جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها المسلم.
يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم شيخنا.
الشيخ: أهلًا وسهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
الأحكام والمسائل المتعلقة بالنذور
شيخنا، في هذه الحلقة لعلنا نأخذ جملةً من الأحكام والمسائل المتعلِّقة بالنذور، والفقهاء يعقدون بابًا في أحكام النذر وما يتصل بها من مسائل، وقبل الدخول في تفاصيل هذه المسائل أود لو بينتم لنا شيخنا ما معنى النذر؟
تعريف النذر
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالنذر معناه في اللغة: الإيجاب، يقال: "نَذَرَ دَمَ فلانٍ"، أي: أوجب على نفسه قتله، فمادة (النون والذال والراء) في اللغة العربية تدور حول معنى الإيجاب.
وأما معنى النذر في اصطلاح الفقهاء: فهو "إلزام مكلَّفٍ مختارٍ نفسَه لله تعالى بالقول شيئًا غير واجبٍ عليه بأصل الشرع"، وهذا أحسن ما قيل في تعريفه.
فقولنا في التعريف: "إلزام مكلَّفٍ"، خرج به غير المكلَّف؛ كالمجنون والصبي فلا ينعقد نذرهما، وقولنا في التعريف: "مختارٍ"؛ خرج به المُكرَه فلا ينعقد نذره، وقولنا: "بالقول"، يدل على أن النذر إنما يصح بالصيغة القولية، وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله تعالى، وقولنا في التعريف: "غير واجبٍ عليه بأصل الشرع"؛ كأن يُلزِم نفسه بشيءٍ مباحٍ أو مستحبٍّ أو غير ذلك، كما سيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى؛ فهذا هو معنى النذر.
المقدم: أحسن الله إليكم.
حكم النذر
حكم عَقْد النذر؛ من حيث الجواز وعدمه؟
الشيخ: عقد النذر فيه خلافٌ بين الفقهاء، هذه المسألة من غرائب المسائل؛ لأن بعض الفقهاء ذهبوا إلى تحريمه، وبعضهم ذهب إلى أنه مستحبٌّ؛ فقولان بينهما فرقٌ كبيرٌ بين الاستحباب والتحريم، والذي عليه جمهور الفقهاء، وهو القول الراجح: أن ابتداء عقد النذر مكروهٌ، وهذا هو المذهب عند الشافعية والحنابلة، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى النبيُّ عن النذر، وقال: إنه لا يَرُد شيئًا، وإِنما يُستخرَج به من البخيل [1]، أخرجه البخاري ومسلمٌ.
فقوله: نهى النبي عن النذر، هذا نهيٌ، وجمهور الفقهاء حملوا النهي في هذا الحديث على الكراهة؛ ولهذا قال الموفق ابن قدامة رحمه الله معلِّقًا على هذا الحديث: "هذا نهي كراهةٍ، لا نهي تحريمٍ؛ لأنه لو كان حرامًا؛ لما مَدح المُوفِين به" -يعني في قول الله : يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]- لأن ذنبهم في ارتكاب المحرم أشدُّ من طاعتهم في وفائه؛ ولأن النذر لو كان مستحبًّا؛ لفعله النبي وأفاضل أصحابه ؛ وعلى ذلك فالقول الراجح: أن ابتداء عقد النذر مكروهٌ ولا يُقال باستحبابه، وأما الآية الكريمة: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ[الإنسان:7]، فقد يقول قائلٌ: كيف مدح الله تعالى الموفين بالنذر، ثم نقول: إن ابتداء عقده مكروهٌ؟! نقول: إن الثناء إنما هو على من وفى بالنذر، وليس ابتداء عقد النذر، ابتداء عقد النذر مكروهٌ، لكن لو أنه نذر ووفى بنذره؛ فإنه يُمدح على الوفاء بهذا النذر، ولا يَمنع من ذلك أن يكون ابتداء عقد النذر مكروهًا.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم.
المراد بحديث: إن النذر لا يأتي بخير
شيخنا، جاء في الحديث: إن النذر لا يأتي بخيرٍ، فما المراد بهذه العبارة: إن النذر لا يأتي بخيرٍ؟
الشيخ: هذا جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق: أن النبي نهى عن النذر وقال: إنه لا يأتي بخيرٍ، ولا يردُّ قضاءً، وإنما يُستخرج به من البخيل [2]، ولا يرد قضاءً معنى ذلك: أن النذر لا يجلب الخير للإنسان، ولا يرد عنه قضاءً قضاه الله تعالى عليه، وجاء في حديث أبي هريرة أن النبي قال: إن النذر لا يُقرِّب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدَّره له، ولكن النذر يُوافق القدَر، فيُخرَج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يُخرِج [3]، رواه مسلمٌ.
فمعنى قوله: لا يأتي بخيرٍ، أي: إن عُقباه لا تُحمَد، وقد يتعذر على الناذِر الوفاء به فيندم، وقد يكون معناه: لا يكون سببًا لخيرٍ لم يُقدَّر، كما في الحديث.
وقوله : وإنما يُستخرج به من البخيل، أي: إن الناذر لا يأتي بهذه القربة تطوعًا محضًا ابتداءً، وإنما يأتي بها في مقابلة شفاء المريض وغيره مما علَّق النذر عليه، بخلاف الإنسان الكريم، فإنه لا يحتاج إلى نذرٍ، بل يأتي بالأعمال الصالحة من الصيام والصدقة ونحوها متطوعًا بها ابتداءً.
وتأمل قول النبي عليه الصلاة والسلام عن النذر: إنه لا يأتي بخيرٍ، وعندما ترى استفتاءات بعض الناس الذين نذروا ثم تورَّطوا ويريدون خلاصًا، ويريدون المخرج، لو تأملت في برامج الفتوى في الإذاعة والتلفاز؛ تجد عددًا كثيرًا من الأسئلة متعلِّقة بهؤلاء الناذرين، نذرتُ نذرًا وكيف الخلاص الآن؟
فما أكثر الذين ينذرون ويندمون! فنقول: أنت في السعة، لماذا تنذر؟! فهذا الذي ينذر الآن نذرًا لماذا ينذر؟ بعضهم يعتقد أن هذا النذر له أثرٌ في القضاء والقدر، وهذا غير صحيحٍ؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنه لا يرد من قدر الله شيئًا؛ ولهذا فلا فائدة من هذا النذر، لا داعي لأن ينذر الإنسان، فبعضهم يقول: إن شفى الله هذا المريض؛ فلِلَّه عليَّ نذرٌ أن أفعل كذا، لماذا تقول هذا؟ إن كنت تعتقد أن هذا سيرُدُّ من قدر الله شيئًا؛ فهذا غير صحيحٍ، لا يرد من قدر الله شيئًا؛ وإنما أنت تُضيِّق على نفسك، فإذا قلت: إنْ شفى الله مريضي؛ فسأصوم شهرًا؛ يلزمك ويجب عليك أن تصوم شهرًا، وليس لك مخرجٌ ولا خلاصٌ، لا بد أن تصوم هذا الشهر؛ لأنه نذر طاعةٍ؛ ولهذا فالإنسان ما دام في السعة؛ فينبغي أن يبتعد عن النذر ولا ينذر؛ ولهذا نهى النبي عن النذر وقال: إنه لا يأتي بخيرٍ.
بم ينعقد النذر؟
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، ما هي صيغة النذر؟ يعني كيف يكون النذر وكيف ينعقد؟
الشيخ: ينعقد النذر بالقول الدال عليه، وليس له صيغةٌ معينةٌ، بل ينعقد بكل قولٍ يدل على الالتزام بشيءٍٍ لله تعالى، ومن ذلك أن يقول: "لله عليَّ نذرٌ"، أو يقول: "لله عليَّ أن أفعل كذا"، أو "نذرت أن أفعل كذا"، ومن صيغ النذر أيضًا: أن يُعاهِد الله على فعل شيءٍ فيقول: "أُعاهد الله على فعل كذا"، أو "عاهدت الله على أن أفعل كذا"، فهذا من صيغ النذر، ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في سورة التوبة: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ -يعني نذر- لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ[التوبة:75-77].
أقسام النذر
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم، هل النذر قِسمٌ واحدٌ أو له أقسامٌ متعددةٌ؟
الشيخ: النذر له أقسامٌ:
- القسم الأول: النذر المطلق؛ كأن يقول: لله عليَّ نذرٌ، ويسكت، فيلزمه كفارة يمينٍ، وهذا يسميه العلماء: النذر المطلق، وجاء في حديث عقبة بن عامرٍ : كفارة النذر -إذا لم يُسَمِّ- كفارة اليمين [4]، أخرجه الترمذي وابن ماجه، لكنه حديثٌ ضعيفٌ، والمحفوظ: كفارة النذر كفارة اليمين [5]، لكن صح عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال: "من نذرَ نذرًا ولم يسمِّهِ فكفارته كفارة يمينٍ" [6]؛ وعلى هذا نقول: القسم الأول، وهو النذر المطلق، فيه كفارة يمينٍ.
- القسم الثاني: نذر الطاعة، ويسمى نذر التبرُّر؛ كأن ينذر أن يصوم أو يصلي أو يتصدق، ونحو ذلك؛ مثال ذلك: أن يقول: إن شفى الله مريضي؛ فلِله عليَّ نذرٌ أن أصوم مثلًا أسبوعًا، أو أصوم شهرًا، أو أتصدق بمبلغٍ قدره كذا، فهذا يسمى: نذر طاعةٍ، ونذر الطاعة يجب الوفاء به؛ لقول النبي : من من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصِه [7]، فدلَّ هذا الحديث على وجوب الوفاء بنذر الطاعة.
وكما ذكرنا قبل قليلٍ، يدخل في هذا: أن يُعاهِد الإنسان ربه فيقول: أُعاهد الله إن شفاني أن أتصدق بكذا، أُعاهد الله إن آتاني من فضله أن أتصدق بكذا، أو أن أفعل كذا، فقد ورد الوعيد الشديد في حق من نذر نذر طاعةٍ ولم يفِ به، كما في الآية السابقة: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ -يعني نذر- لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [التوبة:75-76]، ماذا كانت عقوبتهم؟ عقوبةً شديدةً غليظةً، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَأَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، يعني أن عقوبة هذا الذي نذر نذر طاعة ولم يفِ به أنه يُلقَى في قلبه النفاق إلى أن يموت، وهذا من أشد أنواع العقوبات أن يُلقى النفاق في قلب الإنسان ولا يُوفَّق للتوبة منه؛ لقوله: إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ، يعني إلى الممات، بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77]، وهذا يدل على خطورة عدم الوفاء بنذر الطاعة، فمن نذر نذر طاعةٍ؛ فيجب عليه أن يفي به.
حكم من عجز عن الوفاء بالنذر
المقدم: أحسن الله إليكم، في هذه الصورة إذا قُدِّر أنه عَجَز عن هذه الطاعة، أو كانت ثقيلةً شديدةً عليه، هل له مخرجٌ في هذا؟
الشيخ: إن عجز؛ يُكفِّر كفارة يمينٍ، أما إن كان فيه صعوبةٌ لكنه قادرٌ؛ فيلزمه، هو الذي ضيَّق على نفسه؛ فمثلًا: لو نذر أن يصوم شهرين متتابعين إن شفى الله مريضه؛ يلزمه ذلك، فما دام يستطيع صيام شهر رمضان؛ يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين، لكن هو الذي ضيق على نفسه؛ ولهذا نهى النبي عن النذر [8].
المقدم: يعني الكفارة لا تُخرجه من التبعة هنا؟ يقول: إذنْ أُكفِّر وينتهي الأمر؟
الشيخ: نعم، لا تُخرجه، إلا إذا عجز عن الوفاء بنذر الطاعة.
- القسم الثالث: نذر اللَّجَاج والغضب؛ كأن يقول: إن كلمتك أو إن لم أعطك، أو إن كان هذا كذا؛ فعليَّ أن أتصدق، أو عليَّ أن أصوم، ونحو ذلك، هذا يسميه الفقهاء: نذر اللجاج والغضب؛ وهو تعليق النذر بشيءٍ يُقصد منه المنع من شيءٍ أو الحض على فعله، أو التصديق أو التكذيب؛ فمثلًا قال: إن كلمتك؛ فلِله عليَّ نذرٌ أن أصوم شهرًا، يريد منع نفسه من تكليمه، أو إن لم أُعطك دينك؛ فلِله علي نذرٌ أن أتصدق بكذا، يريد حث نفسه على سداد الدين، أو إن كان هذا الخبر غير صحيحٍ؛ فلِله عليَّ نذرٌ أن أتصدق بكذا، أو إن لم يكن هذا الخبر كاذبًا؛ فلِله عليَّ نذرٌ أن أتصدق بكذا، هذا يسميه الفقهاء: نذر اللجاج والغضب، وإن كان قد لا يكون لجاجًا ولا غضبًا، لكنه جاء ذلك في حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، فسماه الفقهاء: نذر اللجاج والغضب.
والحكم فيه: أنه يُخيَّر بين فعله وبين كفارة يمينٍ، تخيير الناذر بين الوفاء بنذره، وبين أن يُكفِّر كفارة يمينٍ؛ لأن هذا النذر أشبه باليمين، فهو لم يقصد به إلا المنع أو الحث، أو التصديق أو التكذيب، وقد قال النبي : إنما الأعمال بالنيات [9]، وجاء في حديث عِمران بن حُصينٍ : لا نذرَ في غضبٍ، وكفارته كفارة يمينٍ [10]، وفي سنده مقالٌ، ولكن معناه صحيحٌ؛ هذا هو القسم الثالث. - القسم الرابع من أقسام النذر: النذر المباح؛ كأن يقول: لله عليَّ أن ألبس ثوبي، أو أركب سيارتي، ونحو ذلك، فالحكم في هذا: أنه يخير بين الوفاء بالنذر، وأن يكفر كفارة اليمين، وقد جاء في حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده أن امرأةً أتت النبي فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدُّفِّ، قال: أوفي بنذرك [11]، أخرجه أبو داود.
- القسم الخامس: نذر المعصية، وهذا لا يجوز الوفاء به، لكن فيه كفارة يمينٍ؛ كأن يقول: لله عليَّ نذرٌ ألا أدخل بيت أبي أو بيت أمي أو بيت أخي، فإن هذا فيه عقوقٌ للوالدين أو قطيعة الرحم؛ فلا يجوز الوفاء بهذا النذر، وفيه كفارة يمينٍ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصِي الله فلا يعصِه [12].
ولكن هل تجب الكفارة في نذر المعصية؟
قولان للفقهاء:
-
- القول الأول: أنه تجب الكفارة في نذر المعصية، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها: لا نذر في معصيةٍ، وكفارته كفارة يمينٍ [13]، أخرجه أصحاب السنن، وفي سنده مقالٌ، لكن قالوا: إن الأصول والقواعد الشرعية تقتضي إيجاب الكفارة في نذر المعصية؛ لأن الناذر قد نذر معصيةً وارتكب إثمًا بمجرد نذره؛ فهو أحوج إلى الكفارة لمحو الإثم وإزالته، ولأن الأمر مقدَّمٌ على الإباحة؛ للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، ومن أخرج كفارةً؛ فقد برئ من المطالبة واحتاط عند الجميع.
- وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو أيضًا روايةٌ عند الحنابلة، إلى أن نذر المعصية ليس فيه كفارةٌ؛ قالوا: لأن الأصل براءة ذمة المكلف، وأما حديث عائشة رضي الله عنها السابق فهو حديثٌ ضعيفٌ.
والراجح -والله أعلم- هو القول الأول: وهو أن نذر المعصية فيه كفارة يمينٍ؛ أولًا: لأن من العلماء من صحح حديث عائشة رضي الله عنها السابق: لا نذر في معصيةٍ، وكفارته كفارة يمينٍ [14]، كما نقل الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله ذلك، قال: "صححه الطَّحَاوي وابن السَّكَن"، فمن العلماء من صحح ذلك، ولو قلنا بضعف هذا الحديث؛ فهناك من الصحابة من ذهب إلى وجوب الكفارة في نذر المعصية؛ ولهذا قال الموفق بن قدامة رحمه الله: "رُوي نحو هذا" -يعني أن نذر المعصية فيه كفارةٌ- "عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ وجابرٍ وعمران بن حُصينٍ وسَمُرة بن جُندبٍ ، ولأن الناذر نذر معصيةٍ قد ارتكب إثمًا؛ فهو أحوج للكفارة"؛ وعلى هذا: فالقول الراجح: أن نذر المعصية فيه كفارة يمينٍ، وإذا أردنا أن نُلخِّص ما سبق؛ نقول:
- النذر المطلق: فيه كفارة يمينٍ.
- نذر الطاعة: يجب الوفاء به، لكن لو عجز عن الوفاء به؛ ففيه كفارة يمينٍ.
- نذر اللجاج والغضب: مخيرٌ بين: أن يفي به، وأن يكفر كفارة يمينٍ.
- النذر المباح: مخيرٌ بين أن يفي به، وأن يكفر كفارة يمينٍ.
- نذر المعصية: فيه كفارة يمينٍ.
وبهذا يُعلَم أن الناذر لا يمكن أن يخرج سالمًا، لا يمكن أن يخرج الناذر سالمًا، إما أن يفي بما نذر به أو يكفر كفارة يمينٍ، لكن أن يخرج بدون شيءٍ هذا غير واردٍ على القول الراجح، يعني حتى لو كان نذر معصيةٍ؛ ففيه كفارة يمينٍ.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم هذا التلخيص والبيان في هذه المسألة المهمة في الحقيقة.
من نذر أن يصوم شهرًا هل يلزمه التتابع؟
شيخنا، من صُور النذر التي تقع: من ينذر أن يصوم شهرًا معينًا، أو يصوم شهرًا مطلقًا، في مثل هذه الصورة هل يجب عليه التتابع في الصيام، أو يكفي أن يُحقِّق ثلاثين يومًا ولو كانت مقطعةً؟
الشيخ: هذا فيه تفصيلٌ؛ هذا الذي نذر أن يصوم شهرًا، هل نذر أن يصوم شهرًا معينًا، أو نذر أن يصوم شهرًا مطلقًا؟ فإن نذر صوم شهرٍ معينٍ؛ فيلزمه التتابع، فلو قال: لله عليَّ نذرٌ أصوم شهر محرمٍ؛ فيلزمه أن يصوم هذا الشهر متتابعًا؛ لأن إطلاق الشهر يقتضي التتابع، ولا يتحقق صيام شهرٍ معينٍ إلا بأن يكون صومه متتابعًا.
أمَّا لو أنه أطلق، نذر أن يصوم شهرًا مطلقًا؛ فلا يلزمه التتابع، لو قال: لله عليَّ نذرٌ أن أصوم شهرًا، من غير أن ينوي التتابع؛ فإنه لا يلزمه التتابع، وإن كان هناك من الفقهاء من قال: إنه لو نذر صوم شهرٍ مطلقًا من غير تعيين الشهر، أو نذر صومًا متتابعًا غير مقيدٍ بزمنٍ؛ يلزمه التتابع في صومه المطلق والمتتابع، هذا هو المذهب عند الحنابلة، لكن القول الراجح: أنه لا يلزم التتابع إلا إذا نواه أو شرطه، كما هو قول الجماهير.
المقدم: أحسن الله، لكن إذا قيل بأنه لا يلزم التتابع في الشهر المطلق؛ هل له مدةٌ زمنيةٌ معينةٌ لا بد أن يُنهيها خلال سنةٍ كاملةٍ مثلًا؟
الشيخ: إذا نوى؛ فعلى نيته، أما إذا لم ينوِ؛ فيبقى في ذمته؛ عليه أن يُبادر؛ لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم.
حكم الانتقال من نذرٍ إلى ما هو أفضل منه
شيخنا، من المسائل التي تقع في باب النذر كذلك: ينذر الإنسان أحيانًا نذرًا، ثم يريد أن ينتقل إلى ما هو أفضل منه؛ كأن ينذر طاعةً، فيريد أن ينتقل إلى طاعةٍ أفضل منها، فهل يجوز له ذلك، وتسقط عنه الكفارة في مثل هذه الحال؟
الشيخ: من نذر نذرًا ثم أراد أن ينتقل لما هو أفضل منه؛ فلا بأس بذلك، ويدل لهذا: ما جاء عند أحمد وأبي داود بسندٍ صحيحٍ من حديث جابرٍ أن رجلًا جاء يوم الفتح فقال: يا رسول الله، إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، فقال النبي : صَلِّ هاهنا، ثم أعاد عليه فقال: صل هاهنا، ثم أعاد عليه فقال: شأنك إذنْ [15]، وهذا الحديث ظاهر الدلالة في جواز الانتقال في النذر لما هو أفضل؛ وعلى هذا: فمن نذر أن يصلي مثلًا في المسجد النبوي؛ فلا بأس أن يجعل الصلاة في المسجد الحرام؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من المسجد النبوي، أو مثلًا نذر أن يصلي صلاةً جالسًا؛ فله أن يُصليها قائمًا؛ لأن الصلاة قائمًا أفضل من الصلاة جالسًا.. وهكذا، فمن نذر نذرًا؛ له أن ينتقل إلى ما هو أفضل منه.
وأخذ بعض العلماء من هذا الحديث: أنه في الوقف يجوز أن يُغيَّر شرط الواقف لما هو أفضل، فمن شرط شرطًا في وقفه؛ فيجوز أن يُغيَّر لما هو أفضل، بشرط أن يكون مما هو في جنسه؛ لأنه إذا جاز ذلك في النذر مع شدة النذر؛ فلأن يجوز في الوقف من باب أولى؛ فعلى هذا نقول: من أراد أن ينتقل من مفضولٍ إلى أفضل؛ فلا بأس، سواءٌ كان ذلك في النذر أو في الوقف؛ لأن الشريعة تحث على الإتيان بأكمل المصالح، فإذا كان في ذلك مصلحةٌ راجحةٌ، وأراد أن ينتقل الإنسان في النذر أو في الوقف أو نحوه إلى ما هو أكمل وأفضل؛ فالشريعة وقواعد الشريعة لا تمنع من هذا، بل نقول: إنه لا بأس به.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم.
شيخنا، لعلَّ من المسائل التي أيضًا يُسأل عنها في هذا الباب: انعقاد النذر إذا كان من غير البالغ، من المميِّز مثلًا، أو الصبي المميز، فهل ينعقد به النذر ويُحاسب عليه ويُلزَم بالكفارة فيه؟
الشيخ: هذا محل خلافٍ بين الفقهاء، وسبق أن ذكرنا في تعريف النذر في مقدمة الحلقة، قلنا: "إلزام مُكلَّفٍ مختارٍ نفسَه لله تعالى بالقول شيئًا غير واجبٍ عليه بأصل الشرع"، وقلنا: إن قولنا في التعريف: "مُكلَّفٍ"، يَخرج به غير المكلَّف، ومن ذلك الصبي، وأنه لا ينعقد نذره على القول الراجح؛ وذلك لأن الصبي مرفوعٌ عنه القلم؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: رُفع القلم عن ثلاثةٍ..، وذكر: الصبي حتى يبلغ [16]، وإن كانت المسألة أيضًا محل خلافٍ بين الفقهاء.
حكم النذر فيما لا يملكه الإنسان
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم، نحن في هذا البرنامج (مجالس الفقه) مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، وفي هذه الحلقة الحديث لا يزال موصولًا في مسائل النذر وأحكامه. كذلك شيخنا مما يفعله بعض الناس في باب النذر: إذا نذر في أمرٍ لا يملكه؛ كأن ينذر على إنسانٍ بأن يفعل شيئًا، أو أن يتصرف في شيءٍ ليس مما يمكنه أن يتصرف فيه هو، فهل مثل هذا النذر ينعقد ويترتب عليه كفارةٌ؟
الشيخ: لا ينعقد هذا النذر، إذا نذر الإنسان في أمرٍ لا يملكه؛ فإنه لا ينعقد النذر؛ كما جاء ذلك في بعض الأحاديث: لا نذر فيما لا يملك [17]، فالنذر فيما لا يملك الإنسان لا ينعقد، ويكون كلامه لغوًا.
المقدم: يعني لو حررنا هذا الضابط؛ ما المراد بـ: فيما لا يملك؟
الشيخ: يعني ينذر في شيءٍ ليس له سلطةٌ عليه ولا يملكه؛ كأن ينذر مثلًا أن يطلِّق زوجته وهو لم يتزوج أصلًا، فهنا لا يقع النذر، كما لو طلق وهو غير متزوجٍ؛ فلا يقع الطلاق، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق [18].
المقدم: أو ينذر على غيره بأن يفعل شيئًا، كذلك يدخل في هذا؟
الشيخ: لا، هذا فيه تفصيلٌ؛ لو قال: لله عليَّ نذرٌ إن لم تفعل هذا الشي، مثلًا، ثم فعله، هنا يكون عليه كفارة يمينٍ؛ لأنه يُشبه اليمين.
المقدم: إذنْ فيما لا يملك لا يجب فيه كفارةٌ.
الشيخ: نعم، يكون لغوًا.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا ونفعنا بكم.
حكم الوفاء بالنذر إذا كان قبل الإسلام
أيضًا من المسائل: لو أن إنسانًا عقد النذر في حال عدم إسلامه، ثم أسلم بعد ذلك، فهل هذا النذر واجبٌ عليه الوفاء به بعد إسلامه؟
الشيخ: من نذر قبل إسلامه؛ فينبغي له أن يفي بنذره بعد إسلامه؛ لقصة عمر ، فإنه أتى النبي فقال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام؟ فقال له النبي : أَوفِ بنذرك [19]؛ فدل هذا على أن من نذر قبل أن يُسلِم ثم أسلم؛ فإنه ينبغي له أن يفي بنذره، مع أن ابتداء عقد النذر كان قبل الإسلام، ومع ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام لعمر : أوف بنذرك.
المقدم: أحسن الله إليكم.
حكم صرف النذر لغير الله
كذلك شيخنا -ولعلي أختم بهذا- النذر عبادةٌ، ولا يجوز صرفها لغير الله ، فهل من تعليقٍ على هذه المسألة، وهل يترتب على هذا النذر وجوب الكفارة؟
الشيخ: نعم، النذر لا يجوز أن يكون لغير الله ؛ كالذين ينذرون للقبور والأضرحة ويضعون القرابين لها، فهذه أمورٌ تُؤدِّي إلى الشرك، ولا يجوز هذا العمل، وإنما كلامنا في هذه الحلقة عن النذر لله ، أن ينذر نذرًا لله سبحانه وتعالى، فإنه يكون على الأقسام الخمسة، أما إذا خرج ذلك وأصبح ينذر لغير الله ، ويتقرَّب لهذه الأضرحة والقبور ومن يسمونهم بالأولياء؛ فإن هذا لا يجوز، وهذا قد يؤدي ويفضي لوقوعه في الشرك.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح في هذه المسائل القيمة والنافعة.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، شكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: والشكر لكم أنتم -أيها المستمعون والمستمعات- على إنصاتكم واستماعكم.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه البخاري: 6608، ومسلم: 1639. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 6692، ومسلم: 1639. |
^3 | رواه مسلم: 1640. |
^4 | رواه الترمذي: 1528، وابن ماجه: 2128. |
^5 | رواه مسلم: 1645. |
^6 | رواه أبو داود: 3322، وابن ماجه: 2128. |
^7 | رواه البخاري: 6696. |
^8, ^12, ^14 | سبق تخريجه. |
^9 | رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907. |
^10 | رواه النسائي: 3846، وأحمد: 19956. |
^11 | رواه أبو داود: 3312. |
^13 | رواه أبو داود: 3290، والترمذي: 1524، والنسائي: 3835، وابن ماجه: 2125. |
^15 | رواه أبو داود: 3305، أحمد: 14919. |
^16 | رواه أبو داود: 4398، والنسائي: 3432، وابن ماجه: 2041. |
^17 | رواه البخاري: 6047، ومسلم: 110. |
^18 | رواه ابن ماجه: 2081. |
^19 | رواه البخاري: 6697، ومسلم: 1656. |