جدول المحتويات
المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله أيها الإخوة: المستمعون والمستمعات، في برنامجكم (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير (إذاعة القرآن الكريم)، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة، مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلم.
يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين.
فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
شبهة أن الإسلام هضم حق المرأة في الميراث
المقدم: أحسن الله إليكم، شيخنا.
في الحلقة الماضية شرعنا في الحديث عن المسائل والأحكام المتعلقة بعلم الفرائض، وأخذنا جملةً من المسائل في حلقة ماضية، ولعلنا نستكمل الحديث بذكر بعض المسائل المتعلقة بهذا العلم.
أبدأ شيخنا بالحديث عن شبهة تُثار من قِبل أعداء الإسلام فيما يتعلق بطريقة الإسلام في التوريث فيما يخص المرأة، فهم يدَّعون أن نظام التوريث في الإسلام يهضم حق المرأة، بدليل أنه يجعل لها النصف من نصيب الذكر، فما الجواب على هذه الشبهة؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
منذ أن بزغ فجر الإسلام وأعداؤه يُثيرون الشُّبَه للطعن في الإسلام ولإطفاء نور الله سبحانه، كما قال الله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]. ومما أثار عليه أعداء الإسلام الشبهات: نظام التوريث في الإسلام، ويُركِّزون على قضيةٍ: وهي أن حق المرأة مهضوم؛ حيث جُعل للذكر مثل حظ الأُنثيين.
وللرد على هذه الشبهة نقول: إن الإسلام أعطى الأنثى من الميراث ما يليق بها، وأعطى الذكر ما يليق به، وهذه القسمة من لدن حكيم عليم، هو خالق البشر وهو أعلم بأحوال البشر. وقولُه الحقُّ والعدل جل وعلا، وهو أعلم وأحكم، هذا من جهة -أولًا- الاستسلام والتسليم لشرع الله ، وهذا الملحظ -أعني الاستسلام لشرع الله سبحانه- يمكن أن يُجاب به عن أية شبهة تُطرح.
ولهذا؛ عائشة رضي الله عنها لما أتتها امرأةٌ تسأل: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ بماذا أجابت؟ قالت: كان يُصيبنا ذلك على عهد رسول الله فنُؤمَر بقضاء الصوم ولا نُؤمر بقضاء الصلاة[1].
وهذا من فقه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أجابت بأن هذا هو شرع الله، هذا بحَدِّ ذاته كافٍ، وهو حكمة الحكم وغاية الحكم، مع أن عائشة رضي الله عنها لا يخفى عليها أن تقول: إن الصوم لا يشُقُّ قضاؤه، فهي ستة أو سبعة أيام في السنة، بينما الصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة يشُقُّ قضاؤها، عائشة رضي الله عنها تعرف ذلك، لكنها أرادت أن تُجيب بجوابٍ يدل على عمق فهمها وفقهها رضي الله عنها؛ بأن بيَّنت أن المناط هو الاستسلام لشرع الله ، وهذا هو مقتضى العبودية. فكيف يكون الإنسان عبدًا لله إذا لم يستسلم لشرع الله تعالى وحكم الله ؟! فمقتضى العبوديةِ الاستسلامُ والتسليم لشرع الله.
ولهذا؛ ذكر الله تعالى أن القرآن منه آيات متشابهات: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، فمن حكمة الله أن جعل في آيات القرآن آياتٍ متشابهة، هذه الآيات المتشابهات تكون فتنةً لمن في قلبه مرض: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7].
وهكذا أيضًا حتى الأحاديث النبوية: منها ما هو مُحكَم ومنها ما هو متشابه، وطريقة الراسخين في العلم رَدُّ المتشابه إلى المحكم.
فأعداء الإسلام هؤلاء يأخذون المتشابه من النصوص للطعن في الإسلام، فالجواب العام عن جميع الشُّبَه أن يقال: هذا هو شرع الله، وشرع الله هو حكمة الحِكَم وغاية الحِكَم: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
حالات الذكر والأنثى في الميراث
وعندما نناقش أيضًا هذه الشبهة مناقشةً منطقية علمية نقول: إن القول بأن الإسلام أعطى الأنثى من الميراث أقل من الذكر مطلقًا فهذا غير صحيح؛ فالأنثى والذكر في الميراث لهما أربع حالات:
- الحالة الأولى: أن يكون نصيب الأنثى كنصيب الذكر تمامًا؛ كما هو الحال في الإخوة والأخوات لأم، فالواحد منهم يأخذ السدس سواءٌ أكان ذكرًا أو أنثى، والجمع يأخذون الثلث بالتساوي، فنصيب الأنثى كنصيب الذكر في هذا الثلث: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يعني: لأم فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12].
- الحالة الثانية: أن ترث الأنثى فقط، وتكون هي سببًا في حرمان الذكر من الميراث؛ كما لو تُوفي رجلٌ أو امرأةٌ عن بنت وأخت شقيقة وأخ لأب؛ فالبنت لها النصف، والأخت الشقيقة لها النصف الباقي، ولا شيء للأخ من الأب؛ لأنه محجوب بالأخت الشقيقة مع كونه ذكرًا وهي أنثى، ومع -أيضًا- كونه أخًا للميت وهي أختٌ للميت، لكنها أختٌ شقيقة وهو أخٌ لأب. ففي هذه الحال الأنثى ترث وتكون سببًا في حرمان الذكر.
- الحالة الثالثة: أن تأخذ الأنثى أكثر مما يأخذه الذكر؛ كمن تُوفي عن أخت شقيقة أو لأب وأم وعم، فالأخت لها النصف، والأم لها الثلث، والباقي سدسٌ يأخذه العم، فالأخت هنا وكذا الأخت لأم كل واحدة منهما أنثى وقد أخذت أكثر من نصيب الذكر وهو العم.
- الحالة الرابعة: أن تأخذ الأنثى نصف ما للذكر، وهذه تكون في عدة صور، منها: البنت مع الابن، وبنت الابن مع ابن الابن، والأخت الشقيقة مع الأخ الشقيق، والأخت لأب مع الأخ لأب. فكل واحدة من الإناث هنا تأخذ نصف ما يأخذه الذكر.
فالقول بأن الأنثى دائمًا تأخذ أقل من الذكر غير صحيح؛ ولذلك في إحدى هذه الحالات الأربع الأنثى تأخذ أكثر من الذكر، وربما أن الأنثى ترث وتكون سببًا في حرمان الذكر، أو أن الأنثى يكون نصيبها نصيب الذكر تمامًا، هي فقط تأخذ نصف ما للذكر في حالة واحدة من أربع حالات.
فإطلاق هذا القول وأن الأنثى تأخذ نصف الذكر مطلقًا؛ هذا كلام غير صحيح؛ ولذلك عندما نُدقِّق في حال ميراث الأنثى نجد أنه ليس بإطلاق أنها تأخذ نصف ما للذكر، بل تارة تأخذ مثل ما للذكر، وتارة ترث ولا يرث الذكر بل تكون سببًا في حرمانه، وتارةً تأخذ أكثر مما يأخذ الذكر، فهي بحسب قربها من الميت.
ثم يقال أيضًا: التفضيل في الحالة المذكورة -وهي أن الأنثى لها نصف ما للذكر- إنما هو لتحقيق العدالة بين الذكر والأنثى؛ حيث نظر الإسلام إلى واجبات المرأة والتزامات الرجل، وقارن بينهما، ثم بيَّن نصيب كل واحد منهما، فكان مقتضى العدالة والإنصاف أن يأخذ الابن ضعف البنت، والأخ ضعف الأخت، والزوج ضعف الزوجة؛ وذلك لأن الذكر هنا في هذه الحالة عليه أعباءٌ ماليةٌ ليست على المرأة.
فالرجل هو الذي يجب عليه أن يدفع المهر للمرأة عن طِيب نفسٍ، والمهر حقٌّ خالص للمرأة وحدها لا يُشاركها فيه أحد. ثم إن الرجل مكلَّفٌ بالنفقة على زوجته وأولاده، بخلاف المرأة فإنه لا يجب عليها أن تُنفق على الزوج ولا على الأولاد: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233].
وأيضًا الرجل مكلف بالنفقة على الأقارب وغيرهم ممن تجب عليه نفقتهم، حيث يقوم بالأعباء العائلية والالتزامات الاجتماعية، بينما المرأة مكفية المؤونة والحاجة، فنفقتها واجبة على الذكر: إما على زوجها إذا كانت متزوجة، أو نفقتها واجبة إذا لم تكن متزوجة على أبيها أو على ابنها أو على أخيها أو عمها أو غيرهم من الأقارب.
فالأنثى هنا تأخذ المال وليس عليها أعباءٌ ولا التزاماتٌ، بخلاف الرجل الذي يتحمل التزامات مالية متنوعة، ومنها الإنفاق على المرأة إن كانت أو بنتًا أو زوجةً أو أختًا. وهذا هو غاية العدالة والإنصاف بين الرجل والمرأة.
ولذلك نقول: إن هذا الترتيب للميراث هو ترتيبٌ في غاية العدالة والحكمة، ولا غرو في ذلك، فهو من لدن الحكيم الخبير جل وعلا: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
التركة والأحكام المتعلقة بها
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا، وجزاكم خيرًا.
لعلي أنتقل إلى محور آخر مما يتعلق بعلم الفرائض: وهو ما يتعلق بالتركة، وهي موضوع هذا العلم، التركة وما يستحقه كل وارث من هذه التركة، فلو بينتم لنا ما المراد بالتركة؟ أحسن الله إليكم.
تعريف التركة
الشيخ: التركة: معناها في اللغة: اسم مصدر مأخوذ مِن "تَرَك الشيء يتركه تركًا"، يقال: تركت الشيء تركًا، وتركة الميت: ما يتركه من التراث المتروك، والجمع تركات.
ويُعرِّف الفقهاء التركة في الاصطلاح بأنها: "ما يُخلِّفه الميت من مال أو حَقٍّ أو اختصاصٍ"، كُلُّ ما يُخلِّفه الميت من مال أو حق أو اختصاص فإنه يدخل في مُسمَّى ومعنى التركة.
ما يدخل تحت مسمى التركة
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، شيخنا.
التركة، ما الذي يشتمل عليه اسمها؟ يعني ما الذي يدخل تحت مسمى التركة؟ وهل يدخل في ذلك أيضًا ما يتعلق بالحقوق المعنوية ونحو ذلك؟
الشيخ: التركة عند الجمهور تشمل جميع ما يتركه المتوفَّى من أموال وحقوق مالية:
- وبذلك فهي تشمل أولًا الأموال العينية، من عقار أو منقول.
- وتشمل كذلك المنافع، كحقوق الإجارة فإنها تُورَّث وتنتقل للورثة.
- وكذلك أيضًا الحقوق العينية المتعلقة بمال المورِّث، مثل حقوق الارتفاق؛ كحق الشرب وحق المَسِيل وحق المرور ونحو ذلك.
- وتشمل التركة كذلك الحقوق الشخصية المتعلقة بالمال؛ كحق الشفعة وحق خيار الشرط في البيع على القول الراجح.
- وتشمل كذلك الاختصاص: وهو ما يخص الشخص من غير الأموال والحقوق؛ كنجسٍ يجوز اقتناؤه مثلًا، هذا يسمونه "مُختَصًّا" أو "اختصاصًا"؛ لأنه لا يجوز بيعه، كالكلب المُعلَّم مثلًا فإنه لا يُعتبر مالًا، ولكنه يَخُصُّ صاحبَه فيكون في حياته أحقَّ بالانتفاع به من غيره، ويُورَّث عنه بعد وفاته.
- وتشمل كذلك الدِّية، سواءٌ أكانت ديةَ نفسٍ أو ما دونها، وسواء أكانت ديةَ خطأٍ أو عمدٍ، فتُعتبر الدية كسائر أموال الميت، فتُقضى منها ديونه وتُخرج وصاياه، والباقي يكون لورثته.
أما الحقوق المالية المتعلقة بشخص المورِّث نفسه؛ كحق الانتفاع بشيءٍ معين يملكه غيره كالشيء المستعار مثلًا؛ هذا لا يدخل في التركة ولا يُورَّث. استعار هذا الميت شيئًا ثم تُوفِّي؛ لا ينتقل هذا الشيء للورثة، وإنما يُرَدُّ على المُعير، فهذه مختصةٌ به في حياته وقد مات.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، شيخنا. هنا مسألة يكثر السؤال عنها في الحقيقة وهو ما يتعلق..
الشيخ: بقي الشق الثاني من السؤال وهو الحقوق المعنوية.
أولًا: ما معنى الحقوق المعنوية؟ الحقوق المعنوية: هي سلطةٌ على شيءٍ غير مادي، وهو ثمرة فكر صاحب الحق أو ذهنه أو نشاطه؛ كحق المؤلف مثلًا، وحق المخترع، والاسم التجاري للمؤسسات والشركات التجارية. فهذه تسمى "الحقوق المعنوية"، وهي مصونةٌ لأصحابها ولا يجوز التعدي عليها.
فهذه الحقوق المعنوية هي في الحقيقة حقوق مالية، وما دامت حقوقًا مالية فإنها تنتقل للورثة بعد وفاة صاحبها؛ وعلى هذا فلو كان -مثلًا- المتوفَّى له مؤلفات وهذه المؤلفات لها حقوق؛ فتنتقل هذه الحقوق للورثة.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، يعني العبرة بماليتها؟ ربما في السابق لم يكن لها مالية، الآن أصبح لها اعتبارٌ وقيمة؟
الشيخ: نعم، صحيح، في السابق ما كانوا يعتبرون لها مالية، ولم تكن المطابع موجودة أصلًا؛ لأن حياة الناس الآن اختلفت عن السابق، فكانت الكتب تُنسخ نسخًا؛ ولذلك هم يفرحون أصلًا بنسخ الكتاب لنشره، أما الآن مع وجود هذه المطابع التي تقذف الآلاف من النسخ؛ أصبح للكتب حقوق، ولغيرها أيضًا، مثل عقد الامتياز، والاسم التجاري، والعلامات التجارية، وغيرها. فهذه الحقوق المعنوية أصبحت في الوقت الحاضر حقوقًا مالية؛ ولذلك فإنها تُورَّث عن الميت.
الراتب التقاعدي هل له حكم التركة؟
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، شيخنا. هنا مسألة -الحقيقة- يكثر السؤال عنها: وهي ما يتعلق بالراتب التقاعدي للمتوفى، هل يدخل هذا في مسمى التركة ويُعامل معاملة التركة في القسمة، أم كيف يكون حاله؟
الشيخ: الراتب التقاعدي عندما ننظر لحقيقته فهو لا يدخل في التركة، ولا يأخذ حكم الميراث؛ وذلك لأنه في تكييفه الفقهي يُعتبر نوعًا من التأمين الاجتماعي، والتأمين الاجتماعي هو فرعٌ عن التأمين التعاوني، وهذا التأمين يُصرف لبعض الورثة وليس لكلهم، يعني هو صندوقٌ تعاونيٌّ تكافليٌّ وُضِع له نظام؛ بحيث إذا مات هذا المتقاعد يُصرف ما يُعين بعض الورثة الذين هم بحاجةٍ إلى المال.
ولذلك؛ فلا يأخذ حكم الميراث، وإنما يُصرف لمن يستحقه حسب النظام؛ لأنه من البداية شُرط على هذا الموظف أنه يقتطع جزءًا من راتبه، وأن هذا الشيء المقتطع يُجمع في صندوقٍ تعاوني ويُستثمر، وأنه لو قُدِّر أنه تُوفِّي فيُصرف بطريقة معينة وضوابط وآلية معينة، وقد رضي بذلك ودخل في هذا الصندوق التكافلي التعاوني.
وعلى ذلك؛ فالراتب التقاعدي لا يُعتبر ميراثًا، ولا يدخل في التركة، وإنما يُصرف على حسب النظام.
الحقوق المتعلقة بالتركة
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، شيخنا. التركة تتعلق بها حقوقٌ ربما أحدها هو الميراث، فلو بينتم لنا ما هي الحقوق المتعلقة بهذه التركة؟
الشيخ: الحقوق المتعلقة بالتركة إجمالًا خمسة حقوق:
الحق الأول: مُؤَنُ تجهيز الميت: من أجرة مُغسِّل وحَفَّار وكفنٍ ونحو ذلك، وأيضًا في بعض البلدان شراء القبر إذا كان يُباع، وكل ما يتعلق بتجهيز الميت هذا حقٌّ من الحقوق المتعلقة بالتركة. لكن هل تُقدَّم مؤن تجهيز الميت على الديون المتعلقة بمال الميت؟ هذا محل خلاف بين الفقهاء.
المقدم: لكن -أحسن الله إليك- قبل هذه المسألة فيما يتعلق بمُؤَنِ تجهيز الميت: إذا كانت مبذولةً على سبيل الصدقة أو الوقف، فهل يقال هنا: المشروع في حق ورثة هذا الميت إن كان له تركة أن يُبذَل من ماله الخاص في تهيئته، أو يُكتفى -والأمر في هذا واسع- بالصدقة المبذولة في ذلك؟
الشيخ: الأمر في هذا واسع، وقد لا تكون صدقةً بمعنى الصدقة، ولكن هذا نفعٌ للمسلمين؛ فيه أوقافٌ وبذلٌ لمُؤَنِ التجهيز من بعض المحسنين، يريدون بذلك الأجر والثواب من الله ، وقد لا يعتبرونه صدقة؛ ولذلك هي تُبذل للجميع؛ للفقراء والأغنياء، لا يُخَصُّ بها الفقراء ويقال: إن مُؤَنَ تجهيز الميت لا تكون إلا للأموات الفقراء؛ هي تُبذل للجميع، أشبه بسقيا الماء، سقيا الماء تجد أنها ليست خاصةً بالفقراء، وإنما تكون للجميع.
لكن، هنا السؤال: هل تُقدَّم مُؤَنُ تجهيز الميت على الديون المتعلقة بمال الميت؟
في هذا قولان للفقهاء:
- القول الأول: إن مُؤَنَ تجهيز الميت تُقدَّم على الديون، حتى لو كان الدين قد تعلق به حقٌّ كالرهن. وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
- القول الثاني: إن الديون المتعلقة بعين التركة مقدَّمة على مُؤَنِ تجهيز الميت. وإلى هذا ذهب الجمهور.
الحنابلة استدلوا بقول النبي في قصة الذي وَقَصَتْهُ ناقته: كَفِّنوه في ثوبين[2]، قالوا: ولم يستفصل : هل عليه دَين أم لا؟ ولو كان ثَمَّة أمرٌ يُقدَّم على تجهيز الميت لَذَكَرَهُ النبي .
وقالوا أيضًا: إن هذه الأمور من حوائج الميت الضرورية التي لا بد منها، فتُقدَّم على جميع الحقوق الأخرى، والدائن ليس بالضرورة أنه يُحصِّل الدَّين دائمًا، أحيانًا لا يُحصِّل دَينه؛ قد يُفلس هذا الإنسان، قد يعرض ما يعرض، فقد لا يُحصِّل جميع الدَّين. لكن، بالنسبة لتجهيز الميت: هذا أمرٌ لا بد منه.
وأيضًا قالوا: إن تجهيز الميت هو من حوائج الميت الضرورية فيُقدَّم على سائر الحقوق. وأيضًا قياسُ تقديمِ كِسْوةِ المُفلِس في حال حياته على قضاء ديونه؛ لأنها من الحوائج الضرورية، فكذلك يقال بعد موته.
وأما الجمهور فقالوا: إن الديون المتعلقة بعين التركة مقدَّمة على مُؤّنِ تجهيز الميت، قالوا: لأن هذه الديون قد تعلَّقت بعين المال قبل أن يصير تركة. وعلى هذا القولِ: يقوم بمُؤَنِ التجهيز مَن تلزمه نفقة الميت إن وُجد، وإلا فيكون في بيت المال.
والقول الراجح -والله أعلم- هو القول الأول وهو قول الحنابلة: وهو تقديم مُؤَنِ تجهيز الميت ودفنه على أيِّ حقٍّ آخر؛ لكونها من الحوائج الضرورية التي لا بد منها، فتُقدَّم على غيرها.
هذا هو الحق الأول.
المقدم: هذا الحق الأول: مُؤَنُ التجهيز؟
الشيخ: مُؤَنُ التجهيز، نعم.
الحق الثاني: الديون المتعلقة بعين التركة، وهي مقدمة على الديون المرسلة. وهذه الديون تنقسم إلى قسمين:
- ديونٌ لله .
- وديونٌ للآدميين.
الديون التي لله سبحانه مثل الزكاة، الزكاة دَينٌ لله ، فإذا كان -مثلًا- على هذا الميت زكاة لم يُخرجها فيجب إخراجها من التركة. وكذلك الحج أيضًا، إذا كان قادرًا على الحج ولم يحج؛ يُحجج عنه مِن تركته، يُعتبر دَينًا لله . ونحو ذلك.
وأما ديون الآدميين كالديون الموثَّقة برهنٍ، نحن قلنا: الديون المتعلقة بعين التركة كالديون الموثقة برهن فهذه أيضًا مقدَّمة.
والحق الثالث: الديون المطلقة المرسلة: وهي الديون التي لا تتعلق بعين التركة، وإنما تتعلَّق بذمة الميت. وتنقسم إلى قسمين:
- حقوق لله .
- وحقوق للآدميين.
فإذا اجتمع في التركة حقٌّ لله وحقٌّ للآدميين واتسعت؛ وجب الوفاء بها جميعًا.
المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- فيما يتعلق بالزكاة التي ذُكرت في الحق الثاني، هي من قَبِيل الحقوق المتعلقة بعين التركة أو من قَبِيل الحقوق أو الديون المرسلة؟
الشيخ: الزكاة إذا كانت قد وجبت على الميت، إذا وجبت على الميت قالوا: مثل زكاة الماشية بعد تمام الحول، فهذه يعتبرونها من الديون المتعلقة بحقوق الميت، وبعضهم يجعلها في الديون المطلقة المرسلة، ففي هذا خلاف بين أهل العلم، والأقرب -والله أعلم- أنها من الحقوق المتعلقة بعين التركة.
ترتيب الحقوق عند ضيق التركة
المقدم: أحسن الله إليكم. كذلك مما قد يَرِد في هذه المسألة: إذا اجتمع حقٌّ لله وحقٌّ لآدمي في تركةٍ، وضاقت التركة عن الوفاء بالجميع، فأيهما يُقدَّم؟ حقُّ الله أو حقُّ الآدمي؟
الشيخ: نعم، عندما تتسع لهما يجب الوفاء بهما جميعًا، لكن إن ضاقت التركة عن الوفاء بهما فأيهما يُقدَّم؟ حقُّ الله أم حقُّ الآدمي؟ يعني مثلًا هذا رجلٌ وجب في ذمته زكاة، وأيضًا هناك آدميون يطلبونه ديونًا، والتركة لا تتسع لهذا ولهذا، فأيها يقدم؟
هذا محل خلاف بين الفقهاء، فمنهم من قال: يُقدَّم حَقُّ الآدمي؛ لأن حقَّه مبنيٌّ على المشاحة، بينما حق الله مبنيٌّ على المسامحة، وإلى هذا ذهب الحنفية والمالكية.
ومنهم من قال: يُقدَّم حق الله مطلقًا، وهذا هو مذهب الشافعية.
ومنهم من قال: تُقسَّم التركة على الحقين بنسبة كلٍّ منهما، قياسًا على تقسيم مال المفلس على جميع الديون المتعلقة به في الحياة، وهذا هو مذهب الحنابلة.
والراجح -والله أعلم- هو القول الأول: وهو تقديم حق الآدميين. لماذا؟ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة، بخلاف حقوق الله فإنها مبنية على المسامحة والعفو، فكانت حقوق الآدميين أحَقَّ بالتقديم. هذا هو الأقرب والله أعلم.
الله تعالى قد يعفو عن الإنسان إذا لم يقم بحقٍّ فيما بينه وبين الله ، وقد يعذر الله تعالى هذا الإنسان، لكن الآدميَّ حقُّه مبنيٌّ على المشاحة؛ فلذلك عندما يضيق الوفاء فالأقرب -والله أعلم- تقديم حق الآدمي؛ لأنه مبنيٌّ على المشاحة، بينما حق الله مبنيٌّ على المسامحة.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح، وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، ولعلنا نستكمل الحديث في المسائل المتعلقة بهذا الموضوع في حلقة قادمة بإذن الله . والشكر موصولٌ لشيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، فشكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.