جدول المحتويات
المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير (إذاعة القرآن الكريم)، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلم. يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: مرحبًا، وحياكم الله، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
عصر التدوين والأئمة المجتهدين
المقدم: أحسن الله إليكم، شيخنا. لا يزال الحديث حول الأدوار التي مَرَّ بها الفقه الإسلامي، وكنا قد تحدثنا عن الدور الفقهي الأول والثاني والثالث، وبدأنا الحديث في الدور الرابع وهو عصر التدوين والأئمة المجتهدين، وأخذنا جملة من الملامح المتعلقة بهذا الدور، فإن كان بقي هناك شيءٌ يتعلق بهذا الدور فأتحفونا به جزاكم الله خيرًا.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
معالم عصر التدوين
فكان الحديث في الحلقة السابقة عن أدوار الفقه، ووصلنا إلى الدور الرابع وهو عصر التدوين والأئمة المجتهدين، والذي كما ذكرنا أنه يُعتبر عصر النهضة الحقيقية للفقه الإسلامي، وأنه اكتمل فيه مشروع تدوين السنة الذي بدأ على يد الزهري بأمر من عمر بن عبدالعزيز، وصُنِّفت فيه كتب السنة مثل "الموطأ" و"المسند" وكتب أصحاب السنن الأربع وغيرها.
ودُوِّن الفقه في هذا العصر وكثرت المؤلفات والمصنفات، ودُوِّنت أصول المذاهب التي يُعتمد عليها في الفقه وفي الاستدلال، وكانت كتب الفقه في هذا العصر تُعنى بالدليل وتهدف إلى إظهار الحق من غير تعصُّب، وقد غلب الجدل والمناظرات التي تهدف إلى إظهار الحق على بعض الكتب التي صُنِّفت في هذا العصر.
واستفاد الفقه من تدوين السنة والعلوم الأخرى في هذا العصر، فكان تدوينه أولًا مختلطًا بالسنة وأقوال الصحابة والتابعين كما -مثلًا- في "الموطأ" للإمام مالك، و"الجامع الكبير" لسفيان، و"اختلاف الحديث" للشافعي، وبجانب هذا المنهج في تدوين الفقه ظهرت كتب الفقه المجردة عن الأدلة: ككتاب "الخراج" لأبي يوسف، وكتب محمد بن الحسن الستة المشهورة بـ"كتب ظاهر الرواية": وهي "الجامع الصغير" و"الجامع الكبير" و"الزيادات" و"المبسوط"، وكذلك أيضًا "المدونة" للإمام مالك دوَّنها سحنون التنوخي، وأيضًا "مختصر المزني" و"مسائل أحمد"، كما ظهرت أيضًا الكتب الفقهية التي تُعنى بالدليل والتعليل ككتاب "الأم للشافعي".
وأيضًا دُوِّنت الكتب التي تُعنى بفتاوى الصحابة والتابعين وأقوالهم وأقضية الخلفاء الراشدين، مثل: كتاب "الفرائض" لسفيان الثوري، وكتاب "أخبار القضاة" لوكيع محمد بن خلف بن حيان، وكتاب "الأقضية" لأبي محمد بن عبدالله الهروي.
وأيضًا في هذا العصر نشأ علم أصول الفقه، ويُعَدُّ الإمام الشافعي أول من صنف في هذا الفن في كتابه المشهور "الرسالة"، وهو أول من رسم مناهج الاستنباط، وبيَّن كيف يستدل الفقيه للأحكام بطريقة منهجية صحيحة.
وعندما نقول: إنه نشأ علم أصول الفقه في هذا العصر، وإن مؤسسه محمد بن إدريس الشافعي، ليس معنى هذا أن أصول الفقه وقواعده لم تُعرف إلا عن الإمام الشافعي، فقد كانت معروفة في الجملة من عصر التشريع، فحيثما وُجد الفقه فثَمَّ منهجُ الاستدلال والاستنباط.
فمثلًا العلماء يعرفون أن النهي للتحريم، وأن الأمر للوجوب، وأن القرآن مُقدَّم على السنة، لكن هذا لم يكن مدوَّنًا ولا محدَّدَ المعالم حتى جاء الإمام الشافعي فوضع قواعده.
وعندما نقول: إن علم أصول الفقه تأسس في هذا العصر، وإن مؤسسه الإمام الشافعي، ليس معنى هذا أن أصول الفقه وقواعده لم تكن معروفة من قبل، فقد كانت معروفة من عصر التشريع، فكان العلماء مثلًا يعرفون أن الأمر للوجوب وأن النهي للتحريم، وأيضًا أن القرآن مقدَّمٌ على السنة، وأن النصوص يُقيِّد بعضها بعضًا ويُفسِّر بعضها بعضًا، لكن لم تكن مدونة ولا محدَّدة المعالم حتى جاء الإمام الشافعي فوضع أصول وقواعد هذا العلم.
المقدم: أحسن الله إليكم. يعني هذا -كما يقال أيضًا في علم النحو وما يتعلق به- كان متداوَلًا مسائله وتطبيقاته، لكن لم يُدوَّن إلا في عصر متأخِّر.
الشيخ: صحيح، وهذا يَرِد على كثيرٍ من العلوم: أنها تكون مُطبَّقة لكنها كتدوينٍ ومصنفات وأسسٍ وقواعد، وإبرازها ظهر فيما بعد.
اكتشاف الأوراق والقراطيس
وأيضًا هناك أمرٌ مهمٌّ اكتُشف في هذا الدور: وهو اكتشاف الأوراق والقراطيس.
القراطيس ورد تسميتها بذلك في القرآن، ويقال لها "الأوراق"، ويقال لها الكاغَد، ويقال لها "الكاغيد"، كلها مسميات للورق. اكتُشف الورق في زمن الدولة العباسية في عهد المأمون، على يد الفضل بن يحيى البرمكي. اكتشاف الورق في هذا العصر كان يُعتبر نقلة نوعية في تاريخ الفقه والعلوم بعامة، يسهل على الطلاب والعلماء تدوين العلوم وكتابة المؤلفات الضخمة.
ماذا كان يفعل العلماء قبل اكتشاف الورق؟
كانوا يُدوِّنون علومهم على الحجارة وعلى الألواح ونحوها، وهذه يصعب الحصول عليها، وتصعب الكتابة عليها، وأيضًا يصعب حملها وحفظها، فكان لاكتشاف الورق وصناعة الورق دورٌ بارزٌ وكبيرٌ في التأليف وفي التدوين وفي نشر العلم وحفظه.
وأيضًا في هذا العصر تم التمييز بين المصادر الفقهية، وأيضًا ترتيبها وتقديم بعضها على بعض في الاستدلال، وترجيح المذاهب الفقهية لبعض المصادر على بعض، وأُلِّفت الكتب التي تُبيِّن مصادر الاستدلال وأصوله عند كل مذهب.
فمثلًا أبو يوسف صاحب أبي حنيفة هو أول من وضع أصول المذهب الحنفي، وبيَّن قواعده وأصوله في الاستدلال، بينما نجد الإمام الشافعي وضع أصول مذهبه بنفسه خاصةً في كتاب "الأم" و"الرسالة". وأما بالنسبة للإمام مالك وأحمد فقد استنبط أصحابهما أصول مذهبيهما من أقوالهما وكلامهما وفقههما.
وأيضًا من معالم هذا العصر ظهور الفقه التقديري، يعني الافتراضي الذي لا يقف عند حدود ما وقع بل يتخطاه إلى الافتراض والتقدير؛ بافتراض الوقائع والحوادث التي لم تقع واستنباط أحكام فقهية تُلائمها. وهذا من باب: أولًا حتى يكون طالب العلم على معرفة فيما إذا وقعت، وأيضًا من باب التمرين للطلاب وتدريبهم على ذلك. وكان هذا النوع من الفقه نتيجة لتخصص الفقهاء لفقههم وجمع التلاميذ حولهم يسألونهم وهم يُجيبون، وأيضًا كان هناك توسُّعٌ في استعمال القياس والرأي وكثرة الجدل والمناظرة.
المقدم: أحسن الله إليكم. ولعل مما يُحمد في مثل هذه الافتراضات التي كان يذكرها الفقهاء السابقون: أنه قد استُفيد منها في زمننا المعاصر في بعض المسائل المعاصرة مما يمكن أن يُخرَّج على كلامهم في السابق.
الشيخ: نعم، هذا صحيح، وعندنا في قسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، رسائل علمية عن هذه المسائل التي افترضها الفقهاء السابقون وتحققت فيما بعد، وكنت مشرفًا على إحدى هذه الرسائل العلمية، وأكثر من عُني بهذا الفقه الحنفيةُ؛ فإنهم عندهم براعة في الجدل وعلم الكلام والتفنُّن في الرأي والقياس، فأكثَروا من هذه الفرضيات والوقائع التي لم تحدث، لكن استفاد منها الحقيقة العلماءُ بعدهم، استفادوا من هذه الافتراضات؛ لأن كثيرًا منها قد وقع في عصور لاحقة. وهذا يدل على عظمة الفقه الإسلامي: كيف أن الفقهاء السابقين افترضوا أمورًا لم تقع ثم وقعت فيما بعد.
ظهور مدرسة أهل الظاهر
وأيضًا في هذا العصر ظهرت مدرسة أهل الظاهر، أو ما يسمى بـ"مذهب الظاهرية"، والذي أسسه داود بن علي بن خلف الظاهري المتوفى سنة (270) للهجرة، وكان يقوم على التمسُّك بظواهر النصوص دون الرأي والقياس والمصالح والاستحسان وغيرها من الأدلة القائمة على الرأي. وكان داود في بداية أمره شافعيَّ المذهب، بل كما يقال في ترجمته كان متعصِّبًا للإمام الشافعي، ثم بعد ذلك استقل بمذهبه الخاص، ثم انقرض هذا المذهب؛ وذلك لفقده للمرونة ولكونه ليس له أصول منضبطة، فانقرض ولم يعد له أتباعٌ حتى أتى أبو محمد علي بن حزم المتوفى سنة (456) للهجرة فتبنَّاه من جديدٍ في الأندلس ونَشَره. لكن مع ذلك لم يكن له الأتباع الذين ينشرونه ويُدافعون عنه ويتبنَّونه كما كان للمذاهب الأربعة المشهورة، فكان أتباعه قلة إلى وقتنا الحاضر، أتباعه قلة، لا نقول: إنه انقرض انقراضًا تامًّا، له أتباعٌ لكنهم أصبحوا قلة أو ندرة.
المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- في هذه المسألة بخصوصها: بعض الباحثين يُورِد إشكالًا: هل يصح أن يُقال هو مذهبٌ متبوعٌ (المذهب الظاهري)؛ لأنهم يرون أن التقليد ممنوعٌ، ولا بد أن يجتهد كلُّ واحد في استنباط المسائل.
الشيخ: هذه المسألة يطول الحديث عنها، لكن كثيرًا من أهل العلم لم يعتبروه مذهبًا على غرار المذاهب الأربعة؛ لأنه ليس له أصولٌ منضبطةٌ؛ ولمخالفته لبعض المعاني الشرعية، فلم يعتبروه مذهبًا مستقلًّا، لكن يستفيد طالب العلم من كتبهم خاصةً في الاستدلال وفي الجمع وفي التعليل ونحو ذلك.
وأيضًا في هذا العصر ظهرت الرحلات العلمية للفقهاء والعلماء، وانتشرت انتشارًا واسعًا حتى لا تكاد تجد ترجمةً لعالمٍ من العلماء إلا ويقال في ترجمته: ارتحل إلى كذا وإلى كذا. والرحلات قديمًا كان فيها صعوبة، ليست كالرحلات في الوقت الحاضر؛ إذ إن من يرتحل لطلب العلم ينقطع عن أهله انقطاعًا تامًّا، فليس هناك وسائل تواصل، وليس هناك هواتف، وأيضًا الرحلة تستغرق وقتًا طويلًا وهي محفوفة بالمخاطر، وأيضًا عندما يغيب عن أهله ينقطع مدة طويلة بالسنين ولا يدري عنه أهله، ولا يدرون عن أحواله؛ كل ذلك لأجل طلب العلم وتحصيل العلم.
فاشتُهرت الرحلة في طلب العلم في هذا العصر، وفقهاء هذا العصر كثيرٌ، وقد انتشروا في الآفاق وتفرقوا في الأقطار، وفي آخر هذا العصر بدأ التعصُّب المذهبي الذي حدث لبعض أتباع الأئمة، وهذا ما برز في الدور الذي بعده الذي سنتحدث عنه.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم. لعلنا -إن رأيتم- إذًا أن نأخذ الأدوار تباعًا، ثم نرجع بعد ذلك للحديث عن المذاهب الفقهية وما يتعلق بها.
الشيخ: إن شاء الله تعالى.
عصر الجمود والتقليد وسد باب الاجتهاد
المقدم: أحسن الله إليكم، الدور الذي يليه هو الدور الخامس: وهو ما يُعرف بـ"عصر الجمود والتقليد وسد باب الاجتهاد"، فهلَّا أبرزتم لنا شيئًا من ملامح هذا العصر.
الشيخ: نعم، هذا العصر من عصور الفقه الإسلامي يُسمى بـ"عصر الجمود والتقليد وسد باب الاجتهاد"، يبدأ من منتصف القرن الرابع الهجري حتى سقوط الدولة العباسية سنة (656) للهجرة على يد المغول، الذين اجتاحوا العالم الإسلامي وأسقطوا الخلافة العباسية وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله.
أبرز ملامح عصر الجمود والتقليد
وأبرز ملامح هذا العصر: تكونت المذاهب الفقهية في الدور السابق الذي ذكرناه قبل قليل وتكلمنا عنه وهو الدور الرابع، وتميَّز بعضها عن بعض، وصار لكل مذهب أتباعٌ يُقلِّدونه، مما أدى إلى ركود الفقه في هذا العصر -يعني العصر الخامس- ووقوف العلماء عند المذاهب الفقهية السابقة والتمذهب بها والعكوف على كتبها والانشغال بما خلَّفه الأئمة في العصر السابق من فقه وفتاوى والتفريع على أصولهم وقواعدهم.
هذا كان له أثرٌ في ظهور التقليد والجمود وسَدِّ باب الاجتهاد، فانحصر دور الفقهاء في هذا العصر في تنظيم وترتيب الفقه المذهبي، وجمع فتاوى الأئمة، وتعليل أحكامهم والاستدلال لأقوالهم، وأيضًا تحقيق ما هو المذهب: ما هو المذهب عند الحنفية، ما هو المذهب عند المالكية، ما هو المذهب عند الشافعية، ما هو المذهب عند الحنابلة. وترجيح ما هو المذهب، وترجيح آراء علماء المذهب وأقوالهم على آراء وأقوال المذاهب الأخرى، فانحصر دور كثير من الفقهاء في ذلك، وشُغل غالب الفقهاء أيضًا في هذا العصر بالتأليف في مناقب الأئمة الأربعة والدعوة إلى التزام مذاهبهم ومنع انتقال المقلِّد من مذهبٍ إلى مذهب.
وأيضًا برز في هذا العصر بشكل كبير فتنة التعصب المذهبي، التي أدَّت إلى النزاع والخصومة والردود والمجادلات والتعصب الشديد للمذهب ولو كان مخالفًا للصواب، حتى بلغ بعض شيوخ الحنفية أنه قال: "كل آية أو حديث يُخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤوَّلٌ أو منسوخٌ"، يعني إلى هذه الدرجة؟! بل إنه من يُسنَد إليه منصبٌ من المناصب الدينية في الدولة العباسية كالإفتاء والقضاء ونحوها لا يُعيِّن في وظائفه إلا من كان على مذهبه؛ من شدة التعصب المذهبي. بل تعدَّى الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، تعدَّى إلى أنَّ بعض أتباع المذاهب الفقهية يتعامل مع المخالف له في المذهب وكأنه على ملة أخرى غير ملة المسلمين، فلا يُزوِّجه ولا يتزوج منه، ولا يُصلِّي خلفه. إلى هذه الدرجة؟!
لكن، مع هذا الوجه غير المشرق في هذا العصر، هناك وجهٌ مشرقٌ أيضًا: وهو أنه برز فيه علماء أفذاذ أَثْرَوْا ساحة الفقه العلمية بما أوجدوه من فنون وما أحدثوه من مصنفات جديدة خدمت الفقه ونفعته، فهناك جوانب مشرقة في هذا العصر.
ظهور فن القواعد الفقهية
وأيضًا في هذا العصر من الجوانب المشرقة أنه ظهر فَنُّ القواعد الفقهية، حيث وضع الفقهاء قواعد الفقه وصنفوا فيها.
القاعدة الفقهية تعريفها: "حكمٌ أغلبيٌّ يُتعرَّف منه حكم الجزئيات الفقهية المباشرة".
ومن أوائل من صنف في القواعد الفقهية: أبو الحسن الكرخي، حيث صنف "أصول الكرخي"، والتي أخذها من القواعد التي جمعها أبو طاهر الدباس، وشرحها أبو حفص عمر المعروف بنجم الدين النسفي. وأبو طاهر الدباس يقال: إنه أول من وضع قواعد الفقه.
وهناك قصة عجيبة تُتناقل في كتب أهل العلم عن أبي طاهر الدباس، فقد ذكر السيوطي قال: "حكى القاضي أبو سعيد الهروي أن بعض أئمة الحنفية بـ"هَراة" بلغه أن أبا طاهر الدباس إمام الحنفية بما وراء النهر رَدَّ جميع مذهب أبي حنيفة إلى سبع عشرة قاعدة؛ فسافر إليه، وكان أبو طاهر الدباس كفيفًا، وكان كل ليلة يُكرِّر تلك القواعد بمسجده بعدما يخرج الناس منه. فأتى الهرويُّ ودخل المسجد مختفيًا والْتَفَّ بحصير، وخرج الناس، وأغلق أبو طاهر الدباس المسجد، وجعل يسرد القواعد، فلما سرد سبع قواعد عطس الهروي الذي كان ملتفًّا في الحصير، فأحس به أبو طاهر فضربه وأخرجه من المسجد، ثم لم يزل يُكرِّرها بعد ذلك، فرجع الهروي إلى أصحابه وتلا هذه القواعد السبع".
وجمع أبو طاهر الدباس أهم قواعد مذهب أبي حنيفة في سبع عشرة قاعدة، ثم بعده -كما ذكرنا- أبو الحسن الكرخي، وهو أيضًا من أقران الدباس، والظاهر أن الكرخي أخذ القواعد التي جمعها أبو طاهر الدباس وأضاف إليها. وكذلك أيضًا هناك كتاب "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" وغيره من كتب قواعد الفقه التي ظهرت في هذا العصر.
ظهور علم الخلاف
وأيضًا ظهر في هذا العصر علم الخلاف أو ما يعرف بـ"الفقه المقارن": وهو علمٌ يبحث فيما اختلف فيه العلماء من أحكام، بعرض أقوالهم في المسألة الواحدة، وتحديد موضع الخلاف فيها، وأدلة كل فريق، وبيان القول الراجح بالدليل.
وقد بدأت معالم الخلاف المذهبي بين الفقهاء في العصر السابق -عصر التدوين والأئمة المجتهدين-، لكن في هذا العصر حُدِّدت معالمه وظهرت ملامحه، وأصبح فنًّا من فنون العلم تُصنَّف فيه المؤلفات. ومن أشهر المؤلفات المصنفة في هذا: الفقه المقارن أو علم الخلاف، منها مثلًا: "نهاية المطلب في دراية المذهب" لإمام الحرمين الجويني، وأيضًا "البيان" للعمراني، "بداية المجتهد" لابن رشد، وغيرها.
ولم يكن جميع علماء هذا العصر -كما ذكرنا- متعصبين، بل ظهرت طائفةٌ كبيرةٌ من الأئمة الكبار الذين بلغوا رتبة الاجتهاد؛ كالبيهقي مثلًا، الذي يقول عنه إمام الحرمين: "ما من فقيهٍ إلا وللشافعي عليه مِنَّةٌ إلا أبا بكر البيهقي؛ فإن المِنَّة له على الشافعي لتصانيفه لنصرة مذهبه".
وكذلك أيضًا أبو بكر البغدادي ظهر في هذا العصر، وله كتاب "التاريخ" وهو كتاب عظيمٌ.
وكذلك ابن عبدالبر أيضًا حافِظُ المَغْربِ صاحب المصنفات الكثيرة كـ"التمهيد" مثلًا و"الاستذكار".
وكذلك أيضًا ابن العربي، وله كتبٌ قيمةٌ كـ"عارضة الأحوذي"، و"أحكام القرآن".
وكذلك القاضي عياض أيضًا، له مصنفات جليلة القدر ومنها "الإكمال في شرح صحيح مسلم" كمَّل به كتاب "المُعلِم" للمازري، وأيضًا "مشارق الأنوار"، وغيرها من المؤلفات.
وكذلك أيضًا ابن هبيرة والكاساني، وأيضًا ابن رشد، وأيضًا شيخ الحنابلة الموفق ابن قدامة الذي صنف كتاب "المغني"، والذي يُعتبر موسوعة عظيمة في الفقه الإسلامي.
وكذلك أيضًا علماء كثير، ليس المقصود التتبع والحصر، وإنما المقصود التمثيل الذي يتبيَّن به أن هذا العصر وإن كان فيه التعصب قد برز، إلا أن فيه جوانب مشرقة، وظهر فيه علماء أجلاء كانت علومهم ومؤلفاتهم مُثريةً للفقه كاشفةً لمُشْكِلِه وخادمةً وموسعةً في علومه وقواعده.
عصر النهضة الفقهية
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان. بقي معنا الدور السادس -في الحقيقة- من أدوار الفقه الإسلامي: وهو عصر النهضة الفقهية، فلو بينتم لنا بعض ملامح هذا العصر.
ملامح عصر النهضة
الشيخ: نعم، هذا هو الدور السادس: وهو دور النهضة الفقهية وفتح باب الاجتهاد، وهو أطول أدوار الفقه الإسلامي؛ إذ إنه يبدأ من سقوط الدولة العباسية ويستمر في قول كثير ممن كتب في تاريخ الفقه إلى الوقت الحاضر.
ولكن المتأمل لهذا العصر ومستجداته وما كان من التدرج الفقهي في العصور السابقة، يتبيَّن أن تسمية هذه المدة التاريخية بـ"عصر اليقظة الفقهية" أو "النهضة الفقهية وفتح باب الاجتهاد" أنها غير دقيقة؛ لأن هذا العصر قد مَرَّ بمرحلتين متباينتين:
- المرحلة الأولى: مرحلة ضعفٍ وجمودٍ وتقليدٍ وتعصُّبٍ مذهبيٍّ امتدادًا للعصر السابق، امتدت من سقوط الدولة العباسية منتصف القرن السابع إلى منتصف القرن الثالث عشر الهجري تقريبًا.
- ثم كانت المرحلة الثانية من منتصف القرن الثالث عشر الهجري إلى وقتنا الحاضر، وغلبت عليه عوامل النهضة الفقهية وفتح باب الاجتهاد وإحياء الفقه وتجديد الفقه، وتعدَّدت فيه نواحي النهضة الفقهية.
أما المرحلة الأولى من هذا العصر من منتصف القرن السابع الهجري إلى منتصف القرن الثالث عشر فقد دَبَّ الفتور في نفوس كثير من الفقهاء، وانتشر التقليد وزاد التعصب المذهبي، وكان من أسباب ذلك: الدعاية القوية التي قام بها أنصار المذاهب الفقهية، وأيضًا تدوين المذاهب الفقهية، فإنه وإن كان خطوة جيدة في تاريخ الفقه إلا أن من آثاره أن الفقهاء فيما بعد أخذوا بتلك المدونات وصرفوا الهمم لفهمها ودراستها واستغنوا بها عن البحث والاجتهاد.
وأيضًا من أسباب ذلك: التحاسد والوشاية التي تقع من بعض الأقران بعضهم في بعض، وإن كانت هذه موجودة في كل عصر ومصر، لكن يقال إنها برزت في هذه الفترة بشكل أظهر.
وأيضًا كذلك: الإفراط في اختصار المصنفات السابقة ونظمها والعكوف عليها، وكذلك أيضًا الغلو في تعظيم الأئمة والتعصب لمذاهبهم وآرائهم حتى وإن كانت مخالفة للصواب والدليل. فكانت هذه هي العوامل التي أدت لهذا.
لكن، لم يكن جميع علماء هذا العصر على منهج الضعف والجمود والتقليد، فكما ذكرنا ظهر في هذا العصر طائفةٌ كبيرةٌ من الأئمة الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، مثلًا كالإمام أبي عبدالله القرطبي، وكذلك النووي ظهر أيضًا في هذه الفترة. والكمال بن الهمام ظهر في هذه الفترة أيضًا، وأيضًا الإمام العظيم أبو العباس ابن تيمية الحراني ظهر في هذه الفترة، وتلميذه الإمام العظيم ابن قيم الجوزية ظهر أيضًا في هذه الفترة. وكذلك الحافظ الذهبي، وأيضًا ابن مفلح، والحافظ ابن كثير، وأيضًا خليل بن إسحاق، والشاطبي، والحافظ ابن رجاء، والحافظ ابن حجر. وغيرهم من أئمة الأعلام ظهروا في هذه الفترة، ونفع الله تعالى بهم واستفاد منهم من أتى بعدهم إلى وقتنا الحاضر، والعلماء وطلبة العلم يفيدون من كتب هؤلاء الأئمة.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم هذا البيان والإيضاح.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: الشكر موصول لمن قام بتسجيل هذه الحلقة: أخي عثمان بن عبدالكريم الجويبر.
إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.