إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الأخوة المستمعون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام الصيام، وأتحدث معكم في هذه الحلقة عن:
مُفطِّرات الصيام
وقد ذكر الله أصولها في قوله سبحانه: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، فأباح الله تعالى الأكل والشرب والجماع في ليل رمضان حتى يتبيَّن الصبح: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ.
ولهذا: فإن الإمساك لا يكون إلا بتَبيُّن الصبح الذي يكون مع أذان الفجر، أما ما يوجد في بعض التقاويم من الإمساك قبل أذان الفجر بعشر دقائق أو بربع ساعةٍ، فإن هذا لا أصل له، ليس هناك شيءٌ اسمه: إمساك قبل الأذان، وإنما يكون الإمساك مع أذان الفجر، عند تَبيُّـن الصبح، عند تبيُّـن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
أصول المفطرات
ويـمكن إجمال مُفطِّرات الصيام في سبعة أنواعٍ:
- الأول: الجماع، وهو أعظمها وأكبرها إثـمًا، ويلزم من وقع فيه في نـهار رمضان:
- أولًا: التوبة.
- ثانيًا: الكفارة المغلَّظة، وهي: عتق رقبةٍ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
- ثالثًا: قضاء ذلك اليوم بعد رمضان.
- رابعًا: وجوب الإمساك في ذلك اليوم الذي وقع فيه الجماع.
- الثاني: إنزال المَنِيِّ باختياره، أما إذا كان بغير اختياره؛ كأن يكون باحتلامٍ ونحوه، فإنه لا يُفسد الصوم.
- الثالث: الأكل والشرب أيًّا كان نوع المأكول أو المشروب، وأما شم الروائح فلا يُفطِّر الصائم؛ لأنه ليس للرائحة جِرْمٌ يدخل إلى الجوف.
- الرابع: ما كان بمعنى الأكل والشرب، ومن ذلك: حَقن الدم في الصائم؛ مثل أن يصاب بنزيفٍ فيحقن به دمٌ، فإنه يُفطر بذلك؛ لأن الدم هو غاية الغذاء بالطعام والشراب.
ومن هذا القبيل: الإبر المغذية التي يُكتفى بـها عن الأكل والشرب؛ فإنـها في معنى الأكل والشرب؛ ولهذا فقد يستغني بـها المريض مدةً طويلةً من غير أن يتناول مطعومًا أو مشروبًا.
وأما الإبر غير المغذية فإنـها ليست بـمفطرةٍ على القول الراجح؛ لأنـها ليست أكلًا ولا شربًا، ولا بـمعنى الأكل والشرب.
ومن ذلك أيضًا: بخاخ الربو البخاخ الذي يستخدمه المصابون بالربو؛ لأجل توسعة مجاري النَّفَس، فإن هذا لا يفسد الصوم؛ وذلك لأنه إنـما يصل إلى القصبات الهوائية، ولا يصل إلى المعدة، وقد يصل إلى المعدة منه أجزاءٌ يسيرةٌ جدًّا لا تفسد الصوم، ولا تؤثر عليه، فهي أشبه بـما يجده الصائم من بقاء أثر ملوحة الماء بعد المضمضة، فإنها تختلط هذه الملوحة بالريق، وربما ابتلعها الصائم ولا تُفسد الصوم بإجماع العلماء.
هكذا أيضًا ما قد يصل من رذاذٍ يسيرٍ جدًّا من بخاخ الربو قد يصل هذا الجزء اليسير جدًّا إلى المعدة، لكنه لا يؤثر على الصوم ولا يفسد الصوم. - الخامس: إخراج الدم بالحجامة؛ لقول النبي : أفطر الحاجم والمحجوم [1]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وأحمد، قال البخاري: “ليس في الباب أصح منه”.
والقول بأن الحجامة تفسد الصوم، هو الذي عليه كثيرٌ من المـحققين من أهل العلم، واختاره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، رحمة الله تعالى على الجميع؛ وذلك لهذا الحديث وما جاء في معناه.
وفي معنى إخراج الدم بالحجامة: إخراجه بالفصد ونحوه مما فيه إخراجٌ لدمٍ كثيرٍ.
وعلى هذا: فليس للصائم أن يتبـرَّع بدمه في نـهار رمضان، ليس للصائم أن يتبـرع بإخراج دمه في نـهار رمضان، إلا أن يكون هناك ضرورةٌ، فيتبـرع بالدم في هذه الحال لأجل الضرورة، ثم إنه يقضي المتبـرع ذلك اليوم الذي تبـرع فيه بعد رمضان.
وأما خروج الدم اليسير برعافٍ ونحوه، فإنه لا يحصل به التفطير، ولا يؤثِّر على صحة الصوم، وخروج الدم بغير اختيار الإنسان عمومًا لا يفسد الصوم.
وأما تحليل الدم: فإن كان الدم المستخرج لأجل التحليل يسيرًا، فلا بأس به ولا يفسد الصوم، أما إذا كان الدم المستخرج لأجل التحليل كثيرًا، فإنه يأخذ حكم الحجامة، وسبق القول بأن الراجح: أن الحجامة تفطر الصائم، وبناءً على ذلك: فإن الدم الكثير المستخرج لأجل التحليل يفسد الصوم.
وعلى هذا: فينبغي تأجيله إلى الليل، إلا إذا احتاج الإنسان إلى هذا التحليل، فلا بأس بأن يفعله في النهار، مع قضاء ذلك اليوم. - السادس من المفطِّرات: التقيؤ عمدًا؛ لقول النبي : من ذَرَعَه القيء فليس عليه قضاءٌ، ومن استقاء فليقضِ [2]، أخرجه أبو داود وغيره، وهو حديثٌ صحيحٌ، ومعنى: ذرعه القيء أي: غَلبَه، فإذا غلبه القيء رغمًا عنه لم يفطر، أما إذا تعمد القيء؛ إما بفعله، أو بالشم، أو بالنظر، فإنه يفسد صومه بذلك.
- السابع من المفطِّرات: خروج دم الحيض والنفاس، فمتى رأت المرأة دم الحيض أو النفاس، فسد صومها، سواءٌ كان ذلك في أول النهار أم في آخره، حتى ولو كان قبل غروب الشمس بلحظةٍ، أما إذا أحست بانتقال الدم، لكنه لَـم يبرز إلا بعد الغروب، فإن صومها صحيحٌ.
أيها الأخوة المستمعون، هذه هي أصول المفطرات.
ما يشترط للفطر بهذه المفطرات
ويشترط للفطر بها ثلاثة شروطٍ:
- الأول: العلم، فإن كان جاهلًا بالحكم الشرعي؛ مثل أن يظن أن هذا الشيء غير مفطِّرٍ فيفعله، أو كان جاهلًا بالحال، أي: الوقت؛ مثل أن يظن أن الفجر لم يطلع، فيأكل ويشرب وقد طلع الفجر في حقيقة الأمر، فإن صومه صحيحٌ.
ويدل لذلك: قول الله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وجاء في “صحيح مسلمٍ” أن الله قال: قد فعلت [3]. - الثاني: أن يكون ذاكرًا، فإن كان ناسيًا فصيامه صحيحٌ؛ لِمَا جاء في “الصحيحين” عن أبي هريرة أن النبي قال: من نسي وهو صائمٌ فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنـما أطعمه الله وسقاه [4].
- الثالث: أن يكون مختارًا، فإن كان مكرهًا فصيامه صحيحٌ؛ لقول الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فإذا رفع الله حكم الكفر عمن أكره فمَن دونه من باب أولى، ولقول النبي : عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه [5].
وبناءً على هذا: لو أن المرأة أُكرهت على الجماع في نـهار رمضان، فليس عليها شيءٌ، صومها صحيحٌ، ولا يلزمها قضاءٌ ولا كفارةٌ، والقضاء والكفارة على المكرِه لها.
أيها الإخوة المستمعون، هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.