logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(44) برنامج مجالس الفقه- المسائل والأحكام الفقهية المتعلقة بالأيمان

(44) برنامج مجالس الفقه- المسائل والأحكام الفقهية المتعلقة بالأيمان

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويحتاج إلى معرفتها المسلم، يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: مرحبًا بكم وأهلًا، وحياكم الله وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

المسائل والأحكام الفقهية المتعلقة بالأيمان

شيخنا، في هذه الحلقة سنأخذ شيئًا من المسائل والأحكام الفقهية المتعلقة بـ"الأيمان"، وهذا الباب فيه جملةٌ من المسائل التي يكثر السؤال عنها ويحتاج إلى معرفتها جمعٌ غفيرٌ من المسلمين.

قبل الدخول في تفاصيل هذه المسائل، ما المراد بـ"الأيمان"؟ وما المقصود بـ"اليمين"؟

تعريف الأيمان لغةً واصطلاحًا

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

"الأيمان": جمع يمينٍ، واليمين في اللغة: هي الحلف والقسم.

واصطلاحًا: يعرِّف الفقهاء اليمين بأنها: "تأكيد حكم المحلوف عليه بذكر معظَّمٍ على وجهٍ مخصوصٍ"، أي كأن هذا الحالف يقول: أؤكد لك هذا الأمر بمقدار ما في نفسي من تعظيم المحلوف به.

وقولنا في التعريف: "على وجهٍ مخصوص" أي: بصيغةٍ مخصوصةٍ، فلو أتى بغير صيغة القسم؛ فلا تكون يمينًا، لو قال مثلًا: "الله أكبر" لأفعلن كذا، هذه ليست يمينًا، أو "سبحان الله" لأفعلن كذا.

المقدم: لا يترتب عليها أحكام اليمين؟

الشيخ: لا تترتب عليها أحكام اليمين، لا بد أن تكون اليمين بصيغة القسم؛ وذلك بأن تكون هذه الصيغة مقرونةً بحرفٍ من حروف القسم، ومقرونًا بها اسمٌ من أسماء الله تعالى أو صفةٌ من صفاته، وحروف القسم: (التاء والواو والهمزة)، فلا بد أن تكون مصاحبةً لهذه الصيغة: "والله" أو "بالله" أو "تالله" أو "آلله"، فلا بد أن تكون مقرونةً بإحدى حروف القسم، لكن هناك ما يجري مجرى اليمين، يسميه الفقهاء بأنه يجري مجرى اليمين، مثل: التحريم، تحريم الحلال، لو حرم على نفسه شيئًا مباحًا؛ يُكفِّر كفارة يمينٍ ويزول التحريم؛ كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم:1]، ثم قال سبحانه: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، فالله تعالى بيَّن بأن التحريم يُحِلُّه كفارة اليمين: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2].

فإذنْ عند تحريم الحلال -ما عدا الزوجة- هذا يجري مجرى اليمين، فهذا الذي قال مثلًا: حرامٌ عليَّ أن أفعل كذا، أو حرَّمت أن أفعل كذا، فنقول: لا بأس أن تفعله وتُكفِّر كفارة يمينٍ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2].

أما تحريم الزوجة ففيه خلافٌ كثيرٌ؛ إذا قال: زوجتي عليَّ حرامٌ، هل هو يكون ظهارًا، أو يكون طلاقًا، أو يكون يمينًا؟ هذا فيه كلامٌ وخلافٌ كثيرٌ بين أهل العلم، ليس المقام مقام الحديث عنه.

المقصود بعبارة "يجري مجرى اليمين"

المقدم: أحسن الله إليكم، ذكرتم عبارة: "يجري مجرى اليمين"، ما مقصود الفقهاء بهذه العبارة؟ يعني أنه يأخذ أحكام اليمين؟

الشيخ: مقصودهم: أنها ليست بصيغة اليمين، لكنها تأخذ حكم اليمين؛ فمثلًا: من حرَّم على نفسه شيئًا مباحًا -غير الزوجة- هنا أتى بلفظٍ أو بصيغةٍ غير صيغة اليمين، لكن في الحكم: يأخذ حكم اليمين؛ لقول الله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، الله تعالى جعل تحريم الحلال يمينًا، ووجَّه سبحانه وأرشد إلى تَحِلَّة اليمين، وهي كفارة اليمين: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ، يعني: شرع لكم تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، وهي كفارة اليمين.

المقدم: ذكرتم قبل قليلٍ -شيخنا- شيئًا من صيغ انعقاد اليمين، وهذا يقودنا إلى مسألة: بمَ تنعقد الأيمان؟

الشيخ: تنعقد الأيمان باسم "الله" ، أو باسمٍ من أسمائه، أو صفةٍ من صفاته؛ كأن يقول: "والله"، أو "والرحمن"، "والتواب"، "والسميع"، "والعزيز"، "ورب السماء والأرض"، ونحو ذلك، أو بصفةٍ من صفات الله ؛ كعلمه وقدرته وحكمته، ونحو ذلك.

فإذنْ اليمين تنعقد بـ"الله" ، أو باسمٍ من أسمائه، أو بصفةٍ من صفاته.

حكم الإكثار من الحلف

المقدم: جميلٌ! حكم الإكثار -أحسن الله إليكم- من الحلف، بعض الناس يُكثر من الحلف سواءٌ فيما يُهِم أو لا يهم؟

الشيخ: الإكثار من الحلف ورد في القرآن الكريم على سبيل الذم، وقد ذكر الله أن كثرة الحلف من خصال المنافقين، قال سبحانه: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المجادلة:16]، وقال: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ [التوبة:56]، يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التوبة:96]، فذكر الله تعالى أن كثرة الحلف من خصال المنافقين، فينبغي للمسلم أن يبتعد عن مشابهة المنافقين، ثم إن الله أمر بحفظ الأيمان، قال: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89]؛ ولهذا ينبغي ألا يُكثر المسلم من الحلف، وإذا احتاج للحلف؛ حلفَ من غير أن يُكثر، والنبي حلف في عدة مواضع، بل أمره الله بأن يحلف في القرآن في ثلاثة مواضع: في سورة يونس، وفي سورة سبأ، وفي سورة التغابن.

فإذا احتاج الإنسان للحلف؛ لا بأس، لكن لا يُكثر من الحلف، وبعض الناس تجد أن الحلف على لسانه، لا يكاد يتكلم بكلمةٍ إلا حلف؛ فهذا أولًا فيه مشابهةٌ للمنافقين. ثانيًا: أنه قد يُعرِّض ذمته للمسؤولية، قد يحلف على يمينٍ ثم يحنث فيها ولا يُكفِّر، ثم أيضًا كثرة الحلف تدل على أن هذا الإنسان غير واثقٍ من كلامه، وغير واثقٍ من نفسه، وكأنه يرى أن المخاطبين لن يُصدِّقوه إلا إذا حلف بالله تعالى.

فالمسلم ينبغي إذا تكلم أن يتكلم من غير حاجةٍ للحلف، إلا إذا احتاج، إذا احتاج للحلف؛ لا بأس، لكن لا يكون هذا هو الغالب، لا يكون الغالب عليه كثرة الحلف، الإمام الشافعي رحمه الله يقول: "ما حلفت بالله صادقًا ولا كاذبًا".

فإذنْ المسلم ينبغي أن يتحاشى الحلف ما أمكنه، وألا يحلف إلا عند الحاجة الملحة.

المقدم: أحسن الله إليكم، شيخنا هناك صيغٌ يذكرها بعض الناس في حلفهم، وأودُّ أن نستوثق هل هي تعتبر يمينًا لها أحكام اليمين أو لا؟ مثلًا لو أن شخصًا قال: أقسم بالله، أو قسمًا بالله لأفعلن كذا وكذا، فهل هذه يمينٌ منعقدةٌ؟

الشيخ: نعم هذه اليمين منعقدةٌ، إذا قال: قسمًا بالله، أو أقسم بالله، أو يمينًا بالله لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا، فهذه تأخذ حكم اليمين، بل هي نفسها يمينٌ، قال ابن قدامة: "إن هذا قول عامة الفقهاء، ولا نعلم فيه خلافًا"؛ وذلك لأنه لو حذف كلمة: "قسمًا"، بدل أن يقول: قسمًا بالله، قال: بالله، أو بدل أن يقول: يمينًا بالله، قال: بالله، ولم يذكر الفعل؛ كانت يمينًا، فإذا ذكر الفعل؛ فتكون يمينًا من باب أولى.

فالذي يقول: أقسم بالله، أو قسمًا بالله، لو حذف كلمة: "أقسم" أو "قسمًا"؛ لكانت "بالله" بحد ذاتها يمينًا، فإذا أظهر ذلك الفعل ونطق به؛ كان أولى بثبوت الحكم؛ وعلى ذلك: فالذي يقول: قسمًا بالله لأفعلن كذا، أو قسمًا بالله لا أفعل كذا، هذه يمينٌ، أو يقول: أقسم بالله لأفعل كذا، أو أقسم بالله لا أفعل كذا، هذه يمينٌ، أو يقول: يمينًا بالله لا أفعل كذا، أو يمينًا بالله لأفعلن كذا، هذه يمينٌ.

المقدم: جميلٌ! أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا.

أيضًا من الصيغ التي يفعلها بعض الناس أو يقولها في يمينه: أن يحلف بالقرآن، أو بالمصحف، أو بكلام الله، فهل هذه يمينٌ منعقدةٌ؟

الشيخ: نعم، هذه يمينٌ منعقدةٌ، إذا حلف بالقرآن؛ فالقرآن كلام الله ، وكلام الله تعالى صفةٌ من صفاته، فيكون قد حلف بصفةٍ من صفات الله ؛ فتنعقد يمينه، فإذا قال: والقرآن، فهذه يمينٌ منعقدةٌ، وهكذا أيضًا لو حلف بالمصحف؛ فهو يريد بالمصحف ما بين دَفَّتَي المصحف الذي هو القرآن، وهو كلام الله ، وهذا أكثر ما يكون الحلف به، يعني الناس يحلفون بالمصحف أكثر من حلفهم بالقرآن، فلو قال: والمصحفِ لأفعلن كذا، أو: والمصحف لا أفعل كذا؛ فهي يمينٌ منعقدةٌ.

وبعض العلماء يقول: إن أراد بالمصحف: أوراق المصحف؛ فإن هذا لا يجوز؛ لكونه حلفًا بغير الله، وإن أراد بالمصحف: القرآن؛ فيجوز، وتنعقد يمينه، لكن المتبادر لدى أي مسلمٍ عندما يحلف بالمصحف: أنه يريد القرآن، ولا يخطر بباله أنه يريد أوراق المصحف ولا يريد القرآن، هذا بعيدٌ، هذا الاحتمال وإن كان واردًا لكنه بعيدٌ، المتبادر لمن يحلف بالمصحف أنه يريد القرآن، فإذا حلف مريدًا القرآن؛ فيكون قد حلف بكلام الله الذي هو صفةٌ من صفاته؛ فتكون يمينًا منعقدةً.

شروط وجوب الكفارة

المقدم: يذكر الفقهاء أن هذه اليمين يترتب عليها كفارةٌ عند عدم الوفاء بها، فهنا يأتي سؤالٌ: وهو ما شروط وجوب الكفارة؟

الشيخ: شروط وجوب الكفارة: ذكر الفقهاء أن من حلف على أن يفعل شيئًا فلم يفعله، أو حلف على ترك فعلٍ ثم فعله؛ فتجب الكفارة إذا تحقَّقت خمسة شروطٍ:

  • الشرط الأول: كون الحالف مكلَّفًا، فغير المكلَّف لا تنعقد يمينه، كما لو كان صغيرًا أو مجنونًا، فهو مرفوعٌ عنهما القلم، وكذا أيضًا لو كان نائمًا، بعض الناس وهو نائمٌ يتكلم، فإذا حلف أثناء النوم، وسمعه من كان موجودًا عنده أنه حلف أثناء النوم؛ فهذا لا تنعقد معه اليمين؛ لقول النبي : رُفع القلم عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يُفيق [1].
  • والشرط الثاني: أن يكون مختارًا، أن يحلف مختارًا لليمين، فلو حلف مكرهًا؛ لم تنعقد يمينه؛ لقول النبي : إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه [2].
  • الشرط الثالث: كونه قاصدًا لليمين، فلا تنعقد ممن سبقت اليمين على لسانه من غير قصدٍ، كالذي يجري على اللسان من غير قصدٍ؛ كأن يقول: لا والله، وبلى والله، في عَرَض حديثه، فهذا يُعتبر لغو اليمين، والله تعالى يقول: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، قالت عائشة رضي الله عنها: "نزلت هذه الآية: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، في قول الرجل: لا والله، وبلى والله" [3]، فلا بد إذنْ أن يكون قاصدًا لليمين.
  • الشرط الرابع: كون اليمين على أمرٍ في المستقبل، فلا تكون الكفارة على أمرٍ ماضٍ، بل لا بد أن تكون اليمين التي تجب فيها الكفارة على أمرٍ مستقبليٍّ، أما الحلف على أمرٍ ماضٍ فلا كفارة فيه؛ لأن من شرط الانعقاد إمكان بِرِّه وحِنثه، وذلك في الماضي غير ممكن، فإذا حلف على أمرٍ ماضٍ كاذبًا؛ فهذه اليمين غَمُوسٌ، وربما يأتي الكلام عنها، لكن لا بد إذنْ أن تكون اليمين على شيءٍ في المستقبل، ولا تكون على أمرٍ ماضٍ.
  • الشرط الخامس: الحنث بفعل ما حلف على تركه أو ترك ما حلف على فعله، فيُشترط لوجوب الكفارة أن يحنث في يمينه، وذلك بأن يُخالف ما حلف عليه، بأن يفعل ما حلف على تركه، أو أن يترك ما حلف على فعله؛ لأن من لم يحنث؛ لم يهتك حرمة القسم، فلا كفارة عليه.

المراد باليمين الغَمُوس

المقدم: أشرتم قبل قليلٍ شيخنا إلى مسألةٍ: وهي متعلقٌة باليمين الغَمُوس، أودُّ لو بينتم ما المراد بـ"اليمين الغموس"؟ وهل تجب فيها الكفارة؟

الشيخ: اليمين الغموس من كبائر الذنوب، وكما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه": الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغَمُوس [4].

واليمين الغموس: هي اليمين الكاذبة؛ وذلك بأن يحلف الإنسان بالله كاذبًا، وسُمِّيت غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، نسأل الله السلامة والعافية! وخصها بعض العلماء باليمين الكاذبة في مجلس القضاء، وخصها آخرون باليمين الكاذبة التي يقتطع بها حق امرئٍ مسلمٍ، والأقرب أن اليمين الغموس: هي كل يمينٍ كاذبةٍ؛ لأنه ليس هناك دليلٌ على تخصيصها بشيءٍ معينٍ، لكنها تختلف في الكِبَر والعِظَم والإثم بحسب ما يترتب عليها من الظلم والشر، فأشدها: ما يُقتطع بسببها حق امرئٍ مسلمٍ، وهذه اليمين الكاذبة التي يُقتطع بسببها حق امرئٍ مسلمٍ في الغالب عقوبتها معجلةٌ في الدنيا، وقد جاء في حديث القَسَامة في قول ابن عباسٍ رضي الله عنهما في قصة القسامة، والقصة في "الصحيحين"، قال: "فو الذي نفسي بيده ما حال الحول على هؤلاء الثمانية والأربعين رجلًا وفيهم عينٌ تَطرِف [5]، يعني: أنهم ماتوا جميعًا، لم تمضِ عليهم سنةٌ واحدةٌ؛ لأنهم حلفوا كاذبين فهلكوا جميعًا في سنةٍ واحدةٍ.

فاليمين الكاذبة التي يترتب عليها اقتطاع حق امرئٍ مسلمٍ في الغالب أن عقوبتها معجلةٌ في الدنيا، والقصص في هذا مشهورةٌ ومتواترةٌ.

يأتي النظر الفقهي في هذه اليمين، هل فيها كفارةٌ أو ليس فيها كفارةٌ؟

هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء:

  • فجمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة على أنه لا كفارة في اليمين الكاذبة؛ قالوا: لأنه لا دليل على وجوب الكفارة في اليمين الغموس، وهي أعظم من أن تُكفَّر، قال ابن مسعودٍ : "كنا نَعُد من الذنب الذي لا كفارة له: اليمين الغموس" [6].
  • وذهب الشافعية إلى أن اليمين الغموس فيها كفارةٌ، وهو أيضًا روايةٌ عند الحنابلة، واستدلوا بعموم الأدلة؛ ومنها: قول الله : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة:89]، بعد أن ذكر صفة الكفارة، قالوا: هذا يشمل كل يمينٍ، ومنها اليمين الغموس، فتجب فيها الكفارة.

والقول الراجح -والله أعلم- هو قول الجمهور: وهو أن اليمين الغموس لا كفارة فيها؛ لكون اليمين الغموس في الماضي، ومن شروط انعقاد اليمين: إمكانية البِرِّ بها أو الحِنث فيها، وهذا إنما يكون في المستقبل.

وأما ما استدل به الشافعية من عموم الآية: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة:89]، فالمراد بها اليمين المنعقدة؛ بدليل أول الآية: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [المائدة:89]، ولا تنعقد اليمين إلا في أمرٍ مستقبلٍ؛ وعلى هذا نقول: إن الحلف على أمرٍ ماضٍ كاذبًا هذا لا كفارة فيه على القول الراجح، وإنما الواجب فيه التوبة إلى الله ، وإنما تكون الكفارة على اليمين التي تكون في المستقبل إذا لم يُحقِّق ما حلف عليه، إذا لم يُحقِّق ما حلف عليه؛ يكون قد حنث فيها، فتجب عليه الكفارة في هذه الحال.

المقدم: جميلٌ! أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

هناك مقولةٌ يذكرها بعض أهل العلم، يقولون: لا يحنث فقيهٌ قط، ويذكرون في هذا مسألة قرن الحلف بالمشيئة، فهل إذا حلف الإنسان وقرن حلفه بالمشيئة، وقال: إن شاء الله؛ يحنث في مثل هذه الحال؟

الشيخ: هذه المقولة مقولةٌ صحيحةٌ، لا يحنث فقيهٌ قط؛ لأن الفقيه إذا احتاج للحلف؛ قرن الحلف بالمشيئة؛ وبذلك لا يحنث مطلقًا، سواءٌ تحقق ما حلف عليه أو لم يتحقق؛ وذلك أن من قرن يمينه بالمشيئة، يعني بأن يقول: إن شاء الله، كأن يقول: لا أفعل كذا إن شاء الله، أو لأفعلن كذا إن شاء الله، فإن هذا لا يحنث مطلقًا، وقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: من حلف فقال: إن شاء الله، لم يحنث [7]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وهو حديثٌ صحيحٌ.

وجاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة  أن النبي قال: قال سليمان بن داود نبي الله: لأطوفن الليلة على تسعين امرأةً، تلد كل امرأةٍ غلامًا يقاتل في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، نسي أن يقول: إن شاء الله، فلم تلد إلا واحدةٌ من نسائه، جاءت بشِق إنسانٍ، قال عليه الصلاة والسلام: لو قال -يعني لو قال نبي الله سليمان - إن شاء الله، لم يحنث، وكان دَرَكًا له في حاجته، وهذه اللفظة في "الصحيحين": لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دَرَكًا لحاجته [8].

فقوله: لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، هذا يدل على أن من قرن يمينه بالمشيئة؛ لم يحنث، والله تعالى يقول عن أصحاب الجنة: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ۝ وَلَا يَسْتَثْنُونَ [القلم:17-18]، أي: لم يستثنوا لما أقسموا بقول: إن شاء الله؛ فدل هذا على أن الإنسان إذا قرن اليمين بالمشيئة؛ أنه لا يحنث، وهذه -الحقيقةَ- فائدةٌ عظيمةٌ، ينبغي أن يجعل المسلم هذا مبدأً له في حياته، نقول أولًا: لا تحلف، ثانيًا: إذا حلفت؛ فينبغي أن تَقرن الحلف بقول: إن شاء الله، إذا قلت: إن شاء الله؛ لم تحنث في يمينك، ربما يكون هذا سببًا لإدراكك حاجتك، تجد بعض الناس يحلف ثم لا يُبالي، وربما كلَّ يومٍ له يمينٌ، كل يومٍ يحلف.

نقول: أولًا ينبغي لك ألا تكثر من الحلف، لكن لو حلفت؛ اقرن هذه اليمين بقول: إن شاء الله، وبذلك لا تحنث في يمينك أبدًا؛ ولهذا مقولة: أنه لا يحنث فقيهٌ قطُّ، مقولةٌ صحيحةٌ؛ لأن الفقيه يعرف هذه الفائدة: وهي أنه إذا قرن يمينه بقوله: إن شاء الله؛ فإنه لا يحنث أبدًا.

المقدم: جميلٌ! أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا، ونحن في هذا البرنامج (مجالس الفقه)، مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، في هذه الحلقة نتدارس شيئًا من المسائل والأحكام المتعلقة بالأيمان.

مما يتصل ش-يخنا- بالصيغ التي قد يذكرها بعض الناس في حلفهم: هي قول بعضهم: حلفت أن تفعل كذا، أو حلفت أن أفعل كذا، أو حلفت ألا تفعل كذا، فهل هذه يمينٌ منعقدةٌ، لا يذكر قَسَمًا وإنما يذكر هذه اللفظة: "حلفت"؟

الشيخ: إذا قال: حلفت، ولم يأتِ بصيغة القسم، حلفت أنك تفعل كذا، أو حلفت عليك أنك ما تفعل كذا، هذه لا تُعتبر يمينًا، ولكن إذا كان لم يحلف بالفعل، فهذا يُعتبر خبرًا كاذبًا، يكون قد كذب في هذا الخبر، فعليه التوبة إلى الله من هذا الكذب، لكن لا كفارة عليه.

أما إذا كان صادقًا في قوله: إنه حلف، فاليمين إنما تكون على الحلف وليس على حكايته له، وهذه الصيغة متداولةٌ عند بعض العامة، يأتي إنسانٌ لآخر يقول: حلفت أنك ما تفعل كذا، أو حلفت أنك فعلت كذا، فهل عليه كفارةٌ؟

نقول: ننظر؛ إن كان فعلًا حلف، فإذا حصل الحنث ولم يتحقق ما حلف عليه؛ فتكون عليه الكفارة، ليس لقوله: حلفت، وإنما لحلفه السابق، أما إذا كان لم يحلف أصلًا؛ فلا يكون في هذا كفارةٌ، حتى لو لم يتحقق ما أراد، وإنما غاية ما فيه أنه خبرٌ كاذبٌ، إذا كان غير صادقٍ؛ يكون هذا خبرًا كاذبًا إذا كان لم يحلف بالفعل، قال: حلفت عليك أنك تفعل كذا، وهو لم يحلف، فتكون كذبةً عليه التوبة منها، ولكن لا كفارة فيها.

المقدم: جميلٌ! أحسن الله إليكم.

أيضًا شيخنا من أنواع اليمين التي يذكرها الفقهاء في هذا الباب: ما يسمى بـ"يمين الإكرام"، فما المراد بيمين الإكرام؟ وهل فيها الكفارة؟

الشيخ: يمين الإكرام هي اليمين التي يقصد بها الحالف إكرام المخاطب؛ كأن يقول: والله لا آخذ فنجان القهوة قبلك، أو: والله لتجلسن في هذا المكان، أو: والله لتقومن إلى هذا المكان، ونحو ذلك من الألفاظ التي يقصد بها إكرام المخاطب، فإذا لم يتحقق ما حلف عليه؛ فهل فيه كفارةٌ أم لا؟ هذه يسميها العلماء: "يمين الإكرام"، وإذا لم يتحقق ما حلف عليه؛ فهل في ذلك كفارة يمينٍ؟ وهذا منتشر في كثيرٍ من المجالس، تجد ربما أكثر من شخصٍ يحلف: والله ما آخذ فنجان القهوة قبلك، والله لتقومن في هذا المكان، والله ما أتقدم قبلك، فتجد هذه منتشرةً لدى العامة، هذه يسميها العلماء: "يمين الإكرام".

إذا لم يتحقق ما حلف عليه؛ يكون قد حنث، لكن هل هذا حِنثٌ تجب فيه الكفارة أم لا؟ للفقهاء قولان في هذه المسألة:

  • القول الأول: أنه إذا لم يتحقق ما حلف عليه؛ يكون قد حنث، وتلزمه الكفارة بذلك، وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة: مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بعموم الأدلة الدالة على أن الحالف إذا حلف وحنث في يمينه؛ أنه تلزمه كفارة يمينٍ، ومن ذلك قول الله : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة: 89]، فهذا الرجل قد عقد هذه اليمين، فهي يمينٌ كسائر الأيمان، وقد قصد فيها اليمين.
  • والقول الثاني: أن يمين الإكرام ليس فيها كفارةٌ، ومن أبرز من قال بهذا: الإمام ابن تيمية رحمه الله، واستدل أصحاب هذا القول بقصة أبي بكرٍ الصديق مع أضيافه من أصحاب الصُّفة؛ حيث أَبَى الأضيافُ أن يأكلوا الطعام حتى يأتي أبو بكرٍ، وكان أبو بكرٍ غائبًا، فلما حضر وعلم بالحال؛ غضب وقال لهم: والله لا أطعمه أبدًا، ثم بعد أن أكلوا أكل أبو بكرٍ من الطعام، وقال: إنما ذلك من الشيطان، يعني يمينه [9]، وأيضًا استدلوا بقصة أبي بكرٍ في تأويل الرؤيا، فإن رجلًا أتى النبي وأخبره بأنه قد رأى رؤيا، فقال أبو بكرٍ : يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، والله لتدعنِّي أعبرها، فقال: عبِّرها، فعبرها أبو بكرٍ ، ثم قال: أخبرني -يا رسول الله بأبي أنت وأمي- أصبت أم أخطأت؟ قال له النبي : أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا، وهذا دليلٌ على أن المُعبِّر -وإن كان حاذقًا- قد يُخطئ، أبو بكرٍ كان من أكثر الصحابة حذقًا في تعبير الرؤى، ومع ذلك قال له النبي : أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا، قال أبو بكرٍ ، وهذا محل الشاهد: فوالله لتحدثَنِّي بالذي أخطأت فيه، فقال له النبي : لا تقسم [10]، ما أخبره، أخرجه البخاري ومسلمٌ، قالوا: إن أبا بكرٍ لم يُكفِّر كفارةَ يمينٍ في القصتين؛ لأن مقصود الحالف هو الإكرام، والإكرام قد تحقق؛ ولذلك لم يُكفِّر أبو بكرٍ في القصتين، وأيضًا قالوا من جهة المعنى: أن يمين الإكرام الحالف فيها إنما يَقصد الإكرام، والإكرام قد تحقق؛ فلم يحنث الحالف.

والقول الراجح والله أعلم: هو القول الأول، قول الجمهور، وهو أن يمين الإكرام تجب الكفارة بالحنث فيها؛ لعموم الأدلة، وأما قصة أبي بكرٍ الأولى والثانية فليست صريحة في عدم تكفيره عن يمينه، ما الدليل على أن أبا بكرٍ لم يُكفِّر عن يمينه أصلًا؟ ولم يأمره النبي عليه الصلاة والسلام بالكفارة؛ لكونه أعلم الصحابة ويعرف هذا الحكم؛ فلم يحتَجْ إلى إخباره وأمره بالكفارة، فليس هناك دليلٌ على أن أبا بكرٍ لم يُكفِّر عن يمينه، بل الظاهر أن أبا بكرٍ  كفَّر عن يمينه، وأما قولهم: إن المقصود هو الإكرام، فيلزم على قولهم: ما لو حلف إنسانٌ بقصد الإهانة والإغاظة؛ أنه لا يحنث، فيُؤدِّي ذلك إلى تعطيل الكفارة، ولا قائل به؛ لما فيه من المخالفة لقواعد الشريعة العامة، وأما قول بعض الناس: إن كثرة وقوع هذه اليمين في أوساط العامة تستدعي التخفيف في الحكم، هذا لا يُعتبر مسوغًا لإسقاط حكم الكفارة عنه، بل يُؤمرون بحفظ أيمانهم من الحلف، ويُخبَرون: أن من حلف وحنث؛ تلزمه الكفارة، ويمكن أيضًا أن يُوجَّهوا ويقال: هذا الذي الآن يحلف يريد إكرام صاحبه، يقرن يمينه بالمشيئة، يقول: والله لا آخذ هذا الفنجان قبلك إن شاء الله، وبذلك لا يحنث، أو يقول: قم، والله لتقومن إلى هذا المكان إن شاء الله، وبذلك لا يحنث، فيمكن أن يُزال الحرج عن العامة في هذه المسألة بأن يقال لهم: إذا حلفتم يمين إكرام؛ فاقرنوا هذه اليمين بالمشيئة، وبذلك لا يقع الحنث، ولا تلزم الكفارة بذلك.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم شيخنا.

الشيخ: والشكر لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: والشكر كذلك موصولٌ لمن قام بتسجيل هذه الحلقة، والشكر لكم أنتم -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- على إنصاتكم واستماعكم لهذه الحلقة.

إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله ​​​​​​​- أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه أبو داود: 4398، والنسائي: 3432، وابن ماجه: 2041، وذكره البخاري معلَّقًا: 7/ 45.
^2 رواه ابن ماجه: 2045، وابن حبان: 7219، والطبراني: 11274، والحاكم: 2835.
^3 رواه البخاري: 4613.
^4 رواه البخاري: 6675.
^5 رواه البخاري: 3845.
^6 رواه الحاكم: 8043.
^7 رواه وأبو داود: 3262، والترمذي: 1532، والنسائي: 3855، وابن ماجه: 2104.
^8 رواه البخاري: 6720، ومسلم: 1654.
^9 رواه البخاري: 602، ومسلم: 2057.
^10 رواه البخاري: 7046، ومسلم: 2269.
مواد ذات صلة
zh