عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله في هذه الحلقة من برنامج فقه المعاملات.
كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جُمْلةٍ من شروط صحة البيع، وتوقفنا عن الشرط السادس من هذه الشروط.
من شروط صحة البيع
ونستكمل في هذه الحلقة ما تبقى من شروط صحة البيع ثم نتكلم إن شاء الله عن جملة من البيوع المنهي عنها.
فنقول وبالله التوفيق:
الشرط السادس: أن يكون المبيع معلومًا عند المتعاقدين برؤية أو صفة
وبناءً على هذا الشرط إذا اشترى مجهولًا لم يره ولم يوصف له بما يضبطه لم يصح البيع، ويكفي في الرؤية رؤية بعض المبيع الدال عليه.
وأما البيع بالصفة من غير رؤية فيصح إذا كان المبيع مما يمكن انضباطه بالصفة، وبناءً على ذلك يجوز لك أن تشتري سيارة مثلًا بمواصفات معينة ولو لم ترها، فإن كانت السيارة بتلك المواصفات وإلا فلك الخيار.
وبناءً على هذا الشرط لا يجوز بيع الحمل في البطن، ولا اللبن في الضرع؛ وذلك للجهالة والغرر، وقاعدة الشريعة: تحريم كل ما اشتمل على الجهالة والغرر، كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة : “نهى رسول الله عن بيع الغرر” [1]، وذلك لأن كل ما كان مشتملًا على الجهالة والغرر يفضي إلى إيقاع العداوة والبغضاء، والشريعة الإسلامية تمنع كل ما أفضى إلى العداوة والبغضاء بين المسلمين.
الشرط السابع: أن يكون الثمن معلومًا عند المتعاقدين.
كما أنه يُشترط أن يكون المبيع معلومًا، فالثمن أحد العوضين فاشتُرِط فيه العلم كالعوض الآخر، والبيع مع جهالة الثمن فيه غرر وقد نهى النبي عن بيع الغرر.
أما إذا باعه بما ينقطع به السعر كأن يقول: أبيعك بما يقف عليه السوم، فقد اختلف العلماء في حكم ذلك، فمنهم من منع ذلك ومنهم من أجازه، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكذا تلميذه ابن القيم رحمه الله، اختارا جواز ذلك وصحّة البيع حينئذ؛ وذلك لكون الجهالة بالثمن في هذه الحال تؤول إلى العلم.
قال الإمام ابن القيم: “وهو الصواب المقطوع به، وليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ، ولا إجماع الأمة، ولا قول صاحب، ولا قياسٍ صحيح ما يحرّمه”.
البيوع المنهي عنها
وبعد أن تكلمنا عن حقيقة البيع وشروط صحته نقف مع جملة من البيوع المنهي عنها:
البيع أو الشراء ممن تلزمه الجمعة بعد النداء الثاني
فمن ذلك: البيع وكذا الشراء ممن تلزمه الجمعة بعد النداء الثاني، وقد اتفق العلماء على تحريمه؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:9-10]، فقد نهى الله عن البيع بعد النداء لصلاة الجمعة، ويشمل ذلك بيع أيّ شيءٍ كان، ولو كان شيئًا يسيرًا كعود أراك مثلًا.
والنداء الذي يتعلق به المنع هو النداء الذي يكون عقب جلوس الإمام على المنبر؛ لأنه النداء الذي كان على عهد رسول الله ، فتعلق الحكم به.
وأما النداء الأول للجمعة فلم يكن في عهد رسول الله ، ولا في عهد أبي بكر الصديق ، ولا في عهد عمر بن الخطاب ، وإنما زاده عثمان بن عفان لما كثر الناس، فلا يشمله النهي عن البيع الوارد في الآية.
والنهي عن البيع في الآية يقتضي تحريمه وعدم صحّته، وبعد أن أمر الله بالسعي إلى ذكره ونهى عن البيع بعد نداء يوم الجمعة قال سبحانه: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9] أيْ ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خَيْرٌ لَكُمْ أيْ: في الدنيا والآخرة، إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.
ثم قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “لما حجر عليهم التصرُّف بعد النداء، وأمرهم بالاجتماع، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله، وكان عراك بن مالك رحمه الله إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين”.
بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع الحصاة
ففي الصحيحين عن أبي هريرة : “أن النبي نهى عن الملامسة والمنابذة”، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة : “أن النبي نهى عن بيع الحصاة”.
- فأما بيع الملامسة فمعناه أن يقول البائع للمشتري: بعتك هذا الثوب على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا، أو يقول: أيَّ ثوبٍ تلمسه فهو عليك بكذا.
- وأما بيع المنابذة فمعناه: أن يقول المشتري للبائع: أيَّ ثوبٍ نبذته -أيْ طرحته- إليَّ فقد اشتريته بكذا.
- وأما بيع الحصاة فمعناه: أن يقول البائع للمشتري: ارم هذه الحصاة فعلى أي شيءٍ تقع فهو لك بكذا، وله صورة أخرى وهي أن يقول: بعتك من هذه الأرض مقدار ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا.
كل هذه البيوع قد نهى عنها النبي لما فيها من الجهالة والغرر، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في فساد هذه المبايعات”.
البيع والشراء داخل المسجد
فعن أبي هريرة : أن رسول الله قال: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالّة فقولوا: لا ردّها الله عليك [2]، أخرجه الترمذي وغيره.
وفي “صحيح مسلم” عن بريدة : أن رجلًا نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال رسول الله : لا وجدْت، إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له [3].
ففي هذين الحديثين وما جاء في معناهما النهي عن البيع والشراء ونشدان الضالة في المسجد، ويُلحق بها ما كان في معناها كالإجارة ونحوها من العقود، وقد علّل النبي لذلك بأن المساجد إنما بُنيت لما بُنيت له، أيْ أن المساجد لم تُبن لتُتّخذ مكانًا لإبرام الصفقات والعقود، ولنشدان الضالة ونحو ذلك، وإنما بُنيت ليُذكر فيها اسم الله، وتقام فيها الصلوات وحِلق العلم والمذاكرة بالخير.
وبذلك يُعلم خطأ أولئك الذين يوزّعون منشورات داخل المساجد تحمل دعاية لمؤسساتهم التجارية، ولو كانت تلك الدعاية دعاية للحج أو للعمرة؛ فإن المقصود من تلك الدعاية التجارة، فيدخل ذلك في معنى البيع والشراء الذي نهى النبي عن أن يكون داخل المسجد.
ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وإلى حلقة قادمة إن شاء الله.
أستودعكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.