logo
الرئيسية/برامج تلفزيونية/تفسير آيات الأحكام/(10) تفسير آيات الأحكام- من قوله "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ.."

(10) تفسير آيات الأحكام- من قوله "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ.."

مشاهدة من الموقع

المُقدِّم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".

نسعد وإياكم باستكمال شرح تفسير آيات الأحكام لفضيلة الشيخ: سعد بن تركي الخثلان.

باسمي وباسمكم جميعًا، أرحب بفضيلة الشيخ.

الشيخ: أهلًا، حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.

المُقدِّم: شيخنا الفاضل، كنا قد وقفنا عند قول الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ [البقرة:233]، نستأذنكم في سماع تلاوةٍ لهذه الآيات، ثم نعود بإذن الله للشرح والتعليق.

القارئ:

شرح ألفاظ آية الرضاع ومعناها العام

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233].

المُقدِّم: تفضَّل يا شيخنا بالتعليق على الآية.

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فكنا قد وصلنا في تفسير آيات الأحكام إلى قول الله ​​​​​​​: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا... [البقرة:233] إلى آخر الآية.

نبدأ أولًا بالكلام عن معاني الكلمات والمعنى الإجمالي للآية، ثم بعد ذلك ننتقل للكلام عن الفوائد والأحكام.

قوله سبحانه: وَالْوَالِدَاتُ يعني: اللاتي وَلَدْنَ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ، "الأولاد" إذا أُطلقت في الكتاب والسُّنة -وأيضًا معناها في اللغة العربية- تشمل البنين والبنات، تشمل الذكور والإناث؛ ولذلك قال سبحانه: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11] خلافًا لما عليه عُرْف بعض العامة، بعض العامة يُسمي الذكر "ولدًا" والأنثى "بنتًا"؛ لا، فالتسمية الدقيقة أن تقول للذكر: ابنٌ ليس ولدًا، فالولد يمكن أن يكون ابنًا ويمكن أن يكون بنتًا، فالبنت يُقال لها: "ولدٌ" في اللغة العربية وفي الشرع أيضًا، يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

المُقدِّم: مولودٌ.

الشيخ: نعم، "ولد" يعني: "مولودًا"، على ذلك كلمة "ولد" تشمل الذكر والأنثى، الذكر يُقال له: "ابن"، والأنثى يُقال لها: "بنت".

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ، أَوْلَادَهُنَّ يعني: من بنينَ وبناتٍ.

حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ: الحَوْل بمعنى: السَّنَة، والمقصود بالسَّنَة إذا ذُكِرت في القرآن: السَّنَة الهجرية القمرية، هي التي تترتب عليها الأحكام الشرعية، وليس المقصود بها السَّنَة الشمسية الميلادية؛ لأن الأحكام الشرعية تتعلَّق بالسَّنَة القمرية، وليس بالسَّنَة الشمسية، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].

حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ: الحَوْل: ثلاثُمئةٍ وأربعةٌ وخمسون يومًا، إلا إذا كانت السَّنَة كبيسةً، ثلاثُمئةٍ وخمسةٌ وخمسون يومًا.

قوله: كَامِلَيْنِ يعني: بدون نقصٍ.

لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ: يعني: هذا لمن أراد أن يُتِمَّ الرضاعة، ومن لم يُرد فلا حرج عليه.

وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، الْمَوْلُودِ لَهُ يعني: هذا الزوج الذي قد وُلِد له هذا الولد، الذي هو والد الطفل، عليه رِزْقُهُنَّ، يعني: رزق هذه المرأة، المقصود بالرزق: النفقة؛ يعني: يجب عليه أن يُنفِق على هذه المرأة وعلى ولدها.

وَكِسْوَتُهُنَّ: أيضًا واجبٌ عليه أن يكسوها.

بِالْمَعْرُوفِ: يعني: هذه النفقة وهذه الكسوة تكون بالمعروف، من غير إسرافٍ ولا إقتارٍ، وإنما تكون بالمعروف.

لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا: يعني: أن هذه النفقة والكسوة تكون بحسب يساره أو إعساره، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، فهذا يتّفق مع قوله هنا: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا، يعني: يكون بحسب يُسره أو عُسره، فتكون النفقة على هذه المرأة المُرضِعة بالمعروف بحسب يساره أو إعساره.

لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا، لَا تُضَارَّ أصلها: "لا تُضارَر"، ثم أُدغِمَتِ الراءان؛ فأصبحت "لا تُضارَّ". 

وَالِدَةٌ: تحتمل أن تكون فاعلًا، فتكون التي تُضارُّ هي الوالدة، هي التي تُضارُّ بولدها بأن تدفعه عنها بقصد الإضرار بأبيه في تربيته، فلا يَحِلُّ لها ذلك حتى تُرضِعه وتسقيه اللبن؛ لأن بعض النساء إذا أرادت أن تُضارَّ بالزوج رمت الطفل عليه، فيكون الضحية هو هذا الطفل، وهذا لا يجوز. هي الآن تُريد أن تُضارَّ والد هذا الطفل، وهي في الحقيقة أضرت بهذا الطفل، جعلت هذا الطفل ضحيةً، حمى الله هؤلاء الأطفال، لماذا يكون هؤلاء الأطفال ضحيةً لهذا الشقاق والنزاع بين الزوجين؟! ما ذنب هذا الطفل؟!

فنهى الله المرأة أن تُضارَّ بولدها، بهذا الولد، يجب عليها أن تُرضِعه، ما دام أن فيها لبنًا يجب عليها أن تُرضِع الطفل.

ويُحتمَل أن تكون وَالِدَةٌ نائب فاعلٍ، لا تُضارَّ هذه الوالدة؛ أي: لا يُنتزَع منها الولد بقصد الإضرار بها.

وكلا المعنيين صحيحٌ، من إعجاز وبلاغة القرآن. لاحظ هذا اللفظ يشمل المعنيين جميعًا، يعني: أن المرأة لا يجوز لها أن تُضارَّ بهذا الولد فتدفعه لأبيه بقصد الإضرار بالأب، ولا يجوز أيضًا أن المرأة هي التي تُضارَّ، يَنتزِع الأبُ هذا الولدَ من أُمه لكي يحرمها منه، فيُضارّها بذلك، لا يجوز لا هذا ولا هذا، فكِلا المعنيين تشملهما الآية.

وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ: أيضًا لا يجوز الإضرار بالمولود له، الذي هو الأب، لا يجوز الإضرار به بأن يُنتزَع الولد منه، أو أنه هو الذي يَنتزِع الولد من أُمه.

فإذًا؛ لا يجوز الإضرار بجميع صوره، لا يجوز الإضرار بهذه الوالدة ولا بالمولود له، ولا يُجعَل هذا الولد سبيلًا للإضرار لا بالوالدة ولا بالمولود له.

ثم قال سبحانه: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ يعني: على القريب الوارث مثل ما على والد الطفل من النفقة والكسوة، وهذا يدلُّ على وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعضٍ.

نفترض -مثلًا- أن والد هذا الطفل تُوفِّي، طيب، مَن الذي يُنفِق على هذا الرضيع؟ يُنفِق عليه الوارث، مَن هو الوارث لهذا الأب؟ مثلًا: الوارث له إخوة هذا الطفل؛ إذًا نقول: أنتم أيها الإخوة يجب عليكم أن تُنفِقوا على هذا، يعني: هذا رجلٌ له زوجةٌ وابنٌ، وولدت زوجته، وأنجبت مثلًا بنتًا، ثم تُوفِّي، طيب، مَن الذي يُنفِق على هذه البنت الرضيعة؟ ابنه الذي هو أخوها، فالوارث هو الذي تجب عليه النفقة. فإذًا؛ الوارث للمولود له يجب عليه النفقة والكسوة.

وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا،فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا: الضمير يرجع إلى الوالدة والمولود له؛ أي: لو أراد والد الطفل ووالدته فِطام هذا الطفل قبل الحَوْلين -للمصلحة- وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا، هذا معنى الآية، فَإِنْ أَرَادَا يعني: والد ووالدة الطفل فِصَالًا يعني: فِطام الطفل عن الرضاعة، لكن عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا.

ويُؤخَذ من هذا: أنه لو انفرد أحدهما بذلك دون الآخر، فإن هذا لا يكفي، ولا يجوز لأحدهما أن يستبدَّ بالرأي من غير مُشاورة الآخر، بل لا بُدَّ أن يتفقا على فِطامه قبل الحَوْلين. لكن لو قال الأب: لا، أنا لا أرضى بفِطامه قبل الحَوْلين، والأم تقول: لا، أريد فِطامه قبل الحولين، لا يُفطَم، لا يجوز فطامه. ولو كان العكس: الأم تريد الفطام، والأب لا يريد الفطام؛ فلا يجوز. أو أن الأب يريد الفطام، والأم لا تريد الفطام؛ لا يجوز.

لا بُدَّ من اتفاق الطرفين، لا بُدَّ من اتفاق الأب والأم على الفطام، ولا يستبدُّ أحدهما بالرأي.

قال ابن كثيرٍ رحمه الله: "وهذا فيه احتياطٌ للطفل، وإلزامٌ للنظر في أمره".

هذا كله من باب الاحتياط للطفل، هذا الطفل الضعيف المسكين، حماه الله ، لا يكون ضحيةً لخلافات وشقاق الزوجين. لكن لو اتفق الزوج والزوجة -والدا الطفل المولود له- جميعًا على فِطامه قبل الحَوْلين عن تَراضٍ وتَشاوُرٍ ونَظَرَا في المصلحة؛ فلا بأس، بشرط أن يتفقا على ذلك. أما أن أحدهما يرضى والآخر لا يرضى، فلا يجوز فِطامه في هذه الحال؛ هذا هو معنى الآية: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا.

وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ: يعني: إن أردتم أن تطلبوا لأولادكم مَن يُرضِعهم، فلا إثم عليكم بأن يُؤتَى بمُرضِعةٍ.

إذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ: إذا أُعطِيتم ما اتفقتم عليه في العقد على الإرضاع بالمعروف، يعني: أعطيتم المُرضِعة، وقيل: إن المعنى أي: إذا سَلَّم للأم أُجرتها الماضية بالتي هي أحسن.

ويظهر أنها تشمل المعنيين جميعًا؛ لأن عندنا من قواعد التفسير: أن الآية إذا احتملت معنيين لا تَضادَّ بينهما بأيٍّ وجهٍ من الوجوه تُحمَل على المعنيين جميعًا، فيشمل ذلك: إذا سلَّمتم، يعني: للمُرضِعة التي اتفقتم معها، بالمعروف من غير مُماطَلةٍ، وأيضًا إذا كان للأم حقٌّ بأنها أرضعت بأجرٍ، فتُسلَّم للأم أُجرتها الماضية.

وكان معروفًا عند العرب أنهم كانوا يَسترضِعون لأولادهم، والنبي عليه الصلاة والسلام لما وُلِدَ أتته مُرضِعاتٌ، المُرضِعات عادةً يأتين من البادية، فأتين وكل واحدةٍ أخذت لها مولودًا، وكانت المُرضِعة ترغب في أن يكون والد الطفل غنيًّا حتى يُكثِر لها الأُجرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يتيمًا، اليتيم كان غير مرغوبٍ، ما بقي لحليمة السعدية رضي الله عنها إلا هذا الطفل، الذي هو الرسول عليه الصلاة والسلام، أخذته، لكن سبحان الله منذ أن أخذته، كانت أتت هي وزوجُها على بعيرٍ هزيلٍ، فرأيا منه العَجَب والنشاط، وكثُرت أموالهم، وكثُر الرخاء والخَصْب عندهم ببركة النبي عليه الصلاة والسلام!

فحليمة السعدية رضي الله عنها أرضعت النبي عليه الصلاة والسلام، أخذته من والدته وأرضعته فترة الإرضاع، ثم أرجعته.

فكان الإرضاع معروفًا عند العرب؛ أن المرأة إذا وَلَدَتْ طفلًا وربما لا يكون في ثديها الحليب الكافي، تُعطي لمن يُرضِع هذا الطفل بأجرٍ؛ ولهذا قال الله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، لكن تُعطون المُرضِعة حقَّها إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ.

وَاتَّقُوا اللَّهَ: لاحِظْ هنا أيضًا تكرار الأمر بالتقوى، سبحان الله! في هذه القضايا الاجتماعية نجد كثرة الأمر بالتقوى فيها، لماذا؟ لأن الإنسان لا يحجزه حاجزٌ ولا يمنعه مانعٌ من التعدي فيها إلا تقوى الله، هذه الأمور الاجتماعية ينبغي أن تكون التقوى مُلازِمةً للمسلم فيها.

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَاعْلَمُوا كما في الآية السابقة: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]، هنا: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وهذا العلم علمٌ بأن نعلم بأن الله بصيرٌ بأعمالنا، لا يخفى عليه شيءٌ، لا يخفى عليه شيءٌ من أعمالنا، يعلم أعمالنا وأقوالنا وأفعالنا وما في الصدور، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ.. [الملك:14]، السر والجهر عنده سواءٌ جلَّ وعلا، فهو بصيرٌ بما نعمل.

أبرز فوائد وأحكام آية الرضاع

ننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام

حُكم إرضاع الأم لولدها

أولًا: دلَّت الآية على وجوب إرضاع الأم لولدها؛ لقوله ​​​​​​​: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ، فليس للمرأة أن تتنصَّل من إرضاع ولدها، هذا واجبٌ عليها، ما دامت أنها قادرةٌ وثديها يُدِرُّ لبنًا فيجب عليها أن تُرضِع ولدها، حتى مع وجود حليب البقر المُجفَّف، هذا لا يُغني عن حليب الأم؛ للفرق العظيم بينهما، حليب الأم فيه فائدةٌ كبيرةٌ للطفل، وهو المناسب له، وأجمع الأطباء على أن حليب الأم هو الأنفع للطفل؛ ولذلك تجد أن الطفل الذي يتغذى على حليب أمه تكون صحته أفضل وأكمل وأحسن من الطفل الذي إنما يعتمد على حليب الأبقار.

تمام الرضاع بحَوْلين

ومن الفوائد: أن الرضاع التام يكون حَوْلين كاملين؛ لقوله ​​​​​​​: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، وقوله ​​​​​​​: كَامِلَيْنِ هذا من باب تأكيد اللفظ؛ لينتفي احتمال النقص، وهذا له نظائرُ في القرآن؛ منها: قول الله تعالى: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:136]، هذا من باب التأكيد حتى لا يَتوهَّم مُتوهِّمٌ بأن تفريق الثلاثة والسبعة يقتضي أن يكون كل واحدٍ منهما مُنفردًا عن الآخر، قال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ.

وهنا أيضًا حتى لا يَتوهَّم مُتوهِّمٌ أيضًا بأنه ينقص عن الحَوْلين، قال: حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ.

تحديد زمن الرضاع المُحرِّم

وأيضًا من الفوائد: أن الرضاع المُحرِّم هو ما كان دون الحَوْلين، فلو ارتضع المولود بعد الحولين فإن هذا الرضاع لا يُحرِّم عند جماهير أهل العلم، الرضاع المُحرِّم ما كان دون الحَوْلين.

جواز النقص عن الحَوْلين والزيادة عند الحاجة

أيضًا من الفوائد: أنه يجوز النقص عن الحَوْلين، لكن ذلك بالتشاور والتراضي من والد الطفل ووالدته؛ لقوله ​​​​​​​: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا، ولقوله ​​​​​​​: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، لِمَنْ أَرَادَ، فلو كان الإتمام واجبًا، لم يكن هناك خيارٌ.

لكن هل تجوز الزيادة في الإرضاع على الحَوْلين؟ يا شيخ محمد، تجوز أم لا ما تجوز؟

المُقدِّم: الله أعلم.

الشيخ: نقول: يُنظَر في حالة الطفل: إن كان يحتاج لذلك، فلا بأس بهذا. أما إن لم يكن مُحتاجًا لذلك؛ فقد انتهت مدة رضاعته. يظهر أن الأمر فيه سَعةٌ، وأن هذا كله على سبيل الإرشاد، يعني: لو اقتضت المصلحة أن يستمر إرضاع الطفل بعد السنتين ما يضر، وليس هذا حرامًا، هذا كله على سبيل الإرشاد والتوجيه.

اعتبار العُرف في النفقة والكسوة

أيضًا من الفوائد: اعتبار العُرف في تعاملات الناس: بِالْمَعْرُوفِ، إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وأيضًا: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، لاحِظ كم تكررت كلمة المعروف في الآية! هنا في أول الآية قال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، ثم قال: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ، لاحِظ تكررت مرتين في آيةٍ واحدةٍ، وهذا يدل على اعتبار العُرف ما لم يُخالِف الشرع، فالنفقة والكسوة يُرجَع فيها إلى العُرف، أيضًا إعطاء المُرضِعة يُرجَع فيه إلى العُرف.

هناك قاعدةٌ عند أهل العلم، هي: "أن كل ما وَرَدَ وليس له حَدٌّ في الشرع ولا في اللغة، فالمَرجِع فيه إلى العُرف"، هذه قاعدةٌ مفيدةٌ لطالب العلم.. كل ما وَرَدَ وليس له حَدٌّ في الشرع ولا في اللغة، فالمَرجِع فيه إلى العُرف.

وعند العلماء، إحدى القواعد الكلية الكبرى الخمس: قاعدة "العادة مُحكَّمةٌ"، يعني: العُرف.

النفقة والكسوة للمُرضِعة.. وأُجرة الأم المُطلَّقة

أيضًا من الفوائد: أنه يجب على المولود له رزقُ وكسوةُ الوالدة بالمعروف؛ لقوله ​​​​​​​: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.

وأيضًا من الفوائد: وجوب الإنفاق على المولود له من زوجٍ أو غيره للمُرضِع، وظاهر الآية: أنه لا فرق بين أن تكون الزوجة في حِباله أو بائنًا منه، وقال بعض أهل العلم: نعم، إن النفقة والكسوة واجبةٌ على المولود له، لكن لو أن المرأة طالبت بأُجرة والله تعالى يقول: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:233]، فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6]، إذا كانت المُرضِعة طبعًا ليست أُمه، وهذا واضحٌ أنها تستحق الأجرة.

لكن لو أن الأم نفسها طالبت الأب بأُجرةٍ لها على الرضاع، فهل لها ذلك؟

  • الله تعالى يقول: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6]، فبعض العلماء قال: لها ذلك.
  • والقول الثاني في المسألة هو التفصيل: فإن كانت هذه المرأة في حِبال الزوج فليس لها أن تُطالِب زوجها بأُجرةٍ على الرضاع؛ لأن أُجرة الرضاع داخلةٌ في النفقة والكسوة. أما إذا كانت المرأة ليست في حِبال الزوج فلها أن تُطالِب بأُجرة الرضاعة، وعلى ذلك تُحمَل الآية: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6].

وهذا القول بالتفصيل هو القول الراجح، وهو اختيار ابن تيميةَ وابن القيم وجمعٍ من المُحقِّقين من أهل العلم، رحمة الله تعالى على الجميع.

فيُفرَّق بين ما إذا كانت المرأة في حِبال الزوج أو ليست في حِباله:

  • إن كانت في حِبال الزوج فليس لها أن تُطالِب بأُجرةٍ على الرضاعة؛ لأنها أصلًا لها النفقة والكسوة، تدخل في ذلك.
  • أما إذا لم تكن في حِباله -مُطلَّقةً- فلها أن تُطالِب بأُجرةٍ على الرضاعة؛ لقوله ​​​​​​​: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6].

النفقة على قدر طاقة الزوج

أيضًا من الفوائد: المُعتبَر في رزق وكسوة الزوجة، هل هو حال الزوج أو حال الزوجة؟

هذا محل خلافٍ بين أهل العلم. والقول الراجح: أن المُعتبَر حال الزوج؛ لقوله سبحانه: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، وفي هذه الآية قال: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:233]، وهذا يدل على أن المُعتبَر هو حال الزوج، فيُنفَق الزوج بحسب يساره أو إعساره.

أيضًا من الفوائد: أن الله لا يُكلِّف نفسًا ما لا تُطيق؛ لقوله ​​​​​​​: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا، وهذا يدل على عظيم رحمة الله تعالى بعباده وإحسانه العظيم إليهم.

النهي عن المُضارَّة بين الزوجين

أيضًا من الفوائد: تحريم المُضارَّة؛ لقوله ​​​​​​​: لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ، فلا يجوز لكل من الزوجين أن يُضارَّ الطرف الآخر؛ فلا يجوز للزوج أن يُضارَّ الزوجة بأن يأخذ هذا الطفل منها -مثلًا- بقصد الإضرار بها، أو أن الزوجة أيضًا تُضارُّ الزوج بهذا الطفل.

فالمُضارَّة ممنوعةٌ شرعًا، لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ، بأيِّ صورةٍ من صور الإضرار؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: مَن ضارَّ ضارَّ اللهُ به، ومن شاقَّ شاقَّ اللهُ عليه [1]، وقال: لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ [2].

فلا يجوز لا للزوج ولا للزوجة الإضرار بالطرف الآخر، ما دام أنه قد حصل الطلاق فتسريحٌ بإحسانٍ، فينبغي أن يكون المسلم حريصًا على الإحسان، هذه المرأة كان بينك وبينها عِشرةٌ، وأنجبت لك طفلًا أو أطفالًا، ثم طلَّقتها، فلا تُلحِقها بالأذى وبالمُضارَّة، ماذا تستفيد من هذا؟! تستفيد أوزارًا وآثامًا، سَرِّحها بإحسانٍ؛ تَنَلِ الأجر من الله .

وأيضًا المرأة أحيانًا يكون الإضرار منها، تريد أن تنتقم من هذا الزوج، وتحرص على الإضرار به بأيِّ صورةٍ من الصور، هذا لا يجوز أيضًا، وربما يساعدها أهلها على ذلك، على الانتقام من هذا الزوج وعلى الإضرار به. فما دام أنه حصل الطلاق؛ فتسريحٌ بإحسانٍ، وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، يعني: هذه المعاني ينبغي أن يستحضرها الزوجان عند الطلاق.

نفقة المولود ووالدته

ومن فوائد هذه الآية: وجوب النفقة للمولود على الوارث إذا لم يكن المولود له موجودًا، فإذا كان المولود له غيرَ موجودٍ كان -مثلًا- ميتًا، فتجب النفقة على الوارث؛ لقول الله تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ، يعني: وعلى الوارث أن يُنفِق على هذه المُرضِعة لأجل الرضيع، وأيضًا أن يُنفِق على هذا الرضيع نفسه، يُنفِق على هذا الرضيع وعلى المُرضِعة؛ لأن الله قال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ يعني: المُرضِعات، وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، ثم قال: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ، فتجب نفقة الرضيع ووالدته على المولود له، فإن كان غيرَ موجودٍ فتجب على وارثه.

وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعضٍ

أيضًا من الفوائد: وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، مِن أين أخذنا هذه الفائدة يا شيخ محمد؟

المُقدِّم: مِن كون الوارث يُنفِق عليه.

الشيخ: مِن أيِّ جزءٍ من الآية وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعضٍ؟ مِن قوله؟

المُقدِّم: وَعَلَى الْوَارِثِ...

الشيخ: أحسنت، وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ، فاستنبط العلماء من قوله جلَّ وعلا: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعضٍ.

والضابط في ذلك: الإرث، فكل قريبٍ يَرِثُ غيرَه يجب عليه أن يُنفِق عليه إذا لم يُوجَد مَن هو أقرب منه.

مثال ذلك: أطفالٌ تُوفِّي أبوهم، نفقتهم تجب على مَن؟ أقرب وارثٍ، فإذا كان أقرب وارثٍ هو أخوهم الكبير؛ يجب على أخيهم الكبير أن يُنفِق عليهم وجوبًا، ليس له مِنَّةٌ عليهم، يجب عليه أن يُنفِق عليهم. وإن كان أخوهم غير موجودٍ فننظر أقرب وارثٍ، إذا كان أقرب وارثٍ عمَّهم يُنفِق عليهم عمُّهم. الضابط في هذا هو الإرث، وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ.

وأخذ بعض العلماء أيضًا من هذا فائدةً، هي: هل يجوز دفع الزكاة للقريب؟ قالوا: إن القريب إذا كان مُحتاجًا يجوز دفع الزكاة إليه، بشرط ألا يكون بينهما تَوارُثٌ، فإذا كان سيَرِثُه لو مات فيجب عليه أن يُنفِق عليه من حُرِّ ماله، وليس من الزكاة. أما إذا لم يكن بينهما تَوارُثٌ فلا بأس أن يُعطيه من الزكاة، بل هو الأفضل؛ لأنها تكون زكاةً وصِلةَ رحمٍ.

مثال ذلك: رجل له أخٌ فقيرٌ أو أختٌ فقيرةٌ، هل يجوز أن يُعطيها من زكاته؟

المُقدِّم: ما يجوز.

الشيخ: لا، ننظر في تفصيل إذا كان سيَرِثُ أخاه لو مات، هنا ليس له أن يُعطيه من زكاته، وإنما الواجب عليه أن يُعطيه من حُرِّ ماله؛ لأن النفقة واجبةٌ عليه. أما إذا كان لن يَرِثَه لو مات، وذلك بأن يكون الأب موجودًا، مثلًا: الأب موجودٌ لكن له الأخ فقيرٌ والأخت فقيرةٌ، يجوز أن يُعطيها من الزكاة، أو يكون هذا الأخ الفقير أو الأخت الفقيرة لهم أبناء، فمعنى ذلك: أنه لن يَرِثَ أخاه أو أخته لو ماتا، فيجوز أن يُعطيه من الزكاة.

فالضابط في هذا: أن القريب يجوز له أن يدفع الزكاة إلى قريبه المُحتاج، بشرط ألا يكون وارثًا له لو مات؛ لأنه لو كان وارثًا له لو مات؛ لوجب عليه أن يُنفِق عليه من حُرِّ ماله، وليس من الزكاة.

هذا فيما يتعلق بالإنفاق، لكن لو أراد أن يُسدِّد عنه دَيْنًا فلا بأس، حتى لو كان يَرِثُه، بل حتى الأب يجوز له أن يُسدِّد الدَّيْن عن ابنه من الزكاة، والابن يجوز له أن يُسدِّد الدَّيْن عن أبيه من الزكاة، الدَّيْن هذا أمرٌ آخر، كلامنا في الإنفاق الآن.

فإذًا؛ كل هذه الفوائد أخذناها من قوله سبحانه: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ!

وهذه مسألةٌ يَكثُر السؤال عنها، بعض الناس يقول: لي أخٌ فقيرٌ، لي أختٌ فقيرةٌ، هل يجوز أن أُعطيها من الزكاة؟

نقول: إذا كنت ستَرِثُه لو مات فليس لك أن تُعطيه من الزكاة، وإنما يجب عليك أن تُنفِق عليه من حُرِّ مالك، لكن لو كنت لن تَرِثَه لو مات، بأن كان الأب موجودًا أو كان له أبناءُ؛ فهنا لا بأس أن تُعطيه من زكاتك إذا كان مُحتاجًا، بل يُستحبُّ ذلك؛ لأن هذا يجمع بين كونه زكاةً وصِلةَ رحمٍ.

فانظر إلى إعجاز القرآن؛ كيف أخذنا هذه الفوائد كلها والأحكام من قوله: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ!

عناية الله بالرُّضَّع

أيضًا من الفوائد: عناية الله بالرُّضَّع؛ لأن الله سبحانه لم يُبِحْ فِطامهم قبل الحَوْلين إلا بعد التراضي بين الوالدة والمولود له والتشاور، ولكون الله سبحانه أنزل القرآن في ذلك: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ، فانظر إلى عناية الله سبحانه بهؤلاء الأطفال الرُّضَّع! وهذا يدل على عظيم رحمة الله تعالى وإحسانه بعباده، هؤلاء الأطفال الرُّضَّع أنزل الله تعالى في شأنهم قرآنًا؛ لكي يكون في ذلك حمايةٌ لهم، وألا يكونوا ضحيةً للنزاع والشقاق بين الزوجين.

جواز استرضاع الإنسان لولده

أيضًا من الفوائد: جواز استرضاع الإنسان لولده؛ لقوله ​​​​​​​: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، ولو أن الأم طلبت أن تُرضِعه وقال الأب تُرضِعه غيرها، أُجبِر الأب على مُوافَقة الأم؛ لقوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ولأن الأم أَشْفَق على ولدها من غيرها. وأما إذا طلبت الأُم أُجرةً على هذا الإرضاع؛ فالقول الراجح: أن الأم إذا كانت في حِبال الزوج فلا تستحق هذه الأجرة، أما إذا لم تكن في حِباله فلها أن تطلب أُجرةً على إرضاع هذا الطفل.

ولهذا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إرضاع الطفل واجبٌ على الأُم، بشرط أن تكون مع الزوج، ولا تستحق أُجرة المثل زيادةً على نفقتها وكسوتها؛ لقول الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ، ولم يُوجِب الله لهنَّ إلا الكسوة والنفقة".

إثبات بصر الله تعالى وعلمه بما نعمل

أيضًا من الفوائد: إثبات بصر الله تعالى وعلمه بما نعمل؛ لقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وأيضًا: أن هذا من العلم النافع الذي يُورِث الخشية والتقوى لله سبحانه؛ أن يعلم الإنسان بأن الله بما يعمل بصيرٌ وخبيرٌ جلَّ وعلا.

هذه أبرز الفوائد والأحكام المُتعلقة بهذه الآية.

المُقدِّم: أحسن الله إليكم، ننتقل يا فضيلة الشيخ إلى الآيات التي تليها، نستأذنكم في سماع التلاوة، ثم نعود بإذن الله للشرح والتعليق.

تفسير آية عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها

القارئ:

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234].

المُقدِّم: تفضَّل يا شيخنا بالتعليق على الآية.

الشيخ: نعم، ننتقل بعد ذلك لقول الله : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، هذه الآية نزلت في شأن عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها والإحداد، لكن هل هذه الآية ناسخةٌ للآية التي بعدها: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]؟

  • الجمهور قالوا: إنها ناسخةٌ لها؛ لأن الله ذكر عِدَّة المُتوفَّى، قالوا: لأن الله ذكر عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها بحَوْلٍ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، قالوا: إن عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها كانت حَوْلًا، ثم نُسِخَتْ بهذه الآية: بأربعة أشهرٍ وعشرٍ، وهذا قول الجمهور.
  • القول الثاني: نقل ابن كثيرٍ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن هذه الآية -وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]- لا تدلُّ على وجوب الاعتداد سَنَةً للمُتوفَّى عنها زوجها، كما ذكر ذلك الجمهور؛ حتى يكون في ذلك نسخٌ بالأربعة أشهرٍ وعشرٍ.

وإنما دلَّت الآية على أنه من باب الوصاة بالزوجات، بأن يُمكَّنَّ من السُّكنَى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهن حَوْلًا كاملًا إن اخترنَ ذلك؛ ولهذا قال: وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ، أي: يُوصيكم الله تعالى بهنَّ وصيةً، ولا يُمنَعن من ذلك غَيْرَ إِخْرَاجٍ، فإذا انقضت الأربعة أشهرٍ وعشر بوضع الحمل، واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل، فلا يُمنَعن من ذلك؛ ولذلك قال: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ.

وأيضًا بعضهم فَهِمَ الآية فَهْمًا آخر، قال: إن الآية هذه: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ [البقرة:240] خاصةٌ بما إذا أوصى الأزواج بزوجاتهم أن يبقين في بيوتهم حَوْلًا كاملًا، فلا يجوز إخراجهنَّ من البيوت إلا بعد أربعة أشهرٍ وعشرٍ، إن اخترن الخروج فلا حرج، وهذا رجَّحه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.

وعلى هذا؛ فتكون الآية الثانية لا تتكلم عن عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها، إنما تتكلم فقط عن سُكنَى المُتوفَّى عنها زوجها لمُدة حَوْلٍ، سواءٌ قلنا: إن ذلك بوصيةٍ من الزوج، أو أن هذه وصيةٌ من الله تعالى.

وهذا القول هو اختيار ابن تيميةَ، واختيار أيضًا الحافظ ابن كثيرٍ في تفسيره، قالوا: إن هذه الآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240] أنها لا تتكلم عن عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها أصلًا، إنما هي خاصةٌ بالكلام عن الوصية بسكن المرأة المُتوفَّى عنها زوجها مدة سَنةٍ بعد وفاة الزوج، فيقولون: الآية ليس فيها نسخٌ أصلًا.

فإذًا؛ عندنا قولان:

  • قولٌ بأن هذه الآية منسوخةٌ بالآية التي بعدها: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ [البقرة:240]، وهو قول الجمهور.
  • القول الثاني: ليست منسوخةً، وأن هذه الآية تتكلم عن عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها، بينما الآية الثانية تتكلم عن موضوعٍ آخر: وهو سُكنَى المُتوفَّى عنها زوجها بعد وفاة الزوج لمدة سَنةٍ، إلا إذا رغبت في الانتقال عن هذا البيت من نفسها، وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ، يعني: برغبتهن فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ [البقرة:240]، وهذا هو القول الأقرب، والله أعلم.

وعلى هذا؛ فلا تكون الآية منسوخةً، لا يكون قوله ​​​​​​​: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ... [البقرة:240] منسوخًا، والأصل عدم النسخ.

والجمهور القائلون بالنسخ يقولون هذا من باب نسخ الحُكم وبقاء اللفظ؛ لأن النسخ له أنواعٌ، قالوا: هذا من باب نسخ الحُكم وبقاء اللفظ.

ولكن القول الراجح: أن هذه الآية غير منسوخةٍ، وأنها تتحدث عن موضوعٍ آخر: وهو سُكنَى المُتوفَّى عنها زوجها بعد وفاة الزوج لمدة سَنةٍ. وأما الآية التي بين أيدينا فتتكلم عن عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها.

هذا هو الأقرب، والله أعلم؛ لأن الأصل عدم النسخ.

فعلى هذا؛ هذه الآية تُقرِّر عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها بأربعة أشهرٍ وعشرٍ.

قال: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ: يعني: ينتظرن، التي هي مُدة العِدَّة، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا: أربعة أشهرٍ هلاليةٍ قمريةٍ وعشرة أيامٍ.

فقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ، يُتَوَفَّوْنَ: يعني: بقبض أرواحهم.

الوفاة تعني: مُفارَقة الروح البدن، الإنسان مكوَّنٌ من روحٍ وبدنٍ، إذا فارقَتِ الروحُ البدنَ، هذا هو الموت وهذه هي الوفاة، كما قال الله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42]، هذه الوفاة هي التي ينتقل بها الإنسان من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، عندما تُفارِق الروحُ البدنَ.

البدن هذا يتحلل ويعود لأصله لترابٍ، وتأكله الديدان حتى لا يبقى منه إلا عَجَب الذَّنَب، ومنه يُركَّب الخلق يوم القيامة، إلا من استثنى الله تعالى من الأنبياء ومن شاء من الصدِّيقين والشهداء والصالحين، فلا تأكل الأرض أجسادهم، أما بقية البشر فيُصبحون ترابًا.

وأما الروح، فهي التي يقع عليها النعيم أو العذاب، هذه حقيقة الوفاة. والله تعالى تارةً يُضيف التوفِّي إليه كما في قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا، وتارةً يُضيف التوفِّي إلى مَلك الموت كما في قوله سبحانه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة:11]، وتارةً يُضيف التوفِّي إلى الملائكة كما في قوله ​​​​​​​: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا [الأنعام:61]، فإضافته إلى الله لأنه بأمره، وإضافته إلى ملك الموت لأنه هو الذي يقبض الروح، وإضافته إلى الرسل لأنهم هم الذين يقبضونها من مَلك الموت ويصعدون بها إلى السماء.

مَلك الموت مَن هو يا شيخ محمد؟

المُقدِّم: لا يُعرَف له اسمٌ.

الشيخ: أحسنت. لا يُعرَف له اسمٌ، أما ما يُقال: إنه عزرائيل؛ لم يَثبُت هذا. الأحسن: يُقال مَلك الموت، الله تعالى سمَّاه "مَلك الموت"، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة:11].

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا: يعني: يتركون أزواجًا بعدهم.

يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ: يعني: ينتظرن ويحبسن أنفسهن فترة العِدَّة، فالمرأة فترة العِدَّة تحبس نفسها وتجتنب الزينة في البدن والزينة في اللباس والطِّيب والحُلي والخروج من البيت إلا لحاجةٍ.

أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا: أربعة أشهرٍ قمريةٍ هلاليةٍ وعشرة أيامٍ، فإذا كان هناك رؤيةٌ وحسابٌ للأشهر، الرؤية يُعتمَد على هذا، إذا لم يكن فتحسب مئةً وثلاثين يومًا.

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: يعني: انقضَتِ العِدَّة، هذه الأربعة أشهرٍ وعشرٌ.

فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ: عَلَيْكُمْ الخِطاب لمن؟ لأولياء النساء، وهذا يدل على أن الولي مسؤولٌ عن هذه المرأة، الله تعالى أسند الخِطاب للأولياء، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أنتم أيها الأولياء.

فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ: يعني: بعد انقضاء العِدَّة، لا حرج أن تتزيَّن في بدنها وفي لباسها وأن تخرج من البيت، ولا حرج عليها في ذلك كله، يعني: الأشياء التي كانت ممنوعةً منها في العِدَّة تزول بعد انقضاء العدة، هذا هو معنى الآية.

ثم ختم الله تعالى الآية بقوله ​​​​​​​: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. لاحِظِ الآية السابقة: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233]، هنا: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني: الخبير معناه: العليم ببواطن الأمور جلَّ وعلا. ولاحِظْ في الآية السابقة: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، في هذه الآية: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، يعني: يعلم عمل الإنسان ظاهره وباطنه، فالخبير يعني: العليم ببواطن الأمور، وإذا كان يعلم بباطن الأمور، فهو عالمٌ بظواهرها من باب أولى جلَّ وعلا.

أبرز الفوائد والأحكام المُتعلقة بالآية

أبرز الفوائد والأحكام المُتعلقة بهذه الآية:

وجوب العِدَّة على المُتوفَّى عنها زوجها

وجوب العِدَّة على المُتوفَّى عنها زوجها؛ لقوله ​​​​​​​: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ، وهذا خبرٌ بمعنى الأمر، وتجب العِدَّة على المُتوفَّى عنها زوجها، سواءٌ أكانت صغيرةً أم كبيرةً؛ لقوله ​​​​​​​: أَزْوَاجًا، وسواءٌ دخل بها أو لم يدخل بها؛ لعموم الآية.

ولذلك لو أن رَجُلًا عَقَدَ على امرأةٍ، وتُوفِّي قبل أن يدخل بها، فهل تجب عليها عِدَّة الوفاة؟

الجواب: تجب باتفاق العلماء، تجب بمُجرَّد العقد، يجب عليها أن تَعْتَدَّ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا.

طيب، هل لها المهر؟

لها المهر كاملًا، وأيضًا تَرِثُ منه، يعني: حصَّلت غنائمَ كلها بسبب هذا العقد، وهذا يدل على أهميته؛ لذلك سمَّاه الله "ميثاقًا غليظًا"، هذا رَجُلٌ عَقَدَ على امرأةٍ ثم مات، تستحق المهر كاملًا وتَرِثُه، إذا لم يكن له ولدٌ أخذت الرُّبع، وإذا كان له ولدٌ أخذت الثُّمُن، وأيضًا تَعْتَدُّ عِدَّة الإحداد كاملةً؛ أربعة أشهرٍ وعشرًا، كل ذلك مُترتِّبٌ على مُجرَّد العقد.

مُدة عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها

وهذه العدة: أربعة أشهرٍ وعشرٌ، سواءٌ أكانت المرأة ممن تحيض أو ممن لا تحيض، يعني: ليس له علاقةٌ بالحيض، بخلاف الطلاق. فالطلاق فصَّلنا فيه، قلنا: التي تحيض ثلاثة قروءٍ، والتي لا تحيض ثلاثة أشهرٍ؛ لكن عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهرٍ وعشرٌ، سواءٌ أكانت ممن تحيض أو ممن لا تحيض، إلا إذا كانت حاملًا، فعِدَّتها وضع الحمل؛ لقوله ​​​​​​​: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

قال العلماء: حتى لو وضعت وهو في مُغتسله يُغسَّل، تخرج من العِدَّة، سبحان الله! هذا رَجُلٌ تُوفِّي، بعد وفاته بدقيقةٍ وضَعَتْ زوجتُه، ولَدَتْ زوجتُه، تَخرُج من العِدَّة، عِدَّتها كم؟ دقيقة واحدة!

وفي تقدير عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجها إذا لم تكن حاملًا بأربعة أشهرٍ وعشرٍ، قيل: إن الحِكمة لاحتمال اشتمال الرَّحم على حملٍ؛ قاله سعيد بن المُسيَّب، قال قتادةُ: قلتُ لسعيدٍ: ما بال العشر؟ قال: فيه تُنفَخ الروح.

لكن هذا يَرِدُ عليه إشكالٌ، هو: أن هذه العِدَّة تكون حتى لغير المدخول بها، لو كان المقصود حتى يتبيَّن الحمل ويتأكَّد من براءة الرَّحم؛ لما وَجَبَ على غير المدخول بها عِدَّةٌ، وتجب أيضًا حتى على الآيسة وعلى الصغيرة، وهذا يُشكِل على هذا القول: المقصود هو براءة الرَّحم.

بعض أهل العلم قال: إن الحكمة -والله أعلم- هي أن المرأة كانت في الجاهلية تبقى حَوْلًا كاملًا، ثم خفَّف الله تعالى عن الناس بأن جعل العِدَّة ثُلُث هذه المدة، ثُلُث السنة كم؟ أربعة أشهرٍ، وأقل الكثير الثُّلُث، الثُّلُث، والثُّلُث كثيرٌ [3]، وثُلث الشهر: عشرة أيامٍ. فقالوا: إنها خُفِّفت، كانت المرأة في الجاهلية في أول الإسلام قبل نزول الآية عِدَّتها سَنةٌ كاملةٌ، فخفَّف الله تعالى هذه العِدَّة وجعلها على الثلث؛ لأن الثلث هو أقل الكثير، الثُّلُث والثُلُث كثير. فأقل السَّنَة: ثُلُث السنة أربعة أشهرٍ، وثُلُث الشهر: عشرة أيامٍ؛ فجُعِلَتْ أربعة أشهرٍ وعشرًا.

هذا ذكره الشيخ ابن عثيمين، والله تعالى أعلم، لله تعالى الحكمة، لماذا هذا التقدير؟ لماذا ما كانت ستة أشهرٍ؟ لماذا ما كانت أربعة أشهرٍ؟ لماذا أربعة أشهرٍ وعشرًا؟ فلله تعالى الحكمة البالغة في هذا، والله تعالى أحكم الحاكمين.

أيضًا من الفوائد: أن العِدَّة إذا انتهت جاز للمرأة أن تفعل ما كانت ممنوعةً منه في العِدَّة، والمرأة إذا كانت في عِدَّة الوفاة تُمنَع من التجمُّل في البدن بأية صورةٍ من الصور، والتجمُّل في اللباس، ومن الطِّيب، ومن الحُلي، ومن الخروج من البيت إلا لحاجةٍ، فإذا انتهت عِدَّتها جاز لها فعل ما كانت ممنوعةً منه.

الأولياء مسؤولون عن مُولِّياتهم

أيضًا من فوائد الآية: أن الأولياء مسؤولون عن مُولِّياتهم؛ لقوله ​​​​​​​: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234]، وهذا فيه إشارةٌ إلى أن الرجال لهم ولايةٌ على النساء، وإلا لو لم يكن لهم ولايةٌ ومسؤوليةٌ لما خاطب الله الرجالَ، لاحظ الآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:234]، لم يقل: فلا جُناح عليهن، قال: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ يعني: أنتم أيها الأولياء، فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234]، فهذا يدل على مسؤولية الأولياء.

وبيَّن هذا النبي  فقال: كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيَّته... والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤولٌ عن رعيَّته [4]، يعني: على الأب أن يستشعر هذه المسؤولية، أن يستشعر مسؤوليته على مَن ولَّاه الله تعالى عليه، فإنه مسؤولٌ عنه يوم القيامة.

اعتبار العُرف في أحكام العِدَّة

أيضًا من الفوائد: اعتبار العُرف -وهذه تكلَّمنا عنها-؛ لقوله ​​​​​​​: بِالْمَعْرُوفِ، تكرَّرت في الآية مرتين في الآية السابقة، تكرَّرت مرتين هنا أيضًا، يعني: في الآية السابقة: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ، هنا تكرَّرت مرتين: بِالْمَعْرُوفِ، في هذه الآية أيضًا وردت كلمة: بِالْمَعْرُوفِ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234]، لاحظ تكرار كلمة: بِالْمَعْرُوفِ، مِنْ مَعْرُوفٍ، هذا يدل على اعتبار العُرف.

وعند العلماء قاعدة كليَّة كُبرى: "العادة مُحكَّمة"، وقلنا: إن الشيء إذا وَرَدَ في الشرع وليس له حدٌّ في الشرع ولا في اللغة، فالمَرجِع فيه إلى العُرف.

إثبات علم الله تعالى بالظاهر والخفي

نختم بهذه الفائدة: وهي إثبات علم الله تعالى بالظاهر والخفي؛ لقوله ​​​​​​​: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، والخبير: هو العليم ببواطن الأمور جلَّ وعلا، فالله تعالى لا تَخفى عليه خافيةٌ، يعلم كل شيءٍ، وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك:13].

وبهذا قد انتهينا من الحديث عن أبرز الفوائد والأحكام المُتعلقة بهذه الآية، والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ.

المُقدِّم: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم.

في خِتام هذه الحلقة، نشكركم أيها المشاهدون على طِيب المتابعة، ونلقاكم بإذن الله في حلقةٍ قادمةٍ.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه أبو داود: 3635، وابن ماجه: 2342، والترمذي: 1940، وأحمد: 15755.
^2 رواه ابن ماجه: 2341، وأحمد: 2865.
^3 رواه البخاري: 2743، ومسلم: 1629.
^4 رواه البخاري: 893، ومسلم: 1829.
zh