جدول المحتويات
المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير (إذاعة القرآن الكريم)، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلم. يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: وحياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
تتمة عصر النهضة الفقهية
المقدم: شيخنا سلمكم الله. كنا قد شرعنا في الحلقة الماضية بالحديث عن الدور السادس من أدوار الفقه الإسلامي، وهو عصر النهضة الفقهية وفتح باب الاجتهاد، وشرعنا في الحديث عن المرحلة الأولى، فإن كان هناك بقي شيء يتعلق بها أو ننتقل للمرحلة الثانية في هذا العصر.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
مراحل عصر النهضة الفقهية
فقد تكلمنا في الحلقات السابقة عن أدوار الفقه الإسلامي، وذكرنا أنه مَرَّ بستة أدوار، وكان الحديث في الحلقة السابقة عن الدور الفقهي السادس، وذكرنا أن هذا الدور مَرَّ بمرحلتين:
- مرحلة ضعف وجمود وتعصُّب مذهبي.
- والمرحلة الثانية غلبت عليه عوامل النهضة، وفتح باب الاجتهاد، وإحياء الفقه وتجديده.
وتكلمنا عن المرحلة الأولى، وكيف أن التعصب المذهبي فيها كان على أشده، لكن فيها جوانب مشرقة؛ إذ إنه برز في هذه المرحلة أئمة كبار وعلماء عظام، ذكرنا أمثلة لهم كابن تيمية، وابن القيم، والنووي، والقرطبي، والشاطبي، والذهبي، وابن كثير، وابن رجب، وابن حجر، وغيرهم. وكان دور العلماء في هذا العصر غالبًا وليس كلهم -وإنما في الغالب- منحصرًا في اختصار كتب المذاهب الفقهية، وفي شرح المختصرات الفقهية، وكان الدافع للاختصار هو التمذهب الفقهي.
وأيضًا تميَّزت هذه المرحلة من عصور الفقه الإسلامي بتدوين الفتاوى وما يقع، وهو جانب عظيم من جوانب الفقه التطبيقي الذي يحتاجه الناس ويسألون عنه الفقهاء، فتُكتب هذه الأجوبة من قِبَل أصحابها، أو من قبل تلامذتهم، أو من قبل آخرين، وتُرتَّب وتُنظَّم على أبواب الفقه، وتكون على هيئة سؤال وجواب، وهي الآن أصبحت بارزة في وقتنا الحاضر، لكنها وُجدت أيضًا في ذلك العصر، منها على سبيل المثال: "فتاوى النووي"، وأيضًا "مجموع فتاوى ابن تيمية"، و"الفتاوى البزازية على مذهب الحنفية" للبزاز، و"الحاوي للفتاوي" للسيوطي، و"فتاوى الرملي"، و"الفتاوى الهندية"، في المذهب الحنفي، وغيرها.
أبرز معالم عصر النهضة الفقهية
المرحلة الثانية من مراحل هذا العصر هي -كما ذكرنا- مرحلة النهضة الفقهية، وقد اختُلف في بدايتها، لكنها تقريبًا تبتدئ من أوائل القرن الثالث عشر الهجري؛ فقد ظهرت بوادر نهضة علمية فقهية، تمثَّلت في حركة تجديد الاجتهاد، ودراسة الفقه الإسلامي دراسةً تستمد أحكامها من أدلة الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح بعيدًا عن التعصب المذهبي، وظهرت الدراسات المقارنة للفقه الإسلامي التي تُوازن بين المذاهب الفقهية وتذكر أدلتها توصُّلًا للقول الراجح.
وأيضًا في هذه الفترة لما اكتُشفت الطباعة كان لها أثرٌ كبيرٌ في ظهور كثير من المصنفات، وكان هناك توسُّعٌ في طباعة التراث الفقهي والعلمي لعلماء السلف، وفي تحقيقه تحقيقًا علميًّا بأفضل الطرق التي تخدم طلاب العلم وتُقرِّب الفائدة إليهم.
وأيضًا في هذه الفترة برزت ظاهرة المكتبات العامة، التي تجمع كتب العلم والفقه وتفتح أبوابها للزوار ليستفيدوا منها قراءة وبحثًا واستعارة واطلاعًا.
وأيضًا ظهرت الجامعات والكليات والمعاهد الشرعية التي تُعنى بدراسة الفقه وأصوله، وتُركِّز على الفقه المقارن، وتُناقَش فيها الرسائل العلمية بحثًا وتأليفًا ودراسةً وتحقيقًا.
وأيضًا في هذه الفترة ظهرت الموسوعات الفقهية التي تتسم بالشمول لأصول وفروع الفقه بأسلوب ميسر ومبوَّب ومرتَّب يخدم الباحثين وطلاب الفقه. وهذه الموسوعات قد ظهرت وبرزت، ولها أمثلة كثيرة لا نريد الدخول فيها؛ لأن الكلام عنها يطول.
وأيضًا في هذه الفترة من هذا العصر ظهرت المؤسسات العلمية التي تُعنى بالاجتهاد الجماعي على شكل هيئات ومجامع فقهية وهيئات علمية ولجان شرعية، فأبرزت فكرة الاجتهاد الجماعي في النوازل والقضايا المستجدة، وقد أصبحت في وقتنا الحاضر بارزة وظاهرة، ويصدر منها قرارات وفتاوى يستنير بها طلاب العلم والمسلمون عمومًا.
ومن أبرز هذه المؤسسات العلمية: المجامع الفقهية، وعلى رأسها "المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي"، وقد كانت فكرته عام (1383) للهجرة، ثم صدر قرار المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في عام (1393) بإنشائه، وبدأت أولى دوراته عام (1398) للهجرة، وينعقد عادةً كل سنتين مرة، ولا يزال إلى وقتنا الحاضر.
وكذلك أيضًا "مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي"، وكانت فكرة إنشائه عام (1401) للهجرة، ثم عُقد المؤتمر التأسيسي له بمكة عام (1403) للهجرة، ثم بعد ذلك بدأ المجمع الفقهي بعقد دوراته، ومقرُّه في جدة، لكنه في دوراته يتنقل بين دول العالم الإسلامي، والأصل أنه فيه نظام وينعقد في كل سنة مرة، ولكن -أحيانًا- ربما لبعض الظروف قد يتأخر انعقاده، فيتأخر أحيانًا فينعقد كل سنتين أو كل ثلاث سنوات مرة، وله جهودٌ كبيرةٌ في النظر للنوازل والمسائل المشكِلة والمستجدات.
وكذلك أيضًا من الهيئات العلمية "هيئة كبار العلماء" بالمملكة العربية السعودية، وهي تنظر فيما يُحال لها من النوازل والقضايا المستجدة.
وكذلك أيضًا اللجان الشرعية في المصارف، خاصة اللجان الشرعية في المصارف الإسلامية، فلها اجتهاداتٌ في المسائل المصرفية، وقد دُوِّن كثيرٌ من هذه الاجتهادات ويفيد منها طلاب العلم.
وكذلك أيضًا "هيئة المراجعة والمحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية"، وقد صدر منها كتاب "المعايير الشرعية"، وهذه المعايير تُعَدُّ بعناية، وهي متخصصة في المعاملات المالية المصرفية، وتمُرُّ بسلسلة طويلة من المراجعة والتنقيح والتدقيق والتحقيق حتى تكون على شكل معايير مختصرة، يعني هي أشبه بالمتون المركَّزة، لكن على شكل معايير محاسبية ومتخصصة في المعاملات المالية المصرفية، وهذه أفادت منها الهيئات الشرعية في المصارف، وأفاد منها طلاب العلم عمومًا.
وأيضًا في هذه الفترة عُقِدَ العديد والكثير من المؤتمرات العلمية والندوات الفقهية المتخصصة التي تُناقش النوازل والقضايا المستجدة.
هذه باختصار أبرز ملامح هذا العصر.
المذاهب الفقهية
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم هذا البيان والإطلالة على هذه الأدوار الفقهية.
شيخنا، إن أذنتم أن ننتقل إلى محور آخر سبقت الإشارة إليه في الحلقة السابقة: وهو ما يتعلق بالمذاهب الفقهية. قبل أن ألِجَ في الحديث عن المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة، أشرتم في حلقة سابقة إلى أن ثمة مذاهب كانت موجودة واندثرت، فلو بينتم لنا ما هذه المذاهب، وما حقيقتها، وكيف اندثرت؟ ثم بعد ذلك نشرع في الحديث عن المذاهب الفقهية المتبوعة إن شاء الله.
أبرز المذاهب الفقهية المندثرة
الشيخ: أولًا المذهب معناه في اللغة: الطريقة، وأيضًا يُطلَق على المعتقد، وهو حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمامٌ من الأئمة في الأحكام الاجتهادية المستفادة من الأدلة.
وبرز أئمة كثر كانت لهم مذاهب فقهية، ولكن سبحان الله! هذه المذاهب انقرضت، ولم يتبقَّ سوى المذاهب الأربعة.
ومن أبرز هؤلاء الأئمة الذين كانت لهم مذاهب وانقرضت: الحسن البصري، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور الكلبي، وداود بن علي، وابن جرير الطبري، فكانت لهم مذاهب لكن لم يُكتب الاستمرار والدوام إلا لمذاهب الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، فهي التي بقيت إلى اليوم وصار لها أتباع وتلاميذ ومؤلفات وأصول. وأما البقية فقد انقرضت وزال أتباعها ولم يبقَ لها ذكرٌ إلا في بطون الكتب والمصنفات.
أسباب بقاء المذاهب الأربعة
ومن أسباب ذلك: أولًا حكمة الله وإرادته؛ فقد كُتب لهذه المذاهب الأربعة الانتشار والقبول والبقاء بين الناس، والقبول يكون من الله ، تجد بعض الناس -سبحان الله!- يجعل الله له القَبول في علمه، وأيضًا حتى في غير العلم، في أمور أخرى يجعل الله تعالى القبول لأناس دون أناس، فالقبول يكون من الله ، وقد يكون لحِكمٍ خفية لا نعلم بها، فجعل الله القبول لهذه المذاهب الأربعة وانقرض ما عداها من المذاهب.
وأيضًا من الأسباب: تقارب ظهور هذه المذاهب، واتصال بعضهم ببعض، مما شجع كل مذهب للإفادة من الآخر والاستئناس برأيه، نجد مثلًا أن الإمام الشافعي تلميذ الإمام مالك، والإمام أحمد تلميذ الإمام الشافعي، فبينهم تواصل.
وأيضًا هذه المذاهب بينها اتفاقٌ في الجملة على الأصول التي تُبنى عليها أكثر المسائل في الفقه: وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وأيضًا حِرص هؤلاء الأئمة العجيب على تبليغ العلم ونشره ونصح الناس.
وأيضًا ما هم عليه من العبادة العظيمة والزهد في الدنيا، فجعل الله تعالى لهؤلاء الأئمة الأربعة القبول، وربما يكون لهم خبيئة أعمال بينهم وبين الله .
وقيَّض الله تعالى لهؤلاء الأئمة الأربعة تلاميذ نجباء، فنشروا علمهم، ووضعوا أصولهم وقواعدهم، ودوَّنوا علومهم ومذاهبهم، ونشروها بين الناس، مع أن هؤلاء الأئمة الأربعة ربما يكون غيرهم أفقه منهم، يعني مثلًا يقول الشافعي: "الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به". الليث بن سعد أفقه من مالك بن أنس، لكن الليث بن سعد مذهبه اندثر، بينما الإمام مالك بقي وأصبحت المدرسة المالكية إلى الآن.
من أسباب ذلك: أن الله تعالى قيَّض للإمام مالك تلاميذ نشروا مذهبه، بينما الليث بن سعد لم يكن له تلاميذ ينشرون مذهبه.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، شيخنا. أنتقل بعد ذلك إلى ما يتعلق بالمذاهب الفقهية المتبوعة المشهورة، المذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، إن رأيتم أن نأخذ إلماحة يسيرة حول كل مذهب مبتدئين بالمذهب الحنفي.
نبذة عن المذهب الحنفي
الشيخ: المذهب الحنفي هو أول المذاهب الأربعة، ومؤسسه الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، أحد أئمة الإسلام، وأول الأئمة الأربعة. وُلِد بالكوفة سنة (80) للهجرة في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك ، وقيل: إنه رأى أيضًا غيره من الصحابة.
وعلى هذا؛ فالإمام أبو حنيفة معدودٌ من التابعين، وكان يبيع الخَزَّ ويطلب العلم، ثم بعد ذلك انقطع للتدريس والإفتاء، وأخذ علمه وفقهه عن طائفة من أجلَّاء علماء التابعين الذين أدركهم: كالحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان، وعامر الشعبي، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة السدوسي، وابن شهاب الزهري، ونافع مولى ابن عمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، إلا أن أكثر هؤلاء العلماء أثرًا على حياة أبي حنيفة وفقهه: عطاء، وحماد الذي تفقه به ولازمه (18) سنة، وكان أبو حنيفة يقول: إني لأدعو الله لحماد مع أبوي.
كان أبو حنيفة فقيهًا ورعًا زاهدًا إمامًا في الدين حتى شهدوا له بالفضل والمكانة، وكان قوي الحجة، حتى إن الشافعي يقول: "قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلًا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته"، فأُعطي قوة حجة رحمه الله تعالى، وهو إمامٌ في الرأي والفقه والنظر وفي دقائق الفقه. وتوفي سنة (150) للهجرة.
ومن أبرز تلامذته: القاضي أبو يوسف المعروف، وهو من أكبر تلاميذ أبي حنيفة، مجمعٌ على إمامته وفضله، وتولى منصب رئيس القضاة في الدولة العباسية، فكان له أثرٌ في نشر المذهب الحنفي. وكذلك أيضًا محمد بن الحسن الشيباني الذي دوَّن فقه المذهب الحنفي ونشره في الكتب الستة المشهورة بـ"كتب ظاهر الرواية". وزُفَر بن هذيل كذلك أيضًا كان من تلامذته، وكان ممن نشر المذهب الحنفي. وكذلك أيضًا الحسن بن زياد اللؤلؤي، وغيرهم.
ومن أشهر كتبهم "كتب ظاهر الرواية" التي أشرنا إليها، و"مختصر الطحاوي"، و"مختصر القدوري"، وأيضًا "بدائع الصنائع" للكاساني: وهو شرحٌ لكتاب "تحفة الفقهاء" للسمرقندي، وقد زوج السمرقندي ابنته فاطمة الفقيهة للكاساني، فقيل: "زوَّجه ابنتَه فشَرَح تحفته".
المقدم: "بدائع الصنائع"؟
الشيخ: نعم، "بدائع الصنائع"، "بدائع الصنائع" هو شرحٌ لـ"تحفة الفقهاء".
وكذلك "المحيط البرهاني" لبرهان الدين البخاري، و"تبيين الحقائق"، و"فتح القدير"، وأيضًا "رَدُّ المحتار" المعروف بـ"حاشية ابن عابدين".
أما أصول وقواعد مذهب أبي حنيفة فهي تُبنى على الكتاب والسنة، وكذلك ما أجمع عليه الصحابة، وأيضًا القياس والاستحسان والعرف والعادة، وكذلك الحِيَل أو الخروج من المضايق، لكنهم أخذوا بالحيل الجائزة التي فيها مَخْلَصٌ شرعي لمن ابتُلي بأمر، وهذا النوع اشتُهر عند الحنفية أكثر من غيرهم.
ومذهب الحنفية يُعتبر أكثر المذاهب الأربعة انتشارًا، ومن أسباب ذلك: أولًا: تقدُّمه الزمني؛ فهو أول المذاهب الأربعة وأقدمها، وهو في الحقيقة من أعظم الأسباب.
وكذلك أيضًا من أبرز الأسباب: تَبَنِّي الدولة العباسية والعثمانية لهذا المذهب، حيث كان أبو يوسف -رئيس القضاة- لا يُعيِّن إلا من كان حنفي المذهب. وكذلك الدولة العثمانية جعلت المذهب الحنفي المذهب الرسمي، وألزموا بالعمل به، فكان هذا من أسباب انتشار المذهب الحنفي.
نبذة عن المذهب المالكي
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. وأيضًا ما يتصل بالمذهب المالكي لو أعطيتم أو بينتم لنا إلماحة حوله.
الشيخ: المذهب المالكي مؤسِّسه إمام دار الهجرة: الإمام مالك بن أنس الأصبحي، المولود سنة (93) للهجرة في المدينة، تربى وعاش فيها وهي يومئذ موطن التابعين ومدرسة العلماء ومجمع كبار الفقهاء الذين أخذ عنهم الحديث والفقه، ومن أشهرهم: نافع مولى ابن عمر، وربيعة الرأي، وهشام بن عروة، وغيرهم.
وقد نقل الحافظ الذهبي عن طائفة من علماء السلف أن الإمام مالكًا هو المقصود بحديث: يوشك أن يضرب الناسُ أكبادَ الإبل يطلبون العلم فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة. وهذا الحديث أخرجه الترمذي والحاكم[1]، قيل: إن المقصود بهذا العالِم الإمام مالك كما نقل ذلك الذهبي.
وقد بلغ مالكٌ منزلةً في العلم والفقه والجلالة والحفظ لم يبلغها أحدٌ من أهل زمانه من التابعين، وكذلك أيضًا كان له تميُّزٌ في الحديث، وأصح الأسانيد -كما يقول البخاري-: مالك عن نافع عن ابن عمر؛ التي تسمى بـ"السلسلة الذهبية"، وكان الإمام مالك إذا أراد التحديث عن النبي توضأ ولبس أحسن ثيابه إجلالًا لحديث النبي .
يقول الحافظ الذهبي: "وقد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره: أحدها: طول العمر وعلو الرواية. والثاني: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم. والثالث: اتفاق الأئمة على أنه حجةٌ صحيح الرواية. والرابع: تجمُّعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن. والخامس تقدُّمه في الفقه والفتوى وصحة قواعده".
ومن أشهر المصنفات للإمام مالك: "الموطأ" هذا الكتاب العظيم، وقد صنفه بطلبٍ من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وقد أراد أبو جعفر المنصور حمل الناس عليه لكن الإمام مالكًا أبى. وقد جمع الإمام مالك في كتابه "الموطأ" الحديث الصحيح في نظره، وأضاف إليه أقوال الصحابة والتابعين وفتاويهم وعمل أهل المدينة، وبلاغاته إلى النبي ، واختياراته الفقهية في بعض المسائل. وقد حظي هذا الكتاب بالقبول وكان عليه شروحات، منها: "التمهيد" و"الاستذكار" لابن عبدالبر، و"المنتقى" لأبي الوليد الباجي، حتى إن الإمام الشافعي يقول: "ما بعد كتاب الله كتابٌ هو أكثر صوابًا من موطأ مالك".
العجيب أن الإمام مالكًا روى عنه أشياخه الذين أخذ عنهم العلم، كالزهري وربيعة ويحيى بن سعيد، كما روى عنه أقرانه، وروى عنه تلامذته، روى عنه تلامذته وأقرانه وأشياخه!
وتوفي سنة (179) وعمره ست وثمانون سنة.
وأما أصول مذهب الإمام مالك فرتبها أولًا مُقدِّمًا كتاب الله ، ثم أحاديث النبي ، ثم الآثار، ثم الإجماع، وعمل أهل المدينة، ثم القياس، وقول الصحابي، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، وكان مذهب المالكية هو أشد المذاهب في سد الذرائع، وكذلك الاستصحاب، والاستحسان.
وكان للمذهب المالكي عناية بعمل أهل المدينة، ويعتبرونه من مصادر التشريع بعد الكتاب والسنة والإجماع، وكما قال ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى: إن عمل أهل المدينة وإجماعهم: منه ما هو متفق عليه بين أهل العلم، ومنه ما هو متفق عليه في قول جمهورهم، ومنه من لا يقول به إلا بعضهم، ومنه ما ليس بحجة، فهو على هذه المراتب.
نبذة عن المذهب الشافعي
المقدم: إن أذنتم ننتقل إذًا للمذهب الشافعي، لو بينتم لنا أبرز ملامحه.
الشيخ: هذا المذهب مؤسسه الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وكانت نشأته وهو صغير في مكة، واستفاد من ذهابه للبوادي، خاصة بادية هُذَيل، وتعلَّم منهم لغات العرب؛ ولذلك فإن كلامه في اللغة العربية يُعتبر حجةً. وأَخَذ الفقه والحديث عن كبار علماء زمانه في مكة، ثم بعد ذلك ارتحل إلى المدينة وتفقَّه على الإمام مالك، فالإمام مالك شيخه، وبقي عند الإمام مالك إلى أن توفي الإمام مالك، ثم ارتحل بعد ذلك إلى بلدان أخرى، ويُعتبر الإمام الشافعي -كما سبق في حلقة سابقة- هو مؤسس علم أصول الفقه، وألَّف كتابه النفيس "الرسالة".
والإمام الشافعي اتفق عامة أهل العلم والفضل الذين عاصروه على إمامته وفضله وفطنته وكمال عقله، وكان من أشد العلماء تعظيمًا له الإمام أحمد؛ قال عبدالله ابن الإمام أحمد: "قلت لأبي: أيُّ رجل كان الشافعي؛ فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ قال: يا بني، كان الشافعي رحمه الله كالشمس للدنيا".
ويُعَدُّ الإمام الشافعي الوحيد من بين علماء المذاهب الأربعة الذي دوَّن مذهبه بنفسه، وألَّف فيه مؤلفات جليلة القدر عظيمة النفع، مثل كتاب "الأم" و"الرسالة" ونحو ذلك.
نبذة عن المذهب الحنبلي
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. بقي معنا ما يتعلق بمذهب أصحابنا المذهب الحنبلي، فلو بينتم لنا بعض ملامحه.
الشيخ: المذهب الحنبلي مؤسسه الإمام أحمد ابن حنبل الشيباني، الإمام المعروف، نشأ يتيمًا، لكن قامت عليه أمه الصالحة وربَّته وأحسنت تربيته، كان وهو صغير يتيمًا تُدفِّئ له الماء قبل صلاة الفجر ليتوضأ، ثم بعد ذلك تختمر بحجابها وتذهب معه إلى المسجد، ثم تنتظر حتى إذا خرج من المسجد رجع إلى البيت مرة أخرى، وكانت الطريق مظلمة، فعنيت به أمه عناية كبيرة، فنشأ مُحِبًّا للطاعة والصلاح حريصًا على طلب العلم، ثم بعد ذلك ارتحل رحلات علمية في أقطار الدنيا لطلب العلم، وكان محدِّثًا فقيهًا عالمًا تقيًّا عابدًا مُجمَعًا على إمامته.
يقول عنه إبراهيم الحربي: "رأيت الإمام أحمد، فرأيت كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء، ويمسك ما شاء". ويقول عنه الشافعي: "أحمد إمامٌ في ثماني خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السُّنة".
وكان عابدًا، وكان -كما ذُكر في ترجمته- يُصلِّي لله تعالى تطوعًا من غير الفريضة ثلاثمائة ركعة، حتى لما ضعف بدنه في آخر حياته أصبح يُصلِّي مائة وخمسين ركعة. وتوفي سنة (241) للهجرة. ومذهبه قائمٌ على اتباع الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة ، ثم بعد ذلك القياس، فهو يحب تقديم الآثار عن الصحابة على القياس.
ومن أشهر كتب الحنابلة أولًا "جامع العلوم للإمام أحمد" للحافظ ابن الخلال، وكذلك أيضًا "مختصر الخرقي"، وكذلك أيضًا كتب الموفق ابن قدامة رحمه الله الأربعة: "العمدة" و"المقنع" و"الكافي" و"المغني" والذي يُعتبر بحق موسوعة فقهية عظيمة، ذكر فيها آراء فقهية كثيرة، حتى إن بعض المذاهب الفقهية التي انقرضت حفظ الله تعالى أقوال أولئك الأئمة في هذا الكتاب العظيم، ومنها كتاب "العدة في شرح العمدة" للبهاء المقدسي. وأيضًا كتب المجد ابن تيمية. ومنها: "المحرر في الفقه". وكذلك أيضًا "الإقناع". وكذلك أيضًا "المبدع في شرح المقنع". و"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي، "التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع"، و"تصحيح الفروع"، وأيضًا كتاب "التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح" للشويكي، وأيضًا كتب موسى ابن أبي النجا شرف الدين الحجاوي، ومنها -كما ذكرنا- "الإقناع" و"زاد المستقنع في اختصار المقنع"، و"حاشية التنقيح" و"شرح منظومة الآداب"، ومنها "دليل الطالب" لمرعي الكرمي، وكذلك "غاية المنتهى"، وكذلك أيضًا كتب منصور البهوتي، ومنها: "كشاف القناع" و"الروض المربع شرح زاد المستقنع"، و"عمدة الطالب"، وكذلك أيضًا "أخصر المختصرات" و"كافي المبتدي" و"مختصر الإفادات" للبعلي، وغيرها كثير.
وكانت أصول مذهب الإمام أحمد -كما ذكرنا- تعتمد على النصوص من الكتاب والسنة وآثار الصحابة، والأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيءٌ يدفعه ويُرجِّحونه على القياس. لكن ليس المراد بالضعيف الباطل ولا المنكر ولا ما في رواته متهم، وإنما المقصود بالضعيف القريب من الحسن، أو الحسن. وكذلك أيضًا القياس عند الضرورة.
والمذهب الحنبلي هو آخر المذاهب الأربعة وأقلها انتشارًا، لكنه انتشر في الوقت الحاضر، يعني في العصر الحاضر انتشارًا واسعًا.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.
وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: الشكر موصول لمن قام بتسجيل هذه الحلقة: أخي عثمان بن عبدالكريم الجويبر.
إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه أحمد: 7980، والترمذي: 2680. |
---|