بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحدثنا في الحلقة السابقة عن المذاهب الفقهية، ونشأتها وانتشارها، وكان الحديث مُركَّزًا حول المذاهب الأربعة المشهورة؛ الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
وبدأنا بالحديث عن مذهب الحنفية والمالكية، ووعدنا باستكمال الحديث عن مذهب الشافعية والحنابلة في هذه الحلقة، فنقول وبالله التوفيق:
نبذة عن المذهب الشافعي
مذهب الشافعية.
مؤسسه: محمد بن إدريس الشافعي الهاشمي القرشي.
ولد بغزة سنة 150هـ، وهو العام الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة، وحُمل من غزة التي ولد فيها إلى مكة وعمره سنتان.
وتوفي أبوه وهو صغيرٌ فنشأ يتيمًا.
وقد طلب العلم وارتحل للبلدان، وأخذ عن الإمام مالك بن أنس رحمة الله تعالى على الجميع، حتى أصبح إمامًا كبيرًا.
قال الإمام أحمد بن حنبلٍ رحمه الله: “إن الله يقيض للناس في رأس كل مائة سنةٍ من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله الكذب، قال فنظرنا فإذا في رأس المئة الأولى: عمر بن عبدالعزيز، وفي رأس المئتين: الشافعي”[1].
وعن الفضل بن زيادٍ قال: سمعت أحمد يقول: “ما أحدٌ مس محبرةً ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه منةٌ”[2].
وكان الإمام أحمد يُجلُّه ويدعو له، قال الميموني: “سمعت أحمد بن حنبلٍ يقول: ستةٌ أدعو لهم في السحر، أحدهم: الشافعي”[3].
وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله شديد التعظيم لسنة رسول الله ؛ فكان يقول: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”[4].
ويقول: “كل حديثٍ عن النبي فهو قولي وإن لم تسمعوه مني”[5].
ويقول: “أي سماءٍ تُظلُّني، وأي أرضٍ تُقلِّني إذا رويت عن رسول الله حديثًا فلم أقل به”[6].
وقد أقام الإمام الشافعي في صباه في بطون العرب، فأخذ من أشعارها ولغاتها؛ فكان من أفصح الناس وأكثرهم قدرةً على نظم الشعر، ولكنه رحمه الله ترك الشعر لكونه رأى أنه يزري بالعلماء، وربما صرفه عن العلم، فكان يقول:
فلولا الشعر بالعلماء يزري | لكنت اليوم أشعر من لبيد |
[7].
ومع فصاحته وقدرته البارعة على المناظرة، كان يقول: “ما ناظرتُ أحدًا قط على الغلبة، وودت إذا ناظرتُ أحدًا أن يظهر الله الحق على يديه”[8].
وكان يقول: “وددتُ أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا يُنسب إلي حرف منه”[9].
وقد نشر الإمام الشافعي مذهبه في العراق، ثم رحل إلى مصر سنة 199هـ، أي قبل وفاته بخمس سنين، وتغير اجتهاده في كثير من المسائل، وأصبح مذهبه الذي نشره في العراق يسمى: “القديم”، ومذهبه الذي نشره في مصر يسمى: “الجديد”.
قال النووي رحمه الله: “كل مسألةٍ فيها قولان للشافعي رحمه الله، قديمٌ وجديدٌ؛ فالجديد هو الصحيح، وعليه العمل؛ لأن القديم مرجوعٌ عنه”[10].
ويعتبر الإمام الشافعي أول من صنف في أصول الفقه؛ فقد طلب منه عبدالرحمن بن مهديٍّ أن يضع له كتابًا يجمع فيه قبول الأخبار، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ، فصنف كتاب “الرسالة”، قال عبدالرحمن بن مهديٍّ: “ما أصلي صلاةً إلا وأدعو للشافعي فيها”[11].
توفي رحمه الله تعالى سنة 204هـ.
وقد انتشر مذهبه في مصر والحجاز واليمن والعراق والشام.
أبرز كتب الشافعية
وأما أبرز الكتب عند الشافعية؛ فمنها:
“الوجيز” و “الوسيط”، وكلاهما لأبي حامدٍ الغزالي، وقد شرح “الوجيز” أبو القاسم الرافعي في كتابٍ سماه: “فتح العزيز في شرح الوجيز”.
ومنها: “المهذَّب في فقه الشافعية” لأبي إسحاق الشيرازي، وقد شرحه النووي في “المجموع”، وقد أجاد النووي رحمه الله في تنصيف هذا الكتاب -أعني المجموع- ويعتبر بحقٍّ موسوعةً فقهيةً عظيمةً. وقد تميز هذا الكتاب بحسن الترتيب والتنظيم، مع العناية بتخريج الأحاديث والآثار، وبيان درجة صحتها، وذِكر أراء الفقهاء ومآخذهم، وشرح معاني الألفاظ الغريبة، ولكنه رحمه الله تعالى توفي ولم يكمله، بل وصل إلى باب الربا، وقد صنف تقي الدين ابن السبكي على طريقة النووي ومنهجه، من آخر ما وصل إليه النووي، لكنه لم يكمله، ثم أتى محمد نجيب الدين مطيعي وأتمه إلى آخر أبواب الفقه، فكان التكملة من السبكي تسمى: التكملة الأولى للمجموع، وتكملة المطيعي تسمى: التكملة الثانية للمجموع.
ومنها: “الحاوي الكبير شرح مختصر المزني” لأبي الحسن الماوردي.
ومنها: “منهاج الطالبين” للنووي، وعليه عدة شروح؛ من أبرزها: “نهاية المحتاج” للرملي، و”مغني المحتاج” للشربيني.
نبذة عن المذهب الحنبلي
أيها الإخوة المستمعون:
وننتقل بعد ذلك للحديث عن مذهب الحنابلة.
ومؤسسه: الإمام أحمد بن محمد بن حنبلٍ الشيباني، أبو عبدالله.
ولد ببغداد سنة 164هـ.
ونشأ يتيمًا، ورحل في طلب العلم، وقد فتح الله عليه علومًا كثيرةً، ورزقه قوة حفظٍ وضبطٍ للعلم.
قال عبدالله بن الإمام أحمد: “قال لي أبو زُرعة: أبوك يحفظ ألف ألف حديثٍ -أي مليون حديث- فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكَرْته فأخذت عليه الأبواب”[12].
وقد علق على هذا الحافظ الذهبي في “السير” فقال: “هذه حكايةٌ صحيحةٌ في سعة علم أبي عبدالله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر والأثر، وفتوى التابعي وما فُسر، ونحو ذلك”[13].
وقال إبراهيم الحربي: “رأيت أبا عبدالله كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين”[14].
قال المروزي: “لم أرَ الفقير في مجلسٍ أعزَّ منه في مجلس أحمد بن حنبلٍ، كان مائلًا إليهم، مُقْصِرًا عن أهل الدنيا، وكان فيه حلمٌ، وكان كثير التواضع”[15].
وقد حصل للإمام أحمد محنةٌ عظيمةٌ ثبته الله تعالى فيها، وأظهر به السنة؛ وذلك أن بعض فرق المبتدعة رفعت رؤوسها، وبخاصةٍ الجهمية، وقد تبنى المأمون رأيهم في مسألة خلق القرآن، وحَمَل الأمة على القول بخلق القرآن، ومن امتنع حُبس، حتى أجاب القومُ جميعًا، ما عدا أربعة نفرٍ، ثم أجاب اثنان من هؤلاء الأربعة، ولم يبقَ إلا الإمام أحمد، ومحمد بن نوحٍ، فحُمِلا إليه مقَيَّدَينِ، ثم إن محمد بن نوحٍ توفي في الطريق، ولم يبقَ سوى الإمام أحمد.
قال أبو جعفرٍ الأنباري: “لما حُمل أحمد إلى المأمون أُخبرتُ، فعبرت الفرات وقلت له: يا هذا، أنت اليوم رأسٌ، والناس يقتدون بك، فوالله لإن أجبت إلى خلق القرآن ليُجِيبنَّ خلقٌ، وأنت إن لم تُجِب ليمتنعن خلق من الناس كثيرٌ، ومع هذا، فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لا بد من الموت، فاتق الله ولا تجب. فجعل أحمدُ يبكي ويقول: ما شاء الله! ما شاء الله! ثم قال: يا أبا جعفرٍ، أعد عليّ. فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله!”[16].
وقد حبس الإمام أحمد ثمانيةً وعشرين شهرًا، وكان يُضرب ضربًا شديدًا حتى يسيل منه الدم.
وقد تولى الخلافة بعد المأمون: المعتصم ثم الواثق، ثم لما تولى المتوكل جعفر أظهر الله به السنة وفرَّج به عن الناس، ورجع الناس عن القول بخلق القرآن.
توفي الإمام أحمد رحمه الله سنة 241هـ.
وكانت جنازته مشهودةً، شيَّعها آلاف الناس.
وقد صنف الإمام أحمد “المسند”، وحوى ثلاثين ألف حديثٍ.
أيها الإخوة المستمعون:
يُعتبر مذهب الحنابلة أقلَّ المذاهب الأربعة انتشارًا؛ ومن أسباب ذلك: أنه كان آخرها من حيث الترتيب الزمني، فجاء بعدما استقرت المذاهب الفقهية، ثم إن أصحابه -أصحاب الإمام أحمد- لم يتولوا مناصب في الدولة ينشرون من خلالها المذهب، كما حصل لأصحاب أبي حنيفة، فإن القاضي أبا يوسف لما تولى رئاسة القضاء، أصبح لا يولي القضاء إلا من كان حنفيًّا، ولكن لما قامت الدولة السعودية، وتبنت المذهب الحنبلي، انتشر بحمد الله انتشارًا كبيرًا في الوقت الحاضر، وقد طُبعت كتب المذهب، واعتني بها عنايةً كبيرةً.
أبرز كتب الحنابلة
وأما أبرز كتب الحنابلة؛ فيأتي في مقدمتها:
كتب الموفق ابن قدامة رحمه الله، فإنه صنف أربعة كتب على أربعة مستويات؛ فصنف: “العمدة” للمبتدئين، ثم “المقنع” لمن فوقهم، ثم “الكافي” للمتوسطين، ثم “المغني” لأعلى طبقةٍ.
ويعتبر كتابه “المغني” بحقٍّ موسوعةً فقهيةً عظيمةً لا يكاد يوجد لها نظيرٌ، وقد رتبه ابن أخيه شمس الدين بن قدامة على ترتيب “المقنع” في كتابٍ سماه: “الشرح الكبير على المقنع”.
ومنها: “الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف” للمرداوي، وقد عني فيه بتحرير المذهب.
و”المحرر” للمجد ابن تيمية.
و”المستوعب” للسامُرِّي.
و”زاد المستقنع في اختصار المقنع” للحجاوي، وقد شرحه البهوتي في “الروض المربع”.
و”الإقناع”، وقد شُرح في كتاب “الكشاف”.
و”دليل الطالب”.
و”الفروع”، وغيرها.
أيها الإخوة المستمعون:
هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونكون بهذا قد انتهينا ما أردنا الحديث عنه في المقدمة الفقهية، وسنبدأ في الحلقة القادمة بكتاب الطهارة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | سير أعلام النبلاء للذهبي: 10/ 46. |
---|---|
^2 | سير أعلام النبلاء للذهبي: 10/ 47، و تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 1/ 60. |
^3 | طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 2/ 72. |
^4 | سير أعلام النبلاء للذهبي: 10/ 35، الوافي بالوفيات: 2/ 122. |
^5, ^6 | سير أعلام النبلاء للذهبي: 10/ 35. |
^7 | وفيات الأعيان لابن خلكان: 4/ 167. |
^8, ^9 | تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 1/ 53. |
^10 | المجموع: 1/ 66. |
^11 | سير أعلام النبلاء للذهبي: 10/ 44. |
^12 | سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/ 187، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص: 73. |
^13 | سير أعلام النبلاء: 11/ 187. |
^14 | مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص: 77. |
^15 | مناقب الإمام أحمد ص: 298. |
^16 | سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/ 239. |