logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(62) برنامج مجالس الفقه- المسائل المتعلقة بعلم الفرائض

(62) برنامج مجالس الفقه- المسائل المتعلقة بعلم الفرائض

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يَحتاج إلى معرفتها كل مسلمٍ.

يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: مرحبًا بكم وأهلًا وسهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

المسائل المتعلقة بعلم الفرائض

شيخنا، لعلنا في هذه الحلقة وما يتبعها من حلقات -بإذن الله - نذهب إلى علمٍ من العلوم العظيمة: وهو ما يتعلق بعلم الفرائض، ولا شك أن هذا العلم من أجلِّ العلوم وأرفعها قدرًا، ولأهميتها وعظيم شأنها؛ تولَّى الله جل وعلا قسمة هذه الأموال بنفسه سبحانه جلَّ في علاه في كتابه، ولأن الأموال محل أطماع النفوس، وقد عقد الفقهاء رحمهم الله كتابًا في باب الفرائض أولوه عنايةً، وتكلموا فيه عن المسائل المتعلقة بهذا الباب العظيم، فلعلنا في هذه الحلقة وفي حلقاتٍ قادمةٍ -بإذن الله - نأخذ جملةً من المسائل المتعلقة بهذا العلم، فإن رأيتم شيخنا أن نبدأ بتعريف علم الفرائض، ما المراد به؟

تعريف علم الفرائض لغةً واصطلاحًا

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فعلم "الفرائض" من العلوم العظيمة التي يحتاج لها معظم الناس إن لم يكن جميع الناس.

والفرائض: جمع فريضةٍ بمعنى مفروضةٍ، وهي اسم مصدرٍ مأخوذٍ من الفرض، والفرض في اللغة العربية يُطلق على عدة معانٍ:

  • منها: القطع، تقول: فرضت لفلانٍ كذا من المال، أي: قطعت له.
  • ومنها: التقدير، ومنه قول الله : فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237]، أي: ما قدَّرتم.
  • ومن معاني الفرض في اللغة: الحَزُّ، ومنه فرض القوس وهو الحَزُّ الذي في طرفيه حيث يُوضع الوَتَر.
  • ومن معانيه أيضًا: التحليل والإباحة، ومنه قول الله : مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ [الأحزاب:38]، أي: أحل الله له.
  • ومن معانيه في اللغة كذلك: التبيين، ومنه قول الله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، أي: قد بيَّن لكم.
  • ومن معاني الفرض في اللغة: الإنزال، ومنه قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85]، أي: الذي أنزل عليك القرآن.

وهذا يدل على عظمة اللغة العربية، انظر: كلمةٌ واحدةٌ كيف أتت لها هذه المعاني الكثيرة؟!

والذي يعنينا من هذه المعاني: هو التقدير، المعنى الذي ذكرناه، وهو التقدير.

وأما معنى علم الفرائض اصطلاحًا: فهو "علمٌ يُعرف به من يرث ومن لا يرث، ومقدار ما لكل وارثٍ".

المقدم: هل نستطيع إيضاح هذا التعريف الذي ذكره الفقهاء؟

الشيخ: نعم، هو علمٌ كسائر العلوم، وبعض العلماء يجعله علمًا مستقلًّا، وبعضهم يجعله تابعًا لعلم الفقه، ولا مشاحة في الاصطلاح.

"يُعرف به من يرث ومن لا يرث": يعني عند موت الميت، مَن الذي يرث من أقارب هذا المتوفى ومن الذي لا يرث، "ومقدار ما لكل وارثٍ" من الورثة، هذا العلم هو الذي يُحدِّد ذلك؛ يحدد أولًا: الورثة من غير الورثة، ويحدد ثانيًا: مقدار ما لكل وارث.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، هذا العلم هل له مسمياتٌ في كتب العلماء والمصنفات الفقهية، أم أنه يُعرف بـ"الفرائض" فقط؟

الشيخ: أشهر أسمائه: "علم الفرائض"، وسمي بذلك؛ لاشتماله على أنْصِبةٍ مقدَّرةٍ، ويسمى كذلك: "علم المواريث"، ويسمى كذلك: "فقه التركات".

المقدم: أحسن الله إليكم.

أهمية علم الفرائض

شيخنا، لو بينتم لنا أهمية هذا العلم، وعظم منزلته في الشريعة وتَعَلُّمه.

الشيخ: علم الفرائض من العلوم العظيمة المهمة التي يحتاج إليها الناس، أو معظم الناس؛ ولذلك ينبغي العناية والاهتمام بهذا العلم وضبطه.

وقد تولَّى الله قسمة الفرائض بنفسه، ولم يُوكل ذلك لملكٍ مقرَّبٍ ولا لنبيٍّ مرسلٍ؛ وذلك لأن النفس مجبولةٌ على حب المال، ولو وُكلت القسمة إلى الناس؛ فلربما وقع فيها الجور والضرر، ثم أيضًا ثمَّةَ تصرفاتٌ كانت موجودةً في الجاهلية؛ كانوا يَحرمون الإناث والصغار من الميراث، وأراد الله أن يبطل ذلك كله؛ فتولى قسمة المواريث بنفسه جل وعلا.

وبعد أن قسم الله تعالى المواريث في سورة النساء قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [النساء:13]، ووعد من أطاعه بالجنات، ومن عصاه بالنار، فقال سبحانه: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۝ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:13-14]، وهذا يدل على أهمية العناية بهذه الفرائض المذكورة، وقد جاء في الأثر أن علم الفرائض هو أول علمٍ يُنسى، وأنه نصف العلم، رُوي هذا في حديث أبي هريرة أن النبي قال: تعلموا الفرائض وعلموها؛ فإنها نصف العلم، وهو يُنسى، وهو أول شيءٍ يُنزَع من أمتي [1]، وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه والبيهقي، وفي سنده مقالٌ، لكن ذكر بعض المحدثين له طرقًا وشواهد يتقوى بمجموعها.

وقوله: فإنها نصف العلم، ما معنى كون الفرائض نصف العلم؟

قيل: لأن للناس حالين: حال حياةٍ، وحال وفاةٍ، والفرائض تتعلق بأحكام الوفاة، وبقية العلوم تتعلق بحال الحياة، ومن هنا كان علم الفرائض نصف العلم، وقيل: لأن سبب المِلك نوعان: اختياريٌّ، وقهريٌّ، فالاختياري ما يملك رده؛ كالشراء والهبة ونحوهما، والقهري ما لا يملك رده وهو الإرث، ومن هنا كان علم الفرائض نصف العلم.

وهذا كله يُبيِّن لنا أهمية علم الفرائض، وأنه ينبغي للمسلم -وخاصةً لطالب العلم- أن يضبط هذا العلم، وأن يفهمه جيدًا، وأن يُعنى بتأصيله وتطبيقه، ولا يليق بطالب علمٍ إذا سُئل عن مسألةٍ فرضيةٍ أن يجهلها، فعلم الفرائض من العلوم المهمة العظيمة التي ينبغي العناية بها، وذكر الله تعالى أصول هذا العلم في كتابه الكريم، وبيَّن النبي المواريث، ومقدار ما لكلِّ وارثٍ، بينه عليه الصلاة والسلام، واعتنى العلماء بهذا العلم عنايةً كبيرةً، وكُتُبهم فيها اهتمامٌ كبيرٌ بهذا العلم.

حكم تعلم علم الفرائض

المقدم: أحسن الله إليكم، قبل أن ندخل إلى عناية العلماء به أود لو بينتم لنا شيخنا: ما حكم تعلم هذا العلم؟

الشيخ: علم الفرائض -كما ذكرنا- يهم معظم المسلمين، وما كان كذلك؛ فإن تعلمه من فروض الكفاية، فيكون تعلم علم الفرائض فرض كفايةٍ، إذا قام به من المسلمين ما يكفي؛ سقط الإثم عن الباقين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

اهتمام العلماء بعلم الفرائض

أنتقل بعد ذلك شيخنا إلى ما يتعلق باهتمام العلماء رحمهم الله بهذا العلم، وأبرز المصنفات التي أُلِّفت في هذا العلم.

الشيخ: اهتم العلماء بعلم الفرائض اهتمامًا كبيرًا، فاشتغلوا بتدريسه وصنفوا فيه المصنفات الكثيرة؛ وذلك لأهمية هذا العلم وحاجة الناس إليه، ولأن الكتاب والسنة لهما عنايةٌ كبيرةٌ بهذا العلم، وكما ذكرنا أن الله سبحانه تولى قسمة المواريث بنفسه، وبيَّن ذلك النبي بيانًا واضحًا؛ ولذلك اهتم العلماء بهذا العلم وصنفوا فيه المصنفات، وهذه المصنفات على نوعين:

  • النوع الأول: مصنفاتٌ غير مستقلةٍ: وهي الأبواب الخاصة بعلم الفرائض في كتب الفقه عمومًا، حيث لا يخلو كتابٌ في الفقه من باب الفرائض.
  • والنوع الثاني: مؤلفاتٌ مستقلةٌ: وهي الكتب التي أُفردت في علم الفرائض، وهي كثيرةٌ ما بين منثورٍ ومنظومٍ؛ فمن الكتب المنثورة مثلًا: "إرشاد الفارض إلى كشف الغوامض من علم الفرائض" لمحمدٍ سِبط المارديني، المتوفى سنة (912هـ)، كذلك أيضًا كتاب "نهاية الهداية إلى تحرير الكفاية" لزكريا الأنصاري، وكذلك "الدرة المضية بشرح الفارضية" للشنشوري، وكذلك أيضًا من المصنفات المعاصرة: "عدة الباحث لأحكام التوارث" لعبدالعزيز بن ناصر رشيد رحمه الله، وكذلك أيضًا كتاب شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله "الفوائد الجلية في المباحث الفرضية"، وهو كتابٌ قيمٌ ومفيدٌ، وأيضًا كتاب شيخنا الشيخ محمد بن العثيمين رحمه الله "تسهيل الفرائض"، وهو أيضًا من الكتب القيمة، وإذا ضبط طالب العلم هذين الكتابين: كتاب "الفوائد الجلية" و"تسهيل الفرائض" فسيضبط أصول هذا العلم، أيضًا من الكتب: كتاب "الفرائض" للشيخ عبدالكريم اللاحم رحمه الله، سواءٌ كان ما يتعلق بالحساب أو الفقه، وأيضًا كتاب "التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية" للشيخ صالح الفوزان حفظه الله، ولي كتابٌ في حساب الفرائض عنوانه: "تسهيل حساب الفرائض"، وقصدت أن يكون في الحساب؛ لأن الفقه رأيت أنه قد غُطِّي بالمصنفات، وقصدت من التأليف في الحساب: إبراز بعض الطرق المبتكرة في قسمة بعض المسائل، خاصةً فيما يتعلق بالمُناسخات، وأيضًا ميراث الحمل، والمفقود، والغَرْقَى والهَدْمَى ونحوها، هذه من أشهر الكتب المنثورة.
    وأما المنظومات فكثيرةٌ؛ فمنها: "المنظومة الرحبية"، المعروفة لمحمد بن عليٍّ الرَّحْبيِّ المتوفى سنة (577هـ)، وهذه المنظومة لقيت قبولًا عظيمًا لدى أهل العلم وطلاب العلم، وتواصى العلماء بحفظها وشرحها والعناية بها؛ ولذلك عليها شروحاتٌ كثيرةٌ، وكذلك أيضًا منظومة "القلائد البرهانية" لمحمد حجازي البرهاني المتوفى سنة (1205هـ)، وعليها كذلك شروحاتٌ.

فهذه هي أبرز المصنفات، والكلام عن هذا المحور يطول، لكن هذا ملخصٌ لأبرز ما يقال فيه.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، هذا شيخنا علاوةً على ما يُنشر عبر البرامج المرئية والتلفازية، أو حتى قنوات (اليوتيوب)، وغيرها من الدروس المعاصرة لخدمة هذا العلم وشرحه.

الشيخ: نعم، كذلك هذه تقوم بدورٍ كبيرٍ، سواءٌ كانت محفوظةً أو مسجلةً من دروسٍ قائمةٍ، أو كانت سُجلت في (اليوتيوب) خصيصًا لأجل شرح الفرائض، فهي أيضًا مهمةٌ ومفيدةٌ.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشدَّني أمرٌ ذكرتموه قبل قليلٍ؛ مما يدل على أن فرصة الإبداع في المصنفات الفقهية لا تزال متاحةً لطلبة العلم، لمَّا ذكرتم أن بعض الطرق المبتكرة في حساب الفرائض قد أوردتموها في كتابكم.

الشيخ: نعم، حساب الفرائض نجد أن الفقهاء السابقين ذكروا طرقًا مناسبةً لزمانهم، وعلم الرياضيات -كسائر العلوم- تطور تطورًا كبيرًا، والتحدي يكون في إيجاد طرقٍ سهلةٍ وميسرةٍ؛ ولذلك -من خلال التعامل مع قسمة المواريث وشرحها للطلاب- توصلت لبعض الطرق السهلة والمختصرة وأوردتها في هذا الكتاب.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

الميراث عند العرب قبل الإسلام

شيخنا، لعلي أنتقل إلى محورٍ آخر مما يُجلِّي لنا عظمة هذا الدين بتشريعاته، وخصوصًا فيما يتعلق بالميراث وباب الفرائض، أود لو بينتم لنا ما كان عليه العرب قبل الإسلام في باب الميراث، وكيف كان عملهم؟

الشيخ: العرب قبل الإسلام كان عندهم بعض الأمور التي فيها تجاوزاتٌ وأخطاءٌ وحرمانٌ لبعض الورثة؛ ومن ذلك: اقتصار الإرث على الرجال دون النساء، فقَصَر معظم العرب في الجاهلية الإرث على الرجال دون النساء، فلا ترث النساء شيئًا من أي جهات القرابة؛ لأنهم يرون أن الإرث مختصٌّ بمن يقوم بإقراء الضيف، ويُنازل العدو، ويقوم بمهماتٍ صعبةٍ، وقالوا عن المرأة: إنها لا تركب فرسًا، ولا تنكأ عدوًّا؛ ولذلك حرموها من الميراث، وكانوا يجعلون حظ المرأة من الميراث أن يُنفق عليها من مال زوجها لمدة سنةٍ فقط، فكان هذا من أمور الجاهلية.

ومع الأسف! لا تزال هذه الأمور الجاهلية موجودةً لدى بعض المجتمعات، لا تزال بعض المجتمعات يحرمون النساء من الميراث أو من بعض الميراث، ويضع الرجال أيديهم على الميراث، خاصةً إذا كان عقارًا أو مزرعةً أو نحو ذلك، يضع المتنفِّذ من الورثة يده عليه ويحرم البقية، خاصةً إذا كانوا من النساء والصغار، فهذا الأمر الجاهلي -مع الأسف!- لا يزال موجودًا لدى بعض المسلمين، وإن كان -ولله الحمد- قليلًا ليس بكثيرٍ.

أيضًا كانوا في الجاهلية يحرمون الصغار من الميراث، وللعلة نفسها التي حرموا لأجلها النساء، فكانوا لا يُورِّثون إلا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهور الخيل، وأيضًا كانت العرب في الجاهلية تُورِّث بالحِلْف والتناصر كما يُورِّثون بالقرابة، وغرضهم في ذلك: التناصر وتوثيق الصلة، وطريقة توريثهم بالحِلف والمناصرة: أن الرجل كان يقول للرجل: "دمي دمك، وهدمي هدمك، تنصرني وأنصرك، وترثني وأرثك، وتعقِل عني وأعقِل عنك"، كانت هذه دارجةً عند معظم العرب في الجاهلية، ويتحالفون على ذلك، فإذا كان لأحدهما ولدٌ؛ كان الحليف أحد أولاد حليفه، وإن لم يكن له ولدٌ؛ كان جميع المال للحليف، فأبطل ذلك الإسلام، ونزل قول الله : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75]، فأُولوا الأرحام -يعني القرابات- أولى بالميراث من التوريث بالحِلف والمناصرة في كتاب الله ، فأبطل الإسلام التوريث بالحِلف والتناصر.

كذلك أيضًا لم يقتصر أهل الجاهلية على حرمان النساء من الميراث من أي جهةٍ كُنَّ، بل جعلوا النساء محلًّا للإرث.

المقدم: يعني هي بذاتها تُورَّث؟

الشيخ: هي بذاتها تُورَّث، إذا مات عن المرأة زوجها؛ كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره ومنها بنفسها، فإن شاء نكحها، وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولم يُزوِّجها حتى تموت، وأبطل الله ذلك، قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ [النساء:19]، فكانوا في الجاهلية يعضلون النساء ويرثونهن كرهًا، ويهضمون حق النساء والصغار مع ضعف هاتين الطائفتين وحاجتهما إلى الرعاية واللطف؛ ولهذا قال ابن العربي معلِّقًا على صنيعهم: "وكان هذا من الجاهلية تصرفًا بجهلٍ عظيمٍ؛ فإن الورثة الصغار كانوا أحق بالمال من القوي، فعكسوا الحكم وأبطلوا الحكمة، فضَّلوا بأهوائهم وأخطؤوا في آرائهم"، يعني هم بَنَوها على أمورٍ عقليةٍ؛ أن الميراث يكون للقوي الذي يُقاتل العدو ويحمل السلاح، وأن الصغير ليس بحاجةٍ، وهذا غير صحيحٍ، عكسوا الأمر.

المقدم: استحساناتٌ في أذهانهم.

الشيخ: الصغار أولى بالمال من الكبار، وكذلك النساء؛ لضعف هاتين الطائفتين، خاصةً لمَّا كانت المرأة فيما سبق تعتمد في الكسب على الرجل اعتمادًا تامًّا.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

مزايا نظام التوريث في الإسلام

شيخنا، في الحقيقة هذا يقودني إلى أمرٍ آخر أود لو أبرزناه بشكلٍ واضحٍ: وهو ما يتعلق بعظمة هذا الدين، ونعمة دين الإسلام في تشريعه على جميع الأصعدة، ونحن هنا في "باب الفرائض"، لو بينتم لنا مزايا التوريث في الإسلام؟

الشيخ: نظام التوريث في الإسلام يقوم على تشريعٍ ربانيٍّ عادلٍ ومتناسقٍ مع الفطرة السليمة، ولا يُوازيه في ذلك أي نظامٍ آخر عرفته البشرية؛ فنظام التوريث في الإسلام يُراعي أفراد الأسرة بحسب قرابتهم من الميت، ولا يحرم امرأةً ولا صغيرًا لمجرد أنه امرأةٌ أو صغيرٌ.

ويمكن أن نلخِّص أبرز مزايا نظام الميراث في الإسلام فيما يأتي:

  • أولًا: أن الله تولى بنفسه بيان المستحقين لتركة الميت، واستأثر جل وعلا بتوزيع التركة على هؤلاء المستحقين، ولم يجعلها محلًّا للاجتهاد، فلم يترك شيئًا من هذا الأمر لصاحب المال، فليس لصاحب المال حقٌّ في تعيين الوارثين ولا في تحديد أنصبتهم، بل تولى الله ذلك بنفسه؛ لعلمه جل وعلا بأن الإنسان قد يغلب عليه الهوى، أو قد يقع تحت تأثير عاطفةٍ جامحةٍ أو مؤثراتٍ عارضةٍ، ويحيف في حكمه بحرمان بعض الورثة، أو بإيثار بعضهم بزيادةٍ على الآخرين، وهذا مما امتاز به الميراث في الإسلام عن بقية النُّظم الوضعية التي تجعل لصاحب المال الحق في تعيين المنتفعين بماله من بعده، وحق تحديد نصيب كل وارثٍ، وهذه النُّظم لا تخلو من التأثر ببعض المؤثِّرات التي سبق الإشارة إليها.
  • أيضًا من مزايا الميراث في الإسلام: أن الإسلام جعل الميراث محصورًا في دائرة الأسرة لا يتعداها، فلا بد من نَسَبٍ صحيحٍ، أو زوجيةٍ قائمةٍ، والولاء يُشبه صِلة النَّسَب فكان ملحقًا به، وهؤلاء هم أكثر الناس صلةً بالميت، وأشدهم تعاونًا معه، وفي هذا صلاحٌ للأسرة، وإحكامٌ للروابط بين أفرادها، وتقويةٌ لأواصر المودة فيها، والإسلام قد جعل الأساس في تقديم بعض الورثة على بعض: قوة القرابة، واتصال المنافع بين الوارث والمورِّث.
  • أيضًا من مزايا التوريث في الإسلام: مراعاة الضَّعَفَة من الورثة، حيث حفظت الشريعة حقوق النساء والأطفال في الإرث، كذلك جعلت الشريعة للطفل الصغير -بل حتى للحمل في بطن أمه- نصيبًا مثل الكبير، ولم يجعل للابن الأكبر أي ميزةٍ يمتاز بها عن غيره من أفراد الأسرة، على خلاف ما جرت عليه بعض النُّظم من جَعْل المال كله للابن الأكبر، ولا شك أن نظام الشريعة الإسلامية هو أحق وأعدل وأرحم؛ من حيث إن النساء والصغار أولى بالرعاية وأحوج إلى مال أبيهم من الكبار الذين تربَّوا في حياة مورِّثهم، وربما جمعوا من المال ما يكفيهم، أو حصَّلوا من وسائل الكسب ما يُؤمِّن حياتهم.
  • وأيضًا من مزايا الميراث في الإسلام: أنه جعل الزوجية الصحيحة من أسباب الإرث، فالزوجة ترث من زوجها، والزوج يرث من زوجته، وفي ذلك احترامٌ للرابطة الزوجية، وتقويةٌ لأواصرها؛ حتى تُؤتي ثمارها، وتظهر المودة والرحمة بين الزوجين.
  • أيضًا من مزايا التوريث في الإسلام: مراعاة الالتزامات المالية على الورثة في توزيع الإرث، فالشريعة جعلت الأصل في ميراث المرأة أنه على النصف من ميراث الرجل الذي في درجتها من الميت؛ لأن الحقوق المالية التي تجب على الرجال أكثر مما يجب على النساء، فالرجال يلزمهم الإنفاق والصداق وغير ذلك من الأعباء المالية دون النساء.

وهذه المميزات جعلت نظام الميراث الإسلامي هو النظام الأمثل من جميع النواحي، يحفظ حَقَّ كل طرفٍ دون إفراطٍ، فلا غَرْوَ في ذلك، هذه هي شريعة رب العالمين، والله تعالى أحكم، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].

المقدم: الله أكبر! الحمد لله على نعمة هذا الدين العظيم! نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من المقبولين في الدنيا والآخرة.

شيخنا الكريم، لعلنا نكمل بقية ما يتعلق بهذا العلم -ونحن في حديثٍ طويلٍ في مسائل هذا العلم- في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - وما يتعبها من حلقاتٍ.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، شكر الله لكم.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه ابن ماجه: 2719، والطبراني في المعجم الأوسط: 5293، والدارقطني: 4059، والحاكم: 8186، والبيهقي: 12304.
مواد ذات صلة
zh