جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلمٍ.
يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
شيخنا، كنا ولا يزال الحديث عن المسائل والأحكام المتعلقة بعلم الفرائض، ولعلنا في هذه الحلقة نأخذ شيئًا من المسائل والأحكام مبتدئين بالحديث عن أركان الإرث، فهل للإرث أركانٌ؟ وما هي؟
أركان الإرث
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فللإرث أركانٌ، قبل الحديث عنها أولًا تعريف الركن لغةً: "هو جانب الشيء الأقوى الذي يُعتمد عليه".
ويُعرَّف اصطلاحًا بأنه: "ما كان جزءًا من ماهية الشيء، ولا يوجد ذلك الشيء إلا به"؛ كالسجود في الصلاة مثلًا، فهو ركنٌ من أركان الصلاة، يُعتبر جزءًا منها ولا تصح الصلاة إلا به، فهو ركنٌ من أركان الصلاة.
عندما ننتقل لأركان الإرث؛ فلا بد من تحقق هذه الأركان، فإذا تخلَّف واحدٌ منها؛ لم يتحقق الإرث.
وأركان الإرث عند الفقهاء ثلاثةٌ:
- الركن الأول: المُوَرِّث.
- والثاني: الوارث.
- والثالث: التركة.
أما الركن الأول، وهو المورِّث، فالمقصود به: الميت، حقيقةً أو حكمًا؛ حقيقةً: هو من يموت وفاةً طبيعيةً أو يُقتل مثلًا، وأما حكمًا: فالمقصود به: المفقود، والمفقود: الذي انقطع خبره ولم يُعلم له حياةٌ ولا موتٌ، يَحكم القاضي بانتظاره مدةً معينةً، فإن أتى خلال هذه المدة أو عُلم خبره؛ وإلا حكم القاضي بوفاته؛ فيكون ميتًا حكمًا.
وهذا الركن مهمٌّ جدًّا؛ ولذلك أُوجِّه نصيحةً لمن يتصرَّف في مال قريبه وقريبُه لا يزال حيًّا، خاصةً الأولاد إذا تقدَّمت السن بأبيهم أو بأمهم، وأصبح لا يعي، يعني ذهبت عنه الذاكرة مثلًا، أو فقد عقله وذهب الضبط عنه، فنجد أن بعض الورثة يتصرف في مال هذا الرجل أو المرأة وكأنه ميراثٌ، فيُعطي الورثة أموالًا مع أنهم لم يُصبحوا ورثةً بعد، وإنما يُعطي من سيكونون ورثةً أموالًا وأبوهم وأمهم لا يزال حيًّا، كيف يُورث وهو حيٌّ؟! يقول: إنهم محتاجون، حتى لو كانوا محتاجين، ليس له أن يتصرف ويأخذ من مال أبيه أو من مال أمه ويُعطي إخوته أو أخواته، هذا لا يجوز، هذا تعدٍّ على مال هذا الإنسان، بل حتى لو أراد أن يتصدق منه؛ ليس له ذلك؛ لأنه ليس هناك صفةٌ تُخوِّله الصدقة من مال أبيه أو أمه، نعم لو كان أبوه أو كانت أمه بتمام قواهم العقلية، واستأذنهم في الصدقة من أموالهم؛ هنا لا بأس، لكن إذا كان أبوه أو أمه فاقد الأهلية؛ فليس له أن يتصدق من ماله، ولو فعل فإنه يضمن ويُغرَّم مع التوبة إلى الله من هذا.
إذنْ ما الواجب في مال هذا الكبير في السن الذي فقد أهليته؟
الواجب أن يُحفَظ له ماله ويُنفق عليه منه وعلى من تلزمه نفقته، فإذا كان مثلًا كبيرًا في السن، وله زوجةٌ وله أولادٌ، فيُنفق من ماله على زوجته وعلى من تلزمه نفقته عمومًا، ويُزكَّى أيضًا هذا المال، ويمكن أن يُستثمر هذا المال أو جزءٌ منه في مجالات استثمارٍ قليلة المخاطر، منخفضة المخاطر، أي أن مال هذا الكبير في السن يُعامل معاملة مال اليتيم تمامًا، هذه هي القاعدة، يُعامل معاملة مال اليتيم تمامًا، والله يقول في مال اليتيم: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]، هكذا أيضًا مال كبير السن، لا يُقرَب إلا بالتي هي أحسن، يُنفق عليه منه وعلى من تلزمه نفقته إن وُجِد، ويُزكَّى، ويمكن أن يُستثمر في مجالاتٍ قليلة المخاطر، ما عدا ذلك لا يجوز، فمن واقع استفتاءات بعض الناس يأخذون من مال كبير السن ويُوزِّعونه على من سيكونون ورثةً، فيكونون قد ورِثوا هذا الإنسان وهو لا يزال حيًّا، هذا التصرف لا يجوز.
وأذكر قصةً في هذا: أن رجلًا كبيرًا في السن وأُصيب بفقد قواه العقلية مدةً طويلةً؛ مدة أشهرٍ، فقام أحد الورثة المتنفذين، أو من سيكون وارثًا، وأخذ جزءًا كبيرًا من ماله ووزَّعه على إخوانه وأخواته، ثم قدَّر الله أن هذا الكبير في السن شُفِيَ، ثم عَتَبَ عليه عتابًا شديدًا، وقال: من خوَّلك أن تأخذ من مالي وتُوزِّعه وأنا لا زلت حيًّا؟! فحصل منه عُتبٌ شديدٌ عليه حتى كاد الأمر يصل للمحكمة؛ لأنه يرى أنه قد تعدى هذا الابن عليه، قد تعدَّى بكونه يأخذ من ماله ويُوزِّعه على إخوانه وأخواته وأبوه لا زال حيًّا، حتى لو قرر الأطباء بأن هذا الكبير في السن أنه ميؤوسٌ من شفائه، لا يجوز أن يتصرف في ماله إلا فقط بالنفقة عليه وعلى من تلزمه نفقته، وكذلك يُزكَّى ويمكن يُستثمر في مجالات قليلة المخاطر فقط، ما عدا ذلك يحفظ له ماله، هذا أمرٌ مهمٌ وأحب أن أؤكِّد عليه؛ لأني أرى التساهل الكبير من بعض الناس في أموال بعض كبار السن، خاصةً من ضَعُف الضبط عنده أو فقد أهليته.
ولذلك نقول: إن من أركان الإرث: المورِّث، وهو الميت، أن يكون قد مات بالفعل حقيقةً، أو حكمًا وهو المفقود، أما إذا كان لا زال حيًّا؛ فلم يتحقق هذا الركن، هذا الركن غير موجودٍ لم يكن هناك ميراثٌ أصلًا فلا يُوزَّع المال على الورثة أو على بعضهم؛ وعلى هذا نقول: إن هذا الركن مهمٌّ لتحقُّق الإرث.
والركن الثاني: الوارث، وهو الحي بعد مورِّثه، أو الملحَق بالأحياء؛ كالجنين، ولهذا قال الفقهاء: إن الجنين يكون وارثًا حتى لو كان نطفةً في بطن أمه.
المقدم: حتى لو كان نطفةً وقت موت المورِّث.
الشيخ: وقت موت المورِّث، لكن يُشترط لذلك شروطٌ سيأتي الكلام عنها: وهي التحقُّق من كونه نطفةً بعد وفاة مورِّثه، وأيضًا: أن يُولد حيًّا حياةً مستقرةً، وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله.
والركن الثالث: وهو التركة؛ تركة الميت من مالٍ أو حقٍّ، يعني ما يُخلِّفه الميت من مالٍ أو حقٍّ، من حقٍّ؛ مثلًا كحق القصاص، فإنه ينتقل للورثة، يُورَث عن هذا الميت.
فهذه أركان الإرث باختصار.
المقدم: أحسن الله إليك، إذنْ لا توجد مسألةٌ فَرَضيَّةٌ إلا بتوافر هذه الأركان الثلاثة؟
الشيخ: نعم، لا يتحقق الإرث أصلًا إلا بتحقق هذه الأركان: وجود المورِّث الميت، ووجود الوارث الحي، ووجود التركة.
شروط الإرث
المقدم: أحسن الله إليكم، بعد أن نتحقق من وجود الأركان في المسألة التي بين أيدينا، هل هناك شروطٌ للإرث قبل أن يشرع المسلم أو من تصدى لقسمة التركة في هذه المسألة؟
الشيخ: الشروط أولًا جمع شرطٍ، والشرط معناه في اللغة: العلامة.
ومعناه في الاصطلاح: "ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدم لذاته"، هذا هو التعريف المشهور عند الأصوليين.
ويُشترط للإرث ثلاثة شروطٍ:
- الشرط الأول: تحقُّق حياة الوارث بعد موت المورِّث، فلا بد من تحقُّق حياة الوارث بعد وفاة المورِّث ولو لحظةً، حقيقةً أو حكمًا؛ ولهذا يرث الحمل إذا تحققنا من حياته بعد وفاة مورِّثه، ويُعرف ذلك بتحقق شرطين:
- الشرط الأول: تحقُّق وجود الحمل في الرحم حين موت المورث ولو نطفةً.
- والشرط الثاني: أن يُولد حيًّا حياةً مستقرةً.
وقلنا: تحقُّق حياة الوارث بعد وفاة المورِّث ولو لحظةً، وهنا ترد مسألة "من يموتون موتًا جماعيًّا"؛ إما في غرقٍ أو حرقٍ أو في حوادث سياراتٍ أو في حوادث طائراتٍ أو نحو ذلك، ويكونون أقارب، يعني بعضهم يرث بعضًا؛ مثلًا: أسرة من أبٍ وأمٍّ وابنٍ وبنتٍ، فحصل لهم حادثٌ، هل يتوارثون؟ إذا لم يُعلَم المتقدم من المتأخِّر؛ فلا يتوارثون على القول الراجح، لكن إذا عُلِم المتقدِّم من المتأخِّر؛ فإن المتأخِّر يرث المتقدِّم، حتى لو كان تقدُّمه عليه بلحظةٍ، المهم هو التحقق.
- الشرط الثاني: تحقُّق موت المورِّث حقيقةً أو حكمًا، حقيقةً بأن يثبت موته حقيقةً بعلامات الموت المعروفة، والآن أصبح الأطباء يُثبتونها بسهولةٍ، وما يسمى "الطب الشرعي" يُحقِّق ذلك بسهولةٍ، يعني الأطباء عندهم علاماتٌ للوفاة، فأصبح في وقتنا الحاضر التحقُّق من ذلك أيسرَ من الأوقات الماضية.
وقولنا: أو حكمًا، بأن يُحكَم بموته، وهذا في المفقود، خاصةً إذا مضت المدة التي حدَّدها القاضي لانتظاره، فإن القاضي حينئذٍ يحكم بوفاته، فإذا حكم بوفاته، لحظة الحكم بوفاته تُعتبر كأنها لحظة موته حقيقةً.
الميت دماغيًّا هل يُعتبر ميتًا بالمعنى الشرعي؟
وهنا ترد مسألة "الميت دماغيًّا"، نحن قلنا: إنه من شروط الإرث تحقُّق موت المورِّث، فالميت دماغيًّا هل يُعتبر ميتًا بالمعنى الشرعي، أو لا يُعتبر؟
هذه المسألة فيها خلافٌ كثيرٌ، حتى على مستوى المجامع الفقهية من العلماء المعاصرين من يرى أنه ميتٌ، ومنهم من يرى أنه ليس بميتٍ، وأكثر الأطباء يعتبرونه ميتًا، وربما يكون من أسباب ذلك هو الخلاف في تعريف الموت، ما معنى الموت؟ كثيرٌ من الأطباء يُعرِّفون الموت بأنه: أن لا عودة للحياة، وهذا التعريف ليس تعريفًا صحيحًا بالمعنى الشرعي، والتعريف الصحيح للموت شرعًا هو: "مفارقة الروح البدن"، فهل هذا "الميت دماغيًّا" قد فارقت روحه بدنه فنقول: إنه قد مات، أو أن روحه لا تزال في بدنه فنقول: إنه لا زال حيًّا؟ الواقع أننا لا ندري هل الميت دماغيًّا فيه روحٌ أو ليس فيه روحٌ، وإن كانت توجد لديه حياةٌ، لكن يسمونها "حياةً نباتيةً"، يعني مثلًا: وجود دقات القلب، التنفس، التبول، التغوط، التعرق، هل هذه تدل على أن الروح لا تزال باقيةً؟ هذا فيه جدلٌ كبيرٌ بين الأطباء، وكثيرٌ من الأطباء يقولون: هذه حياةٌ نباتيةٌ، ولكن الذي يهمنا هو وجود الروح؛ فعلى هذا نقول: هذا الميت دماغيًّا إن كانت الروح لا تزال موجودةً فيُعتبر حيًّا، ولا يجوز أن تُقسم تركته، أما إذا كانت الروح قد فارقت البدن؛ فيُعتبر ميتًا، ومع الشك الآن في وفاته؛ فالأصل أنه حيٌّ ولا تُقسَّم تركته حتى يُتحقق من وفاته.
- والشرط الثالث من شروط الإرث: وجود السبب المقتضي للإرث؛ من قرابةٍ أو نكاحٍ أو ولاءٍ، فلا بد من وجود أحد هذه الأسباب لتحقق الإرث.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان، ونحن في هذا البرنامج مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، والحديث متصلٌ في المسائل والأحكام المتعلِّقة بعلم الفرائض.
أسباب الإرث
أيضًا مما يتصل بهذه المقدمات شيخنا: ما يتعلق بأسباب الإرث، فما هي أسباب الإرث؟
الشيخ: أسباب الإرث: أولًا الأسباب جمع سببٍ، والسبب لغةً: ما يُتوصَّل به إلى غيره.
واصطلاحًا: "ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته"، هذا هو التعريف المشهور عند الأصوليين.
وأسباب الإرث منها ما هو مجمعٌ عليه، ومنها ما هو مختلفٌ فيه:
أما أسباب الإرث المجمع عليها: فهي النكاح، والولاء، والنَّسَب، كما قال الناظم:
أسباب ميراث الورى ثلاثةْ | كلٌّ يفيد ربَّه الوراثةْ |
وهْيَ نكاحٌ وولاءٌ ونَسَبْ | ما بعدهن للمواريث سببْ |
فالسبب الأول: النكاح، والمقصود به: عقد الزوجية الصحيح، حتى وإن لم يحصل وطءٌ ولا خلوةٌ، فبمجرد العقد؛ يحصل التوارث بين الزوجين؛ ولهذا لو مات أحدهما بعد العقد مباشرةً؛ ورثه الآخر، فالزوج يرث زوجته إذا ماتت، والزوجة ترث زوجها إذا مات، ويدل لذلك قول الله : وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12].
وإذا وقع الطلاق بين الزوجين؛ فإذا كان الطلاق رجعيًّا، وهو ما يملك فيه الزوج رَجعة زوجته بلا عقدٍ ولا مهرٍ، يعني لا تزال في العدة، كأن يُطلِّقها طلقةً واحدةً أو طلقتين؛ فإن هذا لا يمنع التوارث، ما دامت الزوجة باقيةً في العدة، وهذا بالإجماع؛ لأن الرجعية زوجةٌ؛ كما قال الله تعالى في شأن المطلقات طلاقًا رجعيًّا: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228]، فسماهم الله تعالى "بُعُولًا"، أي: أزواجًا.
أما إذا كان الطلاق بائنًا؛ كأن يُطلِّق غير المدخول بها طلقةً واحدةً مثلًا، أو يُطلِّق الطلقة الثالثة للمدخول بها، أو أن الطلاق طلاقٌ رجعيٌّ لكن انتهت العدة ولم يُراجعها، فالأصل أنه لا توارث بينهما، لا في العدة، ولا بعد العدة بالإجماع؛ لأن سبب الإرث: وهو الزوجية قد زال بهذا الطلاق البائن.
لكن يُستثنى من ذلك: إذا كان الطلاق بائنًا في حال مرضِ موتِ المُطلِّق، وبغير رضا الزوجة، ففي هذه الحال تُورَّث زوجته المطلقة منه، سواءٌ تُوفِّي وهي في العدة، أو حتى بعد العدة، ما لم تتزوج بزوجٍ آخر أو ترتد، وعلَّل ذلك الفقهاء بأن هذا معاملةٌ له بنقيض قصده، تُورَّث، معاملةً له بنقيض قصده، فإن سبب توريثها فراره من الميراث، وهذا المعنى لا يزول بانقضاء العدة، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
وعلى ذلك: المطلقة طلاقًا بائنًا الأصل أنها لا ترث، لا يحصل بينها وبين زوجها توارثٌ، إلا إذا قامت الأدلة والقرائن على أن زوجها طلقها في مرض موته بقصد حرمانها من الميراث، فتُورَّث معاملةً له بنقيض قصده، لكن قال الفقهاء: ما لم تتزوج أو ترتد، وقولهم: ما لم تتزوج، يعني أنها تُورَّث بشرط ألا تتزوج؛ لأننا لو قلنا: إنها ترث حتى لو تزوجت؛ للزم من ذلك: أن ترث من زوجين أو أكثر في آنٍ واحدٍ، وهذا خلاف الإجماع، فالمرأة لا ترث إلا من زوجٍ واحدٍ، وقد رُوي أن عثمان ورَّث تُماضِر الكلبية -امرأة عبدالرحمن بن عوف- بعد أن طلقها عبدالرحمن في مرض موته وبعد انقضاء عدتها.
المقدم: نعم، أحسن الله إليك.
بناءً على ما ذُكر سابقًا من تفصيل: لو لخصنا القول الراجح في مسألة: إذا طلق طلاقًا بائنًا في حال مرض الموت.
الشيخ: إذا طلق زوجته طلاقًا بائنًا في حال مرض الموت الأصل أنها لا ترث منه، لكن إذا قامت القرائن الدالة على أنه قصد حرمانها من الميراث -ومن القرائن: أن ذلك في مرض الموت، ومن القرائن: أن ذلك بغير رضاها، ومن القرائن: أن يكون بينه وبين زوجته مشاكل وخصوماتٌ ونزاعاتٌ- فهنا تُورَّث؛ معاملةً له بنقيض قصده، لكن لو أن تلك القرائن لم توجد، وربما أن المرأة هي التي طلبت أو رغبت في أن يُطلِّقها في مرض الموت فطلقها؛ فالأصل أنها لا ترث، ما دام أن هذا الطلاق بائنٌ.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
ثمة أسبابٌ أخرى شيخنا من أسباب التوارث أو الإرث؟
الشيخ: السبب الثاني من أسباب التوارث: الولاء، ويُعرِّفه الفقهاء بأنه: "عصوبةٌ سببها نعمة المعتِق على رقيقه بالعتق"، فإذا أعتق إنسانٌ رقيقًا، وهذا الرقيق ليس له أقارب؛ فإن معتِقه يرثه بالولاء؛ لقول النبي : إنما الولاء لمن أعتق [1]، وقد انقرض الرِّقُّ في وقتنا الحاضر، وأصبح ممنوعًا رسميًّا في جميع دول العالم؛ ولذلك تُذكر هذه المسائل الآن من الناحية النظرية.
السبب الثالث: النَّسَب، ومعنى النَّسَب: القرابة، وهو "اتصالٌ بين إنسانين بالاشتراك في ولادةٍ قريبةٍ أو بعيدةٍ".
وجهات النَّسَب: أصولٌ، وفروعٌ، وحواشٍ.
ومعنى "الأصول": "هم من تسبب في إيجاد الميت مباشرةً أو بواسطةٍ مباشرةٍ"؛ مثل أبي الميت وأمه، وبواسطةٍ؛ مثل أجداد الميت وجداته.
وأما الفروع: "فهم من تسبب الميت في إيجادهم مباشرةً أو بواسطةٍ"، فالمباشرة؛ مثل ابن الميت وبنته، وبواسطة؛ مثل الأحفاد وإن نزلوا بمحض الذكور.
وأما الحواشي فمعناها: "قرابة الميت من غير أصوله وفروعه"، وهم: إخوة الميت وأخواته، وأبناء الإخوة الأشقاء أو لأبٍ، والأعمام وإن علوا وبنوهم وإن نزلوا.
والنَّسَب هو أقوى أسباب الإرث الثلاثة: "نكاحٌ وولاءٌ ونَسَب"، النَّسَب هو الأقوى؛ وذلك لسبق وجوده؛ فإن الإنسان بوقت ولادته يكون ابنًا أو أخًا ونحو ذلك، بخلاف النكاح والولاء، فإنهما طارئان على الحياة، وأيضًا النَّسَب لا يزول، بينما النكاح قد يزول؛ بأن يُطلِّقها طلاقًا بائنًا مثلًا، أيضًا كونه يحجب غيره من الأسباب، هو يحجب النكاح نقصانًا، ويحجب الولاء حرمانًا في بعض الحالات، وأيضًا النَّسَب يُورَّث به بالفرض والتعصيب، بخلاف النكاح فإن الإرث بالفرض فقط، والولاء يكون إرثه فيه بالتعصيب فقط؛ فإذنْ النَّسَب هو أقوى أسباب الإرث؛ هذه أسباب الإرث المتفق عليها.
أسباب الإرث المختلف فيها
هناك أسبابٌ مختلفٌ فيها؛ مثل: جهة الإسلام، هل يرث بها بيت المال أم لا، وذلك في الميت المسلم إذا لم يكن له سوى وارثٍ بالفرض فقط دون التعصيب، وبقي في التركة باقٍ، أو لم يكن له إلا ذو رحمٍ، فهل يرثه بيت المال من جهة الإسلام؛ بحيث يُصرف ميراثه في مصالح المسلمين، أو أن هذا الباقي يُرَدُّ على صاحب الفرض، أو يُعطى ذوو الأرحام؟
في هذا خلافٌ بين الفقهاء، والراجح في هذه الصورة: أن بيت المال لا يرثه، وإنما يُرَدُّ الباقي لأصحاب الفروض من النَّسَب، فإن لم يكن له ورثةٌ من النَّسَب؛ ورثه ذوو الأرحام، وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة؛ لعموم قول الله : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأحزاب:6]، وسيأتي بيان ذلك -إن شاء الله- مفصَّلًا عندما نتكلم عن ميراث ذوي الأرحام، وعن مسائل الرد أيضًا.
أيضًا من أسباب الإرث المختلف فيها: الموالاة والمعاقدة، والمقصود بها: ما كانوا يفعلونه في الجاهلية؛ حيث كان يتعاقد اثنان أو أكثر على التناصر في الحياة، وعلى التوارث إذا سبق موت أحدهما الآخر، فكان الرجل في الجاهلية إذا رغب في خُلَّة آخر؛ يقول له: "دمي دمك، وهدمي هدمك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، ترثني وأرثك"، ويقبل الآخر بذلك، فيتوارثون بهذا الحِلْف، وتوارثوا في أول الإسلام بهذا الحلف، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، ثم بعد ذلك نُسخ هذا بقول الله : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأحزاب:6].
وعلى هذا: فالقول الراجح أن هذا لا يُعتبر سببًا من أسباب الإرث، وأن الموالاة والمعاقدة ليست من أسباب الإرث، كانت موجودة في أول الإسلام ثم نُسخ ذلك. قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: "قال أهل العلم: كان التوارث في ابتداء الإسلام بالحِلْف، فكان الرجل يقول للرجل: "دمي دمك، ومالي مالك، تنصرني وأنصرك، وترثني وأرثك"، فيتعاقدان الحِلْف بينهما على ذلك فيتوارثان به دون قرابة، وذلك قول الله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، ثم نُسخ ذلك وصار التوارث بالإسلام والهجرة، فإذا كان له ولدٌ ولم يُهاجر ورثه المهاجرون دونه، وذلك قوله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا [الأنفال:72]، ثم نُسخ ذلك بقول الله : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأحزاب:6].
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، شكر الله لكم.
الشيخ: والشكر لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه البخاري: 6752، ومسلم: 1504. |
---|