logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(1) مقدمة فقه المعاملات- البيع وشروط صحته

(1) مقدمة فقه المعاملات- البيع وشروط صحته

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

حياكم الله تعالى في أولى حلقات هذا البرنامج فقه المعاملات، الذي نسأل الله تعالى أن يبارك فيه، وأن ينفع به المتحدِّث والمستمع جميعًا.

سنتناول في هذا البرنامج -إن شاء الله تعالى- أهم المسائل في أبواب المعاملات، مع التركيز على ما يحتاج إليه المسلم في تعاملاته المختلفة، والمستمع المتابع لهذا البرنامج سيخرج -بإذن الله- بحصيلة جيدة في أبواب المعاملات.

أهمية التفقُّه في أبواب المعاملات

أيها الإخوة! هذا القسم من الفقه -أعني أبواب المعاملات- يحتاج إليها عموم المسلمين بشكل عام، ومن يتعامل بالتجارة من بيع أو شراء ونحو ذلك بشكل خاص.

ومن هنا فينبغي التفقُّه في مسائله وأحكامه، وقد روي أن عمر بن الخطاب  كان يبعث إلى من يبيع في أسواق المسلمين فيُسأل البائع عن مسائل الحلال والحرام، فإن أجاب وإلا قيل له: قم، لا يقعد في أسواق المسلمين من لا يعرف الحلال والحرام، حتى لا يأكل الربا ولا يؤكّله المسلمين.

إن فيما أباحه الله تعالى غُنية عما حرّمه الله، وما أباحه الله تعالى أكثر بكثيرٍ مما حرّمه، والأصل في المعاملات الحِلّ والإباحة، وإنما المتفقه في مسائل المعاملات يستطيع الوصول إلى غرضه في كثير من الأحيان، مع تجنُّب الوقوع في المحظور، وقد جاء في “الصحيحين” عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: “أن رسول الله استعمل رجلًا على خيبر، فجاء بتمرٍ جنيب -والتمر الجنيب نوعٌ جيدٌ من التمر- فقال رسول الله : أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا يا رسول الله، إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين من الجمع -والجمع نوعٌ من التمر الرديء-، فقال رسول الله : لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا [1] وفي رواية لمسلم: أن رسول الله  قال: أوّه! عين الربا [2].

ففي هذه القصة بيّن النبي أن بيع التمر الرديء بالتمر الجيد مع التفاضل ربا، بل سماه عين الربا، ثم أرشد إلى المخرج الصحيح من ذلك، وهو مخرجٌ سهل وميسور ويتجنب به المسلم الوقوع في عين الربا، وهو أن يبيع التمر الرديء بالدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمرًا جيدًا، وبذلك يستطيع هذا الرجل الوصول إلى غرضه -وهو الحصول على التمر الجيد في مقابل التمر الرديء-، مع تجنُّب الوقوع في الربا، وهذا من ثمرة الفقه في هذا الباب.

وكما أنه مطلوبٌ من المسلم التفقه في مسائل الحلال والحرام، فمطلوبٌ منه كذلك الصدق والبيان والوضوح في تعاملاته مع الآخرين؛ فإن ذلك من أسباب حلول البركة فيها، كما أن الكذب والغش والكتمان من أسباب محق البركة، يقول النبي : البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما [3].

والبركة في الأموال أمرٌ مشاهدٌ ومحسوس، فقد يبيع الإنسان سلعة ويجعل الله تعالى في ثمنها البركة، فينتفع به انتفاعًا عظيمًا، بالمقابل قد يبيع السلعة ويُنزع من ثمنها البركة فسرعان ما يذهب من صاحبه، وكذلك قد يشتري الإنسان السلعة ويجعل الله تعالى فيها البركة فتسلم من الآفات وينتفع بها صاحبها انتفاعًا كبيرًا، وقد يشتري السلعة وتُنزع بركتها فتكثر آفاتها ويقل الانتفاع بها.

ومن أسباب حلول البركة في المال أن يؤخذ المال بسخاوة نفس، فلا تتعلق النفس به، أما إذا تعلّقت النفس به وكان لها إشرافٌ وتطلُّعٌ وطمع فإن ذلك من أسباب محق البركة فيه، يقول النبي : إن هذا المال خضرٌ حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع [4].

وبعد هذه المقدمة بين يدي البرنامج نبدأ الحديث عن مسائل المعاملات، وستكون بدايتنا بمسائل البيع نظرًا لأهميتها ولعموم الحاجة إلى بيانها؛ فنقول وبالله التوفيق:

تعريف البيع

البيع في اللغة: مطلق المبادلة، مشتقٌ من الباع؛ لأن كل واحد من المتبايعين يمد يده للأخذ والإعطاء.

وفي الشرع: مبادلة المال بالمال تمليكًا وتملُّكًا.

أدلة مشروعية البيع

والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع.

فأما الكتاب فقول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]، وقول الله: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282].

ومن السنة قول النبي : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا.. [5] إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.

وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة، والحكمة تقتضيه؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، ولا يبذله صاحبه بغير عوض، ففي تجويز البيع طريقٌ إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه ودفع حاجته.

بم ينعقد البيع؟

وينعقد البيع بالصيغة القولية أو الصيغة الفعلية.

والصيغة القولية تتكون من:

  • الإيجاب؛ وهو اللفظ الصادر من البائع كأن يقول: بعت.
  • والقبول: وهو اللفظ الصادر من المشتري كأن يقول: اشتريت.

وأما الصيغة الفعلية: فهي المعاطاة التي تتكون من الأخذ والإعطاء، كأن يدفع إليه السلعة فيدفع له ثمنها المعتاد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “تصح العقود بكل ما دلَّ على مقصودها من قول أو فعل، وهذا هو الذي تدل له أصول الشريعة، ومعلومٌ أن البيع والإجارة والهبة ونحوها، لم يحد الشارع لها حدًا لا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله ، ولا نقل عن أحد من الصحابة أو التابعين أنه عيَّن للعقود صيغة معينة من الألفاظ أو غيرها، وليس لذلك حدٌ في لغة العرب، بحيث يقال إن أهل اللغة يسمون هذا بيعًا، ولا يسمون هذا بيعًا، فإذا لم يكن له حدٌ في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عُرْف الناس وعاداتهم، فما سمَّوه بيعًا فهو بيع”.

والبيع من العقود اللازمة، ومعنى ذلك: أن البيع إذا انعقد بالإيجاب والقبول أو بما يدل عليه عرفًا، وحصل التفرُّق من مكان التبايع بالأبدان، فليس للبائع أو المشتري الفسخ إلا برضا الطرف الآخر.

أنواع العقود

والعقود منها:

  • ما هو لازمٌ كالبيع، فليس لأحدهما الفسخ إلا برضا الطرف الآخر.
  • ومنها ما هو جائزٌ كالوكالة، فلكلٍ من الوكيل والموكِّل فسخ الوكالة متى ما شاء، ولو بغير رضا الطرف الآخر.
  • ومنها ما هو جائزٌ من وجهٍ لازمٌ من وجهٍ آخر، كالرهن فإنه لازمٌ من جهة من عليه الحق وهو الراهن، وجائزٌ من جهة من له الحق وهو المرتهن.

شروط صحة البيع

ويشترط لصحة البيع شروطٌ، نذكر منها ما يسمح به وقت هذه الحلقة، ونستكمل الكلام عن بقية الشروط في حلقة قادمة إن شاء الله:

الشرط الأول: التراضي من المتعاقدين

لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، أيْ: إلا أن تكون تجارة صادرةً عن تراضٍ منكم.

ويدل لهذا الشرط من السنة: حديث أبي سعيد الخدري : أن النبي  قال: إنما البيع عن تراضٍ [6]، أخرجه ابن ماجة في “سننه”، وقال البوصيري: “إسناده صحيح، ورجاله ثقات”.

وبناءً على هذا الشرط لا يصح البيع مع الإكراه، هذا إذا كان الإكراه بغير حق، أما إذا كان الإكراه بحقٍ صحّ البيع، كأن يكرهه القاضي على بيع ماله لوفاء دينه، فهذا إكراهٌ بحقٍ فيصح.

مثال ذلك: رجلٌ رهن سيارته في دينٍ عليه وحلّ الدين، فطالب الدائنُ بدينه، ولكن الراهن الذي عليه الدين أبى، ففي هذه الحال يُجبر الراهن على بيع سيارته لأجل أن يستوفي الدائن حقه.

الشرط الثاني: أن يكون العاقد -وهو البائع والمشتري- جائز التصرف

أيْ: حُرًّا مكلفًا رشيدًا، وبناءً على ذلك لا يصح البيع من غير العاقل؛ كالمجنون والطفل ونحوهما؛ لأنه قولٌ يُعتبر له الرضا فلم يصح من غير عاقل.

وأما الرقيق فلا يصح تصرفه إلا بإذن سيده.

وأما الصبي المميِّز والسفيه فيصح تصرّفهما بإذن وليهما.

ويدل لذلك قول الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، والمعنى اختبروهم لتعلموا رشدهم، وإنما يتحقق ذلك الاختبار بتفويض البيع والشراء إليهم ليُعلم من خلاله رشدهم.

فدل ذلك على صحة تصرُّف الصبي بإذن وليه، ومثله السفيه المحجور عليه يصح تصرّفه بإذن وليه.

ويستثنى من ذلك الشيء اليسير؛ فيصح تصرفهما فيه بغير إذن وليهما، ويدل لذلك ما روي أن أبا الدرداء اشترى من صبيٍ عصفورًا فأرسله.

أيها الإخوة! هذا هو ما سمح به وقت هذه الحلقة، ونتوقف عند ذلك، ونستكمل الكلام عن بقية الشروط في حلقة قادمة إن شاء الله.

إلى ذلك الحين نستودعكم الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 4244، ومسلم: 1593.
^2 رواه مسلم: 1594.
^3 رواه البخاري: 2110، ومسلم: 1532.
^4 رواه البخاري: 2750.
^5 سبق تخريجه.
^6 رواه ابن ماجه: 2185.
مواد ذات صلة
zh