logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(64) برنامج مجالس الفقه- الحقوق المتعلقة بالتركة: الوصية، والإرث

(64) برنامج مجالس الفقه- الحقوق المتعلقة بالتركة: الوصية، والإرث

مشاهدة من الموقع

المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير (إذاعة القرآن الكريم)، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلم. يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي واسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: أهلًا وسهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

تتمة الحقوق المتعلقة بالتركة

المقدم: أحسن الله إليكم، شيخنا في حلقات ماضية شرعنا في الحديث عن الأحكام والمسائل المتعلقة بعلم الفرائض، وكنا قد تطرَّقنا إلى ذِكْر التركة والحقوق المتعلقة بها، وذكرتم لنا -سلمكم الله- ما يتعلق بالحق الأول: وهو مؤن تجهيز الميت، ثم الحق الثاني: وهو الديون المتعلقة بعين التركة، ثم شرعنا في الحديث عن الحق الثالث: وهو الديون المرسلة، وذكرنا جملةً من المسائل والأحكام المتعلقة بذلك.

هناك مسألةٌ مرتبطةٌ بهذا الحق كذلك ويكثر السؤال عنها؛ ألا وهي الدين المؤجل، هل يَحُل بالوفاة أم لا؟

هل الدين المؤجل يحل بالوفاة؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فسبق في الحلقة السابقة القول بأن التركة: "هي ما يُخلِّفه الميت من مال أو حق أو اختصاص"، وتكلمنا عن الحقوق المتعلقة بالتركة، بدأنا بالحق الأول: مؤن تجهيز الميت، ثم بعد ذلك انتقلنا للحق الثاني: وهو الديون المتعلقة بعين التركة؛ كالموثقة برهن مثلًا، ثم الحق الثالث: وهو الديون المطلقة المرسلة التي لا تتعلق بعين التركة وإنما تتعلق بذمة الميت.

وقبل أن أُجيب عن السؤال الذي طرحتموه أقول: إن الدَّين أمره عظيم، وهو مقدَّمٌ في الإخراج على الوصية وعلى الإرث، والله تعالى قال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]؛ فأول ما يُخرَج بعد مؤن تجهيز الميت: الدَّين؛ وذلك لعظيم شأنه، فإن الدَّين من حقوق العباد، وحقوق العباد لا يُكفِّرها شيءٌ إلا التحلُّل من العباد أنفسهم.

ولهذا؛ لما سُئل النبي عن الرجل الذي يُقتل في سبيل الله: هل تُكفَّر ذنوبه؟ فقال: نعم، إذا قُتلتَ وأنت صابرٌ مقبلٌ غير مدبر، ثم قال: إلا الدَّين؛ فإن جبريل قال لي ذلك[1]. فاستثنى النبيُّ الدَّين.

وهكذا أيضًا حقوق العباد تبقى لأصحابها يوم القيامة؛ ولذلك فالسبيل الوحيد للتوبة منها -بعد تحقيق شروط التوبة- هو التحلُّل من أصحاب الحقوق. أما إذا لم يتحلَّل من أصحاب الحقوق فإن هذه الحقوق تبقى لأصحابها يوم القيامة، ومن ذلك الدَّين.

ولهذا؛ ينبغي للمسلم أن يحرص على سداد الديون التي في ذمته، وأن يكون لديه الحرص؛ فإن النبي يقول: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله[2].

تأمل قوله: يريد فهذا دليل على أن النية لها أثرٌ، فالذي نوى السداد وعزم عزمًا صادقًا، وأيضًا أصبحت هذه الديون يَحْمل همَّها كما يقال: تأكل معه وتشرب؛ فإن الله يفتح له أبوابًا من الرزق ويُيسِّر له أداء هذه الديون. وأما الذي مِن نيته المماطلة وأنه إذا لم يُجبَر على السداد فلن يُسدِّد؛ فإن النبي يقول: أتلفه الله: من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله[3].

أتلفه الله قد يكون إتلافًا لماله، قد يكون إتلافًا لبركة ماله، قد يكون إتلافًا لصحته، قد يكون إتلافًا لأمور أخرى، يكون على حسب ما تقتضيه حكمة الله .

ولهذا؛ فمن لحقته ديونٌ عليه أن يكون حريصًا على السداد، ونحن نجد في الواقع في المجتمع أن الحريص على سداد الدَّين -سبحان الله!- سرعان ما تُسدَّد ديونه. أما الذي ليس حريصًا تتراكم عليه الديون وتزداد، لكن الحريص سرعان –سبحان الله!- ما يَفتح الله له أبوابًا من الرزق وتُسدَّد ديونه. هذا نراه في الواقع ونراه في المجتمع.

وأيضًا ينبغي للمسلم أن يستعيذ بالله من غلبة الدَّين؛ فإن النبي كان يُكثِر من الاستعاذة بالله من ذلك، كما جاء في حديث أنس في "صحيح البخاري" قال: كنت أخدم النبي ، وكنت أسمعه يُكثر -لاحِظ قوله: "يكثر"- من أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحَزَن، ومن العجز والكسل، ومن الجُبْن والبُخْل، ومن غلبة الدَّين وقهر الرجال[4].

فتأمل كيف استعاذ النبي بالله من غلبة الدَّين، بل إنه عليه الصلاة والسلام كان في كل صلاة يُصلِّيها يقول في التشهد الأخير قُبَيْل السلام: اللهم إني أعوذ بك من المَأثم والمَغرم[5]. ومعنى المأثم: المعاصي التي تُوقع في الإثم والمغرم: الدَّين. فسُئل النبي عليه الصلاة والسلام: نراك تُكثر الاستعاذة بالله تعالى مِن الدَّين -الذي هو المَغرم-؟ قال: إن الرجل إذا غَرِم يعني: إذا لحقته الديون حدَّث فكذب، ووعد فأخلف[6].

فالإنسان عندما يكون تحت وطأة الديون -سبحان الله!- يكون لهذا أثرٌ في تغير أخلاقه؛ يبدأ يكذب، ويبدأ يُخلف الموعد، ويقع في معاصٍ أخرى: إن الرجل إذا غَرِم: حدَّث فكذب، ووعد فأخلف[7].

ولهذا؛ ينبغي لك -يا أخي المسلم- أن تُكثر من هذا الدعاء، ينبغي أن تدعو الله تعالى به كلَّ يوم: "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم"، "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال"، "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم". وهذا الدعاء الأخير ينبغي أن تدعو به في كل صلاةٍ تُصلِّيها -فريضة كانت أو نافلة-، في التشهد الأخير قُبَيل السلام أو بعد التشهد الأخير قبيل السلام.

بقيت الإجابة عن السؤال الذي تفضَّلتم به: وهو إذا مات المَدِين وعليه ديون مُؤجَّلة؛ كأن يكون عليه أقساطٌ شهريةٌ مثلًا ونحو ذلك، هل تتعجَّل تلك الديون المؤجلة وتُصبح كلها حالَّةً، أم أنها تبقى على أَجَلها؟ لأن -أيضًا- تركة هذا الميت سوف تُقسَّم بين الورثة، فربما إذا أُجِّلت ضاع حق الدَّين، فكيف يُتعامل مع هذه الديون المؤجلة؟ للفقهاء في هذه المسألة قولان:

  • القول الأول: وهو قول جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو أيضًا رواية عند الحنابلة: إن الديون المؤجلة تَحِلُّ بموت المدين، جميع الديون المؤجلة تكون حالَّةً بمجرد موت المدين.
  • وذهب الحنابلة في المشهور عندهم إلى أن الديون المؤجلة تَحِلُّ بموت المدين، إلا إذا وثَّق الورثةُ الدَّينَ برهنٍ أو كفيلٍ مليءٍ فلا تَحِلُّ.

واستدل الجمهور لقولهم بحلول الدَّين: بحديث أبي هريرة أن النبي قال: نفسُ المؤمن معلقةٌ بدينه حتى يُقضى عنه[8]. قالوا: فأفاد الحديثُ الحثَّ على المبادرة بوفاء دين الميت، ولم يُفرِّق بين الدَّين الحالِّ والمُؤجَّل؛ ولأن الأَجَل من حق المدين وقد بطل حقه بموته. وأيضًا الجمهور يرون أن ذمة المدين خربت بموته، يعني أن ذمة هذا الميت بمجرد موته قد خربت ولم تعد صالحة لبقاء هذه الديون مؤجلة؛ فتحِلُّ هذه الديون.

الحنابلة القائلون بأن الديون المؤجلة لا تحِلُّ إذا وثَّق الورثة الدَّين برهنٍ أو كفيل مليءٍ، واستدلوا على عدم حلول الدين إن وُثِّق برهنٍ أو كفيلٍ بأن الأجل حقٌّ للمدين ينتقل لورثته من بعده، ينتقل للورثة من بعد موته. واستدلوا على حلول الديون المؤجلة بالموت في حال عدم توثيقها؛ بأن الورثة قد لا يكونون أهل ملاءة ولا يرضى بهم الدائن؛ فيُؤدِّي عدم حلول الدَّين إلى فوات الحق.

والأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة: هو القول الثاني وهو مذهب الحنابلة، وهو أن الدَّين المؤجل لا يحِلُّ بموت المدين إذا وثَّق الورثة الدَّين برهنٍ أو كفيل مليءٍ؛ لأنه إذا كان قد وُثِّق برهن أو كفيل مليءٍ فهو في الحقيقة مصونٌ عن الضياع فلا حاجة إلى حلوله. أما إذا لم يُوثَّق فسيضيع حق الدائن؛ لأن الورثةَ سيَتَوازَعُون هذه التركة ثم يضيع حق الدائن، من يُطالِب؟ ولذلك فقول الحنابلة هو الأقرب.

وعلى هذا نقول: الديون المؤجلة الأصل أنها تحِلُّ بموت المدين، لكن إذا رغب الورثة في عدم حلولها وأن آجال هذه الديون تبقى وتستمر؛ فعليهم أن يُوثِّقوا هذه الديون إما برهن أو بكفيل مليءٍ، يقال للورثة: أنتم الآن مطالبون بسداد هذه الديون على مورِّثكم حتى وإن كانت مؤجلة، إذا أردتم ألا تحل هذه الديون المؤجلة وثِّقوا هذه الديون إما برهن أو كفيل مليءٍ، فإذا وثَّقوها برهن أو كفيل مليءٍ فإن الدائن سيطمئن على حقه، لكن إذا لم يُوثِّقوها برهن ولا كفيل مليءٍ فالدائن لا يطمئن على حقه، ربما يضيع حقه والورثة يتوازعون هذه التركة ولا يبقى له شيءٌ.

ولهذا فنقول: الأصل هو حلول الدين المؤجل بموت المدين، لكن إذا أراد الورثة أنه لا يحِلُّ فيُوثِّقون هذا الدين إما برهن أو بكفيل مليءٍ.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. هذا ما يتعلق بالحق الثالث، هل انتهت الحقوق المتعلقة بالتركة، أم تَبَقَّى منها شيءٌ؟

الشيخ: بقي الحق الرابع والخامس.

الحق الرابع: الوصية. والحق الخامس: الذي هو الإرث.

الحق الرابع: الوصية

أما الحق الرابع الذي هو الوصية، فالوصية معناها: "التبرع المضاف لما بعد الموت".

وهي مشروعةٌ بالإجماع، وتُستحب للأقارب غير الوارثين؛ لقول الله : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، ونُسخ هذا في حق الوالدين والأقربين الوارثين، وبقي الحكم على الاستحباب في حق الأقارب غير الوارثين.

والوصية تأتي في المرتبة الرابعة من الحقوق المتعلقة بالتركة، متأخرة عن مؤن تجهيز الميت، وعن الديون التي على الميت، سواءٌ أكانت ديونًا متعلقة بعين التركة أو كانت ديونًا مرسلة.

وقد أجمع العلماء على أن الوصية مقدمة على الإرث، ويدل لذلك أن الله لما قسَّم المواريث في آية المواريث قال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، وفي الآية الأخرى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11].

فعلى هذا نقول: إن الوصية مقدمة على الإرث؛ ولذلك ينبغي للورثة بعد وفاة الميت أن يُنفِّذوا الوصية قبل أن يقتسموا التركة؛ لأنه يلاحظ أيضًا أن كثيرًا من الناس يُوزِّعون التركة ثم بعد ذلك يُفكِّرون في إخراج الوصية. هذا غير صحيح، الوصية مقدمة على الإرث، لا بد أن تُخرج الوصية قبل قسمة الميراث.

شروط تنفيذ الوصية

المقدم: أحسن الله إليكم. الوصية هنا يجب تنفيذها بكل حال، أم لذلك شروط؟

الشيخ: الوصية يُشترط لتنفيذها شروط:

الشرط الأول: ألا تكون الوصية لوارث؛ فإن كانت لوارثٍ فإنها لا تصح ولا تُنفَّذ إلا إذا أجاز الورثة ذلك؛ لقول النبي : إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث[9]. فالوارث أعطاه الله حقه من الميراث، فلا داعي لأن يُوصى له زيادة على ذلك.

الشرط الثاني: ألا تتجاوز الوصية الثلث؛ لحديث سعد بن أبي وقاص قال: كان النبي يعُودني وأنا مريض بمكة، فقلت: يا رسول الله، إن لي مالًا، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ -يعني النصف- قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: فالثلث، والثلث كثير؛ إنك أن تَذَرَ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس[10].

العجيب! أن سعد بن أبي وقاص لما مرض وهو في مكة لم يكن له إلا بنت واحدة، ومع ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: الثلث، والثلث كثير، ثم قال له: ولعلَّك أن تُخلَّف فينتفع بك أقوامٌ ويُضَرُّ بك آخرون[11]!

سبحان الله! وتحقَّق ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام؛ شفاه الله ، وخُلِّف ورزق أولادًا كثيرين، وأيضًا انتفع به المسلمون في معركة القادسية، حيث كان قائد المسلمين في معركة القادسية. والشاهد قوله: الثلث، والثلث كثير، وهذا دليلٌ على أن الوصية لا يجوز أن تتجاوز الثلث.

والوصية إنما تَلْزم بالموت، أما قبل الموت فللمُوصي أن يُلغيها، له أن يُعدِّل عليها، له أن يزيد، له أن ينقص، فهي إنما تلزم بالموت.

المقدم: لكن -أحسن الله إليك- إذا كانت بأكثر من الثلث، فهل لا يجب تنفيذها هنا، أو تُرد إلى الثلث فيُنفَّذ مقدار الثلث منها؟

الشيخ: إذا كانت بأكثر من الثلث فيُنَفَّذ الثلث، أما ما زاد على الثلث فلا يُنَفَّذ إلا إذا أجاز ذلك الورثة.

سر تقديم الوصية على الدَّين في آيات المواريث

المقدم: أحسن الله إليكم. هنا -شيخنا- تساؤلٌ: وهو ما يتعلق بالله جل وعلا، في الآية قدَّم الوصية على الدين: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، مع أنه في ترتيب الحقوق: الديون مقدمةٌ على الوصايا بالإجماع، فهل لذلك سِرٌّ أو نكتةٌ أو فائدةٌ؟

الشيخ: نعم، هذا سؤال جيد، عندما نتأمل آيات المواريث نجد أن الله قال في آيتين -في الآية الحادية عشرة من سورة النساء والثانية عشرة كذلك-: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، وفي الآية الأخرى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11].

يعني: أن هذه القسمة التي قسمها الله بين الورثة: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إلى آخر الآيات [النساء:11- 12]، لا تُنفَّذ إلا بعد تنفيذ الوصية والدَّين: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11].

وعلى هذا فالوصية والدَّين مقدَّمان على قسمة التركة، والدَّين مُقدَّم على الوصية بالإجماع؛ فلو تعارض الدَّين والوصية فالدين مقدَّم، لكن ما دام أن الدين مقدَّم على الوصية بالإجماع، فلماذا قدَّم اللهُ الوصيةَ على الدين في الآية فقال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]؟ ولم يقل: "من بعد دين أو وصية يُوصي بها" لأن الدَّين مقدَّم بالإجماع على الوصية؟

قال أهل العلم: إنما قدَّم اللهُ تعالى الوصيةَ في الذِّكر على الدَّين؛ لأن الورثة يغلب عليهم التساهل في تنفيذ الوصية؛ لكونها شيئًا يُؤخذ بغير عوض، بخلاف الدين فإنه يُؤخذ بعوض فلا يشُقُّ على الورثة إخراجه مثل الوصية؛ ولأن الدَّين له من يُطالب به، أما الوصية فليس هناك من يُطالب بها؛ فقدَّم الله الوصية على الدين لأجل الاهتمام بها، وأن يحرص الورثة على تنفيذها.

وعندما ننظر للواقع نجد التساهل الكبير من بعض الناس في تنفيذ وصية الميت، يموت الميت ويقتسم الورثة التركة ولا تُنفَّذ وصيته، ربما تبقى سنوات ما نُفِّذت، ربما إذا كان هناك بعض الورثة فيهم ديانة وفيهم خير يتحركون لأجل تنفيذ الوصية، وأحيانًا لا تُنفَّذ الوصية، وهذا لا يجوز.

المقدم: يتكاتمونها أو يغفلون عنها.

الشيخ: نعم، يغفلون عنها أو لا يهتمون بها؛ لأنه ليس هناك من يُطالب بها بخلاف الدَّين، الدَّين هناك من يُطالب به؛ ولذلك قدَّم الله الوصية على الدين في الذِّكر مع أن الدين مقدَّم عليها بالإجماع؛ لأجل الاهتمام بها، حتى يهتم بها الورثة.

ولهذا؛ ننصح بأنه بعد وفاة الميت ينبغي أولًا أن يُبادَر إلى سداد دينه، ثم تنفيذ وصيته، كل هذا قبل قسمة التركة، ثم بعد سداد الدين والوصية تُقسَّم التركة.

الحق الخامس: الإرث

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. بعد الحق الرابع بقي الحق الخامس وهو الإرث، أليس كذلك؟

الشيخ: بلى.

الإرث: هو الحق الخامس، وهو: "ما يُخلِّفه الميت بعد وفاته من أموال عينية أو نقدية أو غيرها، منقولة أو غير منقولة". وهو الحق الخامس من الحقوق المتعلقة بالتركة، فبعد الوفاة بالحقوق الأربعة السابقة يُقسَّم الباقي من التركة على الورثة بحسب قواعد الميراث، والله تولى قسمة المواريث بنفسه جل وعلا -كما في سورة النساء- ولم يُوكل ذلك للنبي، وإنما قسم المواريث بنفسه؛ وذلك لعظيم شأنها ولأهميتها ولحب النفوس للمال، فحسمها الله وقسمها بنفسه جل وعلا.

وعلى ذلك؛ فبعد الحقوق الأربعة السابقة تُقسَّم التركة على الورثة.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، شيخنا. هنا أمرٌ أودُّ لو علَّقتم عليه بكلامٍ أسأل الله أن ينفع به: هناك عددٌ من التركات بعد وفاة أصحابها ربما تمكث سنوات وهي لم تُقسَّم، ولم يتقاسمها الورثة، وربما تتأخَّر أحيانًا، وربما ينشأ على إثر ذلك نزاعات، فهل من توجيهٍ في مسألة سرعة توزيع التركة على الورثة ونحو ذلك؟

الشيخ: نعم، يُلاحظ أن عددًا ليس بالقليل من الناس يتأخَّرون في قسمة التركة، وربما يطول هذا التأخر ويتضرر بذلك بعض الورثة، وربما يكون هناك من له نفوذٌ فيضع يده على التركة ويرفض التقسيم، أو أنه يحدث مشكلات ونزاعات فتُؤدِّي هذه إلى تأخير قسمة التركة.

والذي ينبغي: المبادرة لقسمة التركة بعد الوصية والدَّين، ينبغي بعد تنفيذ الوصية والدين إن كان هناك وصية ينبغي المبادرة بقسمة التركة وعدم التأخر في قسمتها، ولا يجوز لأحد من الورثة أن يتسبَّب في تأخير القسمة؛ لأن هذا يُعتبر مَطلًا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: مَطل الغني ظلم[12].

والذي يتسبب في تأخير قسمة التركة على الورثة يأثم بذلك؛ لأنه مُتَعَدٍّ بهذا التأخير وظالمٌ، وربما يعني في غالب الأحيان الذي يتسبب في التأخير يكون هو المنتفع وهو المستفيد، يكون مثلًا بعض هذه التركة عقارات تُؤجَّر ونحو ذلك، ويكون قد وضع يده على أكثر التركة فهو المنتفع؛ ولذلك لا يريد أن تُقسَّم، أو أنه يكون من طبيعته أنه غير مبادر، والذي ينبغي المبادرة بقسمة التركة وعدم التأخر في القسمة وإيصال الحقوق لأصحابها.

يوجد هناك أناس يرثون من أقاربهم أموالًا كبيرة، ومع ذلك أحوالهم المادية ليست جيدة، ولهم أموالٌ في تلك التركات، لكن هذه الأموال حُبِست عنهم، فالذي حبسها عنهم وتسبَّب في تأخير القسمة يَبُوء بالإثم، وربما تأتيه عقوباتٌ بسبب ذلك؛ فعلى من كان له نفوذٌ على التركة أن يتقي الله وألا يُماطل في القسمة، وعلى الورثة أن يُبادروا بقسمة التركة وألا يتأخروا وأن يُعطوا كل ذي حقٍّ حقه.

وهنا قبل أن ننتهي من هذا المحور -وهو الحقوق المتعلقة بالتركة- أُوجِّه نصيحةً فيما يتعلق بالوصية: وهي أن تكون الوصية بشيءٍ محدَّد، ولا تكون مشاعة، وإن كان هذا يجوز، يعني لا تكن مثلًا ربع، ثلث، الخمس؛ لأن كون الوصية مشاعة أو بنصيب مشاع، معنى ذلك: أن الوصية تدخل في كل شيءٍ حتى في الإبرة، من الإبرة إلى كل شيءٍ في التركة.

المقدم: فيعسُر التطبيق يعني هنا؟

الشيخ: يعسُر تنفيذها، معنى ذلك: ستدخل في كل شيءٍ، كل شيءٍ تدخل فيه، لكن لو أن الموصي حدَّد شيئًا معينًا، قال مثلًا: هذا العقار وصية، هذا المبلغ المالي وصية، هذا البيت وصية؛ هنا يسهل التنفيذ.

ولذلك أنصح بأن يجعل المُوصي وصيته في شيءٍ محدَّد، وأن يساعد الورثة على سرعة التنفيذ. وأيضًا ينبغي إذا أراد أن يُوصي أن يُحرِّر كتابة وصيته، يكتبها بلغة واضحة، ويستشير أهل العلم؛ ولذلك فإن عمر لما أصاب أنْفَسَ مال في حياته استشار النبي فأشار عليه بالوقف[13].

فينبغي لمن أراد أن يُوصي أن يستشير أهل العلم، يستشيرهم في ماذا يُوصي؟ أو إذا أراد أن يُوقف في ماذا يُوقف؟ ويستشيرهم أيضًا في الصيغة كيف تُكتب؛ حتى لا تُشكِل على الورثة مِن بعده، ويستشيرهم أيضًا في ترتيب النِّظَارة ونحو ذلك؛ حتى تكون وصيته واضحة ومحررة ويسهل على الورثة تنفيذها.

وهكذا أيضًا بالنسبة للديون، عليه أن يُحصي الديون التي في ذمته، وأن يكتبها في وصيته بحيث يعرف الورثة أن في ذمته هذه الديون.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم شيخنا. إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، خير الجزاء، شكر الله لكم.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة بإذن الله ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه مسلم: 1885.
^2 رواه البخاري: 2387.
^3 سبق تخريجه.
^4 رواه البخاري: 2893.
^5 رواه البخاري: 2397، ومسلم: 589.
^6, ^7, ^11 سبق تخريجه.
^8 رواه أحمد: 9679، والترمذي: 1078، وابن ماجه: 2413.
^9 رواه أحمد: 22294، وأبو داود: 3565، والترمذي: 2120، والنسائي: 3643، وابن ماجه: 2713.
^10 رواه البخاري: 2742، ومسلم: 1628.
^12 رواه البخاري: 2288، ومسلم: 1564.
^13 رواه البخاري: 2737، ومسلم: 1632.
مواد ذات صلة
zh