عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
مسائل من أحكام قضاء الصوم، وصيام النافلة
حكم المبادرة بقضاء الصوم والتتابع فيه
من كان عليه أيامٌ أفطرها من رمضان، فينبغي له المبادرة إلى قضائها بعد يوم العيد مباشرةً؛ لأن هذا أسرع في إبراء الذمَّة وأحوط، والإنسان لا يدري ما يعرض له، وله أن يؤخره إلى آخر شعبان، بشرط: أن يكون الباقي من شهر شعبان بقدر ما عليه من القضاء.
لقول عائشة رضي الله عنها: “كان يكون عليَّ الصيام من شهر رمضان، فما أقضيه حتى يجيء شعبان”.
ويستحب في القضاء أن يكون متتابعًا.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في استحباب التتابع في قضاء رمضان؛ لأنه أشبه بالأداء، وفيه خروجٌ من الخلاف، ولا يجب -أي: التتابع-“.
حكم التطوع بالصوم ممن عليه قضاء
وهل يجوز التطوُّع بالصوم، ممن عليه صوم فرض؟
اختلف العلماء في هذه المسألة:
- فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز ولا يصح، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
لقول النبي : اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء [1].
- وذهب بعض العلماء إلى جواز التطوُّع بالصوم قبل القضاء، ما لَـم يضق الوقت، وهذا هو المذهب عند الحنفية والمالكية.
واستدلوا بعموم قول الله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فدلَّت الآية على أن القضاء على التراخي، فيجوز التطوُّع قبل القضاء.
ولقول عائشة رضي الله عنها: “كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شهر شعبان؛ لمكان رسول الله ” [2]، وقياسًا على ما إذا تَنفَّل قبل أن يصلي فريضة مع سعة الوقت.
وهذا القول الأخير، وهو: أنه يجوز التطوع بالصوم قبل القضاء، هذا هو الأقرب في هذه المسألة، والله تعالى أعلم، ولكن الأولى بالمسلم أن يبادر بقضاء الصوم الواجب قبل التطوُّع؛ لأن هذا أسرع في إبراء ذمَّته؛ ولأنه لا يدري ما يعرض له.
حكم صيام الست لمن عليه قضاء
وأنبِّه هنا: إلى أن صيام ستٍّ من شوال لا يُقدَّم على صيام قضاء رمضان، ولو قُدِّم صار نفلًا مطلقًا، ولـم يحصل على ثوابـها المذكور في الحديث: من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوال؛ كان كصيام الدهر [3]؛ لأن لفظ الحديث: من صام رمضان، ومن كان عليه قضاءٌ فإنه لا يصدق عليه أنه صام رمضان، وإنـما صام بعضه.
وهذا القول هو الأقرب في هذه المسألة، وإن كانت محل خلافٍ بين أهل العلم، وقد اختار هذا القول سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله، حيث سُئل كما في مجموع الفتاوى لسماحته في: (15/ 393): “هل يجوز صيام ستٍّ من شوال، قبل صيام قضاء رمضان؟
قال رحمه الله: “اختلف العلماء في ذلك، والصواب أن المشروع تقديم القضاء على صوم الست، وغيرها من صيام النفل؛ لقول النبي : من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر، خرَّجه مسلمٌ في صحيحه، ومن قدم الست على القضاء، لَـم يتبعها رمضان، وإنـما أتبعها بعض رمضان؛ ولأن القضاء فرضٌ، وصيام الست تطوُّع، والفرض أولى بالاهتمام والعناية”.
هل تبييت النية لصيام الست شرط لحصول الفضل الوارد فيها؟
وهل يشترط لحصول الفضل الوارد في الحديث: من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر كله [4]، هل يشترط لذلك: تبييت النية من الليل؟
هذه المسألة متفرعة عن مسألة أخرى، وهي أن من أنشأ نية صوم النافلة من النهار، ولَـم يأت قبله بـمفطِّر من بعد طلوع الفجر، فهل يُثاب ثواب يومٍ كامل، أو يثاب من وقت النية فقط؟
هذا محل خلافٍ بين العلماء، والراجح -والله أعلم- أنه يثاب من وقت النية فقط؛ لقول النبي : إنـما الأعمال بالنيات، وإنـما لكل امرئٍ ما نوى [5]، وهذا الرجل لَـم ينو إلا في أثناء النهار، فيحسب له الأجر من حين نيَّته، وبناءً على هذا: فلا بد من تبييت النية من الليل في صيام الست من شوال، للحصول على الفضل الوارد فيها؛ لأنه إذا لَـم يُبيِّت نية الصيام فيها، ولو ليومٍ واحدٍ منها، فإنه لا يصدق عليه أنه صام ستًّا من شوال، وإنـما صام بعضها.
وأُنبِّه هنا: إلى أن قولنا: إنه يُشترط للحصول على الفضل الوارد في صوم الست من شوال: تبييت النيَّة من الليل، لا يعني أنه لا يصح الصوم، بل الصوم صحيح؛ لكونه صوم نافلة، وصوم النافلة يصح إنشاء النية فيه أثناء النهار، لكن الصائم هنا لا يحوز على الفضل الوارد في صيام الست؛ لأن نية الصيام لَـم تكن شاملةً لجميع هذه الست، وإنـما لبعضها، والله تعالى أعلم.
حكم تأخير القضاء إلى ما بعد رمضان آخر
ولا يجوز تأخير القضاء إلى ما بعد رمضان آخر، من غير عذر؛ لقول عائشة رضي الله عنها: “كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان” [6]، والمراد بالاستطاعة هنا: الاستطاعة الشرعية، أي: لا أستطيع شرعًا؛ وذلك مراعاةً لرسول الله ، وحسن عشرته.
وفي هذا دلالةٌ على أن القضاء لا يجوز تأخيره إلى ما بعد رمضان آخر.
ولأنه إذا أخَّره إلى ما بعد رمضان، كان كمن أخَّر صلاة الفريضة إلى وقت الثانية من غير عذرٍ، وهو غير جائزٍ، فإن أخَّر القضاء إلى ما بعد رمضان الثاني بلا عذر، كان آثـمًا وعليه التوبة والقضاء.
ويرى بعض الفقهاء إلى أنه يجب عليه مع القضاء أن يطعم عن كل يومٍ مسكينًا؛ لِمَا روي عن ابن عباسٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما: أنـهما كانا يأمران بذلك.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجب عليه الإطعام في هذه الحال، وإنـما يستحب؛ لأن الله تعالى قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فلم يُوجِب الله تعالى عليه إلا عِدَّةً من أيامٍ أخر، ولـم يُوجِب أكثر من هذا، ولـم يثبت عن النبي أنه أمر من أخَّر قضاء رمضان إلى ما بعد رمضان الثاني بالإطعام، وإن كان قد روي في ذلك حديثٌ، لكنه حديثٌ ضعيفٌ جدًا لا تقوم به الحجة، وهذا القول هو الأقرب في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- وذلك لقوة أدلته، فلا نُلزِم عباد الله بـما لـم يلزمهم به الله، إلا بدليلٍ تبرأ به الذمَّة.
أما ما روي عن ابن عباسٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما في هذا، فيحمل على أنـهما أمرا بذلك على سبيل الاستحباب لا الوجوب، والله تعالى أعلم.
حكم من مات وعليه صوم
ومن مات عليه صومٌ، استحب لأحد أقاربه أن يصوم عنه؛ لقول النبي : من مات وعليه صومٌ؛ صام عنه وليه [7]، متفقٌ عليه، وحمله بعض الفقهاء على صوم النذر، والصواب أنه يشمل صوم النذر، والصوم الواجب بأصل الشرع، أي: أنه يشمل كل صومٍ واجبٍ؛ لعموم الحديث: من مات وعليه صومٌ، صام عنه وليه.
فإن قوله عليه الصلاة والسلام: وعليه صومٌ، نكرةٌ غير مُقيَّدةٍ بصومٍ معيَّـن، فتشمل كل صومٍ واجب.
والذي يُصام عنه هو الذي تـمكَّن من القضاء ولـم يفعل حتى مات، أما من استمرَّ به المرض حتى مات؛ فلا شيء عليه، فلا يُصام ولا يُطعَم عنه؛ لأن الواجب عليه القضاء ولـم يدركه، إلا إذا كان مريضًا مرضًا لا يُرجى برؤه، فهذا يجب عليه الإطعام ابتداءً لا بدلًا، فيطعم عنه عن كل يومٍ مسكينًا.
أيها الإخوة، هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.