جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يَحتاج إلى معرفتها كل مسلمٍ.
يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
ميراث الحمل
شيخنا، لا يزال الحديث موصولًا في المسائل والأحكام المتعلقة بالفرائض، وكنا قد شرعنا في الحديث عن أصنافٍ تتعلق بالتوريث بالتقدير، وذكرنا ما يتعلق بميراث "الخنثى المُشكِل"، ولعلنا في هذه الحلقة نذكر جملةً من هذه المسائل مبتدئين بالحديث عن "ميراث الحمل"، قبل ذلك ما المراد بالحمل في هذا الباب؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالحمل يَعقد الفرضيون له بابًا مستقلًّا؛ لأهميته ولإبراز أحكامه.
والحمل معناه في اللغة: الولد في البطن، ويُطلق أيضًا على ثمرة الشجرة عليها.
ومعناه في اصطلاح الفرضيين: "ولدُ الآدمية المتوفَّى عنه -وهو في بطنها- ممن يرث أو يَحجب في جميع التقادير أو بعضها".
المقدم: أحسن الله إليكم.
شروط توريث الحمل
شيخنا، هل الحمل يرث مطلقًا، أو ثمة شروطٌ لا بد من توافرها حتى نُورِّث هذا الحمل؟
الشيخ: الحمل -من حيث الأصل- يرث إذا تحققت الشروط المعتبرة، وأبرز هذه الشروط شرطان:
- الشرط الأول: تحقُّق وجوده في الرحم حين موت المورِّث ولو نطفةً.
- والشرط الثاني: أن يُولد حيًّا حياةً مستقرةً.
أما الشرط الأول -وهو تحقُّق وجوده في الرحم حين موت المورِّث ولو نطفةً- فيتحقق بأحد أمرين:
- الأمر الأول: أن يولد لأقل من ستة أشهرٍ من حين موت المورِّث مطلقًا؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهرٍ؛ كما قال الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، مع قوله سبحانه: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، فإذا وُلد لأقل منها من حين موت المورِّث، وكانت حياته مستقرةً؛ دَلَّ ذلك على أنه كان موجودًا في الرحم قبل موت المورِّث، فتحقَّق بذلك الشرط الأول.
- الأمر الثاني مما يتحقق به الشرط الأول: أن يُولد لأكثر من ستة أشهرٍ ودون أكثر مدة الحمل من موت المورث، بشرط ألا تُوطأ أمه من حين موت المورِّث إلى وضع الحمل.
أما إذا كانت أمه فراشًا؛ إما لزوجٍ يطأ -والفقهاء السابقون يقولون: "أو سيدٍ يطأ"، والآن الرق انقرض- لم يرث الحمل؛ لاحتمال أن يكون من وطءٍ حادثٍ، إلا أن يُقِر الورثة أنه كان موجودًا حال الموت.
أما إن كانت فراشًا ولكن لم يحصل الوطء من الزوج؛ فإن الحمل يرث؛ ولهذا قال الموفق بن قدامة رحمه الله: "وإن كانت لا تُوطأ؛ إما لعدم الزوج أو السيد، أو لغيبتهما، أو اجتنابهما الوطء عجزًا أو قصدًا أو غيره؛ ورث، ما لم يجاوز أكثر مدة الحمل، أما إن وُلد بعد مضي أكثر مدة الحمل من حين موت المورِّث؛ فإنه لا يرث الحمل"، هذا الأمر الأول الذي يتحقق به هذا الشرط.
- الشرط الثاني: أن يُولد حيًّا حياةً مستقرةً؛ وذلك بوجود ما يدل على الحياة المستقرة؛ مثل: الصراخ والبكاء والعطاس والحركة الكثيرة والرضاع ونحو ذلك، ويدل لهذا قول النبي : إذا استهل المولود؛ ورث [1]، هذا الحديث أخرجه أبو داود بسندٍ جيدٍ.
والأصل في معنى الاستهلال: أن الناس إذا رأوا الهلال؛ صاحوا عند رؤيته واجتمعوا، فأراه بعضهم بعضًا؛ فسُمِّي الصوت عند ذلك: الاستهلال، ثم سُمِّي الصوت من المولود استهلالًا؛ فعلى هذا كل صوتٍ من المولود تُعلَم به حياته فهو استهلالٌ، وفي معنى هذا: ما إذا عُلمت حياته بحركةٍ كثيرةٍ أو رضاعٍ أو عطاسٍ أو نحو ذلك؛ فإنه يرث وتثبت له أحكام الحياة، قيل للإمام أحمد: ما الاستهلال؟ قال: إذا صاح أو عطس أو بكى.
أُنبِّه هنا إلى أننا قلنا: إن من علامات الحياة المستقرة: الحركة، لكن ليست أي حركةٍ، وإنما لا بد أن تكون الحركة كثيرةً، أما الحركة اليسيرة والاضطراب والتنفس اليسير فهذا لا يدل على الحياة المستقرة؛ ولهذا قال الموفق بن قدامة: "الاستهلال لا يكون إلا من حيٍّ، والحركة تكون من غير حيٍّ، فإن اللحم إذا خرج من مكان ضيقٍ فتضامت أجزاؤه ثم خرج إلى مكانٍ فسيحٍ فإنه يتحرك من غير حياةٍ فيه، ثم إن كانت فيه حياةٌ فلا نعلم كونها مستقرةً؛ لاحتمال أن تكون كحركة المذبوح، فإن الحيوانات تتحرك بعد الذبح حركةً شديدةً وهي في حكم الميت".
متى شُكَّ في وجود الحياة المستقرة؛ لا يرث الحمل، لماذا؟ لأن الأصل عدمها، ولا إرث مع الشك، هذه من قواعد الميراث: أنه لا إرث مع الشك، فإذا شُك في وجود الحياة المستقرة؛ فإن الحمل لا يرث.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم.
هل الكشف الطبي على الحمل يكفي للتوريث؟
عندي مسألتان شيخنا:
- الأولى: ما يتعلق بالشرط.
- الثانية: الاستهلال.
هل يمكن أن يقال في معنى الاستهلال: الكشف الطبي الذي يقع على الجنين ويُثبت أن حياته مستقرةٌ؟
الشيخ: الكشف الطبي يُعتبر قرينةً، لكنه لا يُعتمد عليه اعتمادًا كاملًا، بل لا بد أن تُضمَّ معه قرائن أخرى؛ لأن الكشف الطبي ليس قطعيًّا، وكثيرًا ما يقع الخطأ ويقع الاشتباه؛ ولذلك هو يُعتبر قرينةً يُستأنس بها، لكن لا يُعتمد عليها اعتمادًا كليًّا.
المقدم: أحسن الله إليكم.
أقل مدة للحمل وأكثره
الأمر الثاني: ما يتعلق بالشرط الأول أشرتم إشارةً إلى أكثر مدة الحمل، وهذا يقودنا إلى سؤالٍ: ما هي أقل مدة الحمل، وما هي أكثر مدة الحمل؟
الشيخ: أما أقل مدة الحمل: فهي ستة أشهرٍ باتفاق العلماء؛ لقول الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، مع قوله سبحانه: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، فإذا كان الحمل والفطام ثلاثين شهرًا، والإرضاع حولين كاملين، يعني أربعةً وعشرين شهرًا؛ يبقى ستة أشهرٍ، نخصم أربعةً وعشرين شهرًا من ثلاثين شهرًا؛ النتيجة: ستة أشهرٍ، وهي مدة الحمل، وهي أقل مدة الحمل.
لكن قد يقول قائلٌ: إنه في الوقت الحاضر أصبح يُولد أطفالٌ خُدَّجٌ أقل من ستة أشهرٍ.
نقول: هذه حالاتٌ نادرةٌ، والنادر لا حكم له، أولًا لم تكن في العصور السابقة موجودةً، لكن وُجدت في الوقت الحاضر مع وجود هذه الحضانة الصناعية والعناية الطبية الفائقة، فيمكن أن يسبق ستة أشهرٍ بأسابيع، فهذه حالاتٌ نادرةٌ، على أنها مقاربةٌ لستة أشهرٍ، لا تكون مدةً طويلةً، هي مقاربةٌ لستة أشهرٍ، وعند الفقهاء: أن النادر لا حكم له، هذا بالنسبة لأقل مدة الحمل.
أما أكثر مدة الحمل: هذه المسألة من المسائل الشائكة الحقيقة، وفيها أقوالٌ كثيرةٌ:
- فمن الفقهاء من قال: إن أكثر مدة الحمل تسعة أشهرٍ؛ لأن الله أجرى العادة أن الحمل لا يزيد في بطن أمه على تسعة أشهرٍ.
- ومنهم من قال: إنها سَنةٌ.
- ومنهم من قال: سنتان.
- ومنهم من قال: أربع سنين، وهذا هو قول الجمهور؛ وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وأشهر القولين عند المالكية؛ قالوا: لأنه قد وُجِد حملٌ لأربع سنين، قال الإمام مالكٌ: "هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد"، قال الشافعي: "محمد بن عجلان بقي في بطن أمه أربع سنين"، وقال أحمد: "نساء ابن عجلان يحملن لأربع سنين".
- وهناك من قال: لا حَدَّ لأكثر مدة الحمل؛ لأن التحديد بابه التوقيف، وليس هناك دليلٌ من الكتاب والسنة يدل على تحديد أكثر مدة الحمل.
والأطباء في الوقت الحاضر يرون أن الحمل لا يمكن أن يزيد على سنةٍ، ويُفسِّرون ما ذكره بعض الفقهاء من وجود حملٍ لأكثر من سنةٍ مثلما ذُكر: "جارتنا امرأة محمد عجلان حملت لأربع سنين"، مثل هذه العبارات يقولون: هذا ليس حملًا، انقطع عنها دم الحيض فظنت أنها حاملٌ، ربما يأتي ما يسمى بالحمل الكاذب، لكن الحمل الحقيقي يقولون: لا يمكن يكون أربع سنين؛ لأنه لو كان أربع سنين؛ فالحمل ينمو، فسينفجر بطن الأم، فلا يمكن هذا من ناحيةٍ طبيةٍ.
و"المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي" درس هذا الموضوع في إحدى دوراته، وكنت مشاركًا معهم في هذه الدورة، وصدر بقرارٍ جاء فيه:
أولًا: أنه لم يرد نصٌّ من الكتاب أو السنة صريحٌ يُحدِّد أكثر مدة الحمل.
وثانيًا: أكد الطب الحديث المتعلِّق بالحمل -عبر التحاليل المخبرية، والتصوير بالموجات فوق الصوتية وغيرهما- أنه لم يثبت أن واصل الحياةَ حملٌ داخل الرحم لأكثر من تسعة أشهرٍ إلا لأسابيع قليلةٍ، وأن ملايين المواليد الذين سجل تاريخ بدء حملهم ووقت ولادتهم لم تُسجَّل حالةٌ واحدةٌ دام حملها لأكثر من ذلك.
وحيث إن الشريعة الإسلامية لا تتعارض مع ما ثبت من العلم؛ فإن المجمع يقرر:
أولًا: أن أكثر مدة الحمل: سنةٌ من تاريخ الفُرقة بين الزوجين؛ لاستيعاب احتمال ما يقع من الخطأ في حساب الحمل.
ثانيًا: أي ادعاءٍ بحملٍ يزيد على السَّنة يُحال إلى القاضي للبَتِّ فيه مستعينًا بلجنةٍ شرعيةٍ طبيةٍ.
ففي وقتنا الحاضر أصلًا لا يزيد الحمل على سنةٍ، لماذا؟ لأن الحمل إذا وصل حتى ليس لسنةٍ، بل لعشرة أشهرٍ؛ يتدخل الأطباء ويعملون لهذه المرأة الحامل عمليةً قيصريةً، ففي وقتنا الحاضر لا يمكن أصلًا أن يزيد على سنةٍ.
الحالات التي ذكرها بعض الفقهاء عن الحمل أكثر من سنةٍ الحقيقةَ تحتاج تأملًا؛ هل هو بالفعل حملٌ، أو حملٌ كاذبٌ، أو بداية حملٍ ثم توقف ثم رجع بعد ذلك؟ الله تعالى أعلم، لكن مثلما ذكر الفقهاء في "المجمع" أن نجعل الأصل: أن الحمل لا يزيد على سنةٍ، وأي ادعاءٍ فوق السنة يمكن أن يحال إلى لجنةٍ طبيةٍ شرعيةٍ، وهي تتحقق من ذلك.
كيف تحسب بداية مدة الحمل؟
المقدم: أحسن الله إليكم، لكن هنا ابتداء حساب مدة الحمل يكون من متى؟ من انقطاع العادة عند المرأة، أو من حين نشوء الحمل حقيقةً؟
الشيخ: ابتداء مدة الحمل: يكون من حين نشوء الحمل؛ وذلك بالتقاء الحيوان المنوي بالبويضة.
طريقة كثيرٍ من الأطباء الآن: أنهم يحسبون مدة الحمل بأول يومٍ من آخر دورةٍ شهريةٍ للمرأة، وهذه الحسبة -من الناحية الشرعية- غير صحيحةٍ؛ لأنه حُسِب فيها مدةٌ ليست من الحمل، حُسِب فيها حتى مدة الحيض، آخر حيضةٍ، وهذه كلها ليست من الحمل؛ ولذلك هذه المسألة مسألةٌ مهمةٌ، ولها ارتباطٌ بكثيرٍ من الأحكام الشرعية؛ مثلًا: عندما يكون هناك سقطٌ، العلماء يقولون: إذا بلغ أربعة أشهرٍ فأكثر؛ يُصلَّى عليه، إذا كان أقل؛ لا يُصلَّى عليه، طيب كيف حسبتم أربعة أشهرٍ؟ ولذلك ينبغي للأطباء المسلمين أن يُعنَوا بهذه المسألة، وأن يحرصوا على إيجاد طريقةٍ دقيقةٍ لحساب عمر الحمل غير هذه الطريقة، وأعرف أن هناك طرقًا أخرى أيضًا بالأشعة فوق الصوتية ونحو ذلك، لكن هذه الطريقة المشهورة عند الأطباء، وهي حساب مدة الحمل من أول يومٍ من آخر دورةٍ شهريةٍ، غير معتبرةٍ من الناحية الشرعية؛ لأنها تُدخِل مدةً من الحمل وهي ليست كذلك، يعني تَجعل مدةً من الحمل وهي ليست كذلك، من أول يومٍ من آخر حيضةٍ، يعني مدة الحيضة حسبوها من الحمل، ما بعدها حسبوه من الحمل، هذه لا تدخل في عمر الحمل.
طريقة تقسيم التركة عند وجود الحمل
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، من المسائل، وهي مسألةٌ أصيلةٌ في هذا الباب: ما يتعلق بكيفية تقسيم التركة إذا وُجد فيها حملٌ؟
الشيخ: إذا مات إنسانٌ وخلَّف ورثةً وفيهم حملٌ: إن رضي الورثة بتأجيل القسمة إلى حين وضع الحمل؛ فهذا هو المطلوب، وهو أولى؛ خروجًا من الخلاف، واحتياطًا لنصيب الحمل، وحتى تكون القسمة مرةً واحدةً، ولأن الحق لهم وقد رضوا بالتأجيل.
أما إذا لم يرضَ الورثة بتأجيل القسمة وطالبوا بها؛ فهل يُمكَّنون من القسمة؟
- من العلماء من قال: إنهم لا يُجابون إلى ذلك ولا يُمكَّنون، ولا تقسم التركة، هذا هو مذهب المالكية؛ قالوا: لأنه لا يُعلَم نصيب كل وارثٍ على وجه التحديد إلا بعد وضع الحمل.
- والقول الثاني: أن الورثة يُمكَّنون من القسمة، ويُوقف المشكوك فيه -وهو ميراث الحمل- إلى حين وضع الحمل، هذا قول جماهير الفقهاء؛ الحنفية والحنابلة والشافعية، وهو أيضًا قولٌ عند المالكية.
نحن الآن أمام مشكلةٍ، لكن كل مشكلةٍ لها حلٌّ، كيف تُعطَّل قسمة التركة لأجل وجود حملٍ؟! لا بد أن يكون لها حلٌّ، الحل: أن التركة تُقسَّم، وميراث الحمل يُوقف له، أو حتى نحتاط لنصيب الحمل؛ لأن في تأخير القسمة إلى حين وضع الحمل إضرارًا بالورثة، وربما تطول مدة الحمل فيَعظم الضرر بالانتظار، ونفترض مثلًا: أن هذا الحمل في الشهر الأول، أو حتى في الأسبوع الأول، فهل نقول: يجب على الورثة أن ينتظروا ثمانية أو تسعة أشهرٍ، حتى تضع هذه المرأة؟ هذا فيه إضرارٌ بهم، والشريعة لا تأتي بهذا؛ ولهذا فالقول الراجح هو القول الثاني، وهو قول الجماهير: وهو أن التركة تُقسَّم، ويُوقف المشكوك فيه، الذي هو ميراث الحمل، هذا هو الأقرب للأصول والقواعد الشرعية؛ لأن تأخير القسمة فيه إضرارٌ بالورثة.
أما ما ذكره أصحاب القول الأول: أنه لا يُعلم نصيب كل وارثٍ على وجه التحديد، فيزول هذا الإشكال بقسمة التركة مع وقف المشكوك إلى حين وضع الحمل؛ وعلى ذلك نقول: إن التركة تُقسَّم، ويُوقف المشكوك فيه.
طيب، كيف يُوقف المشكوك فيه؟ بأن نحتاط لنصيب الحمل، طيب هل نحتاط بنصيب ذكرٍ أو ذكرين، أو أنثى أو أنثيين، أو ذكرٍ وأنثى مثلًا؟ الفقهاء السابقون مذكورٌ في عامة كتب الفرائض أنهم يذكرون ستة تقادير: يذكرون كونه ميتًا، وكونه ذكرًا، وكونه أنثى، وكونه ذكرين، وكونه أنثيين، وكونه ذكرًا وأنثى، ويقولون: إن كونه أكثر من اثنين هذا نادرٌ، والنادر لا حكم له، والحقيقة تأملت في هذه الاحتمالات الستة ووجدت أنه يمكن أن نختصرها إلى تقديرين، هذا بالتأمل، وأيضًا تباحثت مع بعض طلاب العلم فرأيت أن هذه التقادير الستة الغرض منها: هو الاحتياط لنصيب الحمل، فنأخذ أكثر احتمالين نحتاط بهما لنصيب الحمل، ما هما أكثر احتمالين؟ كونه ذكرين، وكونه أنثيين فقط؛ وعلى ذلك: لا حاجة لبقية التقادير، وهذا هو ما ذكرته في كتابي "تسهيل حساب الفرائض"، حيث ذكرت هذه التقادير الستة، ثم ذكرت هذين التقديرين، وذكرت القسمة على التقادير الستة، وعلى هذين التقديرين.
فإذنْ القسمة تكون بالاحتياط لنصيب الحمل، يعني نفترض أنه ذكران أو أنه أنثيان؛ وذلك بأن يُجعل لكل تقديرٍ مسألةٌ، وتُقسَّم وتُؤصَّل، وتُصحَّح إن احتاجت إلى تصحيحٍ، ثم يُنظر لأصول هذه المسائل بالنِّسَب الأربع، وحاصل نظره، والجامعة، ثم تُقسَّم الجامعة على أصل كل مسألةٍ؛ من أجل استخراج جزءِ سهمها، ثم تضرب سهام المسألة في جزء سهمها؛ يخرج بذلك استحقاق صاحبها، فمن وَرِث في جميع المسائل متساويًا؛ أخذ نصيبه كاملًا، ومن ورث متفاضلًا؛ أُعطي الأقل، ومن ورث في حالٍ دون حالٍ؛ لم يُعطَ شيئًا، ويُوقف الباقي إلى حين وضع الحمل، فإن كان ما وُقِف له بقدر إرثه؛ أخذه، وإن كان أكثر؛ رُدَّ الزائد على من يستحقه من الورثة، هذه تفاصيلها.
وأيضًا التطبيقات موجودةٌ في هذا الكتاب وفي غيره من كتب الفرائض، وكما ذكرت في الحلقات السابقة: أن من أراد أن يُتقن الفرائض لا بد أن يأخذ ورقةً وقلمًا ويقسم بنفسه؛ إذ إن الشرح النظري لا يكفي، هذه مثل دراسة الحساب أو الرياضيات أو الجبر، لا بد من أن تأخذ الورقة والقلم وتقسم، فمن أراد أن يُتقن قسمة ميراث الحمل؛ يأخذ ورقةً وقلمًا ويأخذ أمثلةً محلولةً من كتب الفرائض، ثم يختبر نفسه بأمثلةٍ غير محلولةٍ، ثم يُصحِّح لنفسه ويضبط مواضع الخطأ عنده، ويُكرِّر القسمة، فإذا فعل ذلك وكرر هذا؛ فإنه سيُتقن القسمة بإذن الله .
المقدم: أحسن الله إليكم، وأنا أذكر في هذا كلمةً قيلت عن إبراهيم النخعي رحمه الله، لما سئل عن تعلم الفرائض فقال جملة: "أَمِتْ أهلَك وجيرانك"، يقصد بهذا التطبيق الذي تفضلتم به، وأهمية ممارسة الفرائض تطبيقًا حتى ترسخ في الأذهان.
الشيخ: وهذا المعنى صحيحٌ، وأنا أذكره للطلاب عندما أُدرِّس الفرائض، أقول: تصور المسألة، طبِّقها على نفسك، طبِّق المسألة على نفسك أو على مثلًا أحد أقاربك، هلك فلانٌ عن كذا وكذا وكذا، يكون هذا أدعى للتصور.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
معرفة جنس الجنين هل يغني عن التقديرات؟
شيخنا، ما يتعلق بتطور الطب الآن في معرفة جنس الجنين وعدده من خلال الأشعة الدقيقة، هل يُغني عن هذه التقديرات؟
الشيخ: هذا السؤال سؤالٌ جيدٌ، يعني ما ذكرته بناءً على وضع الناس وحالة الناس قبل الثورة الطبية الحديثة التي نعيشها الآن، في الوقت الحاضر تقدَّم الطب تقدمًا كبيرًا، ووُجدت الأشعة بمختلف أنواعها، وأصبحت الأشعة لها طبيبٌ مختصٌّ، وأصبحت ليست فقط تَكشف عن الحمل، بل تكشف عن الخلايا، وعن الأشياء الدقيقة التي لا تُرى بالعين المجردة، فيُمكن معرفة نوع الجنين في الوقت الحاضر عن طريق الأشعة، ويمكن الاعتماد عليها ووقف نصيب الحمل إلى حين الوضع وقسمة التركة على بقية الورثة إذا عُرف نوع الجنين بشكلٍ قاطعٍ، وليس مشتبهٍ فيه، وإنما يُخبِر طبيب الأشعة أن الحمل مثلًا ذكرٌ أو أنثى، أو ذكران أو أنثيان (100%)، بحيث لا يكون هناك احتمالٌ للخطأ، لكن معرفة نوع الجنين في الوقت الحاضر لا تتأتَّى مع بداية الحمل، وفي أشهر الحمل الأولى لا يمكن معرفة نوع الجنين، وإنما يُحتاج إلى أن يمضي على الحمل شهورٌ؛ حتى يتضح نوع الجنين؛ ولذلك فنقول: إنه في الأشهر الأخيرة يمكن أن يُعتمد على الطب في تحديد نوع الجنين؛ وبالتالي لا نحتاج لهذه التقادير وهذه القسمة التي ذكرها الفقهاء في هذا الباب، يعني: لو كان مثلًا حملٌ في الشهر السادس أو السابع أو الثامن أو التاسع، معرفة نوع الجنين أصبحت واضحةً، ولا حاجة لهذه التقديرات التي ذكرناها، لكن لو كان في الأشهر الأولى؛ الطب لا يستطيع أن يُحدِّد نوع الجنين بشكلٍ قاطعٍ، قد يكون قبل الشهر السادس يمكن بشكلٍ لكن ليس قاطعًا، ظنيٍّ، أما الأشهر القريبة: الشهر الأول والثاني لا زال نطفةً، ولا زال علقةً، لا يتحدَّد معها نوع الجنين؛ معنى ذلك: أن الأشهر الأولى من الحمل لا يمكن أن يُقطَع معها بمعرفة نوع الجنين؛ ولذلك يُحتاج لهذه الأحكام التي ذكرها الفقهاء؛ معنى ذلك: أننا لا نستغني عن هذه الأحكام مع تقدم الطب؛ لأنه في الأشهر الأولى من الحمل لا يمكن معرفة نوع الجنين، إنما يمكن أن يُستغنى عنها في الأشهر الأخيرة من الحمل.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
شيخنا، أيضًا مما يتعلق بهذه المسألة، ذكرتم قبل قليلٍ: أن ما زاد على تقدير اثنين يُعتبر نادرًا، والنادر لا حكم له، لكن لو افترضنا أن هذا النادر قد وقع، فنصيب الحمل الثالث هنا كيف يؤخذ؟
الشيخ: أولًا الفقهاء السابقون كانوا يقولون: إنه نادرٌ مع عدم وجود الإمكانيات الطبية الحديثة الموجودة الآن، وفي الوقت الحاضر -مع وجود تقدم الطب- يُصبح أندر من النادر؛ لأنه في الأشهر الأخيرة سيُعرف نوع الجنين عن طريق الطب، مثلًا: لو كان الحمل في الأشهر الأولى، واستعجل الورثة على القسمة، وأخذوا بتقدير ذكرين أو أنثيين، ثم قُدِّر أنه أصبح أكثر من ذكرين، ثلاثةً مثلًا أو أربعةً؛ فالحكم في هذا أنه يرجع على الورثة وتُعاد القسمة من جديد، وما أخذه الورثة زائدًا عن حقهم يُعيدونه لهذا الحمل، فتُعاد القسمة من جديدٍ، لكن هذه حالاتٌ نادرةٌ؛ ولذلك الفقهاء لا يُرتِّبون عليها أحكامًا، فإذا حصل مثل هذا؛ فتُعاد القسمة، وما أخذه الورثة زائدًا عن حقهم فإنهم يُعيدونه للحمل.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ: الدكتور سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه أبو داود: 2920. |
---|