logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(75) برنامج مجالس الفقه- مدخل لدراسة الفقه

(75) برنامج مجالس الفقه- مدخل لدراسة الفقه

مشاهدة من الموقع

المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم "مجالس الفقه".

"مجالس الفقه" برنامجٌ يُذاع عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلم. يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فبِاسْمي وبِاسْمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المستمعين.

مدخل لدراسة الفقه

المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، نحن في هذا البرنامج بحمد الله كنا قد مررنا على كثير من المسائل والأحكام المتعلقة بالفقه، ثم شرعنا في الحديث عن مسائل الفرائض، وانتهينا منها بحمد الله، ولعلنا نستفتح في هذه الحلقة بالحديث عن جانب تاريخ الفقه الإسلامي وما يتعلق بذلك، ونأخذ شيئًا من الأحكام والمسائل والفوائد واللطائف التي تتعلق بهذا الباب الماتع والمفيد. فنبتدئ -شيخنا- بالحديث عن الفقه، تعريفه، ما المراد بالفقه؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فكنا في حلقات سابقة تكلمنا عن جملة من المسائل الفقهية، عن عدد من النوازل، ثم عن أبرز مسائل الفرائض، والحديث في هذه الحلقة والحلقات القادمة -إن شاء الله- سيكون عن مسائل متعلقة بتاريخ الفقه، وبعضهم يجعلها مدخلًا لدراسة الفقه، ولا مشاحة في الاصطلاح، فالفقه له مقام عظيم، وهو من أعظم العلوم ومن أشرفها، والناس محتاجون إليه حاجةً ماسَّةً، ولهذا عندما تستمع لأيِّ برنامج إفتاء تجد أن معظم أسئلة الناس في الفقه، يسألون عن مسائل الصلاة والزكاة والصيام والحج والبيوع المعاملات والأطعمة والنذور والأيمان ونحو ذلك، وهذا يُبيِّن لنا عظيم شأن الفقه، ونريد أن نتحدث عن جملة من المسائل المتعلقة بهذا العلم؛ بمفاهيمه ومدارسه وخصائصه، وجملة من المسائل المتعلقة بهذا الباب.

تعريف الفقه

فالفقه معناه في اللغة: الفهم وحُسن الإدراك والعلم والفطنة؛ ولهذا قال سبحانه: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] يعني: لا تفهمون تسبيحهم، فمعناه في اللغة يدور حول معنى الفهم.

والفقه في صدر الإسلام يعني: العلم بأحكام الدين كله، وهذا يشمل علم العقيدة والتفسير والحديث وأحكام الفروع العملية والأخلاق والزهد، وهذا المعنى مأخوذٌ من النصوص الشرعية الكثيرة التي تدل على أن الفقه بمعناه العام أنه الفهم في الشريعة مطلقًا والعلم بأحكامها كلها؛ كما في قول الله ​​​​​​​: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚفَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].

وكما في قول النبي : مَن يُرِد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدِّين[1]، وفي قوله: نضَّر اللهُ امرأً سمع منَّا حديثًا فحفظه حتى يُبلِّغه غيره، فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيه[2] أخرجه الترمذي وأبو داود؛ هذا هو الفقه الذي كان في صدر الإسلام. ثم بعد ذلك أصبح يُطلق الفقه على معنًى أَخَصَّ، خاصةً في أواسط عهد التابعين؛ أصبح يُطلق علم الفقه ويُراد به: "معرفة الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية".

فقولنا: "معرفة أو العلم بالأحكام الشرعية العملية" هذا يدل على أن الفقه علمٌ وله موضوعٌ خاصٌّ وقواعدُ خاصةٌ درسها الفقهاء في كتبهم.

وقولنا: "معرفة أو العلم بالأحكام الشرعية" هذا يدل على أن أحكام الفقه أحكامٌ شرعيةٌ متلقَّاة بطريق السمع مأخوذة من الشرع، وهو قيدٌ في التعريف يخرج به الأحكام المتلقَّاة عن طريق العقل ونحو ذلك.

"العملية": هذا يعني أن الأحكام الفقهية تتعلق بأعمال الناس وأفعالهم في عباداتهم ومعاملاتهم اليومية، وهو قيدٌ في التعريف تخرج به الأحكام الاعتقادية والأخلاق والآداب، فإنها ليست عملية -في الغالب-، أو أنها تتعلق بالقلوب والسلوك لا بأعمال الأبدان.

"المستفادة من أدلتها التفصيلية": هذا يعني أن الأحكام لا تُعَدُّ فقهًا إلا إذا كانت مستنِدة إلى أدلة الشرع، مجتمعةً كانت أم آحادًا.

فهذا هو معنى الفقه بمعناه الاصطلاحي الأخص: معرفة الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية أو المكتسبة من أدلتها التفصيلية.

وبهذا يتبين الفرق بين الفقه وأصول الفقه.

فأصول الفقه هو: "أدلة الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد"؛ فهذا هو أصول الفقه.

"أدلة الفقه إجمالًا" مثل: مصادر التشريع (الكتاب - السنة - الإجماع - القياس).

"وكيفية الاستفادة منها": كيف يُستفاد من هذه الأدلة؟ هناك العموم والخصوص، والمطلق والمقيد، ونحو ذلك.

"وحال المستفيد" يعني: المجتهد، ومعنى الاجتهاد، ومسائل الاجتهاد؛ هذا يُسمَّى "أصول الفقه".

لكن الفقه هو: "معرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية".

الفرق بين الشريعة والفقه

المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، هناك مصطلحان؛ هل هما بمعنى واحد، أو بينهما تباين واختلاف، أو يتشاركان في معنى دون معنى؟ وهما مصطلحا "الشريعة" و"الفقه"؛ فهل مصطلح "الشريعة" يوازي مصطلح "الفقه"؟

الشيخ: الفقه عند علماء الصدر الأول من الإسلام -كما سبق- مرادف لمعنى الشريعة الإسلامية؛ لأن الفقه بمعناه العام في صدر الإسلام يتناول أحكام الدين كله؛ ولهذا الإمام أبو حنيفة سمى كتابه "الفقه الأكبر" وهو في العقيدة، فهو لا يختص فقط بالمسائل العملية، بل يشمل العقائد، ويشمل الأحكام العملية، ويشمل الآداب، ويشمل الأخلاق. ثم بعد ذلك خُصَّ هذا المصطلح -الفقه- عند المتأخرين بالعلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وبهذا فإن الفقه بهذا المعنى يتفق مع الشريعة في كثير من الخصائص، ويفترقان في أمور؛ منها:

أن الشريعة أعمُّ من الفقه بمعناه الأخص، فالشريعة أعمُّ لأنها تشمل أحكام الدين كله؛ اعتقاداتٍ كانت أو أخلاقًا وآدابًا أو أحكامًا عملية. أما الفقه فهو خاصٌّ بالأحكام العملية.

وأيضًا الشريعة كلها حقٌّ وصوابٌ منزهةٌ عن الخطأ. أما الفقه فهو أحكامٌ فقهيةٌ اجتهاديةٌ، والمجتهد قد يُصيب وقد يُخطئ، فإن أصاب وافَقَ الشريعة، وإن أخطأ خالَفَها، وهذا المجتهد مأجورٌ على كل حال؛ لقول النبي : إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر[3] متفق عليه.

وأيضًا الشريعة كاملة تامة ثابتة، أكملها الله تعالى وأتمها للعباد. أما الفقه فهو متجدِّد، ولا يزال الناس يحدث لهم من الأحكام الفقهية بقدر ما استُجد في حياتهم من مسائل وأمور.

أيضًا الشريعة -ولعلي أختم بها وإلا فالفروق كثيرة- تعتمد على الكتاب والسنة وتُستمَد منهما. أما الفقه -بمعناه الاصطلاحي- فيعتمد على الكتاب والسنة في المقدمة أو بالدرجة الأولى، ويعتمد أيضًا في كثير من أحكامه الفرعية الاجتهادية على أدلة الاستدلال الأخرى المعتبرة عند الفقهاء؛ كالإجماع والقياس ونحو ذلك من الأدلة.

فضل الفقه ومكانته

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. شيخنا، لا يخفى على كل مستمع أن الفقه في الدين له فضلٌ عظيمٌ ومكانةٌ في الشريعة، فلو ذكَّرتمونا بشيءٍ من فضل الفقه ومكانته في هذا الدين في الشريعة الإسلامية.

الشيخ: الفقه علمٌ شريفٌ من أجَلِّ علوم الشريعة قدْرًا وأسماها مكانةً؛ وذلك أن الفقه علمٌ بالأحكام الشرعية التي يتعبَّد المسلمُ بها ربَّه، ويتعامل بها مع غيره من الناس، فيُؤدِّي العبادة كما أراد الله، ويُؤدِّي الحقوق والواجبات التي عليه، ولا يستطيع المسلم أن يُقيم أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج على الوجه الصحيح إلا بالتفقه في دين الله تعالى، ولا يستطيع أن يعرف ما يحل له من المعاملات وما يحرم عليه وما يجب للمتعاملين معه وما يجب له عليهم إلا بالتفقه في أحكام الشريعة؛ فهو علمٌ تمسُّ الحاجة إليه، لا يستغني عنه المسلم.

وقد جاءت النصوص الشرعية ببيان فضل الفقه والترغيب فيه؛ كما في قول الله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚفَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122]، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: مَن يُرِد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدين[4]، هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهذا يدل على أن الإنسان إذا كان يحب التفقه في الدين، ويميل إلى التفقه في الدين، ويحرص على الاستماع للفتاوى والاستماع للدروس، وأن يتبصر في دين الله؛ هذه أمارةٌ على أنه أُريد به الخير إن شاء الله تعالى، وأن مَن أعرض عن ذلك ولم يتفقه في الدين وأعرض عن التفقه في الدين؛ فربما يُفهم من ذلك أنه لم يُرَد به الخير.

والإمام مالك رحمه الله يقول: "إن الحكمة هي الفقه في دين الله"، يعني في قول الله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ [البقرة:269]، قال: "الحكمة هي الفقه في دين الله، والعلم الحكمة ونورٌ يهدي الله به مَن يشاء، وليس بكثرة المسائل"، وابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:80]، يقول: "كونوا علماء فقهاء"، والنبي عليه الصلاة والسلام دعا لابن عباس رضي الله عنهما بالفقه في الدين؛ قال: اللهم فقِّهه في الدين[5]. وأيضًا في الحديث الصحيح في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا[6]. وهذا كله يدل على شرف الفقه في دين الله والعلم بأحكام الحلال والحرام وفَهْم الكتاب والسنة وشرف الفقهاء العلماء وفضلهم، وكان أئمة الإسلام يُعنون بالفقه عنايةً فائقةً، ولهم في هذا كلام طويل.

والإمام أحمد جالسَ المحدثين كثيرًا وانتفع بهم وأخذ عنهم الحديث حتى صار إمامًا من أئمة الدين في الحديث، ولكن حين جالسَ الشافعي وأخذ عنه فقهه عرف مكانة الفقهاء وشهد له بالفضل؛ حتى قال: "كان الشافعي أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله "، قال: "وما عرفتُ ناسخ الحديث ومنسوخه حتى جالستُه، وهذا الذي ترون كله أو عامته من الشافعي"، ثم قال الإمام أحمد: "ما بتُّ منذ ثلاثين سنةً إلا وأنا أدعو الله للشافعي وأستغفر له"، ولما لقي الإمام أحمد ابن الإمام الشافعي قال له: "ستة أدعو لهم عند السحر؛ منهم أبوك" يعني الإمام الشافعي؛ وهذا يدل على أن أئمة الإسلام كان عندهم الفقه عظيمًا، ويُعظِّمون مَن كان فقيهًا باستنباط معاني النصوص الشرعية؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فقهاء الإسلام ومَن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خُصُّوا باستنباط الأحكام، وعُنُوا بضبط الحلال والحرام؛ فَهُم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم للطعام والشراب، وطاعتهم فرضٌ بنصِّ الكتاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].

الأدوار التي مَرَّ بها الفقه الإسلامي

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم -شيخنا- هذا البيان والإيضاح. لو أردنا أن نأخذ تسلسلًا زمنيًّا للفقه الإسلامي، وكيف مَرَّ عبر العصور ولو بشيءٍ من الاختصار؛ فهل يمكن -شيخنا- أن تُبيِّنوا لنا أدوار الفقه الإسلامي؟

الشيخ: نعم، مَن يكتب في تاريخ الفقه أو في المدخل لدراسة الفقه الإسلامي؛ لا بُدَّ أن يذكر هذه الأدوار التي مَرَّ بها الفقه الإسلامي، وقد اختلفت نظرة أهل العلم في تقسيم تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره؛ والأقرب في التقسيم تقسيمُه إلى ستة أدوار:

  • الأول: عهد التشريع؛ وهو العصر النبوي من البعثة إلى وفاة النبي في السنة الحادية عشرة للهجرة.
  • والثاني: عهد الخلفاء الراشدين؛ يعني الدور الفقهي الأوَّلي وهو عهد الخلفاء الراشدين، ويبتدئ من العام الحادي عشر الهجري حتى عام أربعين من الهجرة، إلى بعد مقتل علي بن أبي طالب .
  • والثالث: الدور الفقهي الثاني؛ وهو عهد صغار الصحابة وكبار التابعين، يبدأ من عام أربعين للهجرة حتى أوائل القرن الثاني الهجري.
  • والدور الرابع: الدور الفقهي الثالث؛ وهو عصر التدوين والأئمة المجتهدين، ويبدأ من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع الهجري.
  • والدور الخامس: وهو عصر الجمود والتقليد؛ ويبدأ من منتصف القرن الرابع الهجري حتى سقوط بغداد سنة ستة وخمسين وستمئة للهجرة.
  • والدور السادس: وهو عصر النهضة الحالية؛ يبدأ من سقوط بغداد حتى العصر الحاضر.

هذه هي أدوار الفقه إجمالًا، سنأخذ ما تيسر منها في هذه الحلقة، ونكمل الحديث عن بقية هذه الأدوار في حلقات قادمة -إن شاء الله تعالى-.

دور عهد التشريع

المقدم: أحسن الله إليكم. إذَن؛ لعلنا نبتدئ الحديث في الدور الأول وما يتعلق بعهد التشريع؛ فهل بيَّنتم لنا شيئًا من مضامين هذا العهد؟

الشيخ: نعم، عهد التشريع -الذي هو العهد النبوي- يُعتبر هو عصر التأسيس والنشأة للفقه الإسلامي، ويبدأ من بعثة النبي وينتهي بوفاته، وهذا يعني أنه امتد ثلاثة وعشرين عامًا -هي فترة النبوة-، فإن النبي بُعث وعمره أربعون سنة، وتُوفي وعمره ثلاث وستون؛ ومعنى ذلك: أنه بقي في البعثة والرسالة ثلاثًا وعشرين سنة، سبحان الله! يعني ثلاثًا وعشرين سنة فقط، ومع ذلك أخرج الله تعالى به الناس من الظلمات إلى النور، وأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، وهذا يدل على عظيم بركة وقت النبي عليه الصلاة والسلام، هذا الدور للفقه الإسلامي تميز بمرحلتين متمايزتين:

  • المرحلة الأولى: ما قبل الهجرة إلى المدينة؛ وتُسمَّى المرحلة المكية.
  • والثانية: ما بعد الهجرة إلى المدينة؛ وهي المرحلة المدنية.

أما المرحلة المكية؛ فهذه مدتها ثلاثة عشر عامًا، وقد كان النبي وأصحابه في هذه الفترة ينالهم ما ينالهم من تعذيب كفار مكة، وكان التشريع في تلك الفترة مركَّزًا على الجوانب الإيمانية، وعلى تثبيت العقيدة، وتربية النفوس وتهذيبها، وذِكر أهوال اليوم الآخر والبعث والنشور والجنة والنار، والدعوة للتوحيد، ومحاربة الشرك؛ كان عليه الصلاة والسلام يقول: يا أهل مكة، قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا[7]، فتشريع الأحكام لم يكن في هذه الفترة، إنما كان الأمر مركَّزًا على العقيدة وعلى دعوة الناس للتوحيد ونَبْذ الشرك.

أما المرحلة المدنية ومدتها عشرة أعوام، بعدما هاجر النبي من مكة إلى المدينة وأصبح للمسلمين دولةٌ ونظامٌ خاصٌّ، وشُرِّعت الأحكام -سواء أحكام العبادات أو المعاملات والعلاقات والأحكام الأسرية وغيرها-، وتميَّز هذا العهد للفقه الإسلامي -بمرحلتَيه المكية والمدنية- بجملة من المميزات؛ من أبرزها:

أولًا: وجود النبي  بين أظهُر الصحابة ، وهو النبي والرسول وإمام المسلمين ومفتيهم وقدوتهم وهو المرجع لهم في جميع شؤونهم، وهذه ميزة عظيمة في التشريع والفقه، فكان عليه الصلاة والسلام هو المفتي والمعلم للناس، كلما احتاج الناس إلى حُكم شرعي يرجعون إليه، وكلما نزلت بهم نازلة أو جَدَّ لهم أمرٌ أو حادثٌ يرجعون للنبي عليه الصلاة والسلام، وأحيانًا تنزل الآيات على النبي عليه الصلاة والسلام في تلك الوقائع، وأحيانًا يبيِّن النبي عليه الصلاة والسلام لهم الحُكم بنفسه؛ وهو كما قال الله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ [النجم:4].

أيضًا من المزايا: نزول الوحي في هذا العصر؛ كان الوحي ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام لتشريع الأحكام وإكمال الشريعة. وأيضًا انحصرت مصادر التشريع في هذا العصر في الكتاب وفي السنة فقط.

هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يجتهد أو لا يجتهد؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، والقول الراجح أنه عليه الصلاة والسلام كان يجتهد، لكنه لا يُقَرُّ على الخطأ، إذا اجتهد وأخطأ لا يُقَرُّ على الخطأ عليه الصلاة والسلام، ففي هذه المرحلة كان النبي عليه الصلاة والسلام بين الصحابة، واتخذ عليه الصلاة والسلام كَتَبَةً للوحي، فكان إذا تلقَّى الوحي من جبريل قرأه على الصحابة وحفَّظهم إياه، ثم دعا أحدَ كَتَبَةِ الوحي فأمره بكتابتها. وكُتَّاب الوحي كثيرون؛ منهم عثمان وعلي ومعاوية وأُبيّ وغيرهم، وكانوا يكتبون على الرقاع أو على قطع الجلد أو صفائح الحجارة والألواح ونحو ذلك.

وأما بنسبة للسنة؛ فقد قَيَّضَ اللهُ تعالى لرسوله  صحابةً أفذاذًا حريصين على أقواله وأفعاله وهديه وسُنَّته وجميع أمره ونقل كل شيءٍ للأمة، وكان عليه الصلاة والسلام يحثُّهم على ذلك فيقول: نضَّر الله امرأً سمع منَّا حديثًا فحفظه حتى يُبلِّغه غيره[8]. وكان في بداية الأمر ينهاهم عن كتابة السُّنة حتى لا تختلط بالقرآن، ثم أذن لهم بتدوين كلامه وسنته، فكان بعضهم يكتب ما سمعه من النبي ؛ ومنهم عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. واشتهر حفَّاظ الحديث من الصحابة  الذين كانوا يُلازمون النبي ويحفظون حديثه؛ كأبي هريرة وابن عمر وأنس وأبي سعيد وجابر وابن عباس وعائشة .

وكان التشريع عمومًا والفقه خصوصًا في هذا العصر كان واقعيًّا بعيدًا عن الفرضيات والجدل، فإذا حدثت حادثة أو جدَّ بالمسلمين نازلة أو سُئل النبي عن شيءٍ قد وقع؛ انتظر الوحي من السماء، فإذا جاء الوحيُ أخبر الصحابة الحُكم الشرعي.

ومن الصحابة الذين اشتُهروا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بالفقه والفتوى وأقرَّهم على ذلك: الخلفاء الراشدون الأربعة -أبو بكر وعمر وعثمان وعلي-، وأيضًا: أُبيّ بن كعب ومعاذ وزيد بن ثابت وعبدالرحمن بن عوف وحذيفة وأبو الدرداء وأبو موسى وابن مسعود وغيرهم  .

ولم ينتقل النبي للرفيق الأعلى حتى أتم الله على عباده النعمة وأكمل لهم الدين ونزل قول الله ​​​​​​​ : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3].

هل كان الصحابة يجتهدون؟

قد يجتهدون إذا كانوا بعيدين عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن كانوا لا يُقَرُّون على الخطأ إذا حصل خطأ، وبهذا استدل الصحابة  على جواز العزل كما قال جابر : "كنا نعزل والقرآن ينزل"، يعني لو كان العزل منهيًّا عنه لجاء القرآن بالنهي عنه، فكانوا يحتجون بذلك، كنا نعزل والقرآن ينزل. ولما قال عليه الصلاة والسلام: لا يُصلِّين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة، فالصحابة وهم متجهون إلى بني قريظة أدركتهم صلاة العصر، فهنا وقع الخلاف بينهم، فبعضهم قالوا نأخذ بظاهر كلام النبي عليه الصلاة والسلام فلا نُصلِّي العصر إلا في بني قريظة ولو غربت الشمس، وقال آخرون: ما قصد النبي عليه الصلاة والسلام هذا، إنما قصد أن يحثنا على السير وألَّا نتأخر، فتوقفوا وَصَلَّوْا صلاة العصر في وقتها؛ فانقسم الصحابة إلى فريقين: قوم لم يُصَلُّوا صلاة العصر حتى وَصَلُوا إلى بني قريظة، وأخَّروها تمسُّكًا بظاهر اللفظ؛ والفريق الآخر وقفوا وَصَلُّوا صلاة العصر في وقتها ثم ساروا؛ يقول ابن عمر رضي الله عنهما: ولم يُعنِّف النبي أيًّا من الطائفتين[9]؛ لأن هؤلاء مجتهدون وهؤلاء مجتهدون.

لكن عندما نسأل: أيُّ الطائفتين أفقه؟ هل الطائفة التي أخذت بظاهر اللفظ أو الطائفة التي أخذت بالمعنى؟

المقدم: ربما -أحسن الله إليكم- التي أخذت بالمعنى.

الشيخ: أحسنت. التي أخذت بالمعنى، ولهذا قال ابن القيم: "إن الذين أخذوا بالمعنى وتوقفوا وَصَلَّوا هؤلاء أفقه"؛ لأنهم فهموا مقصود النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: لا يُصلِّين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة[10]، لا يريد أنكم لا تصلون حتى لو خرج الوقت، إنما أراد أن يحثهم على السير، فتوقفوا وَصَلَّوا. لكن الشاهد أن الصحابة قد يجتهدون، لكن أيضًا لا يُقَرُّون على الخطأ إذا حصل منهم خطأ.

فهذا هو العصر الأول أو الدور الأول من أدوار الفقه الإسلامي، وكانت بذلك أُسُس الفقه قد أُقيمت وقواعده قد قُعِّدت ومبادئه قد وُضعت، كذلك كُلياته، ولم يبقَ إلا الفروع والمسائل التي تطرأ بسبب الحوادث والوقائع، فيستنبط العلماء أحكامها من قواعد الشريعة وأدلتها وأصول الفقه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: خلَّفتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما أبدًا: كتاب الله، وسُنَّتي[11].

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم -شيخنا- هذا البيان والإيضاح. وهذا ما يتعلق بالدور الأول من أدوار الفقه وهو ما يُسمَّى بـ"دور عهد التشريع"، ثمَّة أدوار أخرى لعلنا نأخذها -إن شاء الله- في الحلقات القادمة.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: الشكر موصول لمَن قام بتسجيل هذه الحلقة أخي: عثمان بن عبدالكريم الجويبر.

إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة -بإذن الله ​​​​​​​- أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1, ^4 رواه البخاري: 3116، ومسلم: 1037.
^2 رواه أبو داود: 3660، والترمذي: 2656، وأحمد: 21590.
^3 رواه البخاري: 7352، ومسلم: 1716.
^5 رواه البخاري: 143، ومسلم: 2477.
^6 رواه البخاري: 3493، ومسلم: 2526.
^7 رواه أحمد: 19004، والحاكم: 39 بنحوه.
^8, ^10 سبق تخريجه.
^9 رواه البخاري: 4119، ومسلم: 1770.
^11 رواه الحاكم: 323 بنحوه
مواد ذات صلة
zh