جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويحتاج إلى معرفتها المسلم، يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: مرحبًا بكم، وأهلًا وسهلًا، وحياكم الله، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
صيام التطوع
شيخنا، في الحلقة الماضية شَرَعْنا في الحديث عن بعض المسائل والأحكام المتعلقة بصيام التطوع، ولعلنا في هذه الحلقة نستكمل الحديث فيها.
فمما يتصل بصوم النافلة: حكم صيام الاثنين والخميس والفضل الوارد في ذلك.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالصيام من أفضل وأجل العبادات، وكما جاء في حديث أبي أمامة أن النبي قال: عليك بالصوم؛ فإنه لا مِثل له [1]، أخرجه أحمد بسندٍ صحيحٍ، ويجزي الله تعالى على عبادة الصيام جزاءً خاصًّا من عنده، هذا يدل على عظيم أجرها وثوابها، وذكرنا في الحلقة السابقة أن أعلى درجات صيام النافلة: صيام يومٍ وإفطار يومٍ.
صيام يومي الاثنين والخميس
أيضًا من صيام النافلة: صيام يومي الاثنين والخميس، وقد جاء في حديث أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله، إنك تصوم حتى لا تكاد تُفطر، وتُفطر حتى لا تكاد أن تصوم، إلا يومين إذا دخلا في صيامك، وإلا صمتهما، قال: أيُّ يومين؟، قلت: يوم الاثنين والخميس، قال: ذلك يومان تُعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأُحب أن يُعرض عملي وأنا صائم [2]، وهذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن الملقن وغيره، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وبعض أهل العلم يُضعِّفه، وصيام الاثنين آكد من صيام الخميس؛ لأن صيام الاثنين قد جاء فيه حديثٌ في "صحيح مسلمٍ": وهو حديث أبي قتادة أن النبي سُئل عن صيام يوم الاثنين فقال: ذاك يومٌ ولدت فيه، ويومٌ بُعثت، أو أنزل عليَّ فيه [3].
فالحديث الوارد في صيام يوم الاثنين حديثٌ صحيحٌ لا إشكال فيه، ولكن الحديث الوارد في فضل صوم يوم الخميس في سنده مقالٌ، وبعض أهل العلم يُصحِّحه وبعضهم يُضعِّفه، لكن عامة أهل العلم على استحباب صومه، وأن الخميس يستحب صيامه مع يوم الاثنين؛ ولهذا لو أن أحدًا قال: إنني لا أستطيع، أو يشق عليَّ أن أصوم الاثنين والخميس، فأيهما أفضل؟
فنقول: إن الاثنين أفضل من الخميس، وصيام الاثنين والخميس سنةٌ مستقلةٌ عن صيام ثلاثة أيامٍ من الشهر، لكن لو أراد أن يصوم ثلاثة أيامٍ من الشهر، فجعلها مثلًا الاثنين، ثم الاثنين، ثم الاثنين، كان هذا حسنًا، أو جعل الاثنين، ثم الخميس، ثم الاثنين، كان هذا حسنًا، والأمر في هذا واسعٌ.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
صيام الست من شوال
شيخنا، أيضًا من الأيام المستحب صيامها: ما يتعلق بصيام الست من شوالٍ، لو بينتم لنا الفضل الوارد في ذلك.
الشيخ: صيام الست من شوالٍ جاء في حديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي قال: من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوالٍ؛ كان كصيام الدهر [4]، أخرجه مسلمٌ في "صحيحه"، ومعنى كان كصيام الدهر أي: كصيام السنة كلها؛ وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها، وصيام رمضان عن عشرة أشهرٍ، وصيام الست عن شهرين؛ لأنك إذا ضربت ستةً في عشرةٍ؛ الناتج يكون ستين، يعني ستين يومًا، وستون يومًا تُعادل شهرين، فإذا أضفت الشهرين إلى عشرة أشهرٍ؛ أصبح يُعادل السنة كلها، لكن يُشترط للحصول على الفضل الوارد في صيام الست تبييت النية من الليل، وذلك شرطٌ لحصول الثواب، وليس شرطًا لصحة الصيام، فصيام النافلة لا يُشترط له تبييت النية، لكن صيام النفل المعيَّن يُشترط للحصول على الفضل والثواب الوارد فيه تبييت النية؛ ولذلك ينبغي لمن أراد أن يصوم الست من شوالٍ أن يُبيت النية من الليل، لو أصبح يومًا من الأيام ولم ينوِ الصيام أصلًا، لكن لما أُذِّن بالظهر وهو لم يأكل ولم يشرب ولم يأتِ بشيءٍ من المفطرات، قال: إذنْ أعتبر نفسي صائمًا، من حيث كونه صيام نافلةٍ لا بأس؛ لأنه لا يُشترط لصيام النافلة تبيت النية من الليل، لكن كونه يعتبر هذا من صيام الست من شوالٍ فهذا ينقص من الأجر؛ لأنه لو مثلًا بيَّت النية في خمسة أيامٍ، واليوم السادس كان إنشاء النية منتصف النهار، كأنه صام خمسة أيامٍ ونصفًا، لذلك حتى يحصل على كامل الفضل والثواب الوارد في الست؛ ينبغي أن يُبيِّت النية من الليل.
المقدم: أحسن الله إليكم، وهذا ينسحب على كل صوم نفلٍ فيه فضلٌ خاصٌّ؛ كمن أراد أن يصوم يوم عاشوراء فبيَّت النية في منتصف النهار، نقول صومك صحيحٌ، لكن الفضل الخاص المتعلق بهذا الصوم لا يتحقق إلا لمن بيَّتها من الليل؟
الشيخ: نعم هذا صحيحٌ، ما كان فيه فضلٌ خاصٌّ؛ فينبغي تبييت النية فيه من الليل؛ ليحصل على كامل الأجر والثواب، لكن الصيام المطلق، أو التطوع المطلق، لا يُشترط له ذلك، يعني لو أن أحدًا مثلًا لما أصبح وجد نفسه قد مضى عليه وقتٌ من النهار ولم يأكل ولم يشرب، قال: أعتبر نفسي صائمًا، لا بأس.
المقدم: أحسن الله إليكم.
صيام الست لمن لم يتمكن من صيامها في شوال
شيخنا، هناك بعض الناس ربما يتعذر عليه صيام الست من شوالٍ؛ نظرًا لكثرة القضاء الذي عليه، أو ربما حصلت له بعض الظروف، فهل له أن يصوم هذه الست من شوالٍ في غير شوالٍ، كمن يصومها في ذي القعدة ونحو ذلك؟
الشيخ: هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء على قولين:
- القول الأول: أن الست من شوالٍ إذا لم يتمكن الإنسان من صيامها في شوالٍ لعذرٍ؛ كمرض أو نحوه، أنها لا تُقضى؛ لأنها سُنةٌ فات محلها، وإذا كان من عادة المسلم أن يصومها؛ كُتب له الأجر كاملًا كما قال النبي : إذا مرض العبد أو سافر؛ كُتب له مثل ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا [5]، أخرجه البخاري في "صحيحه".
- والقول الثاني في المسألة: أنه إذا لم يتمكن من صيام الست من شوالٍ؛ لعذرٍ كمرض ونحوه، يُشرع له قضاؤها في شهر ذي القعدة؛ كالفرض إذا أخره عن وقته لعذرٍ، وكالسُّنة الراتبة إذا أخرها عن وقتها لعذرٍ؛ فإنه يقضيها متى ما زال العذر، وهذا القول هو القول الراجح والله أعلم، واختاره بعض أهل العلم، ومنهم الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، والشيخ محمد بن العثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع.
ومن أدلة هذا القول ما جاء في "الصحيحين" عن عمران بن حُصينٍ رضي الله عنهما أن النبي قال لرجلٍ: هل صمت من سَرَر هذا الشهر شيئًا؟، قال: لا، فقال النبي : فإذا أفطرت من رمضان؛ فصم يومين مكانه [6]، المقصود بـ(سَرَر شعبان): آخر شعبان، وبوَّب البخاري على هذا فقال: "باب الصوم من آخر الشهر"، ثم ساق بسنده هذا الحديث، فهذا الرجل كان من عادته أن يصوم آخر ثلاثة أيامٍ من الشهر، فلم يصمها لما رأى نهي النبي عن الصيام قبل رمضان، فبيَّن النبي أن من كان لا يصومها بقصد الاحتياط لرمضان، أن هذا لا يمنعه من الصيام، ولما كان هذا الرجل قد اعتاد على هذا العمل الصالح أرشده النبي إلى قضاء هذه السُّنة بعد رمضان، فهذا استدل به أصحاب هذا القول على مشروعية قضاء الست من شوالٍ -لمن تركها لعذرٍ- في شهر ذي القعدة؛ فعلى هذا: من ترك صيام الست لعذرٍ من الأعذار ولم يزُل العذر إلا بعدما انقضى شهر شوال؛ فعلى القول الراجح أنه لا بأس أن يقضيها في شهر ذي القعدة، والقضاء هنا بعض العامة يفهم يقول: كأنكم جعلتم الستَّ من شوالٍ أمرًا واجبًا، نقول: لا، حتى السنن تُقضى، يعني مثلًا من فاتته سنة الفجر يُشرع له أن يقضيها، فالقضاء لا يختص بالفريضة؛ لأن بعض العامة يفهم أن القضاء لا يكون إلا للواجب، ويقولون: إذا قلتم: يُشرع قضاء الست لمن لم يصمها لعذرٍ، كأنكم جعلتم الستَّ أمرًا واجبًا، نقول: هذا غير صحيحٍ، الستُّ مستحبةٌ، ولم يقل أحدٌ من أهل العلم: إنها واجبةٌ، ولكن كما أن الواجب يُقضى؛ فكذلك أيضًا النافلة يُشرع قضاؤها.
فضل صيام شهر محرم
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح، ونحن في هذا البرنامج (مجالس الفقه) مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان نذكر شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة، وموضوعنا في هذا الحلقة متعلِّقٌ ببعض المسائل والأحكام المتعلقة بصيام التطوع.
شيخنا، أيضًا مما يتصل بهذا الباب: شهر الله المحرم، هل جاءت نصوصٌ بالترغيب في صيامه؟
الشيخ: نعم، شهر الله المحرم -الذي هو الشهر الأول من السنة الهجرية القمرية- ورد في فضله حديث أبي هريرة أن النبي قال: أفضل الصيام بعد رمضان: شهر الله المحرم [7]، أخرجه مسلمٌ في "صحيحه"، ويُستحب الإكثار من الصيام في شهر محرمٍ، وإضافة الشهر إلى لفظ الجلالة (الله)، شهر الله، يقتضي تشريف هذ الشهر، وأن الصيام فيه مستحبٌّ.
صوم يوم عاشوراء
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
أيضًا مما يتصل بهذا الباب: صوم يوم عاشوراء، ما الفضل الوارد فيه شيخنا؟ وهل هناك مراتب لصوم هذا اليوم؟
الشيخ: يوم عاشوراء هو آكد أيام شهر محرمٍ في الصيام، يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر محرمٍ، وقد ورد في فضله حديث أبي قتادة أن النبي قال: صيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله [8]، أخرجه مسلمٌ في "صحيحه"، ويدل أيضًا لذلك حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: "ما رأيت النبي يتحرَّى صيام يومٍ فضَّله على غيره إلا هذا اليوم: يوم عاشوراء" [9].
والحكمة من صيام عاشوراء: أنه يومٌ نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون وقومه، فكان صومه شكرًا لله على تلك النعمة، وقد كان صيامه واجبًا في أول الأمر، ثم نُسِخ بفرضية صيام شهر رمضان؛ كما جاء في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم عاشوراء تصومه قريشٌ في الجاهلية، وكان النبي يصومه، فلما قدم المدينة؛ صامه وأمر بصيامه، فلما نزل رمضان؛ كان رمضان الفريضة، وترك عاشوراء، فكان من صامه صامه، ومن شاء لم يصم" [10].
وكانت اليهود تُعظِّم يوم عاشوراء وتصومه، بل كانت قريشٌ في الجاهلية أيضًا تُعظِّم هذا اليوم؛ كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها السابق، وكان النبي يصومه قبل الهجرة، ولمَّا هاجر؛ وجد أن اليهود تصومه فصامه أيضًا، لكن كان يقتصر عليه الصلاة والسلام على صيامه فقط، لمَّا هاجر إلى المدينة؛ كان يقتصر على صيام يوم عاشوراء، ثم في آخر حياته قال : لئن بقيتُ إلى قابلٍ؛ لأصومن التاسع [11]، فلم يبقَ إلى قابلٍ، وتُوفي عليه الصلاة والسلام.
وهنا يَرِد سؤالٌ: وهو أن النبي كان يصوم عاشوراء منذ أن هاجر من مكة إلى المدينة، ومكث في المدينة عشر سنواتٍ، فلماذا لم يخالف اليهود منذ السنة الأولى من هجرته مع أنه كان عليه الصلاة والسلام يصومه؟
والجواب: النبي لما هاجر من مكة إلى المدينة كان يحب مخالفة المشركين، وهم كفار قريشٍ، ويحب موافقة أهل الكتاب؛ فلهذا اقتصر على صيام هذا اليوم، ولما فُتحت مكة في السنة الثامنة من الهجرة، وقضى النبي على المشركين؛ لم يتبقَ إلا أهل الكتاب، فكان يحب بعد فتح مكة مخالفة أهل الكتاب؛ ولهذا قال : لئن بقيتُ إلى قابلٍ؛ لأصومن التاسع.
مراتب صيام عاشوراء
ومراتب صيام عاشوراء: ذكر ابن القيم وابن حجرٍ وغيرهما: أن لصيام عاشوراء أربعة مراتب:
- المرتبة الأولى، وهي الأكمل: أن يصوم يوم عاشوراء ويومًا قبله ويومًا بعده، وإنما كانت هذه هي أكمل المراتب لأمورٍ:
- أولًا: أنه يتحقق من صيام يوم عاشوراء حتى مع تقدير ثبوت شهر ذي الحجة ناقصًا؛ فإنه لو صام عاشوراء ويومًا قبله ويومًا بعده؛ تيقن من صيام عاشوراء.
- ثانيًا: أن هذا أبلغ في مخالفة اليهود، فكما أن من صام يومًا قبله أو بعده فيه مخالفة لليهود؛ فصيام يومٍ قبله ويومٍ بعده أكمل وأبلغ في المخالفة.
- ثالثًا: أن في هذا استكثارًا من الصيام في شهر محرمٍ، وهو متأكِّد الاستحباب؛ كما قال : أفضل الصيام بعد رمضان: شهر الله المحرم [12].
- رابعًا: أنه إذا صام يوم عاشوراء ويومًا قبله ويومًا بعده؛ يكون قد صام ثلاثة أيامٍ من الشهر، وصيام ثلاثة أيامٍ من الشهر قد رغَّب فيه النبي كما في حديث عبدالله بن عمرٍو [13]، وحديث أبي هريرة [14]، وحديث أبي ذرٍّ [15]، رضي الله عنهم، وأخبر أن صيام ثلاثة أيامٍ من الشهر يعدل صيام السنة كلها؛ فعلى هذا: هذه أكمل المراتب حتى مع ضعف الرواية: صوموا يومًا قبله ويومًا بعده [16]، فإنها لا تثبت، وكذلك أيضًا: صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده [17]، في سندها مقالٌ، لكن أقول مع ضعف تلك الرواية: إن هذه أكمل المراتب؛ لهذه المعاني التي ذكرت.
- المرتبة الثانية من مراتب صيام عاشوراء: أن يصام التاسع مع العاشر، وصومها أكمل من صيام العاشر مع الحادي عشر؛ لأن النبي خصَّه بالذكر فقال: لئن بقيت إلى قابلٍ؛ لأصومن التاسع [18].
- المرتبة الثالثة: صيام العاشر مع الحادي عشر.
- المرتبة الرابعة: أن يقتصر على صيام العاشر مفردًا، والصحيح: أن الاقتصار على صيام يوم عاشوراء جائزٌ من غير كراهةٍ.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم هذا البيان.
صيام تسع ذي الحجة
أيضًا مما يتصل بصوم التطوع أو الصوم المستحب: صيام تسع ذي الحجة، وهل جاء فيها فضلٌ؟
الشيخ: عشر ذي الحجة ورد فيها فضلٌ عظيمٌ، لقد أقسم الله تعالى بها، قال: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، والمراد بالليالي العشر عند جماهير المفسرين: عشر ذي الحجة، والله تعالى لا يُقسم إلا بالعظيم من مخلوقاته.
وورد في فضلها أيضًا حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي قال: ما من أيامٍ العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيءٍ [19].
وعلى هذا: فيتأكد العمل الصالح في هذه الأيام العشر؛ لأنه ما من أيامٍ العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، والصيام عملٌ صالحٌ عظيمٌ، بل من أجلِّ وأفضل الأعمال الصالحة؛ فيدخل في عموم النصوص الواردة في فضل عشر ذي الحجة؛ ولهذا يُستحب صيام التسعة الأيام الأولى من ذي الحجة، ولا نقول: العشر من ذي الحجة؛ لأن اليوم العاشر هو يوم العيد، ويحرم صومه، لكن نقول: يُستحب صيام التسعة الأيام الأولى من ذي الحجة، وآكدها: عرفة، فصيام يوم عرفة؛ كما قال : أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده [20]، وهذا لغير الحاج، أما الحاج فقد ورد النهي عن صيام يوم عرفة لمن كان بعرفة [21].
وقد يقول قائلٌ: هل كان النبي يصوم التسعة الأيام من ذي الحجة؟
أقول: أولًا جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت رسول الله صائمًا في العشر قط" [22]، يعني في عشر ذي الحجة، وهذا الحديث أخرجه مسلمٌ في "صحيحه"، لكن النبي قد يحث على الشيء ولا يفعله؛ لمصالح أرجح؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان هو النبي والرسول والقائد والموجه، وهو المرجع للصحابة ، والمرجع للأمة، وربما تتعارض بعض المصالح، يعني: بعض المصالح تكون أرجح من بعضٍ، فقد يترك النبي بعض الفضائل لفضائل أعظم وأكثر مصلحةً؛ ولهذا أخبر عليه الصلاة والسلام بأن أفضل الصيام: صيام داود ؛ كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا [23]، لكن هل كان النبي يفعل ذلك؟ هل كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا؟ الجواب: لا، بل كان كما قالت عائشة رضي الله عنها: "يصوم حتى يقول القائل: لا يُفطر، ويُفطر حتى يقول القائل: لا يصوم" [24]، فكون النبي لم يَرِد عنه أنه كان يصوم تسع ذي الحجة، لا ينفي ذلك مشروعية صيامها، خاصةً أنه قد نُقل استحباب ذلك عن بعض الصحابة ؛ عن عمر وغيره، وتدخل في عموم الأدلة؛ ولذلك فهي من أفضل الأعمال الصالحة التي تُفعل في عشر ذي الحجة.
وبعض الناس يُزهِّد الآخرين، فيبدأ يُزهِّد في صيام التسع من ذي الحجة، ويقول: النبي لم يكن يصومها، وكأنه يريد صد الناس، أو تزهيدهم في صيامها، فنقول: إذا لم تُوفَّق أنت لفعل الخير؛ فلا تُزهِّد غيرك في فعل الخير، اترك الناس يتعبدون ويصومون، لم يقل أحدٌ من أهل العلم: إن الصيام في تسع ذي الحجة محرمٌ أو حتى مكروهٌ، يعني حتى القول بأنه مكروهٌ قولٌ ضعيفٌ، لكن عامة أو أكثر أهل العلم على استحباب صيام التسعة الأيام من ذي الحجة، وقد ورد هذا عن بعض الصحابة .
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر الله لكم.
هذا تنبيهٌ مهمٌّ، في الحقيقة أنه قد تكون الأحاديث أو النصوص في الفضل الخاص هنا لا تثبت، لكن تشهد الأصول العامة في الكتاب والسنة على فضلها.
الشيخ: نعم، هذا صحيحٌ، تدخل في عموم الفضائل الواردة في الأعمال الصالحة في هذا الزمان.
المقدم: يحضرني الآن -شيخنا- مثالٌ آخر: بعضهم يتكلم عن تفطير الصائمين في رمضان، ويقول: إن هذا لم يرد فيه..، الحديث الوارد في تفطير الصائمين لا يثبت، وغير صحيحٍ؛ وبناءً عليه: لا يُشرع مثل ذلك.
الشيخ: أولًا: الحديث صححه كثيرٌ من أهل العلم: من فطَّر صائمًا؛ كان له مثل أجره [25].
وعلى تقدير عدم ثبوته: فإن هذا يدخل في إطعام الطعام.
المقدم: يعني يبقى كالنصوص العامة.
الشيخ: يبقى كالنصوص العامة، والنبي لما سُئل: أي الإسلام خيرٌ؟ قال: إطعام الطعام [26]، إطعام الطعام من الأعمال الصالحة العظيمة، حتى لو لم يثبت ذلك الحديث، مع أن بعض أهل العلم قد صححه، وأيضًا نظير ذلك من بعض الوجوه: ركعتا الضحى، كان معروفًا من هديه أنه لم يكن يحافظ عليها، لكن جاء في الأحاديث الأخرى القولية التي تدل على استحباب المحافظة عليها؛ مثل حديث: يُصبِح على كل سُلَامَى من أحدكم صدقةٌ، فكل تسبيحةٍ صدقةٍ، وكُلُّ تكبيرةٍ صدقةٌ.. إلى أن قال: ويُجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى [27]، فأحيانًا النبي قد يحث على الشيء ولا يفعله؛ لانشغاله بمصالح أرجح.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
حكم إفراد يوم الجمعة بالصيام
شيخنا، ما حكم إفراد يوم الجمعة بالصيام؟
الشيخ: إفراد يوم الجمعة بالصيام ورد النهي عنه في قول النبي : لا تخصوا يوم الجمعة بصيامٍ من بين الأيام، إلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم [28]، والحديث في "الصحيحين"، وفي هذا الحديث: النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصيام، وهل هذا النهي للكراهة أو للتحريم؟ فيه خلافٌ بين الفقهاء، الجمهور على أنه للكراهة، ولكن إذا نظرنا إلى أن الأصل في النهي أنه يقتضي التحريم، وأنه قد ورد في معنى هذا الحديث أحاديث أخرى؛ منها: حديث جويرية رضي الله عنها أن النبي دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمةٌ فقال لها: أصمتِ أمس؟ قالت: لا، يعني: يوم الخميس، قال:أتريدين أن تصومي غدًا؟، يعني: يوم السبت، قالت: لا، قال: فأفطري [29]، وهذا الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه"، فأمرها عليه الصلاة والسلام بالفطر؛ ولهذا فالأقرب والله أعلم: هو القول بالتحريم، وقد نقل ابن المنذر وابن حزمٍ القول بتحريم إفراد يوم الجمعة بالصوم؛ عن عددٍ من الصحابة؛ كعلي بن أبي طالبٍ، وأبي هريرة، وسلمان، وأبي ذرٍّ ، قال أبو محمد بن حزمٍ: "وما نعلم لمن ذكرنا من الصحابة مخالفًا أصلًا في النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصيام"، هذا القول -والله أعلم- هو الأقرب: أن إفراد يوم الجمعة بالصوم محرمٌ.
واختلف العلماء في الحكمة من النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم؛ فقيل: إنه يوم عيدٍ، ويوم العيد لا يُصام، وقد رجح هذا ابن القيم وابن رجبٍ، رحمهما الله تعالى، وقال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله بعد أن ذكر أقوالًا في المسألة: "وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب: أنه يوم عيدٍ، وورد فيه صريحًا حديثان:
- أحدهما: حديثٌ رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: إن يوم الجمعة يوم عيدٍ؛ فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده [30].
- والثاني: رواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ حسنٍ عن عليٍّ قال: من كان منكم متطوِّعًا من الشهر أيامًا فليكن صومه يوم الخميس، ولا يصوم يوم الجمعة فإنه -وهذا موضع الشاهد- يوم طعامٍ وشرابٍ وذكرٍ [31]".
وعلى هذا: فالأقرب -والله أعلم- أن الحكمة: أن يوم الجمعة هو يوم عيد للأسبوع.
لكن أورد الإمام ابن القيم إشكالًا على هذا: وهو أن يوم العيد لا يُصام مع يومٍ قبله أو يومٍ بعده، وإنما يوم الجمعة يجوز صومه مع يومٍ قبله أو يومٍ بعده، ثم أجاب ابن القيم عن هذا الإشكال فقال: "لما كان يوم الجمعة مشبَّهًا بالعيد؛ أخذ من شبهه النهي عن تحري صيامه، فإذا صام قبله أو بعده؛ لم يكن قد تحرَّاه، وكان حكمه حكم صوم الشهر، أو صوم يومٍ وفطر يومٍ، أو صوم يوم عرفة أو عاشوراء إذا وافق يوم جمعةٍ".
فإذنْ الممنوع: هو تخصيص يوم الجمعة وإفراده بالصوم، أما إذا لم يقصد تخصيصه؛ فإنه لا يدخل في النهي.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
حكم الفطر في صيام التطوع
شيخنا، صوم النافلة إذا شرع فيه المسلم، هل له أن يقطع هذا الصوم، أو لا بد أن يكمل صيامه حتى يفطر في آخر النهار؟
الشيخ: له أن يقطع صومه، والصائم المتطوِّع -كما يقول الفقهاء- هو أمير نفسه؛ إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وهذه العبارة: أن المتطوع أمير نفسه؛ إن شاء صام، وإن شاء أفطر [32]، رُويت في حديثٍ عن النبي ، أخرجه أحمد والترمذي والنسائي والحاكم، لكن في سند ذلك الحديث مقالٌ، لكن إن لم يصح الحديث؛ فهي مقولةٌ مشهورةٌ، أن الصائم المتطوع أمير نفسه؛ إن شاء صام، وإن شاء أفطر؛ فلا يلزمه إتمام صوم التطوع، ويدل لذلك: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي النبي ذات يومٍ فقال: هل عندكم شيءٌ؟، قلت: لا، قال: فإني إذنْ صائمٌ، ثم أتاني يومًا آخر، فقلت: يا رسول الله، أُهدي إلينا حَيْسٌ -والحيس: هو التمر مع السمن والأَقِطِ- قال: أرنيه، فقد أصبحت صائمًا، فأكل [33]، لكن الأفضل ألا يقطع صومه إلا لغرضٍ صحيحٍ؛ مثل: أن يُدعى لوليمةٍ وهو صائمٌ، فيُجيب الدعوة، ويرى أن في فطره جبرًا لقلب أخيه المسلم، وفيه إدخالًا للسرور عليه، أو يكون مثلًا في زيارةٍ لوالديه، ويرى أن في إفطاره إدخالًا للسرور عليهما وجبرًا لخواطرهما فيُفطر.
فجميع النوافل لا تلزم بالشروع فيها، ويجوز قطعها ولا يجب قضاؤها، إلا نافلةً واحدةً: وهي نافلة الحج والعمرة، فيجب إتمامهما بعد الشروع فيهما.
المقدم: أحسن الله إليكم، وهل يقال بالكراهة لمن أراد أن يقطع صومه، أو يقال: يجوز له بلا كراهةٍ؟
الشيخ: يجوز بلا كراهةٍ.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: الشكر موصولٌ لمن قام بتسجيل هذه الحلقة، والشكر لكم -أنتم أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- على استماعكم وإنصاتكم.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه النسائي: 2220، وأحمد: 22140. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 2436، والنسائي: 2358، وأحمد: 21753، من حديث أسامة بن زيد، ورواه الترمذي: 747، من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم. |
^3, ^8, ^20 | رواه مسلم: 1162. |
^4 | رواه مسلم: 1164. |
^5 | رواه البخاري: 2996. |
^6 | رواه البخاري: 1983، ومسلم: 1161. |
^7 | رواه مسلم: 1163. |
^9 | رواه البخاري: 2006، ومسلم: 1132. |
^10 | رواه البخاري: 4504، ومسلم: 1125. |
^11 | رواه مسلم: 1134. |
^12, ^18 | سبق تخريجه. |
^13 | رواه البخاري: 1975، ومسلم: 1159. |
^14 | رواه البخاري: 1178، ومسلم: 721. |
^15 | رواه الترمذي: 762، والنسائي: 2409، وابن ماجه: 1708، وقال الترمذي: حديث حسن. |
^16 | رواه الطبري في تهذيب الآثار: 651، وتمام في فوائده: 94، والبزار: 5238. |
^17 | رواه أحمد: 2154، وابن خزيمة: 2095. |
^19 | رواه البخاري: 969، بنحوه. |
^21 | رواه أبو داود: 2440، وابن ماجه: 1732، وأحمد: 8031. |
^22 | رواه مسلم: 1176. |
^23 | رواه البخاري: 1976، ومسلم: 1159. |
^24 | رواه البخاري: 1971، ومسلم: 1157. |
^25 | رواه الترمذي: 807، وابن ماجه: 1746، وأحمد: 17033، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. |
^26 | رواه البخاري: 12، ومسلم: 39. |
^27 | رواه مسلم: 720. |
^28 | رواه البخاري: 1985، ومسلم: 1144. |
^29 | رواه البخاري: 1986. |
^30 | رواه أحمد: 8025، والحاكم: 1608. |
^31 | رواه عبد الرزاق: 8058، وابن أبي شيبة: 9243. |
^32 | رواه الترمذي: 732، والنسائي في السنن الكبرى: 3295، وأحمد: 26893، والحاكم: 1612، 1613. |
^33 | رواه مسلم: 1154. |