عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة، التي نستكمل الحديث فيها بذكر جُمْلةٍ من البيوع المنهي عنها، بعد أن ذكرنا جملة من تلك البيوع في حلقات سابقة، فنقول أيها الإخوة:
من البيوع المنهي عنها
بيع الطعام قبل قبضه
ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله قال: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه [1]، وفي لفظٍ: حتى يقبضه [2]، وفي الصحيحين أيضًا عنه قال: “رأيت الناس في عهد رسول الله إذا ابتاعوا الطعام جزافًا يُضربون في أن يبيعوه من مكانهم؛ وذلك حتى يؤوه إلى رحالهم” [3]، وفي صحيح مسلم عنه قال: “كنّا في زمان الرسول نبتاع الطعام؛ فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه. قبل أن نبيعه” [4].
ففي هذه الأحاديث وما جاء في معناها النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، والأمر بنقله من مكان البيع إلى مكانٍ آخر سواه.
الحكمة من النهي عن البيع قبل القبض
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله: أن الحكمة من النهي عن البيع قبل القبض هي عدم تمام استيلاء المشتري على المبيع، وعدم انقطاع علاقة البائع به، فقد يسلّمه وقد لا يسلّمه، لا سيما إذا رأى المشتري قد ربح فيه، فإنه قد يسعى -أيْ البائع- في رد البيع، إما بجحدٍ أو احتيال على الفسخ، ونحو ذلك.
وربما أفضى ذلك إلى الخصام والمعاداة، قال ابن القيم رحمه الله: “والواقع شاهدٌ بهذا، فمن محاسن الشريعة الكاملة الحكيمة منْع المشتري من التصرُّف فيه حتى يتم استيلاؤه عليه، وينقطع عن البائع، فلا يطمع -أيْ البائعُ- في الفسخ، وفي الامتناع من الإقباض..
قال رحمه الله: وعلى هذا فإذا باعه قبل قبضه من بائعه جاز ذلك على الصحيح؛ لانتفاء هذه العلة”.
وقد اتفق العلماء على أنه لا يصح التصرف في المبيع قبل قبضه إذا كان مكيلًا، أو موزونًا، أو معدودًا، أو مذروعًا؛ لما ذكرناه من الأحاديث.
قال ابن المنذر رحمه الله: “أجمع العلماء على أن من اشترى طعامًا فليس له بيعه حتى يقبضه”.
حكم بيع غير الطعام قبل قبضه
وأما ما عدا الطعام من المبيعات فهل يجوز بيعه قبل قبضه؟
اختلف الفقهاء في ذلك، والصحيح من أقوال العلماء في ذلك: أنه لا يجوز بيع شيءٍ من المبيعات قبل قبضه مطلقًا، سواء كان طعامًا أو غير طعام، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وجمع من المحققين رحمة الله تعالى على الجميع.
ويدل لذلك قول النبي : إذا بعت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه [5]، وهذا عامٌ في الطعام وفي غيره، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه [6]، قال ابن عباس: “ولا أحسب كل شيءٍ إلا مثله”.
وفي لفظ عنه أنه قال: “وأحسب كل شيءٍ بمنزلة الطعام”.
وفي سنن أبي داود عن زيد بن ثابت : “أن النبي نهى أن تباع السِلعُ حيث ابتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم” [7].
ما القبض الذي يسوغ للمشتري التصرف في السلعة؟
والقبض الذي يسوّغ للمشتري التصرف في السلعة يختلف باختلاف نوعية السِلَع، فكل نوع له قبضٌ يناسبه، فإذا كان المبيع مكيلًا فقبضه بالكيل، وإن كان موزونًا فقبضه بالوزن، وإن كان معدودًا فقبضه بالعدِّ، وإن كان مذروعًا فقبضه بالذرع.. مع حيازة هذه الأشياء إلى مكان المشتري.
وما عدا ذلك مما لا يحتاج إلى حق استيفاء، أي لا يحتاج إلى كيلٍ، أو وزن، أو عدٍّ، أو ذرع، فيُرجع فيه إلى العُرف، فما عدّه الناس قبضًا فهو قبض، وما لم يعدّوه قبضًا فليس بقبض.
ويلاحظ أن كثيرًا من الناس اليوم يتساهلون في مسألة قبض السلع، ويتصرفون فيها قبل القبض الشرعي، فعلى سبيل المثال نجد في أسواق التمور مثلًا من يشتري التمر ثم يبيعه وهو في مكانه قبل أن يقبضه وقبل أن ينقله من مكانه، وهذا أمرٌ منكر، وقد كان الناس يُضربون عليه في عهد رسول الله ، كما مرّ بنا ذلك آنفًا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: “رأيت الناس في عهد رسول الله إذا ابتاعوا الطعام جزافًا يُضربون في أن يبيعوه في مكانهم، وذلك حتى يؤوه إلى رحالهم” [8].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “دلّ هذا الحديث على مشروعية تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة، وعلى إقامة الإمام على الناس من يراعي أحوالهم في ذلك”.
وأقول: يُستفاد من هذ الحديث ومن كلام العلماء عليه: أنه ينبغي تخصيص عدد من رجال الحسبة ليقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أسواق المسلمين، وتأديب من يتعمدون مخالفة أوامر الشرع في ذلك.
الاحتكار
ومما نهى عنه النبي : الاحتكار؛ والاحتكار المنهي عنه هو الاحتكار لما يحتاج الناس إليه، وقد أخرج مسلم في صحيحه عن معمر بن عبدالله أن النبي قال: لا يحتكر إلا خاطئ [9]، قال النووي رحمه الله: “الخاطئ هو العاصي الآثم، وهذا الحديث صريحٌ في تحريم الاحتكار”.
وقال ابن القيم رحمه الله: “المحتكر الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام، فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم، هو ظالمٌ لعموم الناس، ولهذا كان لولي الأمر أن يُكرِه المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل”.
ومما يدخل في ظلم الناس كذلك: أن بعض الناس عندما يُجلب إلى السوق سلعة، يتفق أهل السوق على ترك مساومتها إلا من شخص واحد منهم يسومها من صاحبها، فإذا لم يجد صاحب السلعة من يزيد عليه اضطُّر إلى بيعها إليه برخص، ثم اشترك البقية مع المشتري.. أي اشترك بقية أهل السوق مع المشتري. وهذا العمل محرّم، وفيه ظلم وغبنٌ لصاحب السلعة، ويثبت له به الخيار إذا علم بذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إذا كانت الطائفة التي تشتري نوعًا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه، فيشترونه بدون ثمن المثل المعروف ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف، كان هذا أعظم عدوانًا من تلقي السلع، ومن بيع الحاضر للبادي، ومن النجش، ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس، حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وإلى شرائها بأكثر من ثمن المثل”.
حكم التسعير
ومما يدخل في ظلم عموم الناس كذلك: أن يمتنع أرباب السلع من بيعها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، مع حاجة الناس إليها، فحينئذ يؤمرون ببيعها بقيمة المثل، ويُلزمون بذلك.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “التسعير إذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائزٌ، بل واجب”.
وأما حديث أنس قال: “غلا السعر على عهد النبي فقالوا: يا رسول الله لو سعّرت لنا، فقال النبي : إن الله هو القابض الرازق الباسط المسعِّر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطالبني أحدٌ بمظلمة ظلمتها إياه في دمٍ ولا مال” [10].
فهذا الحديث محمولٌ على ما إذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلمٍ منهم، لكن ارتفع السعر إما لقلّة الشيء وإما لكثرة الناس؛ فهذا إلى الله ولا يُلزم الناس حينئذ بالبيع بقيمة بعينها.
وهذا هو ما سمح به وقت هذه الحلقة، وإلى حلقة قادمة إن شاء الله نلتقي بكم على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 2136، ومسلم: 1525. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2133، ومسلم: 1525. |
^3 | رواه البخاري: 2137، ومسلم: 1527. |
^4 | رواه مسلم: 1527. |
^5 | رواه النسائي في السنن الكبرى: 6163. |
^6, ^8 | سبق تخريجه. |
^7 | رواه أبو داود: 3499. |
^9 | رواه مسلم: 1605. |
^10 | رواه أبو داود: 3451، والترمذي: 1314، وابن ماجه: 2201، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. |