صدقة، أو هبة، أو هدية، أو تبرعًا- ينبغي أن يصحب ذلك القول بالمعروف، وأن يكون ذلك بطِيبةٍ من نفسه، وأن تظهر هذه الطِّيبة على جوارحه؛ لأن بعض الناس عندما يعطي: يعطي وهو كاره، يعطي -مثلما يقال- بغير نفس، وهو كاره، أو أنه يعطي بطِيبٍ من نفسه لكن يُلحِق هذه العطية بالمنة والأذى، فهذه العطية التي تكون بالمنة والأذى إن كانت عطيةَ تبرعٍ فقد أذهب أجرَ تبرُّعِه بهذه المنة والأذى، وإن كان هذا الذي يعطى شيئًا واجبًا عليه فقد أفسد أيضًا معروفه وإعطاء هذا الواجب بهذه المنة وهذا الأذى.

ولذلك نجد أنه تكرر في القرآن الكريم التوجيه بأن الإنسان إذا أراد أن يعطي غيره حقًّا واجبًا أو ليس بواجب عليه أن يقرن ذلك بطيبة النفس وبالقول المعروف، هذا له أثرٌ في هذه العطية؛ لأن بعض الناس يُعطي مع أذية، يتكلم بكلام جارح، عندما يعطي هذا الإنسان حقه يتكلم بكلام جارح فيُفسد عليه هذا المعروف، أو أنه يعطي الفقير لكن يمتن عليه، بطريق مباشر أو غير مباشر، والمنة تُذهب الأجر تمامًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264]، هنا قال: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4] يعني: طيِّبةً بها نفوسُكم.

فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا [النساء:4] يعني: طابت نفوسهن من هذا المهر؛ فلا بأس.

فَكُلُوهُ: إذا طابت أنفسهن من هذا المهر لكم بشيءٍ سواءٌ كنتم أنتم أيها الأزواج أو أيها الأولياء فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]؛ وعبَّر بالأكل لأنه أبرز وجوه الانتفاع. وقوله: هَنِيئًا يعني: عند الأكل ومَرِيئًا بعد الأكل؛ فالهنيء سهل المساغ، والمريء محمود العاقبة. فعندما يقال: "كُلْه هنيئًا" يعني: تتهنى به ويكون أكله سهلًا مستساغًا، "مريئًا" تكون عاقبته محمودة. هذا معنى الهنيء المريء.

أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بالآية

ننتقل لأبرز فوائد وأحكام هذه الآية:

أولًا: دلت الآية على وجوب إعطاء النساء مهورهن؛ لقول الله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ؛ ولذلك لو تزوج رجلٌ امرأةً واشترط عليها أن لا مهر لها، فهذا الشرط شرطٌ غير صحيح، وذهب بعض أهل العلم إلى أن النكاح باطل، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله وجمعٍ من أهل العلم؛ فلا بد من المهر، لا بد من أن يعطي الزوجُ الزوجةَ عوضًا: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النساء:24]، تكرَّر هذا في القرآن الكريم، الْتمس ولو خاتمًا من حديد[2] كما في السنة. فلا بد عند الزواج من أن يعطي الزوج امرأته عوضًا.

أيضًا من الفوائد: أن الزوج لا يجوز أن يبخس من هذه المرأة شيئًا من حقها، فإذا كان مثلًا المهر المسمى خمسين أو أربعين فيجب عليه أن يعطيها هذا المهر كاملًا، ويجوز أن يكون كله مقدمًا، أو كله مؤخرًا، أو بعضه مقدمًا وبعضه مؤخرًا، كل هذا جائز، ويكون بحسب ما يتفقان عليه.

وأيضًا من الفوائد: أنه لا يجوز للولي أن يأخذ شيئًا من صداق مَن ولي عليها من النساء؛ لأن الله تعالى قال: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، حتى وإن كان أبًا يجب عليه أن يعطيها هذا المال، ثم إن طابت نفسها منه بشيءٍ تُعطيه إياه.

أيضًا من الفوائد: جواز إسقاط المرأة شيئًا من المهر؛ لقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا، فلو مثلًا كان المهر خمسين، وقالت: أنا يكفيني عشرون؛ فلا بأس؛ لأن الله قال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4].

أيضًا من الفوائد:  أنها لا بد إذا أرادت أن تُسقط أو تعطي الولي؛ أن يكون ذلك بطيبةٍ مِن نفسها، لا يكون خَجَلًا ولا حياءً؛ لقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فلا بد من طيبة النفس؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا بطيبةٍ من نفسه[3].

ويستفاد من هذا فائدة: وهي أنه لا يحل أخذ شيءٍ من مال الغير بغير طيبةٍ من نفسه؛ لأن الله اشترط لحل أكله أن يكون عن طِيب نفس؛ ولذلك إذا علمت أن هذا الإنسان كارهٌ لبذل هذا المال، أو أنه دفعه إليك بسيف الحياء، أو الحاجة الملحة، أو نحو ذلك؛ فلا تَقْبله؛ لا بد عندما تريد أن تأخذ من أحد مالًا أن يكون بطيبةٍ من نفسه، إلا أن يكون شيئًا واجبًا لك؛ فهنا تأخذه ولو بطريق بالقوة الجبرية عن طريق الحاكم. لكن الكلام في غير الشيء الواجب، كأن يكون مثلًا إهداء أو صدقة أو نحو ذلك، فلا بد أن يكون هذا بطيبةٍ من نفسه.

وبهذا نعرف خطأ الذين يُحْرجون غيرهم في التبرع؛ فإن بعض الناس يريدون مثلًا التبرع لإنسانٍ حصلت له جائحة أو نحو ذلك ويُحرجون غيرهم، يُلِحُّ على غيره إلحاحًا شديدًا، حتى ربما يتبرع من غير طيبةٍ من نفسه؛ وهذا لا يجوز، لا يجوز إحراج الناس حتى يدفعوا من أموالهم ما لم تَطِبْ به نفوسهم، فلا يحل، القاعدة في هذا أنه: لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا بطيبةٍ من نفسه[4].

تفسير قوله: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ..

المقدم: ثم قال الله : وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]، نستمع لتلاوة الآيات، ونعود بإذن الله للشرح والتعليق.

القارئ:

بسم الله الرحمن الرحيم

وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5].

المقدم: تفضل يا شيخنا.

الشيخ: نعم، ثم قال الله سبحانه: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا.

معنى قوله: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ

قال: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ، "السفهاء" جمع سفيه، والسفيه: هو من لا يحسن التصرف إما لقصور في عقله أو رشده، أو لصغرٍ في سنه؛ فهذا هو السفيه. والسفه قد يكون في الأموال وقد يكون في الأعمال، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، وهنا قال سبحانه: أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا.

اختلف العلماء في معنى الآية:

  • فقال بعضهم: لا تؤتوا السفهاء أموالكم الخاصة بكم؛ لأنهم سوف يضيعونها بغير فائدة.
  • وقال بعضهم: إن المقصود بذلك أموالهم هم، لكن أضافها إلينا من أجل الولاية، فبولايتنا على هذا المال كأننا نملك هذا المال.

والآية تحتمل المعنيين، ولا تَضَادَّ بينهما؛ فتُحمل على المعنيين جميعًا.

من فوائد المال

وقوله: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا يعني: تقوم بها مصالحكم.

والمال سماه الله تعالى "خيرًا": وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، يعني: حب المال، ومرت معنا في درس سابق: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180] يعني: ترك مالًا، مالًا كثيرًا؛ فسمَّى الله المال "خيرًا" لأن المال تقوم به مصالح الإنسان، ينتفع به في أمورٍ كثيرة: ينتفع به في القيام بحاجاته وحاجات من تلزمه نفقته، يكرم به ضيفًا، يصل به رحمًا، يفكُّ به أسيرًا، يجبر به قلب يتيم.

فالأموال منافعها عظيمة وفائدتها كبيرة؛ ولذلك عندما أمر الله تعالى بالجهاد قدَّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، بل جميع الآيات التي أمر الله تعالى فيها بالجهاد قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، إلا في آية واحدة وهي: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111]، وفيما عدا ذلك قدم الله الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس؛ وذلك لأن الذي يجاهد بالنفس محتاجٌ أصلًا إلى المال، فما الذي يوصله إلى ميدان القتال إلا المال؟!

دلالة قوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا

ثم قال سبحانه: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا، ولم يقل: "وارزقوهم منها"، وهذا فيه دلالة بلاغية مهمة؛ لأن الله قال: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا إشارةً إلى أن الولي لا بد أن يكتسب بمال هؤلاء السفهاء الذين يلي أموالهم، وأن يتاجر بها، وأن يعطيهم من أرباحها ومن رِيعها. "ارزقوهم": يعني أعطوهم منها، أعطوهم من هذه الأموال، لكن لم يقل: "منها"، وإنما قال: فِيهَا إشارةً إلى أنه ينبغي أن يُتَجَّر بأموال هؤلاء وأن تُنَمَّى، وأن يكون إعطاؤهم من الريع وليس من رأس المال. وهذه -والله أعلم- هي الحكمة التي لأجلها قال: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ولم يقل: "وارزقوهم منها".

وقوله: وَارْزُقُوهُمْ يشمل الإنفاق عليهم بما يحتاجون من الطعام والشراب والكسوة، وكل ما يحتاجون إليه، لكن الله خص الكسوة فقال: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ؛ نظرًا لأهميتها، وإلا هي داخلةٌ في الرزق، فخصها الله تعالى بالذكر، فيكون معنى وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا يعني: أعطوهم طعامًا وشرابًا وكل ما يحتاجون إليه. وأكد الله أيضًا ما يتعلق بشأن الكسوة؛ لأن الكسوة بالنسبة لهؤلاء أمرها مهم، اللباس بالنسبة للإنسان أمره مهم، يعني يُحكَم على الإنسان أيضًا من لباسه، عندما يُرى مثلًا هذا الإنسان رَثَّ الهيئة رَثَّ اللباس، أو أنه يُرى على العكس من ذلك، فهذا إذا كان يتيما مثلًا ينبغي أن يُكسى الكسوة المناسبة واللائقة به.

وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5] يعني: عندما تعطونهم -تنفقون عليهم أو تكسوهم- قولوا لهم قولًا معروفًا، ولا يكون ذلك مع -مثلًا- إهانة أو أذية لهم، وإنما لا بد من القول بالمعروف كما ذكرنا قبل قليل؛ لأن بعض الناس عندما يُعطي مَن يلي ماله يعطيه بغلظة، ويعطيه بجفاء، ويعطيه بمنة؛ هذه الأذية تُفسد هذا المعروف.

ما دمت وُلِّيت مال هذا السفيه أو اليتيم فينبغي أن تُحسن التعامل معه، أو حتى من ذوي الاحتياجات الخاصة عندما تُعطيه شيئًا -تعطيه طعامًا أو تُعطيه شرابًا أو تُعطيه كسوة أو تُعطيه شيئًا من ماله- ينبغي أن يقترن ذلك بالقول بالمعروف؛ ولذلك قال سبحانه: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5]، ولا تقل: إن هذا عنده قصورٌ في عقله، إنه ما يفهم، لا، مهما كان هو يشعر.

ولذلك؛ الله حتى في شأن الأعمى الذي أتى النبي عليه الصلاة والسلام والنبي عليه الصلاة والسلام كان مشغولًا بدعوة صناديد قريشٍ يرجو إسلامهم؛ لأنهم إذا أسلموا أسلم معهم الكثير، فأتاه هذا الرجل الأعمى وقال: يا رسول الله، علِّمني مما علمك الله. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان منشغلًا -كأن هذا الرجل أتى في وقت غير مناسب أو كذا- الْتفت إليه وعبس في وجهه وتولى وأعرض عنه، هذا الرجل الأعمى لم يَرَ النبي عليه الصلاة والسلام، لم يَرَ عبوسه، لكن مع ذلك عاتب الله نبيه : عَبَسَ وَتَوَلَّى ۝ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس:1-2]. إذا كان هذا في شأنِ رجلٍ أعمى لم يَرَ عبوس مَن عبس في وجهه فكيف بغيره؟! كيف بغيره؟!

ولذلك؛ ينبغي العناية بهؤلاء الأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة عمومًا والرفق بهم وإكرامهم واحترامهم وعدم كسر قلوبهم بأية صورة من الصور، هذا أمر مهم.

هذه الطبقة من المجتمع -وهم ذوو الاحتياجات الخاصة- ابتلاءٌ للأولياء الذين ولَّاهم الله تعالى عليهم، وابتلاءٌ للمجتمع كله، فمَن كان في بيته أحدٌ مِن ذوي الاحتياجات الخاصة فهذا بابُ رحمة وبابُ خيرٍ بل بابٌ من أبواب الجنة، لكن أحسِن إليه إحسانًا عظيمًا، الإحسان لا يكن فقط بأن تعطيه أكلًا وشربًا وكسوةً، لا، بل الإكرام والاحترام؛ ولذلك لما أمر الله تعالى بأن يُعطوا من أموالهم: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [النساء:5]، قال: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5]، لا تفعلوا ذلك بغلظة ولا بإهانة، ليس معنى ذلك أنه لا يُؤدَّب هذا اليتيم، هو كغيره، لكن يعامَل كغيره، لكن المعنى أنه لا يتعامل معه بجفاء وبغلظة تُشعره بأنه أقل من غيره.

أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بالآية:

ننتقل للفوائد، أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية:

أولًا: أنه لا يجوز إعطاء السفهاء الأموال؛ وذلك لأن إعطاء السفهاءِ الأموالَ يُؤدِّي إلى ضياعها، والمؤمن منهيٌّ عن إضاعة المال، وقد نهى النبي عن إضاعة المال، فهذا السفيه لا يُعطى ماله، سواءٌ كان مال الإنسان أو ماله هو، يعني على الاحتمالين جميعًا.

فمثلًا الأب لا يعطي الابن الصغير إذا كان يضيع هذا المال ويفسده، لا يعطيه هذا المال، أو إذا كان عنده إنسان سفيه غير راشد وهو وليُّه لا يعطيه هذا المال، وإنما يُنفق عليه مما يحتاج إليه.

إذًا؛ هذه الأموال جعلها الله تعالى قيامًا للناس؛ فلا تعطى السفهاء.

أقسام الحجر على الإنسان

أيضًا من الفوائد: أن السفه موجبٌ للحجر على الإنسان في ماله. وقد قسم الفقهُ الحَجْرَ إلى قسمين:

  • حجرٌ على الإنسان لِحَظِّ نفسه.
  • وحجرٌ على الإنسان لحظ غيره.

أما الحجر على الإنسان لحظ غيره فهو المفلس. وتعريف المفلس: هو من كان دَينُه أكثرَ من ماله، فهذا يُحجر عليه لِحَظِّ غيره؛ لحقوق الغرماء، هذا إنسان كثرت عليه الديون فطلب الغرماء الحجر عليه فيُحجَر عليه بحيث لا يتصرف في أمواله؛ لأنها لِحَقِّ هؤلاء الغرماء، تؤخذ  أمواله، ويُستثنى من ذلك الحاجات الأساسية له، حاجاتُه وحاجاتُ مَن تلزمه نفقته، ويُقسم المال الموجود بين الغرماء. هذا الحجر على الإنسان لِحَظِّ غيره، هذا هو الحجر على المفلس.

القسم الثاني: الحجر على الإنسان لحظ نفسه، وهو الحجر على الصغير وعلى المجنون وعلى السفيه، هذا الحجر على الإنسان لحظ نفسه، لمصلحته، هو إذا كان صغيرًا يُحفظ ماله؛ لأن هذا الصغير لو أُعطي المال لأفسده، هذا المجنون لو أُعطي المال لأفسده، السفيه حتى لو كان كبيرًا في السن، بعض الناس عنده سفهٌ ما يحسن تدبير المال؛ فهذا يُحجر عليه، لا يُترك يعبث بالمال، وإنما يُحجر عليه.

فإذًا؛ الحجر على الإنسان: إما أن يكون لحظ نفسه، أو يكون لحظ غيره.

أيضًا من الفوائد: أن حكمة الله في المال الذي أعطاه لعباده هي أنه قيامٌ للناس في مصالح دينهم ودنياهم؛ ولذلك يحرم على الإنسان أن يصرف هذا المال في غير ما فيه قيام دينه ودنياه؛ ولذلك لا يجوز أن يُبذِّر هذا المال، ولا أن يُسرف في هذا المال، وإنما يُنفقه في مصارفه الشرعية.

وأيضًا بعض أهل العلم استنبط فائدة: وهي أنه لا يجوز أن يُسلَّط أحدٌ على شيءٍ يحصل به الفساد بتسليطنا إياه، إذا أُعطي الإنسان شيئًا، وهذا الشيء تسبب في أن يقوم بالاعتداء على غيره، أو إفساد مال غيره، أو نحو ذلك؛ فإن هذا لا يجوز؛ لأن الله تعالى إذا كان نهى عن إعطاء السَّفَهةِ أموالهم لأن فيها إفسادًا لهذه الأموال، فكذلك أيضًا لا يجوز أن يُسلَّط أحدٌ على شيءٍ يحصل به الفساد.

هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.

المقدم: أحسن الله إليكم.

تفسير قوله: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ..

ثم قال الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ... الآية [النساء:6]، نستمع للتلاوة ونعود بإذن الله للشرح والتعليق.

القارئ:

بسم الله الرحمن الرحيم

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء:6].

المقدم: تفضل يا شيخ.

الشيخ: نعم، ثم قال : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى، لا زال الكلام عن أحكام اليتامى، هذه السورة ابتدأت من الآية الثانية بالكلام على اليتامى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، ثم بعد ذلك هنا الله تعالى قال: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى، وسبق أن قلنا: إن اليتيم هو مَن مات أبوه قبل البلوغ. هذا هو تعريف اليتيم. قال: وَابْتَلُوا يعني: اختبروا، اختبروا اليتامى.

شروط إعطاء اليتيم ما له من مال

حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، هذه الآية في إعطاء اليتيم ماله، فالله تعالى ذكر شرطين لإعطاء اليتيم ماله:

  • الشرط الأول: قال: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ: البلوغ.
  • والشرط الثاني: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا، وإيناس الرشد يكون بالابتلاء، بأن يُبتلى هذا اليتيم، بأن يُختبر فيُعطى مثلًا.. يُجعل يبيع ويشتري فإذا باع واشترى مرارًا ولم يُغبَن فمعنى ذلك أنه راشدٌ، أما إذا كان يُغبن كلَّ مرةٍ يبيع ويشتري فيها فهذا ليس براشد؛ فلا يُعطى ماله، فلا بد من أن يختبر هذا اليتيم.

وكذلك أيضًا إذا كان اليتيم امرأة تُختبر بحاجات البيت، إذا عُرف ضبطها فهي رشيدة، يمكن أن يحكم على هذا اليتيم من خلال النظر لحاله؛ هل هو عنده سفه في تصرفاته أو عنده رشد؟ إذا أشكل علينا الأمر نبتليه بأن نختبره، نعطيه يبيع ويشتري، وننظر: إذا لم يُغبن مرارًا معنى ذلك أن عنده رشدًا، وهكذا أيضًا بالنسبة للأنثى سواءٌ في البيع والشراء، في الأمور المناسبة لها، أو كان أيضًا في حاجات البيت ونحو ذلك.

فإذًا؛ ذكر الله تعالى هذين الشرطين:

  • الشرط الأول: البلوغ.
  • الثاني: إيناس الرشد.

علامات البلوغ

الشرط الأول: البلوغ. البلوغ يحصل بواحدة من ثلاث علامات:

العلامة الأولى: إنزال المني يقظةً أو منامًا، هذه علامة من علامات البلوغ.

العلامة الثانية: بلوغ تمام خمس عشرة سنة، يعني: إذا تم خمس عشرة سنة ودخل في السنة السادسة عشرة، وليس المعنى تم أربع عشرة ودخل في الخامسة عشرة كما يفهم بعض الناس، إنما المقصود إذا تم خمس عشرة سنة ودخل في السنة السادسة عشرة؛ ولهذا بعض الفقهاء يقول: بلوغ تمام خمس عشرة سنة.

وهذه مسألة أيضًا أُنبِّه إليها: أن بعض الناس يفهمها فهمًا غير صحيح، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: مروا أبناءكم بالصلاة لسبع...، بعض الناس يفهمها إذا تم سِتًّا ودخل في السابعة، هذا غير صحيح، لا، المقصود إذا تم سبع سنين ودخل في الثامنة: واضربوهم عليها لعشر [5]، يعني: تم عشر سنين ودخل في الحادية عشرة.

ولذلك؛ الناس في الطفل الذي أقل من سنة المسألة واضحة عندهم، إذا قُلْت: كم عمر هذا الطفل؟ ما يقول سنة، يقول: شهر، شهران، ستة أشهر، عشرة أشهر، أحد عشر شهرًا. ما يقول: سنة، متى يقول سنة؟ إذا أتم اثني عشر شهرًا، لكن بعد هذا تجد أنهم ينقصون في المدة، فمثلًا يقول: عمره سبع، وهو لم يُتم سبع سنين، إنما ستًّا وبضعة أشهر، إذا كان ستًّا وأشهر ما يقال: إن عمره سبع، وإنما عمره ست.

متى يقال: عمره سبع؟ إذا أتم سبع سنين؛ ولذلك تجد أن بعض الناس يُكبِّر نفسه في العمر بهذا، عمره مثلًا ثلاثون يجعل عمره واحدًا وثلاثين وهو في الحقيقة ثلاثون وأشهر، ثلاثون وأشهر يكون عمره ثلاثون، متى يكون عمره واحدًا وثلاثين؟ إذا أتم اثني عشر شهرًا ودخل في الحادية والثلاثين يقال: عمره واحدٌ وثلاثون.

طيب، إذًا العلامة الثانية: بلوغ تمام خمس عشرة سنة.

العلامة الثالثة: نبات الشعر الخشن حول الفرج، لا بد أن يكون أيضًا الشعر خشنًا احترازًا من الشعر الناعم، هذا قد يخرج من بعض الصغار، لكن الشعر الخشن علامة واعتمدها النبي عليه الصلاة والسلام في قصة بني قريظة.

هذه ثلاث علامات يشترك فيها الذكر والأنثى، تزيد الأنثى علامة رابعة: وهي نزول دم الحيض، وهي أسرع العلامات.

فعلامات البلوغ عند الأنثى أربع، وعند الذَّكَر ثلاث، ثلاثٌ مشتركة:

  • خروج المني يقظة ومنامًا.
  • والثانية: بلوغ تمام خمسة عشر سنة.
  • والثالثة: نبات الشعر الخشن حول الفرج.
  • والعلامة التي تنفرد بها الأنثى: نزول دم الحيض.

إذا ظهرت واحدة فقط من هذه العلامات يُحكم عليه بالبلوغ، فإذا بلغ هذا اليتيم لا يكفي البلوغ لإعطائه ماله، وإنما لا بد من أمر آخر: وهو إيناس الرشد.

وإيناس الرشد إما أن يُحكم عليه من خلال النظر لسيرته وحياته، فإذا كان أمره واضحًا بأنه راشد فيُعطى ماله، وإذا كان سفيهًا لا يعطى، وإذا أشكل عليه الأمر وشككنا نبتليه كما قال سبحانه: وَابْتَلُوا [النساء:6]، بأن يُعطى يبيع ويشتري مرارًا، فإذا لم يُغبَن دَلَّ ذلك على رشده؛ قال: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] يعني: أعطوهم أموالهم.

وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] يعني: لا يجوز لكم أن تأكلوا أموال اليتامى إسرافًا، والإسراف: هو مجاوزة الحد وَبِدَارًا يعني: أنكم تُبادرون بأكلها قبل أَنْ يَكْبَرُوا؛ ولهذا قال: وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا، فيبدأ يأكلها الإنسان قبل أن يكبر هذا اليتيم؛ فنهى الله تعالى عن أكل مال اليتيم.

وهنا في هذه السورة نهى الله تعالى عن أكل مال اليتيم بعدة أساليب، يعني في الآية السابقة قال: وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2]، هنا في هذه الآية قال: وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6]، أيضًا في الآية التي بعدها قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، يعني انظر كيف أن الله شدَّد في هذه القضية؛ قضية أكل مال اليتيم! لماذا؟ لماذا شدد الله تعالى فيها؟

لأن الدافع قوي والمانع ضعيف، الدافع محبة الإنسان للمال، الإنسان يحب المال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، المانع هذا اليتيم، مَن الذي يحميه ويحفظه؟ ما يوجد، إن كان وليُّه هو الذي سيأكل ماله مَن الذي سيُدافع عنه؟! ربما يكون له أم مثلًا تُدافع عنه، وقد لا يكون له أم، أو تكون أمًّا ضعيفة أيضًا مثله؛ فلذلك حمى الله هؤلاء اليتامى.

انظر هذه المؤكدات! عدة مؤكدات في هذه السورة، في صفحة واحدة فقط نهى الله تعالى عن أكل أموال اليتامى بثلاثة أساليب:

  • وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2]، يعني إثمًا كبيرًا من كبائر الذنوب، وليس من الصغائر.
  • ثم في هذه الآية قال: وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6].
  • ثم في الآية التي بعدها: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].

كل هذا التشديد لأجل حماية هؤلاء اليتامى، ومع ذلك نجد -مع الأسف- من المسلمين من يأكلون أموال اليتامى ويستغلون ضعف هؤلاء اليتامى، وربما بعضهم يتأول، وهذا التأول لا ينفعهم، فما أعظمَ مصيبةَ مَن أكل مال اليتيم! ما أعظم مصيبته عند الله ! بئس ما فعل، وسيلحقه الخزي والعذاب ربما في الدنيا قبل الآخرة بأن تُنزع البركة من ماله أو من صحته أو من استقراره أو من غير ذلك بسبب تسلطه على هذا الضعيف وأكله لماله.

فيعني انظر إلى عناية القرآن العظيم بحفظ أموال اليتامى! وحماية هؤلاء اليتامى الضعفاء! فهنا في هذه الآية نهى الله عن أكل مال اليتيم بهذا الأسلوب: وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6]؛ لأن هذا أيضًا كان موجودًا عند العرب، قبل أن يكبر اليتيم يُبادر ويأكل ماله.

ثم قال سبحانه: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6] يعني: مَن كان مِن أولياء اليتامى غنيًّا ولا يحتاج إلى مال اليتيم فَلْيَسْتَعْفِفْ: فليكف عن الأكل ولا يأكل من ماله شيئًا، وإنما يحفظه له ويُنمِّيه.

وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6]: إذا كان ولي اليتيم فقيرًا أباح الله تعالى له أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف. وهنا قال الفقهاء: إنه يأخذ الأقل من حاجته أو من أجرة مثله، فينظر كم حاجته أو أجرة مثله ويأخذ الأقل، هذا هو الأكل بالمعروف؛ لأنه لا يحل له أن يأكل مطلقًا، وإنما بالمعروف، يعني يأخذ الأقل من حاجته أو من كفاية مثله.

أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بالآية

أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية:

أولًا: عناية الله بشأن اليتامى وحماية هذه الطبقة من المجتمع؛ لأن هذا اليتيم لمَّا كان ضعيفًا قد انكسر قلبه بفَقْد والده فالله حمى هذا اليتيم بأن توعد من يأكل ماله بهذا الوعيد الشديد، فوصفه الله تعالى أولًا بأنه كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2]، ثم توعد من يفعل ذلك قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، وهذا يقتضي أن أكل مال اليتيم من كبائر الذنوب.

أيضًا من الفوائد: أن ولي اليتيم يجب عليه أن يدفع مال اليتيم إليه إذا تحقق شرطان: 

  • الشرط الأول: البلوغ، بأن يبلغ هذا اليتيم بإحدى علامات البلوغ التي ذكرنا.
  • الشرط الثاني: بإيناس الرشد.

فإذا تحقق هذان الشرطان -البلوغ وإيناس الرشد- فيجب على الولي أن يدفع إلى اليتيم ماله، ولا يجوز له أن يستبقيه عنده؛ لأنه أيضًا هناك بعض الأولياء يأخذ مال اليتيم ولا يعطيه حقه، يكون هذا اليتيم قد بلغ وآنس الرشد ومع ذلك لا يزال محتفظًا به؛ هذا لا يجوز، وعندما يُكلَّم في ذلك يقول: أنا أريد أن أحفظ ماله، أخشى أن يُضيِّعه لأجل كذا.

نقول: إذا تحقق هذان الشرطان لا يجوز لك أن تأخذ ماله، هو ماله حُرٌّ فيه، لكن بهذين الشرطين: أن يكون قد بلغ وآنس الرشد، إذا بلغ وآنس الرشد يجب عليك أنت أيها الولي أن تُعطيه ماله، انتهت مهمتك، فيجب عليك أن تنقل هذا المال -مال اليتيم الذي عندك- أن تنقله إلى هذا اليتيم.

أيضًا من فوائد هذه الآية: أنه إذا لم يُعرف رشد هذا اليتيم بعد بلوغه فيجب ابتلاؤه، وذلك باختباره بأن يُعطى يبيع ويشتري مرارًا، فإذا لم يُغبَن عُرف بذلك رشده.

أيضًا دَلَّت هذه الآية على وجوب استعفاف الغني عن مال اليتامى؛ لقول الله تعالى: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6]، لكن ماذا لو كان الولي غنيًّا وقال: أنا لن أقوم على مال اليتيم إلا بمقابل؟ فنقول: الأمر في ذلك يرجع للقاضي؛ لأن القاضي له ولايةٌ عامة على أموال اليتامى في البلد، فيُرجع للقاضي، فإذا وجد القاضي من يقوم على مال اليتيم بدون مقابل أعطاه إياه إذا كان ثقة، وإذا لم يجد إلا هذا الغني فيُعطيه أجرة مثله، يعطيه أجرة مثله ولا يلزم أن يقوم على مال اليتيم مجانًا، لكن الأكمل والأحسن أن هذا الغني يقوم عليه احتسابًا للأجر عند الله .

أيضًا دلَّت الآية على أن ولي اليتيم إذا كان فقيرًا يجوز له أن يأكل من ماله بالمعروف، وذكرنا أن الفقهاء قالوا: إن المعروف هنا أن يأخذ الأقل من حاجته أو أجرة مثله.

أيضًا دلَّت الآية على أنه إذا كان فقيرًا فأَكَل فلا يلزمه إذا أغناه الله أن يرد ما أكل؛ لأن الله أباح له ذلك، والمباح لا ينقلب حرامًا، ولو قلنا بوجوب الرد إذا أغناه الله لم يكن هنا فائدة لإباحة الأكل، وإن كان قال بعض العلماء بوجوب رَدِّ ما أكله، لكن القول الراجح هو القول الأول إنه لا يجب؛ لأن الله تعالى أباح له ذلك، والمباح لا ينقلب حرامًا، لكنه لو أراد أن يرد ما أخذ على سبيل التورع والاحتياط والإحسان لهذا اليتيم كان ذلك حسنًا.

أيضًا من الفوائد: اعتبار الحال، وأن الأحكام تختلف بحسب اختلاف الأحوال، وهذا من حكمة الشريعة، أُخِذَ هذا من قول الله تعالى: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6]، فرَّقت الشريعة بين الولي الغني وبين الولي الفقير.

أيضًا من الفوائد: الرجوع للعرف؛ لقوله ​​​​​​​: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ، وعند العلماء قاعدة من القواعد الكلية الكبرى، وهي قاعدة "العادة مُحكَّمة"؛ فكل أمر ورد في الشرع وليس له حَدٌّ في الشرع ولا في اللغة فالمرجع فيه للعرف، هذا الولي الفقير عندما يأكل من مال اليتيم فإنما يأكل بالمعروف.

حكم الإشهاد عند دفع المال لليتيم

أيضًا: أن ولي اليتيم إذا دفع المال لليتيم بعد تحقق الشرطين -وهما البلوغ وإيناس الرشد- عليه أن يُشهد؛ لقوله ​​​​​​​: فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [النساء:6]، وعلى خلافٍ بين العلماء: هل الأمر بالإشهاد هنا للوجوب أو للاستحباب؟

والاقرب -والله أعلم- أنه للوجوب؛ لأن الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، لكن لو وُجدت وسيلةٌ يُحفَظ بها الحق غير الإشهاد فالذي يظهر أنه لا يكون واجبًا؛ كأن يُكتَب ويُوثَّق، يكتب على هذا يأتي ويُقِرُّ بأنني استلمت -مثلًا- حقي من كذا، ويُصدَّق مثلًا من جهة رسمية، هذا يُغني عن الإشهاد، أو أنه يُشهد شاهدين على أنه دفع إليه ماله.

وإنما أمر الله تعالى بالإشهاد دفعًا للتهمة وقطعًا للنزاع والخصومة؛ فإن هذا اليتيم قد يتشكك فيما بعد في أن هذا الولي أعطاه حقه، والإنسان تتغير أحواله، تتغير أموره، تتغير أفكاره، تتغير عواطفه، كما يقول بعضهم: هو من الأغيار، فربما ما تراه صوابًا قبل سنوات لا تراه الآن صوابًا، ربما ما لا تراه خطأً قبل سنوات تراه الآن خطأً.

الإنسان يتغير، هل نظرتك للحياة الآن مثل نظرتك للحياة قبل عشر سنين؟ طيب نظرتك للحياة بعد عشر سنين ستختلف، فالإنسان يتغير، يتغير في كل شيءٍ، يتغير في -حتى- بنية جسمه، في قوته، في عواطفه، في نظرته للحياة، في حبه، في كرهه، يتغير.

ولذلك؛ الحي لا تُؤمن عليه الفتنة، فالإنسان قد يكون الآن واثقًا عندما يُعطي اليتيم ماله، يكون واثقًا، وتكون الثقة موجودة، لكن ربما في المستقبل تتغير الأمور، ربما تحصل بينهما مشكلة، يحصل بينهما شقاق، يحصل أمرٌ، فيبدأ هذا اليتيم يتشكك، يقول: لا، أنت ما أعطيتني حقي. ولذلك؛ لا بد من التوثيق.

ذكرنا في الحلقة السابقة أن أطول آية في القرآن: هي في حفظ الدَّين، في توثيق الدَّين، أطول آية في القرآن في توثيق الدين، فينبغي للإنسان أن يحرص على التوثيق، وأن يحرص على حفظ الحقوق؛ لأن بعض الناس فوضوي، تجده مثلًا عندما يُعطي اليتيم يُعطيه من غير إشهاد ومن غير كتابة، هذا يتم ربما أنه بعد مدة من الزمن يجحده، يقول: "ما أعطيتني شيئًا"؛ فحتى تحمي نفسك وثِّق هذا، أشهِد شهودًا، والأحسن أن تُشهد مع الكتابة.

طيب هذا يقودنا إلى مسألة وهي: لو أن الولي ادَّعى أنه دفع إلى اليتيم ماله واليتيم أنكر، فإن كان هناك بينة فالقولُ قولُ صاحب البينة، لكن إن لم يكن هناك بينة اختلف العلماء: هل تُقبل دعوى الولي أم دعوى اليتيم؟

والأقرب -والله أعلم- أنه لا تُقبل دعوى الولي؛ لأن الله تعالى أمر بالإشهاد، وهو قد فرط في هذا الإشهاد، إلا إذا كانت هناك قرائن تدل لذلك، إذا كان هناك قرائن كأن يكون الولي معروفًا بالصدق والأمانة، وأن يكون اليتيم معروفًا بالطمع والجشع؛ فيمكن أن يُرجِّح قول الولي. لكن لا بد يكون هناك قرائن، نحن قلنا: لا بينة، فكون هذا الولي لم يُشهد هذا يجعل قوله غير مقبول، دعواه غير مقبولة، يقال له: أثبت، أثبت أنك دفعت لهذا اليتيم ماله، الأصل أن مال اليتيم عندك، وأنت تدَّعي أنك دفعت إليه هذا المال، فأثبت هذا.

أيضًا من الفوائد: تحذير ولي اليتيم أن يخون في ولايته، وتحذير أيضًا اليتيم أن يُنكر، قول الله تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء:6]، فإذا كان الله تعالى هو الكافي على حساب عباده، فالإنسان عليه أن يخشى هذه المحاسبة وأن يتوب إلى الله .

هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.

المقدم: أحسن الله إليكم، بعض الأسئلة الله يحفظكم.

الشيخ: نعم.

هل تعد المرأة بالغة إذا ظهرت عليها بعض علامات البلوغ؟

المقدم: المرأة -يا شيخنا- هل إذا ظهرت لديها بعض علامات البلوغ ولم تحض تُعَدُّ بالغة؟

الشيخ: ظهرت عليها بعض علامات البلوغ، نعم تُعَدُّ بالغة، نحن قلنا: إن العلامات الثلاث: خروج المني يقظة أو منامًا من الرجل أو المرأة، كذلك أيضًا بلوغ تمام خمس عشرة سنة من الرجل أو المرأة، كذلك أيضًا نبات الشعر الخشن حول الفرج من الرجل أو المرأة، فإذا ظهرت واحدة من العلامات الثلاث في الذكر أو في الأنثى يكون قد بلغ. الأنثى تزيد علامة رابعة: وهي نزول دم الحيض وهو أسرع العلامات، فإذا ظهرت واحدةٌ من هذه العلامات على الذكر أو الأنثى فإنه يكون قد بلغ، وإذا بلغ فقد جرى عليه قلم التكليف؛ لأنه قبل البلوغ مرفوعٌ عنه القلم كما قال عليه الصلاة والسلام: رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: عن الصبي حتى يبلغ[6].

ولكن إذا كان مميِّزًا يُثاب على الطاعات ولا يُعاقب على المعاصي؛ ولذلك أُمروا بالصلاة: مروا أبناءكم بالصلاة لسبع[7]، ودَلَّ ذلك على أنه يُثاب، ولما رفعت امرأةٌ صبيًّا للنبي عليه الصلاة والسلام، وقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر[8]، كونه له حجٌّ يدل على أنه يُثاب، فهو يُثاب على الطاعات، لكنه مرفوعٌ عنه القلم، فلا يُعاقب على المعاصي، وهذا من رحمة الله .

المقدم: المرأة تجب عليها الصلاة وتلتزم بالحجاب، وكل هذه الأحكام حتى لو لم..؟

الشيخ: نعم، إذا ظهرت إحدى علامات البلوغ فيجب على المرأة ما يجب على البالغة؛ هي بلغت الآن، تكون قد بلغت، وهكذا أيضًا بالنسبة للذكر.

فضل إكرام اليتيم والإحسان عليه

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، هل تُذكِّرون بحق اليتيم وفضل الإحسان له في ظل الظروف الراهنة، وفي ظل وجود كثير من الأيتام بحيث يستشعر الإنسان هذا الأمر وهذا الفضل من أقاربه أو من غيره؟

الشيخ: نعم، أولًا اليتيم -كما ذكرنا- من مات أبوه قبل البلوغ، أوصى الله تعالى بالإحسان إليه في مواضع كثيرة تجاوزت عشرين موضعًا، والإحسان إليه ليس فقط بالمال، بالمال وبالمعاملة: كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [الفجر:17]، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۝ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون:1-2]. يَدُعُّ الْيَتِيمَ يعني: ينهر اليتيم.

يعني الإحسان بالمعاملة قد يكون أهم من الإحسان بالمال، بعض الناس ما يفهم مِن الإحسان لليتيم إلا الإحسان بالمال، لا، الإحسان بالمعاملة مهم، يعني هذا اليتيم ينبغي ألا يشعر بيُتْمِه، وأن يكون محل إكرام وعناية واحترام من أفراد المجتمع؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بإصبعيه السبابة الوسطى[9].

وهذه منزلةٌ رفيعةٌ لكافل اليتيم: أنه ينال هذه الدرجة العالية، فما أعظم أجر من كفل يتيمًا! وما أعظم ثوابه عند الله !

لكن هذا يقودنا إلى سؤال: ما المراد بكفالة اليتيم؟ 

بعض الناس يظن أن كفالة اليتيم هي أن يعطي هذا اليتيم مالًا، أو يعطي جمعية وهذه الجمعية تُنفق على هذا اليتيم تُعطيه مرتبًا شهريًّا؛ هذه ليست كفالة يتيم، هذه صدقة على اليتيم.

كفالة اليتيم معناها أن يضم هذا اليتيم إلى بيته مع أولاده ويكفله في كل شيءٍ، ليس فقط في الطعام، في الطعام والشراب والكسوة والرعاية، والرعاية أهم شيءٍ، أن يرعاه ويعتبره كأنه واحد من أبنائه، يرعاه مثلًا في تعليمه، في دراسته، في كل شيءٍ، يعتبره كأنه واحدٌ من البيت، وهذه كفالة اليتيم.

كفالة اليتيم الواردة في الحديث: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا[10]، معناها: أنه يأتي بهذا اليتيم إلى بيته، ويتعامل معه كأنه أحد أبنائه، أما مجرد أنه يعطي هذا اليتيم مالًا، أو يعطي جمعية خيرية تعطي هذا اليتيم مالًا، ويُسمُّونها كفالة يتيم؛ هذا عمل خير، وهذا عمل صالح، لكنها ليست كفالة اليتيم المرادة في الحديث، هذه تسمى صدقة على يتيم، وهو مأجور على ذلك.

وهنا عندما نتأمل بلاغة القرآن -وهذه ربما فاتنا التنبيه عليها جزاك الله خيرًا على طرح هذا السؤال- عندما قال الله في الآية الثانية: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، يعني ما العلاقة بين اليتامى وبين النكاح مثنى وثلاث ورباع؟!

بعضهم ذكر أمرًا دقيقًا ولطيفًا، قال: إن العناية باليتامى تكون بأن يتزوج هذا الرجل أم هذا اليتيم ويضمه إليه، فهذه تكون هي أقصى درجات العناية باليتامى؛ لأنه الآن عوضه عن أبيه، فأصبحت أمه زوجةً لكافل اليتيم، وأصبح كأنه واحدٌ من أهل البيت؛ هذه أعلى درجات العناية باليتيم؛ أنه يتزوج أمه، يكفل لها هؤلاء الأيتام أولاد هذه المرأة، ويكون زوجًا لأمهم، ويتعامل معهم كأنه أبوهم؛ هذه هي أعلى درجات إكرام اليتيم، وهذا -والله أعلم- هو السر.

يعني ما علاقة التعدد بقوله ​​​​​​​: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى؟ يعني ما علاقة التعدد باليتامى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]؟

يعني لاحظ هنا: الإقساط في اليتامى، والأمرُ والتوجيهٍ بالتعدد لمن كان قادرًا على العدل، أما من لم يكن قادرًا على العدل قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، فهذا يدل على أن إكرام اليتيم والعناية باليتيم لها درجات، أعلى الدرجات هذه الدرجة، ومن أقل درجاته هي أن يدفع له مالًا فقط، هذه درجة من درجات الإحسان لليتيم، لكن إذا أتى بهذا اليتيم عنده في البيت أيضًا هذه كفالة يتيم، إذا أتى به وبأمه هذه أعلى درجات كفالة اليتيم. فسبحان الله! انظر إلى عناية الشريعة الإسلامية بهؤلاء اليتامى!

وأقول: من كان يتيمًا فله أسوة وسلوة بسيد البشر محمد ، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام مات أبوه وهو في بطن أمه، وماتت أمه وعمره أربع سنين، قيل أربعٌ، وقيل سِتٌّ، محل خلاف، أصبح يتيم الأبوين وهو لم يبلغ سن التمييز، ماتت أمه ومات أبوه، مع ذاك هو سيد البشر ، ما ضره اليتم.

وعندما ننظر لسير العظماء نجد أن كثيرًا منهم من الأيتام: الإمام أحمد كان يتيمًا، كثيرٌ من الأئمة، لو نظرنا مثلًا لعلمائنا المعاصرين: شيخنا الشيخ عبدالعزيز ابن باز كان يتيمًا، الشيخ عبدالله بن حميد كان يتيمًا، معظم العلماء تجد أن هذه السمة عندهم، أنه لم يضرهم هذا اليُتْم، بل كان دافعًا لهم لكي يتميزوا ويُبدعوا وكانوا من عظماء التاريخ؛ فاليُتْم قد يكون دافعًا للإنسان لكي يتميز ويبرز في المجتمع، فمن كان يتيمًا فأُسوته محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، كان يتيم الأبوين، ومع ذلك هو سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه.

المقدم: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.

الشيخ: بارك الله فيكم.

المقدم: في ختام هذه الحلقة نشكركم -أيها المشاهدون- على طِيب المتابعة، ونلقاكم بإذن الله تعالى في حلقة قادمة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه البخاري: 5135، ومسلم: 1425.
^2, ^4, ^7, ^10 سبق تخريجه.
^3 رواه أحمد: 20695.
^5 رواه أبو داود: 495، وأحمد: 6756.
^6 رواه أبو داود: 4402، والترمذي: 1423، والنسائي: 3432، وابن ماجه: 2041، وأحمد: 940.
^8 رواه مسلم: 1336.
^9 رواه البخاري: 5304، ومسلم: 2983.
مواد ذات صلة
zh