logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(78) برنامج مجالس الفقه- أدوار الفقه: عصر الخلفاء الراشدين

(78) برنامج مجالس الفقه- أدوار الفقه: عصر الخلفاء الراشدين

مشاهدة من الموقع

المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير (إذاعة القرآن الكريم)، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلم. يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين. فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

تتمة مدخل لدراسة الفقه

المقدم: أحسن الله إليكم، شيخنا. بدأنا في حلقة ماضية بالحديث عما يتعلق بتاريخ الفقه الإسلامي، وشرعنا في الحديث عن تعريف الفقه، وذكرنا أدوار الفقه الإسلامي، وبدأنا بالدور الأول وهو عهد التشريع، وتوقف بنا الحديث عند العهد الثاني من أدوار الفقه الإسلامي أو الدور الثاني من أدوار الفقه الإسلامي، وهو عصر الخلفاء الراشدين. فلو بينتم لنا أبرز ملامح هذا العصر.

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

 أما بعد:

الدور الثاني من أدوار الفقه الإسلامي: عصر الخلفاء الراشدين

فسبق في الحلقة السابقة القول بأن الفقه الإسلامي مَرَّ بعدة أطوار، وقلنا إن أبرز وأشهر الأقوال في تحديد أطوار الفقه أنها ستة، وبدأنا بالطور الأول وهو عهد التشريع، وتحدثنا عنه في الحلقة السابقة.

وننتقل في هذه الحلقة إلى الحديث عن الطور أو الدور الفقهي الثاني، وهو عصر الخلفاء الراشدين. وهذا الدور هو عصر الخلفاء الراشدين وأيضًا كبار الصحابة ، ويبتدئ من حين وفاة النبي ، أي في السنة الحادية عشرة من الهجرة، وينتهي بانتهاء الخلفاء الراشدين يعني في السنة الأربعين.

وهذا العصر يُعَدُّ من العصور المهمة في تاريخ الفقه الإسلامي؛ لأنه يُعتبر دور البناء والنضج؛ وذلك لأن الصحابة  في هذا العهد فسَّروا كثيرًا من النصوص وفتحوا أبواب الاستنباط الفقهي للأحكام الشرعية فيما لا نص فيه من الوقائع التي حدثت في عهدهم، فصدرت عنهم فتاوى وأحكام اجتهادية تُعَدُّ أساسًا للاجتهاد والاستنباط.

أبرز معالم عصر الخلفاء

وأبرز معالم هذا العصر أنه يُعتبر امتدادًا لعصر النبي ، وقد كان الصحابة  حريصين على الاقتداء بهدي النبي ، وعدم إحداث أيِّ تغيير في حياة الناس، وأن تسير الأمور كما كانت عليه في العهد النبوي. والصحابة  هم أعلم الناس بشريعة الله، وأعلم الناس بمراد الله ومراد رسوله ، وهم أتقى الناس، وكما قال النبي : خيركم قرني، ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يلونهم[1].

فهذا العصر يُعتبر امتدادًا لعصر النبوة، والنبي  قال: عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين مِن بعدي، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أخرجه أبو داود والترمذي[2]. والشاهد قوله: عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين، فأمرَ النبيُّ بالأخذ بسُنَّة الخلفاء الراشدين كالأخذ بسُنَّته: عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين.

واتفقت كلمة العلماء على فضل الصحابة وعظيم مكانتهم، وأنهم أقل الأمة تكلُّفًا، وأعمقهم علمًا بالكتاب والسنة وبالحلال والحرام، وقد أثنى الله تعالى على الصحابة في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، كما في قوله سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].

سبحان الله! نجد في القرآنِ الثناءَ العظيم على الصحابة ، ونجد الذم الشديد لبعض الأمم وأصحاب الملل التي انحرفت عن دين الله ​​​​​​​. لكن، سبحان الله! عندما نقرأ في كتاب الله ​​​​​​​ نجد الثناء العظيم على صحابة رسوله .

وأيضًا تميَّز هذا العصر بِوَرَع الصحابة عن الفتوى، فكانوا يتدافعون الفتوى فيما بينهم، ويتشاورون في الأحكام الشرعية قبل أن يُصدِروها.

قال عبدالرحمن بن أبي ليلى: "أدركت عشرين ومائةً من أصحاب رسول الله ، فما منهم مُحدِّثٌ إلا وَدَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفتٍ إلا وَدَّ أن أخاه كفاه الفُتيا".

وكان يأتي المستفتي ويوجد عددٌ من الصحابة في المجلس، فكُلٌّ يدفع الفتوى عن نفسه إلى أن ترجع إلى الأول، فكان الصحابة يتدافعون الفتيا؛ لأن علماء الصحابة كثيرٌ فيرى أنه مَكْفي بغيره.

منهج الخلفاء الراشدين في إصدار الأحكام الشرعية

وقد رسم الخلفاء الراشدون منهجًا عظيمًا في إصدار الأحكام الشرعية، يقول ابن القيم رحمه الله: "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكمٌ؛ نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله ، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل عَلِمتم أن رسول الله قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنةً سَنَّها رسول الله ؛ جمع رؤساءَ الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيءٍ قضى به. وكان عمر يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر  فيه قضاءٌ قضى به، وإلا جمع الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيءٍ قضى به".

جمع القرآن الكريم

وقد واجه الصحابة بعد وفاة النبي  أمورًا عظيمة تعاملوا معها بحكمة وحزم، مستمدين ذلك مما تلقوه من النبي ، وقد ارتَدَّ كثيرٌ من قبائل العرب عن الإسلام ووقف لهم الصحابة  موقفًا عظيمًا، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق ، وقف وقفته الشجاعة التي نصر الله تعالى بها الدِّين وثبَّته، وأعاد هؤلاء إلى شريعة الإسلام، ودرأ الفتنة.

وقد تسببت حروب الردة في وفاة كثير من القراء وحفظة القرآن من الصحابة، كثيرٌ منهم استُشهد في معركة اليمامة وفي حروب الردة، فخشي الصحابة على القرآن من التحريف أو الاختلاف، وأن يحصل كما حصل للملل الأخرى، فاجتمع رأيهم على جمع القرآن في مصحف واحد.

واختار أبو بكر الصديق لهذه المهمة الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنهما أحد كُتَّاب الوحي، قام زيد  بهذه المهمة العظيمة، فأخذ يتتبع القرآن يجمعه مما كُتب عليه زمن النبي من الألواح ومن جريد النخل وصدور الرجال ونحو ذلك، فجمع القرآن في الصحف.

وكانت هذه الصحف عند أبي بكر الصديق  حتى توفاه الله، ثم عند عمر زمن حياته، ثم عند حفصة بنت عمر وبقيت عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، فلما توسعت الدولة في عهد عثمان وكثر الداخلون في الإسلام وكان كثير منهم من العجم؛ حصل شيءٌ من الاختلاف في قراءة القرآن، فأصبح بعض الناس يُغلِّط بعضهم بعضًا ويُخطِّئ بعضهم بعضًا، فخشي الصحابة  الاختلاف على القرآن، ففزع من فزع من الصحابة إلى عثمان واقترحوا عليه أن يكتب القرآن درءًا للفتنة وجمعًا للمسلمين على مصحف واحد.

جاء في "صحيح البخاري" عن أنس: أن حُذَيفة بن اليَمَان قَدِم على عثمان ، فأفزع حذيفةَ ما رآه من اختلاف بعض الناس في قراءة القرآن، قال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدْرِك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب. فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر عثمان رضي الله عنه أربعة: وهم زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن حارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للقرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيدٌ في شيءٍ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رَدَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق من الآفاق بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرَق[3].

فوحَّد عثمان  الأمة على مصحف واحد، وكُتِبَ القرآن في عهد عثمان ، فكانت كتابة المصحف عملًا عظيمًا جدًّا وفَّق الله تعالى له صحابة نبيه ، وعصم الله تعالى به الأمة من الاختلاف في كتابه الكريم. ومن توفيق الله ​​​​​​​ أن هذا حصل في عهد الخلفاء الراشدين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي[4].

وأيضًا حصل عليه الإجماع من الصحابة ، فكان هذا العمل عملًا عظيمًا موفَّقًا، وتوحدت الأمة على هذا المصحف الذي كُتب في عهد عثمان، وأصبح يُسمى -تُسمى هذه الكتابة- بالرسم العثماني.

وحفظ الله تعالى القرآن الكريم من الضياع والتحريف والاختلاف، وآية من آيات الله سبحانه -وصَدَق الله تعالى إذ يقول-: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، تكفَّل الله تعالى بحفظ هذا القرآن، وما دام أن الله تعالى تكفَّل بحفظه فلا بد أن يتحقق الحفظ قطعًا.

ومن هذا الحفظ أن الله وفَّق صحابة نبيه  أولًا لجمع المصحف في عهد أبي بكر ، ثم لكتابته في مصحف واحد في عهد عثمان ، وقد كُتِب المصحف على العرضة الأخيرة التي عَرَض فيها النبيُّ المصحفَ على جبريل ، وعلى -أيضًا- لسان قريش. والقرآن نزل على سبعة أحرف، لكن رأى الصحابةُ الاتفاقَ على حرف واحد وهو حرف قريش، وليس المقصود بسبعة أحرف السبع القراءات كما يفهم بعض الناس، ليس هذا هو المقصود، إنما المقصود حرفٌ واحدٌ، لكن هذا الحرف الواحد -الذي هو لغةُ أو لسانُ قريشٍ- تفرعت منه هذه القراءات السبع وغيرها.

المقدم: إذًا؛ القراءات هي عن حرف واحد؟ راجعة إلى حرف واحد؟

الشيخ: نعم، عن حرف واحد وهو الحرف الذي جَمَع عليه الصحابة الناس في عهد عثمان ، وهو حرف قريش، وهو الذي كان على العرضة الأخيرة التي عرضها النبي  على جبريل .

المقدم: والأحرف السابقة ليس لها وجود الآن؟

الشيخ: نعم، ليس لها وجود؛ لأنها نزلت من باب التيسير على الناس؛ لأن العرب كانت قبائل متفرقة ويختلفون في حديثهم ولهجاتهم، فنزل على سبعة أحرف من باب التيسير، ثم بعد ذلك في عهد عثمان  لم يعد هناك حاجة لذلك، فرأى الصحابة أنه لا توجد حاجةٌ لبقية الأحرف، فجمعوا الناس على حرف واحد. وهذا من توفيق الله تعالى لصحابة نبيه .

هذا ما يتعلق بالقرآن.

الاستيثاق مما يُروَى عن النبي

وأما السُّنة فلم يُدوِّنها الصحابة  تدوينًا جامعًا؛ نظرًا لكون أكثر الصحابة يحفظها حفظًا تامًّا، ومعلومٌ أن أكثر الصحابة كانوا من الأميين، يعني لا يقرؤون ولا يكتبون، فكانوا يحفظون ما يسمعونه من النبي ، وكانت أيضًا الذاكرة عند الناس في ذلك الوقت قوية؛ لأن الأُمي يعتمد على ذاكرته، والذاكرة تقوى بالتمرين؛ ولذلك يحفظون القصائد من أول مرة يسمعونها، فالحفظ عندهم قوي، فكان أكثر الصحابة يحفظ كثيرًا من السنة حفظًا تامًّا، وإن كان بعض الصحابة قد دوَّن بعضها في صحفه الخاصة، كان بعضهم يكتب مثل عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره، ومع ذلك ألزم أبو بكر وعمر الصحابةَ  بالتثبت في رواية السُّنة حتى لا يدخل فيها الكذب والتدليس، فكانا يستوثقان ممن يَرْوِي السُّنة التي لم يسمعاها من قبل.

جاء في قصة أخرجها أبو داود عن قَبِيصة بن ذُؤَيْب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها؟ فقال: ما لَكِ في كتاب الله شيءٌ، وما علمتُ لك في سنة نبي الله   شيئًا؛ فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناسَ، فقال المغيرة بن شعبة: حضرتُ رسولَ الله أعطاها السدس. فقال أبو بكر : هل معك غيرك؟ قال محمد بن مسلمة: نعم، أنا سمعت النبي يقول ذلك. فأنفَذَه لها أبو بكر الصديق [5].

لاحظ هنا! كيف أن أبا بكر الصديق: أولًا توقَّف، ثم سأل الصحابة ، ثم شهد المغيرة ، ثم طلب مزيدًا من الاستيثاق حتى شهد معه غيره. وهذا يُبيِّن أنه في ذلك العصر كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يطلبان الاستيثاق في رواية الحديث.

وجاء في حديث أبي سعيد قال: كنت في مجلسٍ من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنتُ على عمر ثلاثًا فلم يُؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يُؤذن لي فرجعت، وقد قال رسول الله : إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له؛ فليرجع. فقال عمر: أقِم عليه البينة. يعني: أَقِمْ على هذا الحديثِ البينةَ أنك سمعته من النبي ، فقال أُبَيُّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. فكنتُ أصغرَ القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك. وهذه القصة في الصحيحين[6].

فهنا نلاحظ كيف أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما استوثقا الرواية عن النبي ، مع أن الرواة كانوا من الصحابة الثقات؛ كل ذلك من أجل الصيانة والحفظ والتحوط في رواية الأحاديث.

وفي هذا العصر لم يكن الخلاف بين الصحابة كثيرًا، كان الصحابة يُعظِّم بعضهم بعضًا ويُقدِّرون كبراءهم، ويحترمون أهل الشورى فيهم ويرجعون إليهم، وكان عامة الصحابة في عهد أبي بكر وعمر  موجودين في المدينة فيرجع إليهم مباشرة، وكانت الشورى سائدة في ذلك العصر، فكان الصحابة يتشاورون فيما بينهم، كانت تقع نوازل في عهد الصحابة، وفي عهد الخلفاء الراشدين وقعت عدة نوازل، فكانت طريقةُ الخلفاء الراشدين في التعامل مع تلك النوازل الاجتهادَ الجماعي، يجتمعون ويتشاورون، ثم يتشاور فقهاء وعلماء الصحابة؛ حتى يخرجوا برأيٍ واحد.

نذكر من ذلك على سبيل المثال.

المقدم: أحسن الله إليكم، هل يمكن أن يكون هذا صورةً مِن الصور المتقدمة في المجامع الفقهية التي نراها في زماننا المعاصر الآن؟

الشيخ: نعم، صحيح، المجامع الفقهية الآن والهيئات العلمية وجهات الاجتهاد الجماعي المعاصر هي صورة من صور الاجتهاد المعاصر في زمن الصحابة، فكان الاجتهاد الجماعي موجودًا في زمن الصحابة، وفي زمن الخلفاء الراشدين، وفي العصور التي بعدهم، لكن في وقتنا الحاضر تشكَّل هذا الاجتهاد الجماعي على شكل مجامع فقهية وهيئات ومؤسسات علمية.

صورة من صور الاجتهاد في عصر الخلفاء الراشدين

أذكر في هذا قصة لأُبَيِّن كيف أن الصحابة كانوا يجتمعون ويجتهدون اجتهادًا جماعيًّا ويَصْدُرون عن رأيٍ واحدٍ عند وقوع النازلة، هذه قصةٌ أوردها البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس: أن عمر بن الخطاب خرج بالجند إلى الشام، حتى إذا كان بسَرْغَ  -يعني بلدة في طريقه إلى الشام- لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجَرَّاح وأصحابُه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، يعني الطاعون، قال ابن عباس: فقال عمر : ادْعُ لي المهاجرين الأولين.

فدعاهم فاستشارهم، استشار عمرُ المهاجرين الأولين وأخبرهم أن الوباء قد وقع، فكيف نفعل؟ هل نستمر، أو نرجع إلى المدينة؟ فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجتَ لأمرٍ ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله ، ولا نرى أن تُقدِمهم على هذا الوباء.

فلما اختلفوا قال عمر : ارتفعوا عني. ثم قال لابن عباس: ادع لي الأنصار. قال: فدعوتهم، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، قال عمر : ارتفِعوا عني. ثم قال عمر لابن عباس : ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مُهاجِرَةِ الفتح. قال: فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقدِمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس إني مُصَبِّحٌ على ظَهْرٍ، فأَصبِحوا عليه. يعني: إني راجع صباحَ غدٍ.

المقدم: يعني سيرتحل بالرجوع؟

الشيخ: نعم، قرَّر، اتخذ قرارًا بالرجوع، فقال أبو عبيدة بن الجراح : أفِرَارًا مِن قَدَر الله؟

لاحِظ! هذه المناقشة اللطيفة بين عمر وأبي عبيدة رضي الله عنهما، عمر الآن بعد هذا الاجتهاد الجماعي وبعد هذه الاستشارات والمناقشة، اتخذ قرارًا وهو الرجوع وعدم الاستمرار، ناقَش أبو عبيدة : يعني كيف تفعل هذا؟ أفرارًا من قدر الله؟!

انظر أيضًا إلى الجواب البديع من عمر : قال عمر: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة -يعني: أنت يا أبا عبيدة من فقهاء الصحابة- فلو غيرك قالها، نعم نفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله -انظر إلى فقه عمر - أرأيت لو كان لك إبلٌ هبطت واديًا له عُدْوَتان: إحداهما خِصْبة والأخرى جَدْبَة، أليس إن رَعَيْتَ الخِصْبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجَدْبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف وكان متغيِّبا في بعض حاجته، قال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله  يقول: إذا سمعتم بالطاعون في أرضٍ فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه. فهنا وافق اجتهادُ عمر والصحابة كلامَ النبي ، وعبدالرحمن بن عوف  سمع هذا من النبي عليه الصلاة والسلام، فوافق هذا الاجتهاد كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فحمد الله عمر والصحابة وانصرفوا[7].

فهذا يُعطينا صورةً من صور الاجتهاد في النوازل في عصر الخلفاء الراشدين، ففي هذه القصة انظر كيف أن عمر أولًا لم يستبِدَّ برأيه وإنما استشار، مع أن بإمكانه أن يتخذ قرارًا من نفسه، وهو عمر أفضل الصحابة بعد أبي بكر الصديق ، وهو المُلهَم، ووافقه القرآن في عدة مواضع، وكان بالإمكان أن يتخذ قرارًا لكنه لم يفعل، وإنما استشار، ثم استشار، ثم استشار، ثلاث مرات وهو يستشير، يعقد مجالس علمية ثلاث مرات، حتى تَبَيَّن الأمر وانشرح صدره لأمرٍ فاتخذ قرارًا بعد ذلك، ثم بعد هذا ناقشه مَن ناقش من الصحابة كأبي عبيدة ، فأجاب جوابًا على هذه المناقشات، ثم أتى عبدالرحمن بن عوف وأخبر عمر والصحابة  بأن هذا القرار الذي اتخذه عمر  وافق كلام النبي .

فهذا يدل على الصورة المشرقة للاجتهاد الجماعي في عصر الصحابة ، وأنه إذا استجدت مسألةٌ أو وقعت نازلةٌ: أن فقهاء الصحابة يجتمعون ويتشاورون ويتناقشون حتى يَصْدُروا عن رأي.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، شيخنا. هل يمكن أن يقال بأن بذرة مدرسة أهل الرأي أو مدرسة أهل الحديث كانت في هذا الدور الفقهي؟ على اعتبار أن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يُوسِّعون دائرة الاجتهاد إذا لم يجدوا نصًّا من كتاب الله وسنة رسول الله؛ كعمر وابن مسعود وبعض كبار الصحابة . بينما هناك ثُلَّة من الصحابة يُضيِّقون دائرة الاجتهاد ويقتصرون على ما جاء من نصٍّ من كتاب الله وسنة رسوله، وممن عُرف بذلك: ابن عوف وابن عمر رضي الله عنهما وغيرهم.

الشيخ: الصحابة إذا وجدوا نصًّا فإنهم لا يتجاوزونه، لكن عندما لا يوجد نصٌّ فهنا يأتي هذا الكلام، إذا لم يوجد نصٌّ يجتهدون في ذلك، أما إذا وُجد نصٌّ فجميع الصحابة يرجعون إلى النص. وكان -أيضًا- للصحابة فتاوى، وقد يختلفون فيما بينهم، حتى في غير النوازل يستفتيهم من يستفتيهم من الناس وربما اختلفوا.

نذكر من ذلك مثالًا: ما أفتى به عليٌّ في المتوفى عنها زوجها: أنه لا صداق لها قياسًا على الطلاق قبل الخَلْوة، وكان ابن مسعود يُخالفه في ذلك، فيقول: لها الصداق؛ صداق المِثْلِ في تركة زوجها، حتى ظهر النص الموافق لاجتهاد ابن مسعود فقضى به الصحابة ، وقد قال مَعْقِل بن سِنَان : قضى فينا رسول الله في بِرْوَعَ بنت واشق مثلما قضيتَ فيه يا ابن مسعود: لها مِثْلُ صَدَاقِ نسائها لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، وعليها العِدَّة، ولها الميراث. ففرح ابن مسعود بأن اجتهاده وافق النص[8]. وفي هذا قصص كثيرة من هذا القبيل.

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، والحديث حقيقة معكم ماتعٌ في هذا الباب، وأستأذنكم أن نُكمل ما يتعلق بهذا الدور -وهو الدور الثاني من أدوار الفقه الإسلامي- في الحلقة القادمة بإذن الله ​​​​​​​.

الشيخ: إن شاء الله تعالى.

المقدم: إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ: الدكتور سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: الشكر موصول لمن قام بتسجيل هذه الحلقة: أخي عثمان بن عبدالكريم الجويبر.

إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة -بإذن الله ​​​​​​​- أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه البخاري: 6695، ومسلم: 2533.
^2 رواه أحمد: 17145، وأبو داود: 4607، والترمذي: 2676، وابن ماجه: 42.
^3 رواه البخاري: 4987.
^4 سبق تخريجه.
^5 رواه مالك: 4، وأحمد: 17978، وأبو داود: 2894، والترمذي: 2100، وابن ماجه: 2724.
^6 رواه البخاري: 6245، ومسلم: 2153.
^7 رواه البخاري: 5729، ومسلم: 2219.
^8 رواه أحمد: 18461، وأبو داود: 2116، والترمذي: 1145، والنسائي: 3355، وابن ماجه: 1891.
مواد ذات صلة
zh