عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، والتي نتحدث فيها عن المسائل المتعلقة بالشروط في البيع.
وكنا قد تكلمنا في حلقات سابقة عن شروط صحة البيع، وذكرنا كلام الفقهاء تحت كل شرط، ونستعرض في هذه الحلقة كلام أهل العلم حول الشروط في البيع؛ وقبل أن نبدأ في ذلك يحسن بنا أن نُفرِّق بين الشروط في البيع وشروط البيع.
الفرق بين الشروط في البيع وشروط البيع
الشروط في البيع هي: إلزام أحد المتعاقدَين الآخرَ بسبب العقد ما له فيه منفعة؛ كأن يبيع رجل بيتًا ويشترط البائعُ على المشتري سكنى هذا البيت لمدة سنة مثلًا.
وأما شروط البيع فقد سبق الكلام عنها، وسبق القول بأنها ما يشترط لصحة البيع، بحيث إذا فُقِد شرطٌ واحد منها لم يصح البيع؛ كشرط التراضي بين المتعاقدين، وأن يكون المبيع مملوكًا للبائع وقت العقد، ومقدورًا على تسليمه، إلى غير ذلك من بقية الشروط التي سبق الكلام عنها بالتفصيل.
وبهذا يتبين أن شروط البيع من وضع الشارع، بينما الشروط في البيع من وضع المتعاقدين أو أحدهما.
وشروط البيع كلها صحيحة معتبرة، بل يتوقف عليها صحة البيع، بحيث لو فقد شرط واحد منها لم يصح البيع، ولا يمكن إسقاطها بأي حال، بينما الشروط في البيع فمنها ما هو صحيح معتبر، ومنها ما ليس بصحيح ولا معتبر، ويمكن إسقاطها ممن له الشرط، ولا يتوقف عليها صحة البيع، فالبيع صحيح بدونها، ولكنها إذا وجدت توقف عليها لزوم البيع، أي أن البيع يكون صحيحًا، لكنه ليس بلازم في حق من شرطها إذا لم يوفَّ له بها.
ما المعتبر من الشروط في البيع؟
والمعتبر من الشروط في البيع هو ما كان في صلب العقد، أما ما كان بعد العقد وبعد انقضاء زمن خيار المجلس وخيار الشرط فلا يعتبر مطلقًا.
وأما ما كان من الشروط قبل العقد أو بعد العقد زمن الخيارين، أي زمن خيار المجلس، وخيار الشرط، فقد اختلف العلماء في اعتبار الشروط في هذه الحال.
والأقرب والله أعلم أنها شروط صحيحة معتبرة، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
أقسام الشروط في البيع
وقد قسَّم الفقهاء الشروط في البيع إلى قسمين:
- شروط صحيحة.
- شروط فاسدة.
الشروط الصحيحة
أما الشروط الصحيحة فهي ما وافق مقتضى العقد، ولم يبطله الشارع، ولم ينه عنه.
فإذا وقعت هذه الشروط على هذا الوجه كانت لازمة في حق من شرطت عليه، فإذا لم يوف له بها كان لمن شرطها حق الخيار في إمضاء البيع أو في فسخه؛ لقول النبي : المسلمون على شروطهم [1].
أمثلة للشروط الصحيحة في البيع
ومثالها بالنسبة للبائع: أن يشترط البائع على المشتري التوثيق برهن أو ضامن، أو أن يشترط استخدام السيارة المبيعة مدة معينة.
ومثالها بالنسبة للمشتري: أن يشترط المشتري على البائع تأجيل الثمن أو تأجيل بعضه إلى مدة معلومة، أو أن يشترط صفة معينة في المبيع؛ كأن تكون من صناعة معينة، أو من إنتاج بلد معين مثلًا، أو أن يشترط المشتري على البائع أن يقوم بتوصيل البضاعة المبيعة إلى مكان معين، ونحو ذلك من الشروط.
الشروط الفاسدة
وأما الشروط الفاسدة، فهي ما ينافي مقتضى العقد أو أبطله الشارع أو نهى عنه.
وهذه الشروط الفاسدة منها ما يبطل العقد من أصله، ومنها ما يفسد في نفسه، ولا يبطل معه البيع.
شروط تبطل العقد
فأما ما يبطل العقد من أصله؛ فكأن يجمع بين البيع والقرض، فيقول مثلًا: لا أبيعك إلا بشرط أن تقرضني 1000 ريال، أو يقول: لا أقرضك إلا بشرط أن تبيعني هذه السلعة.
أو أن يجمع بين الإجارة والقرض؛ كأن يقول: لا أؤجرك بيتي إلا بشرط أن تقرضني 1000 ريال، أو يقول: لا أقرضك إلا بشرط أن تؤجرني بيتك، فهذا الشرط شرط فاسد، ويبطل معه العقد من أصله؛ يدل لذلك قول النبي : لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيعُ ما ليس عندك [2]، أخرجه أصحاب السُّنن؛ وهو حديث حسن.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “هذا الحديث أصل من أصول المعاملات..” ثم شرح رحمه الله معنى هذا الحديث شرحًا مستفيضًا، وكان مما قال: “وأما السلف والبيع فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “جِماع معنى هذا الحديث: أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع؛ لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة، لا تبرعًا مطلقًا، فإن من أقرض رجلًا ألف درهم وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف لم يرض بالإقراض إلا بالثمن الزائد للسلعة، والمشتري لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها، فلا هذا باع بيعًا بألف، ولا هذا أقرض قرضًا محضًا”.
حكم الجمع بين الشرطين في البيع
وفي الحديث السابق: نهى النبي عن شرطين في بيع، ففهم من فهم من الفقهاء عدم جواز الجمع بين شرطين فأكثر في البيع، فلو جمع بين حمل الحطب وتكسيره مثلًا لم يصح ذلك عندهم، بل جعل بعضهم ذلك مبطلًا للبيع من أصله.
قال ابن القيم رحمه الله: “اشتمل هذا الحديث على تحريم الشرطين في بيع، وقد أشكل على أكثر الفقهاء معناه من حيث إن الشرطين إن كانا فاسدين فالواحد حرام، فأي فائدة لذكر الشرطين؟ وإن كانا صحيحين فلِمَ يُحرما؟!” ثم ذكر أقوال بعض العلماء في ذلك وضعفها، ثم قال: “إذا تبيَّن ضعف هذه الأقوال، فالأولى تفسير كلام النبي بعضه ببعض، فنقول: نظير هذا نهيه عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة”، ثم ذكر أقوال العلماء في تفسير البيعتين في بيعة، ثم قال: “وفُسِّر بأن يقول: خذ هذه السلعة بعشرة نقدًا، وآخذها منك بعشرين نسيئة، وهي مسألة العينة بعينها، وهذا هو المعنى المطابق للحديث، ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى، وهذا هو بعينه الشرطان في بيع، فإن الشرط يطلق على العقد نفسه؛ لأنهما تشارطا على الوفاء به فهو مشروط، والشرط يطلق على المشروط كثيرًا كالضرب يطلق على المضروب والحلق يطلق على المحلوق، والنسخ على المنسوخ، فالشرطان كالصفقتين سواء، فشرطان في بيع كصفقتين في صفقة.
وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى فتأمل نهيه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن بيعتين في بيعة، وعن سلف وبيع. رواه أحمد.
ونهيه في هذا الحديث عن شرطين في بيع، وعن سلف وبيع، فجمع السلف والبيع مع الشرطين في بيع، ومع البيعتين في بيعة، وسِرُّ ذلك أن كِلا الأمرين يؤول إلى الربا، وهو ذريعة إليه، ومن نظر إلى الواقع وأحاط به علمًا فهم مراد الرسول من كلامه، ونزَّله عليه، وعلم أنه كلام من جمعت له الحكمة، وأوتي جوامع الكلم، فصلوات الله وسلامه عليه”.
والحاصل من كلام ابن القيم رحمه الله السابق: أن المراد بنهي النبي عن شرطين في بيع أنه هو بيع العينة، وليس المراد بهما الشروط المعروفة عند الفقهاء.
وبناء على ذلك يترجح القول بجواز الجمع بين شرطين فأكثر في البيع؛ إذ لا مانع من ذلك شرعًا، والأصل في العقود والشروط الصحة.
شروط يفسد الشرط معها، ولا يبطل العقد
وأما الشروط الفاسدة التي يفسد الشرط معها فقط، ولا يبطل معها العقد؛ فكأن يشترط المشتري على البائع على أنه متى راجت السلعة وإلا ردها على البائع؛ فهذا شرط باطل، ولكن البيع صحيح.
ووجه بطلان هذا الشرط: أنه يُنافي مقتضى عقد البيع، وقد قال النبي : من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط [3].
ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة وإلى حلقة قادمة إن شاء الله.
أستودعكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.