عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمُرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام الصيام، وأتحدث معكم في هذه الحلقة عن شروط من يلزمه الصيام.
شروط وجوب الصيام
الشرط الأول: وهو الإسلام
فلا يجب الصيام على الكافر؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]؛ فناداهم بوصف الإيمان؛ ولقوله سبحانه: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54].
ولأن الصوم عبادة يفتقر إلى النية، فكان من شرطه الإسلام فلا يصح من الكافر ولو كان مرتدًا.
ولكن يعاقب الكافر على ترك الصيام، كما أنه يُعاقب على ترك الصلاة، وعلى ترك الزكاة، وعلى جميع فروع الشريعة؛ ويدل لذلك قول الله تعالى عن المجرمين: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إلى قوله: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:42-46].
فهذا يدل على أنهم كفار ومع ذلك حوسبوا على ترك الصلاة، فهكذا يُحاسب الكافر أيضًا على ترك الصيام.
ولهذا لا يؤمر الكافر بالصيام؛ لأنه لا بد فيه من نية، والنية لا تصح من الكافر، لكن نأمره بترك المجاهرة بتناول الأكل والشرب والمفطرات في المجتمعات الإسلامية، وأنه إذا أراد أن يتناولها فإنه يتناولها سِرًّا؛ احترامًا لمشاعر المسلمين.
الشرط الثاني: التكليف
وذلك بأن يكون بالغًا عاقلًا، ويدل لذلك قول النبي : رُفِع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ [1].
فغير البالغ لا يجب عليه الصيام، لكن يستحب أن يؤمر به؛ لأجل أن يتدرَّب وأن يتمرَّن عليه.
وهكذا غير العاقل لا يجب عليه الصيام، ولا يُطعم عنه؛ لأنه مرفوع عنه القلم.
الشرط الثالث: القدرة على الصيام
فغير القادر على الصيام لمرض أو غيره لا يلزمه الصيام، ولكنه يؤمر بالقضاء فيما بعد؛ لقول الله : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
وأُنبِّه هنا إلى أن بعض المرضى يتحرَّج من الفطر في نهار رمضان، وأقول: إنَّ الله الذي شرع الصيام هو الذي أباح الفطر للمريض.
الشرط الرابع: الإقامة
فالمسافر لا يلزمه الصيام، بل له أن يفطر، ويقضي بعد رمضان؛ لقول الله : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
وهكذا أيضًا نجدُ أن من المسافرين من يتحرَّج من الفطر في نهار رمضان، ونقول: إنَّ الله الذي شرع الصيام هو الذي شرع الفطر للمسافر.
وإذا أسلم الكافر في نهار رمضان، فهل يلزمه الإمساك والقضاء؟
اختلف العلماء في هذه المسألة:
- فقال بعضهم: يلزمه أن يمسك بقية يومه، ويقضيه فيما بعد، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
- وقال آخرون: إنه يمسك ولا يقضي، وإليه ذهب الحنفية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وهو الأقرب للأصول والقواعد الشرعية؛ لأن العبادات لا تلزم قبل بلوغها المُكلَّف.
وإذا زال العذر عمن كان معذورًا بالفطر ِ كحائض ونفساء طهرتا أثناء النهار، أو مسافر قدم مفطرًا، فهل يلزمهم الإمساك؟!
اختلف العلماء في هذه المسألة:
- فمن أهل العلم من قال: إنه لا يجب الإمساك عليهم في هذه الحال وإنما يجب القضاء.
واحتجوا لهذا بما روي عن ابن مسعود قال: من أكل أول النهار فليأكل آخره [2]، رواه البيهقي.
قالوا: ولأنه أبيح له الفطر أول النهار، فله أن يستديمه إلى آخره كما لو دام العذر.
قالوا: ولا فائدة من إمساكه؛ ولأنه قد أفطر بعذر شرعي، ولم يجب الله تعالى على عباده صيام نصف يوم.
- والقول الثاني في المسألة: أنه يجب الإمساك والقضاء؛ وهذا هو مذهب الحنابلة والحنفية.
وحجتهم هو احترام الزمن؛ ولأنه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام، فإذا طرأ بعد الفجر أوجب الإمساك كقيام البينة بالرؤية.
هذه هي أقوال العلماء في المسألة؛ والأقرب –والله أعلم- هو القول الثاني وهو أنه يجب الإمساك والقضاء.
ويدل لذلك حديث سلمة بن الأكوع أن النبي أمر رجلًا من أسلم أن أذِّن في الناس يوم عاشوراء أن: من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء [3]، متفق عليه.
هذا الحديث فيه الأمر من النبي لمن أكل بالإمساك بقية اليوم، ولم يقل النبي : إنه لا فائدة من الإمساك بقية اليوم لكونه قد أفطر أول النهار، فإنه مأجور ومثاب على ذلك الإمساك، وإن كان لا يصح أن يسمى صيامًا شرعًا؛ لكونه أقل من يوم، لكنه يؤجر ويثاب على ذلك الإمساك.
وهذا القول أيضًا هو الأحوط في هذه المسألة؛ وبناء على ذلك نقول: إن الأقرب –والله أعلم- في حق الحائض والنفساء إذا طهرتا أثناء النهار، وهكذا المسافر إذا قدم أثناء النهار، فإن الأحوط في حقهم أن يمسكوا جميعًا، وهم مأجورون ومثابون على ذلك إن شاء الله تعالى، مع قضاء ذلك اليوم بعد رمضان.
حكم الإفطار لكبير السن والمريض
ويجوز لكبير السن الذي يشق عليه الصيام، وهكذا المريض مرضًا لا يرجى برؤه لهما الفطر في نهار رمضان مع الإطعام عن كل يوم مسكينًا، ويدل لذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]. قال: ليست بمنسوخة هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم [4]، رواه البخاري.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: “وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام، فقد أطعم أنس بن مالك بعدما كَبُرَ عامًا أو عامين كل يوم مسكينًا، خبزًا ولحمًا وأفطر” [5].
كيفية الإطعام
ولكن ما كيفية الإطعام؟!
اختلف العلماء في كيفية الإطعام، فذهب بعضهم إلى أنه مُقدَّر واختلفوا في تقديره:
- فمنهم من قال: إنه مد بُرٍّ، أو نصف صاع من غيره، وهذا هو مذهب الحنابلة.
- ومنهم من قال: نصف صاع من بُرٍّ، وصاع من غيره، كما هو مذهب الحنفية.
- ومنهم من قال: إنه مد لكل مسكين، وهذا هو مذهب الشافعية.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الإطعام غير مُقدَّر، وأنه يرجع في ذلك إلى عرف الناس، فما عدَّه الناس في عرفهم إطعامًا فهو إطعام، وقد اختار هذا القول أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
إذ أن التحديد بابه التوقيف، ولم يرد ما يدل على تحديد مقدار الإطعام؛ ولهذا فما يسمى إطعامًا عُرفًا، فإنه يجزئ.
وبناء على هذا لو أنه جمع المساكين فغدَّاهم أو عشاهم أجزأ ذلك؛ لأنه يصدق عليه أنه قد أطعمهم.
وهذا إنما هو في حق الكبير الذي يشق عليه الصيام، وفي حق المريض مرضًا لا يرجى برؤه.
أما المريض مرضًا يرجى برؤه، فإنه يفطر ويقضي بعد رمضان؛ لقول الله : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
والذي يقرر أنَّ هذا المرض يرجى برؤه أم لا هو الطبيب، الطبيب المختص هو الذي يقرر هذا، فإذا كان في عرف الأطباء أن هذا المرض من الأمراض التي لا يُرجى برؤها في علم البشر، وإلا فالله على كل شيء قدير، إذا قرر الأطباء أن الله تعالى أجرى العادة أن هذا النوع من المرض لا يُرجى برؤه؛ فحينئذٍ يطعم هذا المريض عن كل يوم مسكينًا.
أما إذا كان من الأمراض التي يرجى برؤها، فإن هذا المريض ينتظر إلى أن يبرأ ويقضي فيما بعد.
والمريض إذا كان يترتب على صيامه ضرر فإنه يحرم عليه الصوم، لقول الله : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء:29]، ولقوله سبحانه: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، ولقول النبي : لا ضرر ولا ضرار [6].
أما إذا كان لا يضره الصوم، لكنه يشق عليه، فإنه يتأكد في حقه الفطر، ويُكره له الصوم؛ لأنه خروج عن رخصة الله تعالى، وتعذيب لنفسه، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يُكره أن تؤتى معصيته.
أيها الإخوة المستمعون، هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة.
ونستكمل الحديث عن بقية مسائل الصيام في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.