عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد:
فكنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن معنى البيع في اللغة وفي الاصطلاح، وذكرنا الأدلة على مشروعيته.
من شروط صحة البيع
ثم بدأنا الكلام عن شروط صحة البيع، وذكرنا:
- الشرط الأول وهو: التراضي بين المتعاقدين.
- ثم ذكرنا الشرط الثاني وهو: أن يكون العاقد من البائع أو المشتري جائز التصرُّف.
وتوقفنا عند هذا الشرط.
ونستكمل في هذه الحلقة الكلام عن بقية الشروط، فنقول:
الشرط الثالث: أن تكون العين المعقود عليها مباحة النفع من غير حاجة
- فخرج بقولنا: “مباحة النفع” ما كانت محرّمة النفع؛ كالخمر، والخنزير، وآلات اللهو والطرب، ونحو ذلك، يقول النبي : إن الله ورسوله حرّم بيع الميتة والخمر والخنزير [1]، متفقٌ عليه، ولا يصح بيع ما لا نفع فيه كالحشرات ونحوها.
- وخرج بقولنا “من غير حاجة” ما إذا كانت العين مباحة النفع لحاجة كالكلب، فإنه يباح الانتفاع به لحاجة الصيد أو الحرث أو الماشية، لكنه لا يصح بيعه لنهي النبي عن بيعه، ففي الصحيحين عن أبي مسعود : “أن رسول الله نهى عن ثمن الكلب”، وفي صحيح مسلم عن رافع بن خديج أن رسول الله قال: شرُّ الكسب مهر البغي، وثمن الكلب، وكسب الحجام. [2]
حكم بيع الكلب واقتنائه
وهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على تحريم بيع الكلب.
قال ابن القيم رحمه الله: “وذلك يتناول كل كلبٍ صغيرًا كان أو كبيرًا، للصيد أو للماشية أو للحرث، وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث قاطبة، ولا يصح عن النبي استثناء كلب الصيد بوجه”.
وبهذا يتبين تحريم بيع الكلب مطلقًا حتى وإن كان كلب صيد أو حرثٍ أو ماشية، ولكن يباح اقتناء الكلب لهذه الأمور خاصة، ويقاس عليها ما كان مثلها في النفع أو أولى كاستخدام ما يُسمى بالكلب البوليسية في الكشف عن المخدرات ونحوها.
وبهذه المناسبة ننصح إخواننا المسلمين بعدم اقتناء الكلاب، غير كلب الصيد أو الحرث أو الماشية وما كان في معناها، فقد ورد الوعيد في ذلك عن النبي ، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا حرث؛ فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم [3] وبهذا يتبين خطأ الذين يقتنون الكلاب تقليدًا للنصارى وغيرهم من الكفار، فإذا كان ينقص من أجرهم كل يوم قيراطان، فكم سينقص من أجرهم في الشهر؟ وكم سينقص من أجرهم في السنة؟!
حكم بيع السنور (الهِرّ أو القط)
وأما السنور وهو الهِرّ، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي الزبير قال: سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسنور؟ فقال: “زجر النبي عن ذلك” [4].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “دلَّ هذا الحديث الصحيح الصريح على تحريم بيع السنور -أيْ الهِرَّ-، وقد أفتى جابر بن عبدالله بموجبه ولا يُعرف له مخالفٌ من الصحابة، وكذلك أفتى أبو هريرة ، وهو مذهب طاووس ومجاهد وجابر بن زيد، وهو مذهب جميع أهل الظاهر، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصواب لصحة الحديث بذلك، وعدم ما يعارضه، فوجب القول به”.
وبذلك يتبين خطأ ما يُرى من قيام بعض أصحاب محلات بيع الطيور والحيوانات من بيع القطط، فيقال لهم: إن النبي نهى عن ذلك، وهذا النهي يقتضي تحريم ذلك البيع وتحريم ثمنه.
الشرط الرابع: أن يكون المبيع مملوكًا للبائع أو مأذونًا له فيه وقت العقد
كالوكيل والولي ونحوهما؛ والدليل على هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، ومعلومٌ أنه لا يوجد أحدٌ يرضى أن يتصرّف غيره في ماله بغير إذنه.
ويدل لهذا الشرط من السنة حديث حكيم بن حزام : أن النبي قال: لا تبع ما ليس عندك [5] أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ.
ويدل لهذا الشرط من النظر: أنه لو جاز أن يبيع الإنسان ما لا يملك لكان في ذلك من العدوان والفوضى ما لا تستقيم معه حياة البشر، ويقوم الوكيل وهو من أُذِن له بالتصرف في حال الحياة، وكذا الوصي وهو من أُمِر له بالتصرُّف بعد الموت، وناظر الوقف وولي اليتيم يقوم هؤلاء مقام المالك، ولكنهم لا يتصرفون إلا بالأحظ للمالك؛ وذلك أن المتصرِّف لغيره يجب عليه أن يتصرف بالأحظ بخلاف المتصرِّف لنفسه.
بيع الفضولي وشراؤه
وبناءً على هذا الشرط: من باع ملك غيره بغير إذنه لم يصح، وكذا بمال غيره بغير إذنه فإنه لا يصح شراؤه، لو اشترى بمال غيره بغير إذنه.
وهذه المسألة تسمى عند الفقهاء بمسألة بيع الفضولي وشرائه، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، والصحيح في هذه المسألة، وهو الذي عليه أكثر المحققين من أهل العلم: أنه يصح بيع الفضولي وشراؤه إذا أجازه المالك.
ويدل لذلك ما جاء في صحيح البخاري عن عروة بن الجعد البارقي : “أن النبي أعطاه دينارًا يشتري به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار؛ فجاء بدينار وشاة، فدعا له النبي بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه” [6]، وهذا ببركة دعاء النبي له.
وجاء في رواية عنه أنه قال: “فلقد رأيتني أقف بالكوفة فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلى أهلي”.
ففي هذه القصة وكّل النبي عروة بن الجعد أن يشتري له شاة بدينار، فاشترى له به شاتين، ثم باع إحدى هاتين الشاتين بدينار، وقد أقرّه النبي على هذا التصرُّف، بل ودعا له بالبركة، وهذا يدل دلالة ظاهرة على صحة تصرُّف الفضولي إذا أجازه المالك.
حكم بيع ما لا يملك الإنسان
أيها الإخوة! هذا الشرط من شروط صحة البيع يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يبيع ما لا يملك، وقد ذكرنا الأدلة على هذا الشرط، وبذلك يتبين خطأ ما يرى من قيام من يبيع بالتقسيط من أفراد وشركات، وبنوك ومؤسسات ببيع ما لا يملكون، فعلى سبيل المثال يأتي من يريد شراء سيارة بالتقسيط إلى مؤسسة ويبدي رغبته لهم بذلك، فتقوم تلك المؤسسة بإبرام عقدٍ معه، وهي لم تملك بعد تلك السيارة، فهذا محرّمٌ ولا يجوز؛ لأن النبي قال: لا تبع ما ليس عندك [7].
والذي ينبغي لهذه المؤسسة ولغيرها ممن يبيع بالتقسيط أن يتملّكوا السلعة المراد تقسيطها أولًا، ويقبضونها قبضًا تامًا، ثم بعد ذلك يبيعونها بالتقسيط.
الشرط الخامس: أن يكون المعقود عليه مقدورًا على تسليمه
أيْ أن يكون كلٌ من البائع والمشتري قادرًا على تسلُّم أو تسليم ما انتقل من ملكه أو إلى ملكه.
ويدل لهذا الشرط ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة : “أن النبي نهى عن بيع الغرر” [8]، والغرر في غير المقدور على تسليمه ظاهر.
قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله: “اتفقوا على أنه لا يجوز بيع الغرر كالضالة، والعبد الآبق، والطير في الهواء، والسمك في الماء، ولا يجوز بيع المغصوب إلا على غاصبه أو على قادرٍ على أخذه من غاصبه”.
هذا هو ما سمح به وقت هذه الحلقة؛ وإلى لقاءٍ في حلقة قادمة إن شاء الله نستكمل فيها ما تبقى من شروط صحة البيع.
فإلى ذلك الحين نستودعكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.