logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(45) برنامج مجالس الفقه- المسائل والأحكام المتعلقة بالحج

(45) برنامج مجالس الفقه- المسائل والأحكام المتعلقة بالحج

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يحتاج إلى معرفتها كل مسلمٍ، يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: مرحبًا بكم وأهلًا وسهلًا، حياكم الله وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

المسائل والأحكام المتعلقة بالحج

شيخنا، في هذه الحلقة لعلنا ننتقل إلى شيءٍ من المسائل والأحكام المتعلقة بالحج وما يتبعها كذلك من أحكام العمرة، فأبدأ -مستعينًا بالله شيخَنا- بالحديث عن أحكام العمرة، فلو بينتم لنا ما المراد بالعمرة؟ وما تعريفها عند الفقهاء ابتداءً؟

تعريف الحج والعمرة

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالعمرة في اللغة: "الزيارة".

وشرعًا: "زيارة البيت الحرام على وجهٍ مخصوصٍ".

ويلاحظ هنا أن معنى الزيارة ظاهرٌ فيها، وهذا يُفيدنا عند النظر لأدلة بعض المسائل الخلافية؛ مثل: مسألة أهل مكة عندما يريدون العمرة، فعند الجمهور -وهو القول الراجح- أنهم لا بد أن يخرجوا خارج حدود الحرم ويُحرمون من الحِل، وذُكر من أدلتهم: أن معنى العمرة: الزيارة، وأن الزيارة لا تصدق إلا على من قَدِم من الحِل إلى الحرم، أما كونه يأتي بالعمرة وهو في الحرم لا يَصدُق على ذلك معنى الزيارة، لاحظ هنا أثر هذا التعريف حتى في الأدلة في المسائل المختلف فيها.

المقدم: أحسن الله إليكم، كذلك مما يتعلق بهذا الباب: الحج، فما تعريفه عند الفقهاء أحسن الله إليكم؟

الشيخ: الحج معناه في اللغة: القصد.

ومعناه في اصطلاح الفقهاء: منهم من عرفه بأنه قصد مكة لعملٍ مخصوصٍ في زمنٍ مخصوصٍ، لكن هذا التعريف غير مانعٍ؛ إذ يدخل فيه من قَصَد مكة للتجارة في زمنٍ معينٍ، وهو قد قصد مكة لعملٍ مخصوصٍ في زمنٍ مخصوصٍ، وليس هذا حَجًّا؛ ولذلك فأجود ما قيل في تعريف الحج: أنه التعبد لله بأداء النُّسك على ما جاء في السُّنة.

وقت فَرْضيَّة الحج

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، الحج متى فُرض؟

الشيخ: اختلف العلماء في وقت فَرْضيَّة الحج، وجمهور العلماء على أنه فُرض في السنة السادسة من الهجرة؛ لقول الله : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، وهذه الآية نزلت في السنة السادسة من الهجرة، والقول المختار عند كثيرٍ من المحققين من أهل العلم: أن الحج فُرض في السنة التاسعة من الهجرة، وهذا هو القول الراجح؛ لأن الحج فُرض في آية آل عمران، في قول الله : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وهذه الآية نزلت عام الوفود في السنة التاسعة، وأما قول الله : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فهذه وإن كانت نزلت في السنة السادسة؛ إلا أن الأمر فيها بالإتمام فقط، وبَعِيدٌ أن يُفرض الحج على المسلمين قبل السنة الثامنة؛ لأن مكة كانت قبل ذلك دار كفرٍ بيد قريشٍ، ولم تكن دار إسلامٍ؛ فإن مكة إنما فتحت في السنة الثامنة من الهجرة؛ ولهذا فالقول الراجح: أن الحج إنما فُرض في السنة التاسعة من الهجرة، لكن يَرِد على هذا: إذا كان الحج فرض في السنة التاسعة؛ فلماذا لم يحج النبي في السنة التاسعة، وإنما حج في السنة العاشرة؟

أجاب العلماء عن ذلك، قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان في ذلك العام -السنة التاسعة- منشغلًا باستقبال الوفود التي كانت تفد إليه من أنحاء الجزيرة العربية لإعلان إسلامها، وأيضًا لا تزال بقايا من الشرك والمشركين؛ يعني لا تزال حاضرةً في الحج، فقد كان المشركون يطوفون بالبيت عراةً؛ ولهذا جاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة أن أبا بكرٍ الصديق  بعثه النبي في السنة التاسعة من الهجرة، وأمره أن يُؤذِّن في الناس بألا يحج بعد هذا العام مشركٌ، وألا يطوف بالبيت عريانٌ [1]، ثم في السنة العاشرة حج النبي حجة الوداع، الحجة المعروفة، فكان تأخير النبي عليه الصلاة والسلام الحج لأسبابٍ، وربما يكون هناك أيضًا أسبابٌ أخرى؛ فعلى هذا نقول: إن القول المختار والراجح: هو أن الحج إنما فُرض في السنة التاسعة من الهجرة.

هل الحج على الفور؟

المقدم: أحسن الله إليكم، وجزاكم عنا خير الجزاء.

هذا -شيخنا- مما يُجاب به كذلك على من يَذكر هذا الاستدلال في كون الحج لا يجب على الفور؟

الشيخ: نعم صحيحٌ، هذا يستدلون به ويقولون: لو كان الحج واجبًا على الفور؛ لبادر النبي بالحج من حين نزول آية الفَرْضيَّة: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]، ولبادر عليه الصلاة والسلام بالحج في السنة التاسعة، لكن ذكرنا أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما تأخر لأسبابٍ، فهو معذورٌ بتأخيره إلى السنة العاشرة.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

هل الحج يكفِّر كبائر الذنوب؟

شيخنا، الحج فضله عظيمٌ، ومما يُسأل عنه: هل فريضة الحج وعبادة الحج تُكفِّر كبائر الذنوب؟

الشيخ: الحج عبادةٌ من أجلِّ وأعظم وأفضل العبادات، بل إن ظاهر الأدلة يدل على أن الحج يُكفِّر جميع الذنوب، حتى الكبائر، مع التوبة منها، بينما بقية العبادات؛ كالصلوات الخمس، وصيام رمضان، والجمعة، تُكفِّر الصغائر ولا تكفر الكبائر؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفراتٌ لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر [2]، رواه مسلمٌ.

أما الحج: فقد ورد فيه أدلةٌ ظاهرها أنه يُكفر جميع الذنوب؛ ومنها: قول الله : فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، فقوله: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، ليس معنى الآية: لا حرج عليه، وإن كان متضمِّنًا هذا المعنى، لكن المعنى المقصود في الآية كما قال ابن جريرٍ وغيره: أن الحاج ينصرف وليس عليه إثمٌ؛ لأن من تأخَّر لا يقال: لا إثم عليه؛ لأنه أتى بالأفضل، فلو كان معنى الآية: لا حرج عليه؛ لقال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، ولم يقل: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لكن معنى الآية: أن من أتى بالحج، واتقى الله فيه، فسواءٌ تعجل أو تأخر، فإنه ينصرف من الحج ولا إثم عليه، أي: قد حُطَّت عنه جميع الذنوب والخطايا، لكن هذا ليس لكل حاجٍّ، وإنما لمن اتقى؛ ولهذا قال : فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، وليس لأي حاجٍّ، والمقصود بقوله: لِمَنِ اتَّقَى، هو الذي وقع حجه مبرورًا؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة [3]، وقال : من حج فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه [4]، متفقٌ عليه، والذي ولدته أمه ليس عليه ذنوبٌ، لا صغارٌ ولا كبارٌ؛ فظاهر هذا: أن الحج يُكفِّر جميع الذنوب.

وجاء في قصة إسلام عمرو بن العاص ، وهي قصةٌ أخرجها مسلمٌ في "صحيحه"، أن عمرو بن العاص لما أراد أن يُسلم؛ أتى النبي فقال: ابسُط يمينك أبايعك، فبسط النبي يمينه، قال عمرٌو: فقبضت يدي، فقال عليه الصلاة والسلام: ما لك يا عمرو؟!، قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟، قلت: أن يُغفر لي، فقال النبي : أما علمت -يا عمرو- أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج، وهذا موضع الشاهد، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟! [5]، يعني: يهدم ما كان قبله من الذنوب والخطايا؛ هذا دليلٌ على أن الحج يُكفِّر جميع الذنوب.

هل الحج يكفِّر حقوق العباد؟

المقدم: أحسن الله إليكم، إذا قلنا بذلك؛ فهل يشمل هذا التكفير كذلك الذنوب والكبائر التي تتعلَّق بحقوق العباد؟

الشيخ: هذا سؤالٌ جيدٌ، التكفير الذي أشرتُ إليه إنما هو خاصٌّ بما كان متعلِّقًا بحقوق الله ، أما ما كان متعلِّقًا بحقوق العباد فلا يُكفِّرها الحج ولا غيره، حقوق العباد أمرها عند الله عظيمٌ جدًّا، وهي باقيةٌ لأصحابها، حتى الشهيد الذي باع نفسه لله ، لا تُكفِّر الشهادة ما كان متعلقًا بحقوق العباد؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: إلا الدَّين، لما أخبر أن الشهيد تُغفر له ذنوبه، قال: إلا الدين، فإن جبريل قال لي ذلك [6]؛ ولهذا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "حقوق العباد من المظالم وغيرها لا تسقط بالحج باتفاق الأئمة، والحديث الذي يُروى في سقوط المظالم وغيرها بذلك في حديث العباس بن مِرداسٍ حديثٌ ضعيفٌ"؛ على هذا: فالحج يُكفِّر ما كان متعلِّقًا بحقوق الله، أما ما كان متعلِّقًا بحقوق العباد فلا يُكفِّرها لا للحج ولا غيره، وإنما لا بد من التحلُّل من أصحابها، وإلا فإنها باقيةٌ لهم يوم القيامة.

المقدم: أحسن الله إليكم، نسأل الله السلامة والعافية! الحقيقةَ هذا يدل على خطورة حقوق العباد والمظالم المتعلقة بها.

الشيخ: نعم، ولهذا عظم النبي عليه الصلاة والسلام شأنه، افتتح خطبته يوم عرفة، وهو أعظم مجمعٍ في عهده عليه الصلاة والسلام، افتتحها بقوله: أيها الناس، إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد [7].

المقدم: نسأل الله أن يعصمنا وإياكم والمستمعين الكرام.

خصائص الحج

شيخنا، يذكر بعض العلماء عبارةً مفادها: أن لعبادة الحج خصائص تتميز بها عن سائر العبادات، فما تعليقكم على هذه العبارة؟

الشيخ: هذه عبارةٌ صحيحةٌ، عندما نتأمل عبادة الحج؛ نجد أن هذه العبادة تتميَّز بخصائص تُميِّزها عن غيرها من العبادات؛ ومن ذلك:

  • أولًا: ما أشرتُ إليه قبل قليلٍ؛ من أن الحج يقع مكفِّرًا لجميع الذنوب، وبما فيها الكبائر، فيما لا يتعلق بحقوق العباد، بخلاف غيرها من العبادات، حتى الصلاة، الصلاة التي هي عمود الإسلام لا تُكفِّر الكبائر، حتى صيام رمضان لا يُكفِّر الكبائر، فهذا خاصٌّ بالحج، والمقصود به: الحج المبرور.
  • أيضًا من الخصائص: أن الحج يصح من الصبي غير المميِّز، يعني حتى لو كان طفلًا عمره سنةٌ أو سنتان، بينما سائر العبادات لا تصح من غير المميِّز.
  • أيضًا من الخصائص: في شأن النية، فإن الإنسان لو حج عن غيره ولم يحج عن نفسه؛ انقلب الحج عن نفسه، وكذلك لو حج وأطلق النية؛ فإنه يصرفه لما أراد من أنواع النُّسك، وكذلك لو أحرم بما أحرم به فلانٌ؛ صحَّ ذلك، وكذلك ينوي الولي عن نفسه وعن الصبي غير المميِّز، هذه الخصائص لا توجد في غير عبادة الحج، لو أراد أن يُطبِّقها على عبادةٍ أخرى؛ لا تنطبق عليها، إنما هذا خاصٌّ بعبادة الحج.
  • أيضًا من الخصائص: أن من شرع في الحج؛ وجب عليه الإتمام ولو كان نفلًا، بينما سائر نوافل العبادات لا يجب إتمامها بالشروع فيها.
    وسبب وجوب الإتمام في الحج: أنه يحتاج إلى بذل مالٍ ونفقاتٍ كثيرةٍ، وجهدٍ بدنيٍّ وتعبٍ، خاصةً في الأزمنة السابقة، فأُمِر الحاج إذا شرع في الحج أن يُكمل الحج، وهكذا العمرة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، بينما هذه الخَصِيصة لا توجد في غيرها من العبادات.

المقدم: أحسن الله إليكم، هل يمكن كذلك أن يقال: مما تتميَّز به عبادة الحج: أنها جمعت بين الجانب التعبدي ببذل المال، والجهد البدني بالحج؟

الشيخ: كذلك في الجملة يقال بذلك: جمع بين عبادة البدن وبذل المال.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم.

حكم من ترك الحج تهاونًا وكسلًا

شيخنا، كذلك من المسائل التي تُذكر في هذا الباب: ما يتعلق بحكم من ترك الحج تهاونًا وكسلًا، هل يَكفر أو لا يكفر؟ وما الكلام في هذا الباب؟

الشيخ: من ترك الحج تهاونًا وكسلًا؛ فإنه على خطرٍ عظيمٍ، لكنه لا يكفر؛ إذ إن الكفر بالأعمال إنما يكون على ترك الصلاة فقط، وأيضًا الترك الكلي؛ بحيث لا يركع لله ركعةً، لا جمعةً ولا جماعةً، فمن ترك الحج تهاونًا وكسلًا مع قدرته واستطاعته لكنه فرَّط؛ فهو وقع في أمرٍ مفسِّقٍ، لكن ذلك لا يصل إلى درجة الكفر، ومما يدل لذلك: ما أخرجه الترمذي وغيره بسندٍ صحيحٍ عن عبدالله بن شَقيقٍ العُقَيلي، التابعي الجليل، قال: "لم يكن أصحاب النبي يرون الشيء من الأعمال تركه كفرٌ غير الصلاة" [8]، فهو يحكي إجماع الصحابة على ذلك؛ وعلى ذلك: ترك الحج، وترك الزكاة مثلًا، وترك الصيام، هذا موجِبٌ للفسق، لكنه لا يصل إلى درجة الكفر، إنما العمل الوحيد الذي يصل إلى درجة الكفر: هو ترك الصلاة بالكلية.

قد يقول قائل: إن الله  قال في الآية: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ [آل عمران:97]، قال: وَمَنْ كَفَرَ، فنقول جوابًا عن ذلك: حمل جمهور العلماء قوله: وَمَنْ كَفَرَ، على من أنكر وجوب الحج، وجمعًا بين الأدلة، وإلا فمن أقر بوجوب الحج لكنه تركه تهاونًا وكسلًا فمجموع الأدلة يدل على أنه وقع في الفسق، لكنه لا يصل إلى درجة الكفر.

المقدم: أحسن الله إليكم، إذنْ يُفرَّق في هذا فيقال: الكفر واقعٌ على من أنكر وجوب الحج، أما من تركه تهاونًا مع إقراره بوجوبه فهذا لا يكفر؟

الشيخ: نعم، وهذا الذي عليه أكثر أهل العلم.

المقدم: أحسن الله إليكم، في هذه المسألة بخصوصها: هل يدخل في التهاون في أداء هذه الفريضة ما يفعله بعض الناس حينما يُسأل: لماذا لم تحج؟ فيقول: أنا والله أُرجئ الحج مع الزواج، أو مع كذا، وهو قادرٌ في هذه الفترة على نفقات الحج؟

الشيخ: نعم، هذا على خطرٍ عظيمٍ، هل يضمن أن يعيش إلى هذا الوقت الذي حدده، يفترض أنه أتاه الموت، كيف يُقابل ربه وقد فرط في أحد أركان الإسلام، وفي فريضة من فرائض الدين؟! فهذا مع الأسف نجده في مجتمعات المسلمين! نجد من هو قادرٌ على الحج ولم يحج حج الفريضة، فهذا على خطرٍ عظيمٍ، يُقدِّر أنه أتاه الموت، أو أتاه حتى مرضٌ يُعيقه عن الحج، فالقصص في هذا كثيرةٌ ومشهورةٌ، فعلى المسلم متى ما كان مستطيعًا الحج أن يبادر؛ فإن الإنسان لا يدري ما يَعرض له.

حكم الإعراض عن الحج؛ خوفًا من الموت أو المرض

المقدم: أيضًا شيخنًا، وإن كنت أطلت في هذه الجزئية، لكن هناك مسائل كثيرةٌ لها علاقةٌ بهذه المسألة: بعض الناس -وخصوصًا ممن لم يسبق له الحج- يسمع ببعض القصص في الحج، إما من وفياتٍ أو أمراضٍ، فيُصاب بشيءٍ من الرُّهاب والخوف من الحج، فيقع في ذهنه هذا الأمر؛ فيُحجم عن الحج، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟

الشيخ: هذا كله من الشيطان، الشيطان يُحاول أن يصد الإنسان عن العبادة ما أمكن، فهذا من تخويف الشيطان، ونحن في الوقت الحاضر قد تيسر الحج كثيرًا، وأصبحت عبادة الحج من أيسر العبادات، أربعة أو خمسة أيامٍ يُؤدِّي الإنسان فيها فريضة الحج، بينما كان الناس قديمًا يبقون المدد الطويلة؛ أولًا في الاستعداد للحج، ثم في قطع المسافة من ديارهم إلى الحج، ثم يبقون أيضًا قبل الحج مدةً طويلةً، ثم بعد الحج كذلك، فكان الناس قديمًا يُلاقون صعوبةً وعنتًا ومشقةً، وأيضًا في كثيرٍ من الأعصار الطرق غير آمنةٍ، فيجدون قُطَّاع الطريق الذين ربما ينهبونهم ويسلبونهم، وربما أيضًا يقتلونهم، لكن -ولله الحمد- الآن أصبح الحج ميسورًا، أمنٌ وأمانٌ، والأمور ميسرةٌ ولله الحمد، فلا عذر لأحدٍ؛ ولذلك من كان عنده القدرة على الحج ولم يحج حج الفريضة؛ فعليه المبادرة؛ فإنه لا يدري ما يَعرض له في المستقبل.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم، ونسأل الله جل وعلا أن يجزي ولاة أمرنا خير الجزاء على ما يُقدمونه من جهودٍ واضحةٍ في تيسير فريضة الحج وخدمة حجاج بيت الله الحرام.

حكم العمرة

شيخنا، كذلك من المسائل: ما يتعلق بالعمرة، وقد أشرتم إلى تعريفها عند الفقهاء قبل قليلٍ، لكن أودُّ لو أشرتم أيضًا إلى حكمها الشرعي، هل هي واجبةٌ، أو ليست بواجبةٍ؟

الشيخ: العمرة تسمى: "الحج الأصغر"، واختلف الفقهاء في حكمها -هل هي واجبةٌ أو مستحبةٌ؟- على قولين:

  • القول الأول: أنها واجبةٌ، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة.
  • والقول الثاني: أنها مستحبةٌ استحبابًا مؤكدًا، وهذا مذهب الحنفية والمالكية.

القائلون بالوجوب استدلوا بأحاديث؛ منها: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، هل على النساء من جهادٍ؟ قال: نعم، عليهن جهادٌ لا قتال فيه: الحج والعمرة [9]، أخرجه أحمد وابن ماجه، وظاهر إسناده الصحة، وأصله في "صحيح البخاري" لكن بلفظٍ آخر، ووجه الدلالة: قوله : عليهن جهادٌ، فقوله : عليهن، ظاهرٌ في الوجوب؛ لأن "على" من صيغ الوجوب كما هو مقررٌ عند الأصوليين، وإذا ثبت ذلك في حق النساء؛ ففي حق الرجال من باب أولى.

واستدلوا كذلك لوجوب العمرة بحديث أبي رَزينٍ العُقَيلي  أنه أتى النبي فقال: يا رسول الله، إن أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظَّعن، يعني الركوب على الراحلة، فقال النبي : حُجَّ عن أبيك واعتمِر [10] أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، فقوله عليه الصلاة والسلام: واعتمِر هذا أمرٌ بالعمرة، والأمر يقتضي الوجوب، خاصةً أنه قد قرنه بالحج، وقد اختار هذا القول البخاري في "صحيحه"، حيث بوب عليه بقوله: "باب وجوب العمرة وفضلها"، ثم قال: "وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ليس أحدٌ إلا وعليه حجةٌ وعمرةٌ، وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: إنها لَقرينتها في كتاب الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، [11]، وقوله: لَقرينتها، يعني فريضة، وأصل الكلام أن يقول: وقرينته، لكن المقصود: الحج، ثم ساق البخاري بسنده عن أبي هريرة  أن رسول الله قال: العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة [12].

أما القائلون بأن العمرة مستحبةٌ وليست واجبةً، قالوا: إنه لم يَرِد في الأدلة دليلٌ صحيحٌ صريحٌ يدل على وجوب العمرة، وإنما الوارد في ذلك؛ إما أدلةٌ صحيحةٌ غير صريحةٍ، أو صريحةٌ غير صحيحةٍ، هكذا قرروا ذلك، والقول الراجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الأول: وهو أن العمرة واجبةٌ؛ لقوة أدلته، ثم إننا نجد أن العمرة قرينة الحج كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، فلا يُذكر الحج إلا وتُذكر معه القرينة، فهي الحج الأصغر، كما أن الزكاة قرينة الصلاة، والحج واجبٌ، وكذلك العمرة، لكن إذا قلنا: إن العمرة واجبة -وهو القول الراجح- فإن وجوبها أدنى من وجوب الحج، الحج ركنٌ من أركان الإسلام، وفريضةٌ من فرائض الدين، إذا قلنا: العمرة واجبةٌ، فهنا نقول: إن وجوب العمرة أدنى من وجوب الحج.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم هذا الجواب الواضح.

أفضل أوقات أداء العمرة

من المسائل التي تُذكر في العمرة: أيهما أفضل شيخنا: أداء العمرة في رمضان، أم أداؤها في أشهر الحج؟

الشيخ: إذا نظرنا إلى فعل النبي ؛ نجد أن عُمَرَه كلها في شهر ذي القعدة، يعني في أشهر الحج، وإذا نظرنا إلى قول النبي فقد قال: عمرةٌ في رمضان تعدل حجةً، أو قال: حجةً معي [13]، والحديث في "الصحيحين".

فإذنْ فعل النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان اعتمر في أشهر الحج، وقوله : عمرةٌ في رمضان تعدل حجةً، لو افترضنا افتراضًا: تعارض القول والفعل، فعند الأصوليين أن دلالة القول أقوى وأصرح من دلالة الفعل، فهذا مما يُرجِّح دلالة القول، مع أنه ليس هناك تعارضٌ، لكن هذا على سبيل الافتراض.

المقدم: بناءً على ذلك -على سبيل افتراض التعارض- فإن العمرة في رمضان أفضل؟

الشيخ: نعم، يترتب على ذلك: أن العمرة في رمضان أفضل من العمرة في أشهر الحج؛ لأنها من قول النبي عليه الصلاة والسلام: عمرةٌ في رمضان تعدل حجةً، من قول النبي عليه الصلاة والسلام، بينما كون النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر في شهر ذي القعدة هذا من فعله ، ودلالة القول أقوى وأصرح من دلالة الفعل، لكن الواقع أنه ليس هناك تعارضٌ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما اعتمر في ذي القعدة؛ لأن قريشًا في الجاهلية كانت ترى أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، كان هذا المعتقد راسخًا عندهم، وكانوا يجعلون المحرم صفرًا، ويقولون: إذا برأ الدَّبَر [14]، وعفا الأثر [15]، وانسلخ صفر؛ حلَّت العمرة لمن اعتمر، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يُبطِل هذا المعتقد الذي كان موجودًا عندهم، وكان أيضا راسخًا عند كثيرٍ من الصحابة ، فاعتمر عليه الصلاة والسلام في ذي القعدة، وكرر العمرة في ذي القعدة، بل أمر الصحابة الذين لم يسوقوا الهدي بالعمرة، أمرهم أولًا في المدينة بالعمرة، ثم أكد عليهم ذلك عند الميقات، ثم لما وصل إلى مكة؛ أمرهم أمرًا لازمًا، وقال: افعلوا ما آمركم به [16]؛ ولهذا فالقول الراجح كما اختاره أبو العباس ابن تيمية: أن التمتع واجبٌ في حق الصحابة  خاصةً الذين لم يسوقوا الهدي دون غيرهم.

هذا هو القول الذي تجتمع به الأدلة الواردة في المسألة، فكون النبي عليه الصلاة والسلام يؤكد على الصحابة أن يعتمروا، وهو أيضًا اعتمر في أشهر الحج، كان غرض النبي عليه الصلاة والسلام: هو أن يُبطل هذا المعتقد الموجود عند أهل الجاهلية، وهو أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، حتى راجعوا النبي عليه الصلاة والسلام، قالوا: يا رسول الله، أيُّ الحِل؟ قال: الحل كله [17]، والأحاديث في هذا كثيرةٌ، وممن بسطها: الإمام ابن القيم رحمه الله في "الهدي النبوي".

والحاصل: أن اعتمار النبي عليه الصلاة والسلام في شهر القعدة، وكذلك أمره  للصحابة بذلك، هو لأجل إبطال هذا المعتقد، فكان ذلك لسببٍ، لكن قوله عليه الصلاة والسلام: عمرةٌ في رمضان تعدل حجةً [18]، هذا وإن كان قد قاله لامرأةٍ من الصحابة؛ لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ وعلى هذا: فالقول الراجح: أن العمرة في رمضان أفضل من العمرة في أشهر الحج.

المقدم: هل يمكن أن يُؤخذ من هذا بأن يقال: إن الأفضل في العمرة أن تُؤدَّى في رمضان، فإن لم يستطع؛ ففي أشهر الحج، فإن لم يستطع؛ ففي سائر الأشهر؟

الشيخ: نعم، العمرة عملٌ صالحٌ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما [19]، وأفضل ما تكون في شهر رمضان، إن لم يتيسر للإنسان؛ فيُؤدِّيها في أشهر الحج؛ فإنها تلي شهر رمضان في الأفضلية، فإن لم يتيسر هذا ولا ذاك؛ ففي أي وقتٍ من أوقات السنة.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم شيخنا.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء على ما قدم وأفاد وأجاد، فشكر الله لكم شيخنا.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

والشكر لكم -أنتم أيها المستمعون والمستمعات- على استماعكم وإنصاتكم.

إلى أن نلتقيكم في الحلقة القادمة، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه  البخاري: 4655، ومسلم: 1347.
^2 رواه مسلم: 233.
^3 رواه البخاري: 1773، ومسلم: 1349.
^4 رواه البخاري: 1820، ومسلم: 1350.
^5 رواه مسلم: 121.
^6 رواه مسلم: 1885.
^7 رواه البخاري: 4406، ومسلم: 1679.
^8 رواه الترمذي: 2622.
^9 رواه البخاري: 2876، وابن ماجه: 2901، وأحمد: 25322.
^10 رواه الترمذي: 930، والنسائي: 2621، وابن ماجه: 2906، وأحمد: 16229.
^11 صحيح البخاري: 3/ 2.
^12 رواه البخاري: 1773.
^13 رواه البخاري: 1836، ومسلم: 1256.
^14 الدبر بالتحريك: الجُرح الذي يكون في ظهر البعير، وقيل: هو أن يَقرح خف البعير. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 2/ 97 (د ب ر).
^15 عفا الأثر: أي ذهب أثر الدَّبَر، يقال: عفا الشيء: إذا دَرَس وامَّحَى، وقيل: أي: درس أثر الحاج والمعتمرين بعد رجوعهم. ينظر: شرح السنة للبغوي: 7/ 78، ومشارق الأنوار على صحاح الآثار للقاضي عياض: 3/ 98.
^16 رواه البخاري: 1568، ومسلم: 1216.
^17 رواه البخاري: 3832، ومسلم: 1240.
^18, ^19 سبق تخريجه.
مواد ذات صلة
zh