logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(79) برنامج مجالس الفقه- أدوار الفقه: عصر الخلفاء وكبار الصحابة، وصغارهم، وكبار التابعين، وعصر التدوين

(79) برنامج مجالس الفقه- أدوار الفقه: عصر الخلفاء وكبار الصحابة، وصغارهم، وكبار التابعين، وعصر التدوين

مشاهدة من الموقع

المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير (إذاعة القرآن الكريم)، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلم. يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

تتمة دور عصر الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة

المقدم: أحسن الله إليكم، شيخنا في الحلقة الماضية بدأنا في الحديث عن الدور الثاني من أدوار الفقه الإسلامي: وهو عصر الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وذكرنا جملة من المسائل والخصائص التي يمتاز بها هذا الدور، ولعلنا نكمل الحديث في هذا الدور إن كان هناك شيءٌ يتعلق به.

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

أبرز ملامح هذا الدور

فسبق الحديث عن أدوار الفقه الإسلامي إجمالًا، وذكرنا أنها ستة أدوار، وتحدثنا عن الدور الأول؛ دور التشريع، ثم الدور الثاني ابتدأنا بالحديث عنه: وهو الفقه في عصر الخلفاء الراشدين، ويُسمِّيه بعضهم بـ"دور البناء والنضج"، وكان الصحابة الخلاف بينهم ليس كثيرًا، كان محدودًا، وكانوا يتشاورون، إذا وقعت نازلة من النوازل يتشاورون فيما بينهم حتى يصدروا عن رأي، وربما وقع الخلاف بين الصحابة .

والخلاف بين أهل العلم أمرٌ واقعٌ وتقتضيه الطبيعة البشرية؛ فالناس يتفاوتون في عقولهم وفي فهمهم وفي حفظهم وفي إدراكهم وفي أمور كثيرة، هذا التفاوت بين البشر، والعلماء هم من البشر، فيحصل بينهم هذا التفاوت، فيقع الخلاف، وليس المهم وقوع الخلاف، وإنما المهم هو كيفية التعامل مع هذا الخلاف، فالخلاف الذي وقع بين الصحابة في المسائل الفقهية: إنما اختلفوا بحثًا عن الحق والصواب، حتى إن هذا الخلاف وقع في زمن النبي عليه الصلاة والسلام لمَّا قال عليه الصلاة والسلام: لا يُصلِّين أحدٌ منكم العصر إلا في بني قريظة. وهم سائرون في الطريق حَضَرَ وقتُ صلاة العصر، فاختلف الصحابة : بعضهم أخذ بظاهر النص وقال: لا نُصلِّي العصر إلا في بني قريظة ولو غربت الشمس.

المقدم: ولو خرج الوقت؟

الشيخ: ولو خرج الوقت.

وقال آخرون: ما قَصَدَ النبيُّ ذلك، إنما قصد حثَّنا على الإسراع وعدم التأخر. فتوقفوا وصَلَّوْا صلاة العصر في وقتها، ثم ساروا إلى بني قريظة، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ولم يُعنِّف النبي أيًّا من الطائفتين؛ لأن كلًّا منهم -من الطائفتين- مجتهدٌ، فهذا أمرٌ وقع حتى في زمن النبي عليه الصلاة والسلام[1].

فإذًا؛ وقع بين الصحابة خلافٌ في بعض المسائل الاجتهادية، لكنه خلاف يسيرٌ، وليس كثيرًا، وقد ساق ابن القيم رحمه الله أمثلة كثيرة على اجتهادات الصحابة، ثم قال: "فالصحابة   مَثَّلوا الوقائع بنظائرها، وشبَّهوها بأمثالها، وردُّوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبيَّنوا لهم سبيله". وبهذا نقول: إن الصحابة خلَّفوا لمن بعدهم منهجًا فقهيًّا عظيمًا يتأسَّى به من جاء من بعدهم من فقهاء الإسلام في عصور الفقه المتتابعة.

وكان هناك مُفْتون في زمن الصحابة ، قال ابن القيم رحمه الله: "والذين حُفظت عنهم الفتوى من أصحاب النبي مائة ونيِّف وثلاثون نفسًا ما بين رجل وامرأة". مع أن عدد الصحابة كثير، بلغ عدد من حج حجة الوداع مع النبي عليه الصلاة والسلام قرابة مائة ألف، المفتون من الصحابة مائة ونيِّف وثلاثون فقط! وهذا يدل على أنه ليس كل أحد يكون مفتيًا، إنما الفتيا تنحصر في طائفة من أهل العلم، "وكان المكثرون من الفتيا من الصحابة سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود، وعائشة، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر ، قال أبو محمد ابن حزم: ويمكن أن يُجمع من فتوى كل واحد منهم سِفر ضخم.

والمتوسطون منهم فيما رُوي عنه من الفتيا: أبو بكر، وأم سلمة، وأنس، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعبدالله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبدالله، ومعاذ بن جبل ، هؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يُجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير.

ويُضاف إليهم -يعني بعض الصحابة أيضًا-: طلحة، وعبدالرحمن بن عوف، وعبادة بن الصامت... والباقون مُقِلُّون في الفتيا.

وكان الفقه في هذا العصر -في عصر الخلفاء الراشدين- واقعيًّا حسب ما يظهر من الوقائع ويجِدُّ من قضايا ونوازل.

المقدم:  ما معنى "واقعيًّا"؟

الشيخ: يعني أنه ليس افتراضيًّا؛ ولذلك كان الصحابة إذا سُئل أحدهم عن مسألة جديدة أو نازلة يسأل: هل وقعت؟ فإذا قال المستفتي: لم تقع، قال: إذا وقعت اسأل. فكان الفقه واقعيًّا ولم يكن افتراضيًّا، فالصحابة كانوا يُجيبون عن المسائل التي وقعت بالفعل. وأما المسائل التي لم تقع والمسائل المفترضة فلم تكن في هذا العصر.

المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- هذا وصفٌ كاشفٌ لهذا الدور، أو يُعتبر مما يمتاز به هذا الدور: عدم افتراض المسائل وكثرة ذلك؟

الشيخ: هذا مما يمتاز به هذا الدور؛ لأن هذا هو الذي ينفع، التركيز على الشيء الواقع؛ لأن الشيء المفترض وإن كان ربما يستفيد منه طالب العلم في تفتيق الذهن ونحو ذلك، لكنه ربما يكون على حساب مسائل أهم، فالصحابة  كانوا يُركِّزون على المسائل الواقعة ويُعرضون عن المسائل المفترضة.

ولم تُدوَّن أحكام الصحابة وفتاواهم، بل كانت محفوظة في الصدور ونُقلت إلى مَن بعدهم بطريق الرواية.

هذه هي أبرز ملامح هذا الدور.

دور عصر صغار الصحابة وكبار التابعين

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. ولعل الحديث في هذا الدور -الحقيقة- فيه مسائل كثيرة، لكن أود أن نأخذ أيضًا ما يتعلق بالأدوار الأخرى، أنتقل بعد ذلك -أحسن الله إليكم- إلى الدور الثالث: وهو دور عصر صغار الصحابة وكبار التابعين، لو بيَّنتم لنا أبرز ملامح هذا الدور أحسن الله عملكم.

أبرز ملامح هذا الدور

الشيخ: نعم، هذا الدور هو عصر صغار الصحابة وكبار التابعين، ونطاقه الزمني يبتدئ من بعد عهد الخلفاء الراشدين، يعني من عام واحد وأربعين حين تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان ، وينتهي تقريبًا بنهاية الدولة الأموية عام اثنين وثلاثين ومائة من الهجرة.

وهذا العصر يُعَدُّ من العصور المهمة في تاريخ الفقه الإسلامي؛ لأنه يُمثِّل عند طائفة من العلماء امتدادًا لعصر البناء والنضج، ويَعُدُّه كثيرٌ ممن كتب في تاريخ الفقه العصرَ التأسيسي للفقه الإسلامي؛ باعتبار أن العصرين السابقين كانا إلى التشريع أقرب؛ ولأن المدارس الفقهية إنما نشأت في هذا العصر.

ومن أبرز معالمه: كان الفقه في هذا العصر يسير على نحو ما سار عليه في العصر الثاني؛ من حيث اعتماد التشريع فيه على الكتاب والسنة، وكذلك الإجماع والقياس، ومن حيث ارتباطه بالواقع في إصدار الأحكام.

وقد تشعَّبت الآراء الفقهية في هذا العصر وكثُرت الخلافات في الأصول والفروع؛ نظرًا لتفرق المسلمين على إثر الفتن التي وقعت في زمن الصحابة في أواخر عهد الخلفاء الراشدين  وما صاحب ذلك من ظهور بعض الفرق المنحرفة كالخوارج، وأيضًا تفرُّق الصحابة في الأمصار.

فبعدما توسعت الدولة وكثُرت الفتوحات الإسلامية، وأذِن عثمان لمن أراد من الصحابة  أن يُغادر المدينة للقيام بمصالح المسلمين في البلاد المفتوحة، فذهب من ذهب من الصحابة وغادروا المدينة، واتصلوا بالناس في بلدان شتى، وانتشر في هذا العصر ظاهرة تَفَقُّه الموالي -يعني المُعتَقِين- وتَعَلُّمهم، وأيضًا برز منهم من برز، حتى إن بعضهم أصبح من كبار علماء المسلمين؛ وذلك أنه بعد الفتوح الإسلامية دخل كثيرٌ من هؤلاء في الإسلام، وأخذوا العلم عمن اتصلوا به من علماء المسلمين، وكان بعضهم عنده من الذكاء والنبوغ وقوة العقل ما جعله يتعلم بسرعة وينبغ ويبرز.

وأيضًا في هذا العصر شاعت رواية الحديث وكثرت، وكان هناك شيءٌ من التساهل في الرواية بعدما كان في عهد الخلفاء الراشدين فيه شيءٌ من المزيد من التثبت والتشدُّد في قبول الرواية، فلما تفرَّق الصحابة في الأمصار ودُوِّنت المصاحف في عهد عثمان ، وزال الخوف من الْتِبَاس السُّنة بالقرآن؛ شاع التحديث بالسنة، وانتشرت رواية الأحاديث، لا سيما وقد خاف الصحابة أن يموتوا ولم يُبلِّغوا الأمةَ سنة النبي ، مما دفعهم إلى إخراج ما في صدورهم من الأحاديث والآثار، وترتب على ذلك شيوع رواية الحديث وشيوع انتشارها، وتبع ذلك كثرة الوضع في الحديث، بدأ يظهر الوضع في الحديث والخطأ في الرواية ممن لم يكونوا من أهل الضبط والحفظ والعدالة، واختلاق بعض الفرق المنحرفة نصوصًا يزعمون أنها من كلام النبي   يُروِّجون بها لبِدَعهم، ويطعنون بها في دين المسلمين، مما جعل الحُفَّاظ من علماء الإسلام يُهْرَعون إلى تدوين السنة، ويُميِّزون الصحيح من الضعيف من الموضوع.

وكانت بداية ذلك في عهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، حين أمر عامله على المدينة أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم وابن شهاب الزهري أن يُدوِّنا السنة، وأن يستعينا بكبار العلماء في عصرهم، فدوَّناها، وفتح بذلك عمر بن عبدالعزيز الطريق للعلماء لتدوين السنة وجمع الأحاديث. يقول الزهري: "أمرَنا عمر بن عبدالعزيز بجمع السنن فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا"، فيُعتبر بهذا الزهريُّ أولَ من دَوَّن السنة بأمر عمر بن عبدالعزيز رحمة الله تعالى على الجميع.

ظهور مدارس الفقه

ثم توالت بعد ذلك مصنفات السُّنة على أيدي العلماء، وأصبح الفقه في هذا العصر علمًا قائمًا بذاته، متميِّزًا عن غيره من العلوم، يبحث الأحكام الشرعية.

وبرز في هذا العصر مدرستان في الفقه:

  • مدرسة أهل الحديث.
  • ومدرسة أهل الرأي.

مدرسة أهل الحديث تركزت في مكة والمدينة مهدِ الحديث ومَوْئلِ السنة، وكان منهجهم قائمًا على التقليل من القياس والرأي والتمسُّك بالسنة والأثر. وأشهر علمائها: الفقهاء السبعة، وكان إمامهم سعيد بن المسيب، ثم انتشر منهجهم بعد ذلك في الأمصار، ونادى به كثير من العلماء، وانتهت رئاسة هذا المنهج إلى الإمام مالك بن أنس، ثم إلى الإمام الشافعي، ثم إلى الإمام أحمد، رحمة الله تعالى على الجميع.

وأما المدرسة الثانية فهي مدرسة أهل الرأي، الذين يُعمِلُون الرأي والقياس فيما لا نص فيه، ويُكثرون من الرأي والقياس والمسائل المفترضة. ومن أبرز من قام على هذه المدرسة: إبراهيم النخعي شيخ حماد بن أبي سليمان الذي تتلمذ عليه أبو حنيفة، والذي انتهت إليه رئاسة هذه المدرسة.

وكان بين المدرستين -أعني مدرسة أهل الحديث ومدرسة أهل الرأي- فروقٌ كبيرةٌ في الأصول والمنهج والاستدلال واستنباط الأحكام الاجتهادية، ظهرت آثارها ونتائجها على المذاهب الفقهية التي تلت هذا العصر.

ومن أبرز الفقهاء في هذا العصر الذين اشتُهِروا بالعلم والفتيا: أولًا الفقهاء السبعة: وهم سعيد بن المسيَّب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبدالرحمن المخزومي، وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة، وخارجة بن زيد، والقاسم بن محمد، وسليمان بن يسار، جمعهم الناظم في قوله:

إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة
فقل هم عبيدالله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة

ومنهم: أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، ومجاهد بن جبر، وأبان بن عثمان، وسالم بن عبدالله بن عمر، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، ونافع مولى ابن عمر، وأيضًا علقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين، وأبو إدريس الخولاني، ومكحول، ومحمد بن شهاب الزهري، وغيرهم.

هذا -تقريبًا- أبرز ما يمكن أن يقال في ملامح هذا الدور وهذا العصر.

المقدم: لكن -أحسن الله إليكم وشكر الله لكم- حينما ذكرتم قبل قليل أنه برزت مدرستان: مدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الحديث، هل يُفهَم من هذا أن أهل الرأي أو من كان في هذه المدرسة لم يكن يستدل بالأثر والنصوص من الكتاب والسنة؟ والعكس كذلك: مدرسة أهل الحديث لم يكونوا يُعمِلون عقولهم في الاجتهاد عند عدم وجود النص؟

الشيخ: ليس هذا بإطلاق، وإنما غلب على مدرسة أهل الحديث التمسك بالنص والآثار عن الصحابة ، وغلب على مدرسة أهل الرأيِ الرأيُ فيما لم يوجد فيه نص؛ الكلام فيما لم يوجد فيه نص، وإلا إذا وُجد النص فالمدرستان تعملان بالنص، وهؤلاء العلماء كلهم يَنشُد ويطلب النصَّ، الكلام فيما إذا لم يوجد النص؛ فمدرسة أهل الرأي إذا لم يوجد النص تُعمل الرأي والقياس أكثر من مدرسة أهل الحديث، مدرسة أهل الحديث يغلب عليها إعمال الأثر والمقاربة لما ورد في الأثر، بينما مدرسة أهل الرأي تعتمد على الأقيسة وعلى إعمال الرأي فيما لم يرد فيه النص.

دور عصر التدوين والأئمة المجتهدين

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، بهذا نكون قد انتهينا من الدور الثالث من أدوار الفقه الإسلامي، ولعلنا نشرع في الحديث عن الدور الرابع: وهو دور عصر التدوين والأئمة المجتهدين، أو ما يُعبِّر عنه بعضُ مَن كتب في هذا الباب بـ"عصر الكمال والنضج"، فلو بينتم لنا شيخنا -أحسن الله إليكم- أبرز ملامح هذا العصر.

أبرز ملامح هذا العصر

الشيخ: الدور الرابع هو عصر التدوين والأئمة المجتهدين، ويُعَدُّ عصر النهضة الحقيقية للفقه الإسلامي، أو الكمال والنضج، وعصر تأسيس المذاهب الفقهية، وتدوين الفقه والأصول والحديث، ويبدأ من نهاية الدولة الأموية حتى منتصف القرن الرابع الهجري تقريبًا. وقد تأسس الفقه وأصبح علمًا مستقلًّا عن غيره من العلوم في هذا العصر، له علماؤه المختصون المهتمون به، وله أصوله ومعالمه ومناهجه.

ومن أبرز معالم هذا العصر أنه اكتمل فيه تدوين السُّنة، الذي ابتدأ في العصر السابق -كما ذكرنا- على يد الزُّهري بأمرٍ من عمر بن عبدالعزيز. ولا يخفى مكانة السنة في الفقه الإسلامي؛ هي المصدر الثاني الأساسي من مصادر التشريع ومن مصادر الفقه، وكانت أغلب مدونات السنة في بداية الأمر ممزوجة بالفقه أو مُراعًى فيها الجانب الفقهي.

فمثلًا: الإمام مالك لما صنف "الموطأ" ألفه على شرائع الإسلام، ومزج فيه الحديث بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومَن بعدهم، وركَّز على القضايا العُمَرية وعلى عمل أهل المدينة. وكذلك البخاري في "الصحيح" قطَّع الأحاديث وكرَّرها بناءً على الفقه الذي استنبطه منها.

ومن أشهر كتب السنة التي أُلِّفت في هذا العصر: "الموطأ" كما ذكرنا، "الموطأ" للإمام مالك، وكذلك أيضًا "مسند الإمام أحمد"، وأيضًا "صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم"، وكذلك السُّنَن؛ كـ"سُنَن أبي داود" و"سنن ابن ماجه"، و"جامع الترمذي"، و"سنن النسائي". فهذه كلها دُوِّنت في هذا العصر.

وظهر في هذا العصر جملة من العوامل التي أدَّت إلى نشاط الحركة الفقهية والحركة العلمية عمومًا، ومن ذلك عناية الخلفاء العباسيين بالعلم عمومًا، وبالفقه والفقهاء على وجه الخصوص، فظهر الفقهاء المجتهدون، وكثرت المناقشات والمناظرات العلمية بين الفقهاء.

وكان لتشجيع الخلفاء العباسيين ولدعمهم واهتمامهم بالفقه وبذل الأعطيات لذلك وبناء المكتبات والمدارس العلمية؛ دورٌ كبيرٌ في نشاط الحركة الفقهية والحركة العلمية عمومًا.

فمثلًا أبو جعفر المنصور كان يُشجِّع على التصنيف، ومعلومةٌ قصةُ أبي جعفرٍ المنصور مع الإمام مالك، حينما دعا أبو جعفر المنصور الإمام مالكًا، وقال له: اصنع للناس كتابًا تَجَنَّبْ فيه تشديدات ابن عمر ورُخص ابن عباس وشوارد ابن مسعود ، واقصِد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه الصحابة والأئمة.

وقام الإمام مالك وصنف كتابه العظيم "الموطأ"، فأراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس عليه، يعني يُلزمهم بهذا الكتاب، فرفض الإمام مالك ذلك، وقال: إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها. وهذا من إنصاف الإمام مالك ووَرَعِه وتمام علمه، حيث رفض أن يحمل أبو جعفر المنصور الناسَ على كتابه.

لكن هذه القصة تدل على التشجيع الكبير من الخلفاء العباسيين للفقهاء في التصنيف وفي التدوين، كما أن أبا جعفر المنصور أيضًا أنشأ دار الحكمة، وتُجبَى إليها الكتب من كل مكان، وتُترجم العلوم وتُودع فيها.

وقد تبنَّت الدولة العباسية المذهبَ الحنفي حين خصت أبا يوسف صاحب أبي حنيفة بأن أصبح رئيس القضاة في ذلك الزمن، وتولَّى هذا المنصب كذلك المهدي والهادي وهارون الرشيد، مما شجَّع على التمذهب والاهتمام بالفقه والتعليم والمذاهب، ودفع العلماء إلى توسيع دائرة الفقه والتأليف والتدريس والتعليم والجدل والمناظرة والتوسُّع في الرأي والخلاف.

وأيضًا فَرْضُ المسائل التي لم تقع من باب تمرينِ الطلاب على الاجتهاد وشَحْذِ الذهن وإمعان النظر والفكر، فظهر الفقه الافتراضي في هذا العصر، وقلنا إنه لم يظهر ذلك في عصر الخلفاء الراشدين. وكذلك أيضًا عصر صغارِ الصحابة وكبارِ التابعين لم يظهر بشكل واضح، لكنه في هذا العصر برز وظهر.

وأيضًا نشطت حركة تدوين العلوم في هذا العصر، تدوين السنة كما سبق، وكذلك تدوين التفسير؛ حيث دُوِّن تفسير الصحابة للقرآن الكريم: كتفسير ابن مسعود، وتفسير عليِّ بن أبي طالب، وتفسير ابن عباس، وتفسير أُبَيِّ بن كعب .

ظهور المدارس الفقهية الأربعة وسر بقائها

وظهر أيضًا في هذا العصر الفقهاء المجتهدون أصحاب المذاهب والاختيارات والآراء الفقهية، فظهر عددٌ من الفقهاء المجتهدين، فمنهم على سبيل المثال: الحسن البصري، وكذلك سفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وداود بن عليٍّ، وابن جرير الطبري، وأيضًا بالإضافة للأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.

وكان لهذه المذاهب منزلة كبرى في الفقه، إلا أن الله تعالى لم يكتب الدوام إلا لأربعة مذاهب فقط: وهي الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. فهذه المدارس هي التي بقيت إلى اليوم، ولها أتباعٌ وتلاميذ ومصنفاتٌ وأصولٌ. أما بقية المذاهب فقد اندثرت، سبحان الله! انقرضت واندثرت وزال أتباعها، ولم يبقَ لها ذكرٌ إلا في بطون الكتب والمصنفات وكتب التاريخ.

لماذا لم يتبق إلا هذه المدارس الأربعة؟

الله تعالى أعلم، لعله ربما يكون لهؤلاء الأئمة إخلاصٌ، ويكون لهم خبيئة أعمال، وأيضًا مكَّن الله تعالى لهم ما لم يُمكِّن لغيرهم من جهة التلاميذ والأتباع، فانقرضت المذاهب الفقهية، ولم يتبقَّ إلا هذه المذاهب الأربعة التي انتشرت في العالم، ولا تزال إلى اليوم هذه المذاهب الأربعة: مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، شيخنا. الحقيقة الحديث في هذا الدور -وهو الدور الرابع عصر التدوين والأئمة المجتهدين- ذو شجون، وفيه مسائل وقضايا وأحداثٌ كثيرةٌ، لعلنا نُكمل ما يتعلق بهذا الدور إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة.

المقدم: إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: الشكر موصول لمن قام بتسجيل هذه الحلقة: أخي عثمان بن عبدالكريم الجويبر.

والشكر لكم أنتم -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- على استماعكم وإنصاتكم لهذه الحلقة.

إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة -بإذن الله ​​​​​​​- أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه البخاري: 4119، ومسلم: 1770.
مواد ذات صلة
zh