logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(5) البيوع المنهي عنها- الحاضر للباد وتلقي الركبان والنجش

(5) البيوع المنهي عنها- الحاضر للباد وتلقي الركبان والنجش

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حياكم الله تعالى في هذه الحلقة من هذا البرنامج، كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جُمْلةٍ من البيوع المنهي عنها، ونستكمل في هذه الحلقة الكلام عن جملة أخرى من البيوع المنهي عنها، فنقول وبالله التوفيق:

من البيوع المنهي عنها

بيع الحاضر للبادي

ففي الصحيحين عن أبي هريرة : أن رسول الله  قال: لا يبع حاضرٌ لبادٍ [1]، وفي الصحيحين أيضًا عن أنس قال: “نُهينا أن يبيع حاضرٌ لبادٍ” [2]، وفي رواية مسلم: وإن كان أخاه أو أباه [3].

والحاضر: هو المقيم في البلد، والبادي: هو ساكن البادية.

وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله -في بيان المراد بالبادي في هذا الحديث-: “هو من يدخل البلد من غير أهلها، سواء كان بدويًّا أو من قرية أو من بلدة أخرى”.

والمراد ببيع الحاضر للبادي هو: أن يكون له سمسارًا -أيْ دلّالًا-، كما جاء تفسير ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ حيث سئل عن قول النبي : لا يبع حاضرٌ لبادٍ؟ فقال: لا يكون له سمسارًا.

وحينئذٍ يكون معنى بيع الحاضر للبادي هو أن الحاضر -وهو المقيم في البلد- يأتي للبادي وهو القادم إلى البلد من غير أهله، سواء كان بدويًّا أو من بلد آخر، فيطلب منه الحاضر أن يكون له سمسارًا فيقول له: أنت لا تعرف أسعار البلد وأنا أعلم منك بذلك، فدعني أبيع لك بسعر السوق.

وهذا ليس فيه إضرارٌ بهذا البادي، بل ربما يكون فيه مصلحةٌ له، ولكن هذا العمل فيه إضرارٌ بأهل السوق؛ حيث إن الحاضر يعرف أسعار البلد، فإذا تولى بيع السلعة فإنه لن يبيعها إلا بسعر السوق، فتضيق الأسعار بذلك على الناس، بخلاف ما إذا تُرِك القادم من غير أهل البلد يبيع سلعته بنفسه، فإنه في الغالب يبيعها برخص فيكون في ذلك توسعة على أهل البلد، بل ربما يكون هذا سببًا لرخص الأسعار في السوق.

وإلى هذا المعنى أشار النبي ، ففي صحيح مسلم عن جابر  قال: قال رسول الله : لا يبع حاضرٌ لبادٍ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض [4].

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “المعنى في ذلك: أنه متى تُرِك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص، وتوسّع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها امتنع من بيعها إلا بسعر البلد، وحينئذ يضيق السعر على أهل البلد، وإلى هذا المعنى أشار النبي  في تعليله -أيْ في قوله-: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض[5].

والممنوع هو أن يذهب الحاضر إلى البادي ويقول: أنا أبيع لك، أما إذا جاء البادي للحاضر وطلب منه أن يبيع له أو أنه استنصحه، فلا بأس بأن يبيع له، وأن ينصح له في البيع، يدل لذلك أنه قد جاء في بعض روايات حديث النهي عن بيع الحاضر للبادي: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح الرجل الرجل فلينصح له [6].

وأخرج أبو داود في سنن من طريق سالم المكي: أن أعرابيًّا حدثه أنه قدِم بجلوبة له على طلحة بن عبيد الله فقال له -أيْ طلحة-: “إن النبي نهى أن يبيع حاضرٌ لبادٍ، ولكن اذهب إلى السوق فانظر من يبايعك فشاورني حتى آمرك أو أنهاك” [7].

تلقي الركبان

ومما نهى عنه النبي  تلقّي الركبان، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضرٌ لبادٍ [8].

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله  قال: ولا تلقوا السلع حتى يُهبَط بها إلى السوق [9].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة : أن رسول الله  قال: لا تلقوا الجلب؛ فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار [10].

ففي هذه الأحاديث وما جاء في معناها النهي عن تلقي الركبان، والركبان اسم جمع واحده راكب، وهو في الأصل يُطلق على راكب البعير، ثم اتُّسِع فيه فقيل: لكل راكبٍ دابة راكب، ويُجمع على رُكّاب ككافر وكُفار.

والتعبير بالركبان جرى على الغالب، وإلا فالمعنى يشمل القادم إلى البلد وإن كان ماشيًا أو كان وحده.

معنى تلقي الركبان

ومعنى تلقي الركبان: تلقي القادمين إلى البلد قبل وصولهم إلى السوق والشراء منهم.

وقد نهى عنه النبي لما فيه من التغرير بهؤلاء القادمين؛ فإن المتلقي لهم يشتري منهم غالبًا برُخص، لكونهم لا يعرفون الأسعار ورُبّما غُبنوا في ذلك، كما أنه ربما يحصل الضرر لأهل البلد بذلك؛ لأن الركبان إذا وصلوا باعوا بضائعهم، والذين يتلقونهم لا يبيعونها سريعًا في الغالب، وإنما يتربّصون بها السعر فيكون ذلك في معنى بيع الحاضر للبادي.

وبهذا يُعلم أن السلعة إذا لم يهبط صاحبها بها إلى السوق المعدّ لبيعها، فإنه يحرم تلقي أصحابها، ومن تلقاها قبل بلوغها السوق فإنه آثمٌ بذلك؛ لما فيه من الخداع والتغرير بالبائع والإضرار بأهل السوق.

وإذا حصل غبنٌ للبائع فإن له الخيار إذا قدم السوق وعرف الأسعار، له الخيار بين إمضاء البيع أو فسخه.

وبهذا يُعلم خطأ ما يرى من وقوف بعض الناس خارج الأسواق، وتلقي أصحاب البضائع والشراء منهم قبل دخولهم السوق؛ فإن هذا يدخل في تلقي الركبان الذي نهى عنه رسول الله .

بيع النجش

ومما نهى عنه الرسول : النجش.

ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أن رسول الله نهى عن النجش” [11].

تعريف النجش

والنَجْشُ بفتح النون وسكون الجيم، هو في اللغة: تنفيرُ الصيد واستثارته من مكانه ليصطاد، يقال: نجشت الصيد أنجشه نجشًا، ومعناه في الشرع: الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شرائها.

قال الشافعي رحمه الله: “النجْش أن يحضر الرجل السلعة تباع، فيُعطي بها الشيء وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السُوَّام، فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يسمعوا سومه”.

وسُمّي الناجش بذلك لأنه يثير الرغبة في السلعة، وقد تكون زيادة الناجش بمواطأة مع البائع أو بغير مواطأة، فإن كانت بمواطأة اشتركا جميعًا في الإثم، وإن كانت بغير مواطأة اختص الإثم بالناجش قال ابن بطال رحمه الله: “أجمع العلماء على أن الناجش عاصٍ بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، ونقل ابن منذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر وهو رواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة البائع أو صنعه، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار”.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “منهم من أفسد بيع النجش إذا نجش البائع أو واطأ، قال: والتحقيق أن هذا النوع لم يكن النهي فيه لحق الله، بل لحق الإنسان، بحيث لو علم المشتري أن صاحب السلعة ينجش ورضي بذلك جاز، وكذلك إذا علم أن غيره ينجش، ولما كان النهي هنا لحق الآدمي لم يجعله الشارع صحيحًا لازمًا، بل أثبت حق المظلوم وسلّطه على الخيار، فإن شاء أمضى وإن شاء فسخ، فالمشتري مع النجش إن شاء ردّ المبيع فحصل بهذا مقصوده، وإن شاء رضي به إذا علم بالنجش، وأما كونه فاسدًا مردودًا وإن رضي به، فهذا لا وجه له”.

وألحق الفقهاء بالنجش ما إذا قال البائع: أُعطيت بها كذا -وهو كاذب-؛ ولذلك لتغريره بالمشتري، وألحقوا به كذلك ما إذا زاد البائع بنفسه والمشتري لا يعلم، كأن يحرَّج على سلعة من السلع فيزيد البائع بنفسه من غير أن يسومها أحد، فهذا يدخل في معنى النجش المنهي عنه.

بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إنه أعظم من نجش الأجنبي”.

ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وإلى حلقة قادمة إن شاء الله.

أستودعكم الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2274، ومسلم: 1520.
^2 رواه البخاري: 2161، ومسلم: 1523.
^3 رواه مسلم: 1523.
^4 رواه مسلم: 1522.
^5, ^6 سبق تخريجه.
^7 رواه أبو داود: 3441.
^8 رواه البخاري: 2158، ومسلم: 1515.
^9 رواه البخاري: 2165، ومسلم: 1517، واللفظ للبخاري.
^10 رواه مسلم: 1519.
^11 رواه البخاري: 6963، ومسلم: 1516.
مواد ذات صلة
zh