logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(51) برنامج مجالس الفقه- مسائل متعلقة بكفارة اليمين

(51) برنامج مجالس الفقه- مسائل متعلقة بكفارة اليمين

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلمٍ.

يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: أهلًا وسهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

مسائل متعلقة بكفارة اليمين

شيخنا، في حلقةٍ ماضيةٍ وسابقةٍ كنا قد تكلمنا عما يتعلق بكفارة اليمين والمسائل المتعلقة بها، ولعلنا في هذه الحلقة نكمل الحديث عن بعض المسائل التي لم تُذكر في الحلقة السابقة، فمن المسائل المتعلقة بكفارة اليمين: معرفة مقدار كفارة اليمين فيما إذا وجبت على الإنسان.

مقدار كفارة اليمين

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فكفارة اليمين ذكرها ربنا سبحانه في قوله: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89].

فذكر الله ​​​​​​​ كفارة الأيمان في هذه الآية، وهي إطعام عشرة مساكين: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ، فالواجب إذنْ إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يُطعم الإنسان أهله، فلا يلزمه أن يُخرج الجيد الذي يفوق ما يُعطيه أهله، ولا يجوز له أن يخرج الرديء، وإنما يُخرج من أوسط ما يُطعم أهله.

واختلف العلماء في الإطعام في الكفارة هل هو مقدَّرٌ أو غير مقدَّرٍ، على قولين:

  • فجمهور الفقهاء على أنه مقدَّرٌ، وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة: مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
  • والقول الثاني: أن الإطعام في الكفارة غير مقدَّرٍ، وأن المرجع في مقدار الإطعام للعرف، وهذا قولٌ ذهب به بعض فقهاء المذاهب، ونُسب هذا القول للإمام مالكٍ، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، واختاره الإمام ابن تيمية.

والقول الراجح هو القول الثاني: وهو أن الإطعام في الكفارة غير مقدَّرٍ، وأن المرجع في تحديد مقدار الإطعام إلى العرف؛ وذلك لأن الأصل أن الأمر إذا ورد في الشرع مطلقًا، وليس له حَدٌّ في اللغة؛ فالمرجع فيه إلى العرف؛ وبناءً على ذلك: فله أن يجمع هؤلاء المساكين فيغديهم أو يعشيهم، وقد كان أنس بن مالكٍ يفعل ذلك في الإطعام عن الصيام في رمضان.

وهل يلزم أن يكون مع الطعام إدامٌ؟

هذا بحسب العرف؛ فإذا كان في بلدٍ يأتدم الناس فيه عادةً؛ فيدفع مع الحَب أو مع الأرز إدامًا، وإذا كان في بلدٍ لا يأتدمون فيه؛ فلا يلزمه أن يُفضِّل الفقراء على أهله، والله تعالى يقول: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89]، وإذا أراد أن يشتري طعامًا مطبوخًا؛ فالآن المطاعم عندهم عُرْفٌ، فلو ذهبت لمطعم وقلت له: أعطني أرزًا مثلًا مع دجاجٍ أو مع لحمٍ لشخصٍ واحدٍ؛ فعندهم عُرْفٌ، وشخصين كذلك، وثلاثةٍ، وعشرةٍ، فعندهم عُرْفٌ في هذا، فهذا هو الأمر الأول وهو الإطعام.

والثاني: الكسوة، أَوْ كِسْوَتُهُمْ [المائدة:89]، وذهب الحنابلة إلى أن العبرة في الكسوة بالنسبة للرجل: ثوبٌ يُجزِئه في الصلاة، وللمرأة: درعٌ وخمارٌ، ولكن هذا التحديد ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ؛ ولهذا ذهب كثيرٌ من الفقهاء إلى أن المرجع في ذلك إلى العرف، وهذا هو القول الراجح؛ لأن المقصود من الكسوة يتحقق بأي شيءٍ يطلق عليه "كسوة"، وهذا يختلف باختلاف البلدان وباختلاف الأزمان.

أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة:89] أي: عتق رقبةٍ مؤمنةٍ، والرق الآن انقرض في الوقت الحاضر، وأصبح ممنوعًا رسميًّا في جميع دول العالم، بل ومجرَّمًا وملاحَقًا من يفعله، فأصبح الرق غير موجودٍ في الوقت الحاضر؛ فعلى ذلك: تكون كفارة اليمين في الوقت الحاضر: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فمن لم يجد؛ فصيام ثلاثة أيامٍ، فإذا لم يجد -يعني إذا كان غير قادرٍ على إطعام عشرة مساكين، وغير قادرٍ على كسوتهم- فإنه ينتقل إلى الصيام، صيام ثلاثة أيامٍ، على خلافٍ بين الفقهاء هل يجب فيها التتابع أو لا يجب؟ فمنهم من قال: إنه يجب فيها التتابع، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، واحتجوا بقراءة ابن مسعودٍ : {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ متتابعاتٍ} [1]، قالوا: وعبدالله بن مسعودٍ  سمع ذلك من النبي ، سواءٌ قيل: إن قراءته يُحتجُّ بها أو لا يُحتج، فإنه إذا لم يُحتج بها؛ فعلى الأقل يكون حكمها حكم الحديث المرفوع.

وذهب بعض الفقهاء إلى أن التتابع في الصيام في كفارة اليمين مستحبٌّ وليس واجبًا، وهذا هو المذهب عند المالكية والشافعية، قالوا: لأن الله أطلق الصيام في الآية، قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89]، ولم يُقيِّد ذلك بالتتابع، ولو كان التتابع واجبًا؛ لَذَكَره كما ذكر التتابع في صيام الشهرين في كفارة القتل وكفارة الظهار، وهذا القول هو القول الراجح والله أعلم، أن التتابع في صيام الكفارة مستحبٌّ وليس واجبًا.

وقراءة ابن مسعودٍ لا يُحتجُّ بها، ولا تقوى للقول بإيجاب التتابع على المسلمين، ولا نستطيع أن نلزم عباد الله إلا بدليلٍ واضحٍ؛ لأن الإيجاب يقتضي التأثيم، والقراءة الشاذة لا يُحتجُّ بها في أرجح أقوال أهل العلم، والله تعالى أطلق الصيام هنا، قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89]، ولمَّا أراد التقييد بالتتابع؛ قيَّد ذلك؛ كما في كفارة الظهار وكفارة القتل؛ وعلى هذا: فالأقرب -والله أعلم- أن التتابع في صيام كفارة اليمين مستحبٌّ وليس واجبًا.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم، بذلك شيخنا يُعرَف خطأ بعض الناس حينما يأتي في كفارةٍ يقول: أنا لن أصوم، أو لا تُلجئني إلى الصيام، فيبتدئ بالصيام مع أن الصيام يسبقه رتبةٌ هي الواجبة في حقِّه، وهي الإطعام أو الكسوة.

الشيخ: صحيحٌ، هذا معتقدٌ عند بعض العامة، يعتقد أن الواجب في كفارة اليمين: صيام ثلاثة أيامٍ ابتداءً، وهذا غير صحيحٍ، لا يُلجأ للصيام إلا عند العجز عن إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.

المقدم: أحسن الله لكم.

وقت إخراج الكفارة

كذلك شيخنا من المسائل: ما يتعلق بإخراج الكفارة قبل الحِنث، هل يسوغ ذلك، أو أنه لا يُخرجها إلا بعد أن يحنث في يمينه؟

الشيخ: يجوز إخراج الكفارة قبل الحنث وبعده، فلو قال شخصٌ: والله لا أفعل كذا، ثم قبل أن يفعله ذهب وكفَّر، فإن ذلك يصح، أو أنه كفَّر بعدما فعله، فيصح كذلك؛ لحديث عبدالرحمن بن سَمُرة أن النبي  قال: إذا حلفت على يمينٍ فرأيت غيرها خيرًا منها؛ فأتِ الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك [2]، أخرجه البخاري في "صحيحه"، وجاء في روايةٍ: فكفر عن يمينك ثم ائْتِ الذي هو خيرٌ [3]، وقد ذكر الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله في "الفتح" أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة على الحِنث أربعة عشر صحابيًّا؛ فعلى هذا نقول: إن الأمر واسعٌ، سواءٌ أخرج الكفارة قبل الحنث، أو أخرج الكفارة بعد الحنث، فإن ذلك مجزئٌ، إنما الذي لا يُجزئ أن يخرج الكفارة قبل الحلف، فهذا لا يُجزئ بالإجماع، فهو كتعجيل الزكاة قبل ملك النصاب؛ لأنه تقديمٌ للحكم قبل سببه، كتقديم الصلاة قبل دخول وقتها، فتقديم الشيء قبل سببه لا يصح، كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجبٍ في "قواعده"، قال من القواعد: "أن تقديم الشيء على سببه ملغًى، وعلى شرطه جائزٌ"؛ وعلى ذلك: فإذا قدَّم الكفارة قبل الحلف؛ فإن هذا لا يُجزئ، لكن لو أنه حلف ثم قدَّم الكفارة قبل أن يحنث؛ فلا بأس، أو دفع الكفارة بعد الحنث؛ فلا بأس.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم.

حالات تَعدُّد الأيمان وتداخلها

شيخنا، بعض الناس ربما يحلف أكثر من مرةٍ ويعقد أيمانًا متعددةً، فهنا هل تتداخل هذه الأيمان ويكون عليه كفارةٌ واحدةٌ في مثل هذه الحال، أو لا تتداخل، أو أن هناك أيمانًا تتداخل وأيمانًا لا تتداخل؟

الشيخ: تعدد الأيمان وتداخلها لا يخلو من حالاتٍ:

  • الحال الأول: أن تتعدد اليمين والمحلوف عليه واحدٌ؛ كأن يقول: والله لا أفعل كذا، والله لا أفعل كذا، يُكرِّرها، والله لا أفعل كذا، فهذا يُجزئه كفارةٌ واحدةٌ عند عامة أهل العلم.
  • الحال الثانية: أن تكون اليمين واحدةً والمحلوف عليه متعددًا؛ كأن يقول: والله لا أذهب لفلانٍ، ولا أدخل بيته، ولا آكل طعامه، فيُجزئه كفارةٌ واحدةٌ.
  • الحال الثالثة: أن تتعدد الأيمان ويتعدد المحلوف عليه؛ كأن يقول: والله لا أكلت، والله لا شربت، والله لا أخذت، والله لا أعطيت، فهل عليه كفارةٌ واحدةٌ أم لكل يمينٍ كفارةٌ؟
    في هذه المسألة قولان للفقهاء:

    • القول الأول: إن عليه كفارةً واحدةً، هذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات، قالوا: لأنها كفاراتٌ من جنسٍ واحدٍ فتداخلت كالحدود؛ كما لو فعل حدًّا، زنى مثلًا أكثر من مرةٍ قبل إقامة الحد عليه، لا يجب عليه إلا حدٌّ واحدٌ.
    • وذهب جمهور الفقهاء إلى أن لكل يمينٍ كفارةً وحدها، وهو المذهب عند الحنفية والمالكية والشافعية، وهو روايةٌ عند الحنابلة؛ لأنها أيمانٌ متعددةٌ، وكل يمينٍ مستقلةٌ عن الأخرى، وكما أنه لا يحنث في واحدةٍ بالحلف بالأخرى؛ فلا تُكفَّر واحدةٌ بتكفير الأخرى، ولعموم قول الله : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89]، وهذا هو القول الراجح والله أعلم، أنه إذا تعددت الأيمان وتعدد المحلوف عليه أن لكل يمينٍ كفارةً، هذا الذي عليه أكثر الفقهاء، وهو القول الراجح والله أعلم.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم شيخنا ونفعنا بعلومكم.

حكم الحلف على فعل الغير

أحيانًا الإنسان قد يحلف على فعل غيره، فهل يترتب على هذا وقوع الكفارة فيما لو خالف ذلك الشخص المحلوف عليه؟

الشيخ: نعم، تترتب الكفارة، فالحنث على الكفارة يكون على الحالف، سواءٌ حلف على فعله، أو على فعل غيره باتفاق العلماء، فلو قال رجلٌ لصاحبه: والله لا تفعل كذا، لكنه فَعَل، أو قال: والله لتفعلن كذا، ولم يفعل، أو قال: والله لتقومن، ولم يقم، أو قال: والله لا تُحاسِب، أنا الذي سأحاسب، فصاحبه هو الذي حاسب مثلًا، فالحالف عليه كفارة يمينٍ.

نعم، يُستحب إبرار المُقسِم ما أمكن، يُستحب لهذا الذي حُلف عليه أن يَبَرَّ بقسم الحالف، وهذا من حق المسلم على المسلم، كما جاء في حديث البراء قال: "أمرنا رسول الله بسبعٍ.."، وذكر منها: إبرار المقسم [4]، متفقٌ عليه، لكن إبرار المقسم مستحبٌّ وليس واجبًا، ومما يدل على أنه مستحبٌّ: فعلُ النبي حين طلب أبو بكرٍ  تعبير رؤيا، لما أتى رجلٌ وقصَّ على النبي رؤيا، فطلب أبو بكرٍ  من النبي أن يعبرها فعبرها، قال أبو بكرٍ  للنبي : يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أصبتُ أم أخطأت؟ يعني في التعبير، قال: أصبتَ بعضًا وأخطأت بعضًا، قال أبو بكرٍ : والله لتُحدِّثني بالذي أخطأت فيه -يعني في تعبير الرؤيا- فقال النبي : لا تُقسِم [5]، ولم يَبَرَّ بقسمه؛ فدل ذلك على أن إبرار المقسم ليس واجبًا، وإنما هو أمرٌ مستحبٌّ.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم شيخنا ونفعنا بعلومكم.

المرجع في تحديد المراد باليمين

أيضًا من المسائل التي يُسأل عنها في مثل هذا الباب: إذا حلف الإنسان على شيءٍ ووقع إشكالٌ في تحديد المراد بهذه اليمين، فإلى من يكون المرجع؟ وما المحتكم في ذلك؟

الشيخ: المرجع في تحديد المراد باليمين، هذه المسألة يُفصِّل فيها الفقهاء كثيرًا، ويعقدون لها بابًا يُسمونه "باب جامع الأيمان".

وخلاصة كلام الفقهاء في هذه المسألة: أنه يُرجع في الأيمان إلى نية الحالف، فمن دُعِي لغداءٍ فحلف لا يتغدى؛ لم يحنث بغداءِ غيره إن قصده، إذنْ أول ما يُرجع إليه: نيَّة الحالف، فإن لم ينوِ شيئًا، أو كانت نيته غير واضحةٍ؛ رجع إلى سبب اليمين وما هيَّجها، فمن حلف ليقضين زيدًا حقَّه غدًا، فقضاه اليوم، قضاه قبله، فإنه لا يحنث؛ لأننا نعرف أن سبب اليمين، وقصده: أنه لا يتأخر عن غدٍ، فإن عدمت النية وعدم السبب؛ فإنه يرجع للتعيين، فمن حلف لا يدخل دار فلانٍ هذه، فدخلها وقد باعها وهي فضاءٌ، أو قال: والله لا أُكلِّم هذا الصبيَّ فصار شيخًا وكلمه، أو قال: والله لا أكلت هذا الرطب فصار تمرًا ثم أكله، يقول الفقهاء: فإنه يحنث في الجميع.

إذنْ إذا عدمت النية وعدم السبب؛ فإنه يُرجع إلى التعيين، إن عدم التعيين، يعني عدمت النية، وعدم السبب، وعدم التعيين، فيرجع إلى ما يتناوله الاسم، وهو ثلاثةٌ: شرعيٌّ، وعرفيٌّ، ولغويٌّ، فيرجع أولًا للاسم الشرعي؛ فمثلًا: الصلاة، هي في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: أفعالٌ وأقوالٌ مخصوصةٌ مفتتَحةٌ بالتكبير ومختتَمةٌ بالتسليم، فلو قال: والله لأصلين الآن، ولا نية له، ولا سبب هيَّجه، ولا تعيين؛ فيرجع لمعنى الصلاة شرعًا، إن لم يكن هناك معنًى شرعيٌّ؛ فيرجع للمعنى العرفي، فمن حلف مثلًا لا يطأ امرأته، فإنه يحنث بالجماع؛ لأن هذا هو المعنى العرفي لذلك، من حلف لا يضع قدمه في دار فلانٍ، فإنه يحنث بدخولها، فيُرجع إذنْ في ذلك للمعنى العرفي، فإن عُدِم العرف فإنه يرجع إلى اللغة.

وعلى ذلك نقول: إن المرجع في تحديد الأيمان إلى نية الحالف، فإن عُدم؛ فإلى السبب الذي هيَّجها، فإن عُدم؛ فإلى التعيين، فإن عدم؛ فإلى الاسم، ويُقدَّم الاسم الشرعي، ثم العرفي، ثم اللغوي.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم.

التهاون في الأيمان وكفارتها

شيخنا، بعض الناس للأسف! ربما يُبَرْهِنُ على كرمه، أو حتى على حرصه، أو حتى عما يريد أن يفعله بكثرة الأيمان وكثرة الحلف، وربما يعقد عشرات الأيمان في اليوم الواحد، فما نصيحتكم لمن يفعل مثل ذلك، وخصوصًا أن بعضهم ربما يُكثِر من هذه الأيمان ولا يلتفت إلى أمر الكفَّارة ولا إلى حنثه في حلفه؟

الشيخ: ذَكَرَ الله تعالى كثرةَ الأيمان عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المجادلة:16]، وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ [التوبة:56]، يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [التوبة:62]، فكثرة الأيمان هي من شعار المنافقين، وعلى المسلم أن يبتعد عن مشابهة المنافقين، والله تعالى يقول: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89]، فعلى المسلم أن يُعظِّم شأن اليمين، ولا يحلف إلا عند قيام الحاجة الملحَّة لذلك، وإذا حلف؛ يُراعي اليمين التي حلف عليها؛ لأن بعض الناس أيضًا يحلف ثم ينتهي الأمر ولا ينتبه، وربما يحنث ولا يُكفِّر، وهذا يلحقه آثامٌ عظيمةٌ.

فتجد أحيانًا في المجلس الواحد عدة أيمانٍ، ثم يخرج الجميع من المجلس وبعضهم قد حنث في يمينه، ومع ذلك لم يُكفِّر عن هذا اليمين، فهذا يبوء بآثامٍ، وربما مع مرور الوقت تكثر هذه الآثام؛ ولذلك فعلى المسلم أن يُعظِّم شأن اليمين، وأن يستحضر قول الله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89]، قال الإمام الشافعي: "ما حلفت بالله صادقًا ولا كاذبًا"، وإن كان الحلف عند الحاجة لا بأس به، والنبي كان يحلف أحيانًا، لكن كان يَبَرُّ بيمينه أو يُكفِّر، فقال : والله لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيرًا منها؛ إلا أتيت الذي هو خيرٌ، وكفَّرت عن يميني [6].

وأيضًا إذا احتاج الإنسان إلى الحلف؛ فهناك مخرجٌ يغفل عنه كثيرٌ من الناس: وهو أن يقرن اليمين بقول: "إن شاء الله"، فإنه إن قرن اليمين بقوله: "إن شاء الله"؛ لم يحنث؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: من حلف وقال: إن شاء الله؛ لم يحنث [7]، وجاء في "الصحيحين" في قصة سليمان عليه الصلاة والسلام لما حلف بأن يطأ تسعين امرأةً تلد كلُّ امرأةٍ غلامًا يقاتل في سبيل الله، ونسي أن يقول: إن شاء الله، فلم تلد أيُّ امرأةٍ، إلا امرأةً واحدةً، ولدت شق إنسانٍ، قال النبي : لو قال: إن شاء الله؛ لكان دَرَكًا لحاجته، ولم يحنث [8]؛ فدل هذا على أن من قال: "إن شاء الله"، لا يحنث؛ ولهذا لا يحنث فقيهٌ، لماذا؟ لأن الفقيه يقرن اليمين بقول: "إن شاء الله"، إذا احتجتَ للحلف؛ فلا بأس، لكن اقرن ذلك بقول: "إن شاء الله"؛ وعلى ذلك: فالذين يحلفون في المجالس، يقولون: والله لا آخذ فنجاة القهوة قبلك، والله أن تقوم تجلس في هذا المكان، قل: "إن شاء الله"، أضف لها كلمة "إن شاء الله"؛ يرتفع الحرج، يعني حتى لو لم يَبَرَّ صاحبك بيمينك، فإذا قلت: "إن شاء الله"، فإنك لا تحنث.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم.

ألفاظ التحريم هل لها حكم اليمين؟

شيخنا، هناك بعض العبارات يقولها بعض الناس، فهل هي في حكم اليمين، أو تأخذ حكم اليمين؛ على سبيل المثال: تحريم الحلال، يقول: عليَّ الحرام أو كذا، ألا أفعل كذا، أو هذا الأمر حرامٌ عليَّ ألا أفعل؟

الشيخ: إذا قال: هذا الشيء حرامٌ عليَّ؛ فهذا فيه كفارة يمينٍ؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التحريم:1]، ثم قال ربنا سبحانه: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:1]، يعني: بالكفارة؛ فعلى هذا: من حرَّم حلالًا؛ فيأتي بكفارة اليمين، ولا يَحرم عليه ذلك الحلال، لكن إذا كان المحرَّم زوجته، قال لزوجته: أنتِ عليَّ حرامٌ، فهذه المسألة فيها خلافٌ كثيرٌ بين الفقهاء، هل يكون هذا ظهارًا، أو يكون طلاقًا، أو يكون يمينًا؟

والقول الراجح والله أعلم، وهو المختار عند جمعٍ من المحققين من أهل العلم: أن هذا بحسب نيته؛ فإذا قصد الظهار؛ فهو ظهارٌ، وإن قصد الطلاق؛ فهو طلاق؛ لأن هذا اللفظ يصلح لأن يكون من كنايات الطلاق، وإن قصد اليمين؛ فهو يمينٌ؛ وذلك بألا يقصد ظهارًا ولا طلاقًا، وإنما يقصد الحث أو المنع، أو التصديق أو التكذيب، وهذا هو الغالب على من يفعل هذا مع زوجته، فإذا لم يقصد الظهار، ولم يقصد الطلاق؛ فيكون يمينًا، ويكون فيه كفارة يمينٍ.

المقدم: وإذا أطلق العبارة، قال: عليَّ الحرام، دون أن يُحدد المحرَّم؟

الشيخ: كذلك أيضًا إذا قال: عليَّ الحرام، القول الراجح: إنه يرجع لنيته؛ ماذا يريد؟ هل يريد الطلاق؟ هل يريد الظهار؟ هل يريد اليمين؟ الغالب أنه يريد اليمين، فإذا أراد اليمين؛ فيكون عليه كفارة يمينٍ.

المقدم: أحسن الله إليكم.

الطلاق المعلق هل له حكم اليمين؟

كذلك من المسائل التي لها ارتباطٌ بهذا الباب: ما يُعرف بالطلاق المعلَّق، يعني إن دخلتِ فأنت طالقٌ، أو إذا خرجت فأنت طالقٌ، فهل هذا له حكم اليمين، أم حكم الطلاق؟

الشيخ: الطلاق المعلق منتشرٌ في وقتنا الحاضر مع الأسف! ونحن نرى الآن بعض المقاطع التي تكون في وسائل التواصل الاجتماعي أحيانًا في المجلس الواحد يكون أكثر من طلاقٍ، هذا يُطلِّق، وهذا يُطلِّق، بل إن بعض الناس يرى أن الناس لن يُصدِّقوا أنه كريمٌ إلا إذا طلَّق، حتى اليمين لا تكفيه؛ فلذلك عندما يدعوك للغداء، أو إلى مناسبةٍ؛ يحلف بالطلاق أن تأكل وليمته، ويرى أنه لو لم يفعل ذلك؛ لكان هذا دليلًا على عدم جديته وعلى عدم كرمه، ويرى أن حلفه بالطلاق رجولةٌ، وهذا غير صحيحٍ، هذا من الجهل، هذا من التلاعب بحدود الله ، لا يجوز الحلف بالطلاق، وجَعْل هذا العقد الذي سمَّاه الله مِيثَاقًا غَلِيظٗا [النساء:21]، بهذه السهولة يتلاعب به الإنسان، ويأتي به لأجل أن يُثبت كرمه، أو لأجل أن يُثبت صحة كلامه.

فالطلاق المعلق إذا مثلًا قال: عليه الطلاق أن تُجيب دعوته، أو عليه الطلاق أنه سيَحصل ذلك، أو عليه الطلاق أنه لا يحصل كذا، ولم يتحقق هذا الأمر؛ فأولًا المذاهب الأربعة: مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، على أن الطلاق وقع، وكان هذا هو المُفتَى به عندنا هنا في المملكة العربية السعودية إلى وقتٍ ليس بالبعيد وفي كثيرٍ من بلدان العالم الإسلامي، لكن في السنوات الأخيرة تبنَّى بعض العلماء فتوى الإمام ابن تيمية في أنه إذا لم يُرِد الطلاق، وإنما أراد الحث أو المنع، أو التصديق أو التكذيب؛ فإنه لا يقع طلاقًا وإنما يكون فيه كفارة يمينٍ، وهذا -عند التحقيق- هو القول الراجح؛ لأنه لم يقصد الطلاق، ولم ينوِ الطلاق، ولم يخطر بباله أن زوجته تُطلَّق، وإنما أراد حثًّا أو منعًا، أو تصديقًا أو تكذيبًا، فلا يقع طلاقًا، وإنما فيه كفارة يمينٍ، لكن ينبغي على الأقل إبراز قول الجمهور للعامة، وأن يقال للعامة: عند المذاهب الأربعة، عند أكثر فقهاء الأمة زوجتك تطلق، وينبغي أيضًا ألا تُسهَّل الفتوى في ذلك لمن يقع منه هذا الأمر، فلا تُسهَّل الفتوى، وإنما لا بد أن تُحصَر الفتوى في دار الإفتاء، ويُناقَش وتُدْرَس حالته، وأيضًا يُوجَّه ويُرشَد، فلا تأتي الفتوى بسهولةٍ؛ حتى لا يُكرِّر هذا الأمر؛ ولذلك نقول: إن الطلاق المعلَّق وإن كان القول الراجح أن فيه كفارة يمينٍ؛ إلا أنه ينبغي إبراز قول جماهير الفقهاء بأن هذا الطلاق واقعٌ، على أن القول أيضًا بأنه لا يقع، فيه كفارة يمينٍ.

لا بد أيضًا من التأكد أنه لم ينوِ الطلاق، لم يُرِد؛ لأنه أحيانًا قد يُريد الطلاق، يقول: إن زوجته فعلت هذا الأمر، فقد طابت نفسه منها، فهو ينوي طلاقًا، فهذا يقع طلاقًا عند جميع العلماء، لكن إذا قال: إنه لم ينوِ الطلاق ولم يُرِد الطلاق، وإنما أراد حثًّا أو منعًا، أو تصديقًا أو تكذيبًا، فعلى القول الراجح: أن فيه كفارة يمينٍ، مع بيان أن قول جماهير الفقهاء، والذي عليه المذاهب الأربعة: أن الطلاق قد وقع.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم مثل هذا التوجيه.

والحقيقة أننا بحاجةٍ إلى مثل ما تفضلتم به من إبراز أن قول الأئمة الأربعة وأكثر الأمة هو وقوع الطلاق في مثل هذه الصورة التي ربما يتساهل بها كثيرٌ من الناس.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، أسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم شيخنا.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: والشكر لكم أنتم -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- على إنصاتكم واستماعكم.

إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه عبدالرزاق: 17273، والحاكم: 3126.
^2 رواه البخاري: 6722.
^3 رواه البخاري: 7146، ومسلم: 1652.
^4 رواه البخاري: 2445، ومسلم: 2066.
^5 رواه مسلم: 2269.
^6 رواه البخاري: 6623.
^7 رواه أبو داود: 3262، والترمذي: 1532، والنسائي: 3855، وابن ماجه: 2104، وأحمد: 8088.
^8 رواه البخاري: 5242، ومسلم: 1654.
مواد ذات صلة
zh