logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(59) برنامج مجالس الفقه- آداب الطعام والشراب

(59) برنامج مجالس الفقه- آداب الطعام والشراب

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة مما يَحتاج إلى معرفتها كل مسلمٍ.

يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: أهلًا وسهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

آداب الطعام والشراب

شيخنا، لا يزال الحديث موصولًا في باب فقه "الأخلاق والآداب"، ولعل حديثنا في هذه الحلقة أن يكون عن آداب الطعام والشراب، فلو بدأتم لنا شيخنا بذكر شيءٍ من هذه الآداب التي ينبغي مراعاتها في هذا الأمر الذي يتكرر من المسلم في كل يومٍ وليلةٍ أكثر من مرةٍ.

التسمية في أول الطعام والشراب

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن للطعام والشراب آدابًا على المسلم أن يتأدب بها؛ ومن أبرز هذه الآداب: التسمية في أول الطعام والشراب، وجماهير العلماء على أن التسمية مستحبةٌ استحبابًا مؤكدًا، وإن كان هناك من أهل العلم من قال بالوجوب، ولكن الأظهر هو القول باستحباب التسمية؛ لأنها في باب الآداب، والأوامر في باب الآداب تُحمل على الاستحباب.

والتسمية تكون بلفظ "بسم الله"، من غير زيادة: "الرحمن الرحيم"، يعني عندما يأكل يقول: "بسم الله"، عندما يشرب يقول: "بسم الله"؛ لأن زيادة: "الرحمن الرحيم"، عند ابتداء الطعام والشراب لم تَرِد في جميع الروايات، حتى ولو روايةٍ ضعيفةٍ؛ ولذلك فالأفضل في هذا الموضع الاقتصار على قول: "بسم الله"، ثم إن قول: "بسم الله"، متعلقٌ بجارٍّ ومجرورٍ يناسب المقام، فمثلًا عندما يأكل "بسم الله" يتعلق بفعلٍ محذوفٍ: بسم الله آكل، عندما يشرب: بسم الله أشرب، هو متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "للتسمية في أول الطعام والشراب وحمد الله في آخره تأثيرٌ عجيبٌ في نفعه واستمرائه ودفع مضرته"، سبحان الله! انظر إلى أثر التسمية، عندما تُسمِّي الله في أول الطعام والشراب، وتحمد الله في آخر الطعام والشراب -كما يقول الإمام ابن القيم- لهذا تأثيرٌ عجيبٌ في نفع هذا الطعام ونفع هذا الشراب، وفي استمرائه وفي دفع مضرته ببركة التسمية؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: سَمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك [1].

فينبغي أن يُعوِّد المسلم نفسه على التسمية في ابتداء كل شيءٍ؛ في ابتداء الطعام، في ابتداء الشراب، في ابتداء حتى الأعمال التي يُزاولها، يقول: "بسم الله"، و"بسم الله" كما ذكرنا أن هذا جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ مناسبٍ للمقام؛ فعند الأكل: بسم الله آكل، وعند الشرب: بسم الله أشرب، وعند الكتابة: بسم الله أكتب.

طيب، متى يُشرع زيادة "الرحمن الرحيم"، فتقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"؟

يُشرع هذا في المواضع التي وردت؛ ومن ذلك: في ابتداء سور القرآن، ومنها سورة الفاتحة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، ما عدا سورة التوبة، فسورة التوبة لا يبتدأ فيها بـبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ؛ لأن الصحابة كتبوها بدون تسميةٍ لما كُتب المصحف في عهد عثمان ، واختلف العلماء في السبب، ومن أظهر الأسباب: أنها هي وسورة الأنفال كالسورة الواحدة.

المقدم: في المكاتبات أيضًا.

الشيخ: كذلك أيضًا في المكاتبات: إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]، كان النبي إذا كتب لملوك ورؤساء العالم؛ يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبدالله إلى -مثلًا- هرقل ملك الروم [2]، ونحو ذلك، فكان عليه الصلاة والسلام في المكاتبات وفي المخاطبات وفي الرسائل يبتدئ بـ"بسم الله"، بينما كان في خطبه عليه الصلاة والسلام، وفي كلماته وأحاديثه يبتدئ بـ"الحمد لله".

المقدم: جميلٌ! إذنْ السنة: البداءة بالحمد وليس بالبسملة.

الشيخ: الخطب والمحاضرات والكلمات والدروس، الأفضل الابتداء بـ"الحمد لله"، ولو ابتدأ بـ"بسم الله"؛ فالأمر واسعٌ، لكن الكلام فقط من حيث الأفضلية، أما في المكاتبات والرسائل والكتب والتأليف، وفي ابتداء السور -ماعدا سورة التوبة- فيُبتدأ بالبسملة، وهنا في هذه المواضع تكون البسملة مضافًا لها "الرحمن الرحيم"، "بسم الله الرحمن الرحيم".

المقدم: أحسن الله إليك.

أيضًا شيخنا من المسائل المتعلقة بالتسمية: إذا نسي أن يسمي في أول طعامه؛ فما المشروع في حقِّه؟ هل يستدرك ويُسمِّي؟ وإن كان كذلك؛ فماذا يقول؟

الشيخ: نعم، إذا نسي أن يسمي في أول الطعام، فالسنة أن يستدرك ويسمي ويقول: بسم الله في أوله وآخره.

المقدم: أحسن الله إليكم، ظاهر السُّنة أن التسمية تكون في أول الطعام، أو مع كل أكلةٍ يأكلها؟

الشيخ: ظاهر السنة أنها في أول الطعام، لكن من أهل العلم من يرى أنه يكون في كل أكلةٍ يأكلها، لكن الأقرب -والله أعلم- هو أن التسمية تكون في أول الطعام؛ لأن هذا ظاهر المأثور عن النبي .

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان.

حكم الأكل أو الشرب قائمًا

أيضًا مما يُذكر في باب آداب الطعام والشراب: ما يتعلق بالأكل والشرب وهيئته، هل يكون قاعدًا أو قائمًا؟ وما المشروع في هذا؟

الشيخ: السنة أن يكون الأكل والشرب قاعدًا، هذه هي السنة، متفقٌ عليها عند أهل العلم. لكن ما حكم الأكل والشرب قائمًا؟

جاء في هذا أحاديث عن النبي في النهي عن الأكل والشرب قائمًا، من ذلك ما جاء في "صحيح مسلمٍ" عن أنسٍ أن النبي زجر عن الشرب قائمًا [3]، وأيضًا جاء في "صحيح مسلمٍ" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : لا يشربن أحدٌ منكم قائمًا، فمن نسي فليستَقِئ [4]، وجاء في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: سقيت رسول الله من زمزم فشرب وهو قائمٌ [5]، وهذا يدل على الجواز، وأيضًا جاء في حديث النَّزَّال بن سَبْرة  قال: أتى عليٌّ على باب الرَّحَبَة -لما كانوا في الكوفة- فشرب قائمًا، فقال: إن ناسًا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائمٌ، وإني رأيت النبي فعل كما رأيتموني فعلت [6]، أخرجه البخاري في "صحيحه".

في هذه الأحاديث؛ في بعضها أن النبي شرب قائمًا، وفي بعضها نهي النبي عن الشرب قائمًا، قال النووي رحمه الله: "ليس في هذه الأحاديث -بحمد الله- إشكالٌ، ولا فيها ضعفٌ، بل كلها صحيحةٌ، والصواب فيها: أن النهي فيها محمولٌ على كراهة التنزيه، أما شربه قائمًا فبيانٌ للجواز، فلا إشكال ولا تعارض"؛ وعلى هذا نقول: إن الأحاديث التي جاء فيها النهي عن الشرب قائمًا إما محمولةٌ على الكراهة أو على خلاف الأوْلى، والسنة الشرب قاعدًا، سواءٌ قلنا: إن الشرب قائمًا مكروهٌ أو خلاف الأوْلى.

فينبغي للمسلم إذا أراد أن يشرب أن يجلس، ولا يشرب قائمًا إلا لعذرٍ أو حاجةٍ، وعندما نتأمل شرب النبي وهو قائمٌ؛ نجد أن هذا إنما ورد في مواضع حاجةٍ، ففي حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: شرب من زمزم وهو قائمٌ، وكان هذا في حجة الوداع، والناس كثيرٌ ويُحيطون بالنبي ، فأيضًا كان هناك زحامٌ والمكان ضيقٌ، فشرب قائمًا، وكذلك أيضًا ما ذكره عليٌّ عن النبي ؛ وعلى هذا نقول: إن الأفضل والسنة: أن يكون الشرب قاعدًا، وأن الشرب قائمًا لا يصل إلى درجة التحريم، ولكنه إما مكروهٌ أو خلاف الأولى، هذا بالنسبة للشرب.

أما بالنسبة للأكل: فلم يثبت فيه شيءٌ إلا حديث قتادة عن أنسٍ عن النبي أنه نهى أن يشرب الرجل قائمًا، قال قتادة: فقلنا لأنسٍ: فالأكل؟ قال: ذاك أشرُّ، أو أخبث [7]، رواه مسلمٌ، أي: إذا نهي عن الشرب قائمًا؛ فالنهي عن الأكل قائمًا من باب أولى، فالذي يظهر -والله اعلم- أن الشرب والأكل بابهما واحدٌ، وأن السنة أن يأكل وأن يشرب قاعدًا، وأن الأكل والشرب قائمًا؛ إما مكروهٌ أو خلاف الأوْلى.

المقدم: أحسن الله إليكم.

حكم الاتِّكاء عند الأكل أو الشرب

شيخنا، أيضًا مما يتصل بالهيئة في الأكل والشرب ما يتعلق بالاتكاء، جاءت بعض الأحاديث التي ربما نهت أو بينت ذم المتكئ حال أكله، ما صفة الاتكاء، وما حكمه؟

الشيخ: الاتكاء جاء في حديث أبي جحيفة قال: قال رسول الله : إني لا آكل متكئًا [8]، أخرجه البخاري في "صحيحه"، وجاء في حديثٍ آخر النهي عن الأكل متكئًا، لكنه ضعيفٌ ولا يصح عن النبي ، ومن هنا اختلف الفقهاء في الاتكاء، ما معنى الاتكاء وما حكمه؟

الاتكاء حكمه مكروهٌ ولا يصل إلى درجة التحريم؛ لأن الحديث المروي في النهي عن الأكل متكئًا لا يثبت، وحتى لو ثبت؛ فهو في باب الآداب، والنهي في باب الآداب يُحمل على الكراهة؛ فعلى هذا عند عامة أهل العلم: أن الأكل أو الشرب متكئًا مكروهٌ، ومنهم من قال: إنه خلاف الأولى، لكن يبقى النظر: ما معنى الاتكاء، وما صفة الاتكاء؟

من أهل العلم من قال: إن الاتكاء أن يكون متربِّعًا، لكن هذا لا دليل عليه لا في كتب اللغة ولا في الشرع، ومنهم من ذكر صفاتٍ أخرى للاتكاء، والأظهر -والله أعلم- أن الاتكاء معناه: أن يميل على أحد شقيه ويعتمد على إحدى يديه، ويدل لهذا المعنى ما جاء في حديث أبي بكرة قال: كنا عند رسول الله فقال: ألا أُنبِّئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟، قالها ثلاث مراتٍ، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق والوالدين، وكان متكئًا فجلس، وقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت! [9]، أخرجه البخاري ومسلمٌ في "صحيحيهما".

ففي هذا الحديث إشارة لاتكاء النبي ؛ لأنه لما قال: ألا أُنبِّئكم بأكبر الكبائر؟، ثم قال: الإشراك بالله، وعقوق والوالدين، كان متكئًا، ما معنى متكئًا هنا؟ أي: مائلًا على أحد شِقَّيه معتمدًا على إحدى يديه؛ ولذلك قال: وكان متكئًا فجلس، أي: عدل جلسته، فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت! فعلى هذا: الأقرب -والله أعلم- في معنى الاتكاء: هو الاتكاء الوارد في هذا الحديث، في حديث أبي بكرة ، أي: الميل على أحد شِقَّيه مع الاعتماد على إحدى يديه، وهذا هو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله.

وقد أشار الإمام ابن القيم رحمه الله إلى الحكمة من كراهة الأكل متكئًا، فقال: "وأجود ما اغتذى الإنسان إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعي، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان منتصبًا الانتصاب الطبيعي"، قال: "وأردأ الجلسات: الاتكاء على الجنب؛ لأن المريء وأعضاء البدن تزداد عند هذه الهيئة، والمعدة لا تبقى على وضعها الطبيعي؛ لأنها تنعصر مما يلي البطن بالأرض، ومما يلي الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء وآلات التنفس"، هذا وجهٌ من وجوه الحكمة من كراهة الأكل متكئًا.

ثم أيضًا الأكل والشرب متكئًا من صفات المتكبرين، وإن كان لم يثبت فيه نهيٌ، وإنما ثبت من قول النبي : إني لا آكل متكئًا [10]، فهذا يدل على أن الاتكاء مكروهٌ، فينبغي على المسلم عند الأكل والشرب أن يكون معتدلًا في جلسته، فلا يكون متكئًا لا على جنبه الأيمن ولا على جنبه الأيسر؛ لأن الأكل متكئًا -كما ذكر ابن القيم- ربما يكون فيه ضررٌ على البدن، فهو أيضًا من صفات أهل الترف والتكبُّر ونحو ذلك.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا.

إذا اتكأ على إحدى يديه من الخلف؛ فهل يدخل في الاتكاء المنهي عنه؟ أو أن الاتكاء الذي ذُكر الكلام فيه قبل قليلٍ خاصٌّ بالاتكاء على إحدى اليدين؟

الشيخ: الاتكاء الوارد هو الاتكاء على إحدى يديه مائلًا على أحد شِقَّيه، هذا أجود ما قيل في معنى الاتكاء.

حكم الأكل أو الشرب باليمين

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

أيضًا شيخنا مما يُذكر في آداب الطعام والشراب: ما يتعلق بالأكل باليمين، فما حكم الأكل أو الشرب باليمين، ومثل ذلك أيضًا حكمه بالشمال؟

الشيخ: الأكل والشرب باليمين واجبٌ، والأكل والشرب بالشمال محرمٌ على القول الراجح؛ وذلك لأن النبي نهى عن الأكل بالشمال، وقال: إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله [11]، وقد نُهينا عن اتباع الشيطان، وأيضًا ورد الزجر عن الأكل بالشمال، لمَّا كان الرجل يأكل بشماله فقال له النبي : كُلْ بيمينك، فقال: لا أستطيع، قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه [12]، وعلى هذا: فوُجدت القرينة الدالة هنا على أن الأكل والشرب باليمين واجبٌ، وأن الأكل والشرب بالشمال محرمٌ بهذه القرائن.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

شيخنا بعض الناس إذا كان يأكل ويشرب في آنٍ واحدٍ؛ تجد أنه يأكل بيمينه ويشرب بشماله، فهل مثل هذه الصورة جائزةٌ شرعًا؟

الشيخ: هذا يصدق عليه أنه شرب بشماله؛ ولذلك ينبغي أن يجعل الأكل والشرب باليمين، ثم أيضًا هذا يُشعِر بشيءٍ من الشَّرَه، فينبغي الابتعاد عن الأكل والشرب بهذه الطريقة.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر لكم، ونحن في هذا البرنامج في (مجالس الفقه) نستعرض في هذه الحلقة ما يتعلق بفقه آداب الطعام والشراب مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان.

من يُقدَّم في الإعطاء؟

شيخنا، أيضًا مما يُسأل عنه في هذا الباب: ما يتعلق بالإعطاء في المجلس، إذا كان سيُعطي الحاضرين طعامًا أو شرابًا أو ربما بخورًا، فمن الذي يُقدَّم في الإعطاء حينئذٍ؟

الشيخ: ظاهر السنة: أن الذي يُقدَّم في الإعطاء: الأكبر، عندما يدخل الداخل بالقهوة مثلًا أو الشاي أو البخور أو نحو ذلك؛ فيُقصد الأكبر في المجلس، ولكن مَن المقصود بالأكبر؟ هل المقصود الأكبر علمًا، أو الأكبر سِنًّا؟

نقول: الأكبر علمًا مقدَّمٌ، ثم الأكبر سنًّا؛ لأن الأكبر علمًا قَدْره أكبر من الأكبر سنًّا؛ فإذنْ يقدَّم الأكبر، فإذا وجد الأكبر علمًا؛ فإنه يقدَّم، إن لم يوجد، أو كانوا متقاربين، أو كلهم عامةً؛ فيقدَّم الأكبر سِنًّا، ويدل لذلك قول النبي : كبِّر كبِّر [13]، وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أراني في المنام أتسوك بسواكٍ، فجذبني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبِّر كبِّر، فدفعته إلى الأكبر [14]، متفقٌ عليه.

وهذا يدل على أن السن له اعتبارٌ، وكذلك العلم، وكما ذكرنا أن الكِبَر في العلم يفوق الكِبَر في السن، فيبدأ أولًا بالأكبر علمًا إن وجد في المجلس، فإن لم يوجد، وكانوا متقاربين؛ فيبدأ بالأكبر سِنًّا، فيُعطَى مثلًا القهوة، يعطى الشاي، يعطى البخور، فيُقدَّم في هذا، فإذا انتُهِيَ منه؛ أُعطِيَ الأكبر علمًا أو سِنًّا، هل يُقدَّم مَن عن يمين الشارب، أو يُقدَّم مَن على يمين المباشر الذي يناوله؟

في هذه المسألة قولان لأهل العلم:

فمنهم من قال: إنه يبدأ بعد الانتهاء منه بمن عن يمين المباشر؛ وعلى هذا: يُقدَّم من عن يسار الشارب.

ومنهم من قال: إنه يُقدَّم مَن عن يمين الشارب -يعني الذي يُعطَى- ثم الذي يليه، ثم الذي عن يمينه، ثم الذي عن يمينه.. وهكذا؛ لقوله : الأيمن فالأيمن [15]، وهذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله.

إذنْ الخلاصة: أن القول الراجح: أنه يُبتدأ في المجلس بإعطاء الأكبر علمًا إن وُجد، ثم الأكبر سِنًّا، ثم مَن عن يمينه -مَن عن يمين هذا الأكبر- ثم من عن يمينه.. وهكذا، فهذه هي السنة في ذلك، وهذا الذي تدل له الأحاديث، وقد جاء في حديث أنسٍ أن رسول الله أُتِيَ بلبنٍ قد شِيبَ بماءٍ، وعن يمينه أعرابيٌّ، وعن شماله أبو بكرٍ، فشرب ثم أعطى الأعرابي، وقال: الأيمن فالأيمن [16]، أخرجه البخاري ومسلمٌ، وهذا الحديث كالنص في المسألة، لاحِظ هنا أن النبي أولًا هو الذي قُدِّم فأُعطِيَ اللبن؛ لأنه أكبر قدرًا وعلمًا، ثم بعد ذلك أَعطَى النبي من عن يمينه، وهو هذا الأعرابي، مع أن عن يساره أبا بكرٍ الصديق، الذي هو أفضل الصحابة ، وأيضًا أبو بكرٍ  مقاربٌ للنبي في السن، ليس بعيدًا عنه، وإنما هو قريبٌ منه، فأعطى النبي الأعرابي؛ لكونه عن يمينه؛ ولهذا قال: الأيمن فالأيمن.

وجاء أيضًا في "الصحيحين" عن سهل بن سعدٍ  أن رسول الله أُتِيَ بشرابٍ فشرب منه، وعن يمينه غلامٌ، وعن يساره أشياخٌ، فقال النبي للغلام: أتأذن لي أن أُعطي هؤلاء؟ -يعني هؤلاء الأشياخ- قال: لا، والله لا أوثر بنصيبي منك -يا رسول الله- أحدًا، فتَلَّه -أي وضعه- رسول الله في يده [17]، وقد قيل: إن هذا الغلام كان ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عبدالله بن عباسٍ كان في حياة النبي صغيرًا، وتُوفي عليه الصلاة والسلام وعُمْرُ ابن عباسٍ رضي الله عنهما ثلاث عشرة سنةً، وهذا يدل على نُبُوغه في تلك السن.

فلاحِظ هنا في هذه القصة أولًا أن النبي لما أتى الآتي بالشراب؛ قدَّم النبيَّ ؛ لكونه هو الأكبر قدرًا وعلمًا، ثم عن يمينه غلامٌ، وعن يساره أشياخٌ كبارٌ في السن، فأراد النبي أن يستأذن من هذا الغلام، قال له: أتأذن لي أن أُعطي هؤلاء؟ قال: لا، وعلَّل ذلك هذا الغلام: أني والله لا أُوثر بنصيبي منك أحدًا، فطلب حقَّه، فأعطاه النبي هذا الشراب.

إذنْ هذه الأحاديث تدل على أن السنة: أن يُقدَّم الأكبر قدرًا وعلمًا أولًا، فإن لم يوجد؛ فيقدَّم الأكبر سنًّا، ثم بعد ذلك يقدَّم من عن يمينه، الأيمن فالأيمن، هذا هو الذي تجتمع به الأحاديث الواردة في هذه المسألة عن النبي ، وهذا كله على سبيل الأفضلية، وإلا فإن الأمر واسعٌ في هذه المسألة إن شاء الله.

المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- في صورة هذه المسألة، إذا رَدَّ الشاربُ إلى المُعطِي، فهل يُعطيه مَن عن يمينه أو من عن يساره؟ أخذ الإناء وشرب منه، ثم رَدَّه إلى المُضيف فهنا من يُعطي المضيف الآن؟

الشيخ: يُعطي من عن يمين الشارب؛ بدليل أن النبي لما أعطاه أحد الصحابة شرابًا؛ رَدَّه وقال لهذا الغلام الذي قيل: إنه ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أتأذن لي أن أُعطي هؤلاء؟ -الأشياخ- قال: لا، لا أُوثر بنصيبي منك أحدًا، فالنبي أمر أن يُعطَى من عن يمينه.

المقدم: لا فرق بين أن المُعطي هو الشارب أو المضيف إذا رَدَّ له الإناء؟

الشيخ: نعم، ظاهر السنة أنه لا فرق.

السنة في كيفية الشراب

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، الشرب هل جاء في كيفيته سنةٌ واردةٌ عن النبي ؟

الشيخ: نعم، السنة في الشرب أن يشرب ثلاثًا، ولا يشرب دفعةً واحدةً، هذا هو الأفضل، فقد جاء في حديث أنسٍ قال: كان رسول الله يتنفس في الشراب ثلاثًا -يتنفس يعني: يتنفس خارج الإناء، هذا هو المقصود- ويقول: إنه أروى وأبرأ وأمرأ [18]، فذكر النبي في هذا الحديث ثلاث فوائد في كون أن الشرب يكون ثلاثًا.

وتكلم عن هذا الحديث الإمام ابن القيم رحمه الله في "الطب النبوي"، قال: "ومعنى تنفسه في الشراب: إبانته القدح عن فِيه وتنفسه خارجه، ثم يعود إلى الشراب، وفي هذا الشرب حِكَمٌ جمةٌ، وفوائد مهمةٌ، وقد نبَّه على مَجامعها بقوله: إنه أروى وأبرأ وأمرأ، فـأروى أي: أشد ريًّا وأبلغه وأنفعه، وأبرأ، أفعل من البُرء وهو الشفاء، أي: يُبرئ من شدة العطش ودائه لتردُّده على المعدة الملتهبة دفعاتٍ، فتُسكن الدفعة الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه، والثالثة ما عجزت الثانية عنه، وأيضًا فإنه أسلم لحرارة المعدة، وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وَهْلَةً واحدةً ونَهْلَةً واحدةً؛ فإنه أسلم عاقبةً وآمن غائلةً من تناول جميع ما يُروِي دفعةً واحدةً؛ فإنه يُخاف منه أن يُطفئ الحرارة الغريزية بشدة بَرْده وكثرة كميته أو يُضعفها، ويُؤدِّي ذلك إلى فساد مزاج المعدة والكبد، وإلى أمراضٍ رديئةٍ، وقوله : وأمرأ أي: أفعل من مَرِئ الطعام والشراب في بدنه، أي: إذا دخله وخالطه بسهولةٍ ولذةٍ ونفعٍ، ومنه قوله تعالى: فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا [النساء:4]، هَنِيئًا في عاقبته، مَّرِيئًا في مذاقه، وقيل: معناه أنه أسرع انحدارًا عن المريء في سهولته وخفته عليه، بخلاف الكثير فإنه لا يسهل على المريء انحداره"، قال: "ومن آفات الشرب نهلةً واحدةً: أنه يُخاف من الشَّرَق بأن يَنسَدَّ مجرى الشراب؛ لكثرة الوُرُود عليه فيغص به، فإذا تنفس رويدًا ثم شرب؛ أَمِن من ذلك".

قال ابن القيم: "وقد عُلم بالتجربة أن وُرُود الماء جملةً واحدةً على الكبد يُؤلمها ويُضعف حرارتها؛ وسبب ذلك: المضادة التي بين حرارتها وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته، ولو ورد بالتدريج شيئًا فشيئًا؛ لم يُضاد حرارتها ولم يُضعفها، وهذا مثاله: صب الماء البارد على القدر وهي تفور، لا يضرها صبُّها قليلًا قليلًا، لكن عند صبه مرةً واحدةً فإنه يطيش؛ وعلى هذا نقول: السنة عند الشرب أن يُقسِّم الماء ثلاث مراتٍ أو أكثر، وألا يكون دفعةً واحدةً؛ لكونه أروى وأمرأ وأبرأ".

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.

أستأذنكم شيخنا هناك جملةٌ من المسائل -الحقيقة- متعلقةٌ بفقه الطعام والشراب والوليمة، لعلنا نُرجئها للحديث في الحلقة القادمة بإذن الله ، فإلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم شيخنا.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه البخاري: 5376، ومسلم: 2022.
^2 رواه البخاري: 7، ومسلم: 1773.
^3, ^7 رواه مسلم: 2024.
^4 رواه مسلم: 2026.
^5 رواه البخاري: 1637، ومسلم: 2027.
^6 رواه البخاري:5615
^8 رواه البخاري: 5398.
^9 رواه البخاري: 5976.
^10 سبق تخريجه.
^11 رواه مسلم: 2020.
^12 رواه مسلم: 2021.
^13 رواه البخاري: 3173.
^14 رواه البخاري: 246، ومسلم: 246.
^15, ^16 رواه البخاري: 5619، ومسلم: 2029.
^17 رواه البخاري: 2451، ومسلم: 2030.
^18 رواه البخاري: 5631، ومسلم: 2028.
مواد ذات صلة
zh