logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(29) برنامج مجالس الفقه- تتمة أحكام فقهية متعلقة بالزمن في الديون

(29) برنامج مجالس الفقه- تتمة أحكام فقهية متعلقة بالزمن في الديون

مشاهدة من الموقع

المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم "مجالس الفقه".

"مجالس الفقه" برنامجٌ يُذاع عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها، ويحتاج إلى معرفتها المسلم. يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية. فبِاسْمي وَاسْمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المستمعين.

تتمة أحكام فقهية متعلقة بالزمن في الديون

الزمن في الديون

المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، في هذه الحلقة نستكمل ما سبق وأن تطرقنا إليه في الحلقة الماضية في الحديث عن المسائل والأحكام الفقهية المتعلِّقة بالزمن في الديون، وكنا قد ذكرنا في حلقةٍ ماضيةٍ جملةً من المسائل، ولعلنا في هذه الحلقة نستكمل بعض المسائل المرتبطة في هذا الموضوع؛ من ذلك -شيخنا- مسألةٌ: وهي صورتها أن يأتي شخصٌ ويُقرض إنسانًا مبلغًا من المال على أن يُسدِّده في وقتٍ معينٍ، لكن يطرأ على الدائن ما يُرغِّب به تعجيل سداد الدين، فقد يتمسك المدين بالأَجَل المحدَّد له، لكن يريد الدائن أن يُغرِي هذا المدين، فيقول له: عجِّل إليَّ سداد هذا الدَّين في هذا الوقت عن ميعاده المحدَّد، ونظير ذلك سأضع عنك شيئًا من الدَّين، وأخفض لك فيه؛ فما حُكم هذه المسألة، وهل يجوز للدائن أن يتعامل بها؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

المصالحة عن الدَّين المؤجل ببعضه حالًّا

فهذه المسألة عند الفقهاء تُسمَّى مسألة "المصالحة عن الدَّين المؤجل ببعضه حالًّا"، وتُسمَّى مسألة "ضَعْ وتعجَّل"، وتُسمَّى مسألة "الحَطِيطَة"، وهي كما أشرتم أن المعنى: أن الدائن يطلب المدينَ دَيْنًا مؤجلًا يحلُّ بعد مدة معينة -ولنفترض مثلًا أنه بعد سنة-، ثم يأتي الدائن للمدين قبل حلول الدَّين -نفترض مثلًا بعد مُضِيِّ ستة أشهر-، ويقول: يا فلان، أنا أطلبك هذا الدَّين، سأُسقط عنك بعض الدَّين بشرط أن تُعجِّل لي سداد الدَّين الآن. فكلٌّ منهما مستفيد، الدائن مستفيد بتعجيل الدَّين عن وقته، والمدين يستفيد بإسقاط بعض الدَّين عنه؛ هذه مسألةٌ تقال اختصارًا: "ضَعْ وتعجَّل"، وهي محل خلاف بين الفقهاء، ومنهم مَن ذهب إلى الجواز، ورُوي هذا القول عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن إبراهيم النخعي وأبي ثور وابن سيرين، وقال به بعض الحنفية، وهو رواية عند الحنابلة.

والقول الثاني: عدم الجواز، أنَّ "ضَعْ وتعجَّل" لا تجوز، ورُوي ذلك عن عمر وزيد بن ثابت وابن عمر والمقداد رضي الله عنهم، والحسن وسعيد بن المسيب والشعبي، وهو قول الجماهير، وهو الذي عليه المذاهب الأربعة مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والمشهور أيضًا من مذهب الحنابلة.

القائلون بالجواز استدلوا بأدلة منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: لمَّا أراد النبي أن يُخرج يهود بني النضير، قالوا: يا محمد، إنك أمرت بإخراجنا، وإن لنا على الناس ديونًا لم تحل، فقال لهم النبي : ضعوا وتعجَّلوا[1]، وهذا الحديث أخرجه البيهقي في السنن الكبرى والطحاوي والدارقطني، ومن العلماء مَن ضعَّفه من جهة السند؛ قالوا: لأن مداره على مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف، وإن كان هو شيخ الإمام الشافعي؛ ولذلك منهم مَن وثَّقه، بل يقال: هو السبب في توجيه الإمام الشافعي، الإمام الشافعي لمَّا أتى إلى مكة ذهب إلى البادية، وذهب إلى هُذيل لأجل أن يطلب الفصاحة والبلاغة، ثم لمَّا أتى مكة بدأ يتكلم بالشعر والقصائد في المجالس، فلقيه مسلم بن خالد الزنجي، وقال: هذا لا يليق بك، اتجِه للفقه، فاتجَه للفقه، ورأى رؤيا في المنام أيضًا أيدَت هذا الشيء، فقال: دلُّوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على الإمام مالك في المدينة، فذهب إليه وطلب العلم عنده حتى مات. ثم بعد ذلك حصل له ما حصل، وأصبح أحد الأئمة الكبار.

المقدم: هذا يدل على أثر التوجيه في مثل هذا المقام، قد يقلب حياة الإنسان رأسًا على عقب.

الشيخ: نعم، وأحيانًا كلمة، مثل تأليف "صحيح البخاري"، قال إسحاق: لو أن أحدكم جمع الأحاديث الصحيحة، قال البخاري: "فوقع هذا في نفسي"، وبدأ في تأليف هذا الكتاب العظيم.

فبعض العلماء اعترض على هذا الحديث، وقالوا إن فيه هذا الرجل -وهو مسلم بن خالد-، لكن مسلم بن خالد -كما ذكرنا- هو شيخ الإمام الشافعي، ووثَّقه آخرون، ولهذا قال ابن القيم: "إن هذا الحديث على شرط السنن، وإنما ضُعِّف بمسلم بن خالد وهو ثقةٌ فقيهٌ، روى عنه الشافعي واحتج به". فإذَن هذا الحديث؛ من أهل العلم مَن قوَّاه -خاصةً أن له شاهدًا- فلعلَّه يتقوَّى به. وأيضًا مَن تكلم في مسلم بن خالد إنما تكلم عنه من جهة سوء الحفظ، وإلا فهو ثقةٌ في نفسه. وعلى هذا؛ الذي يظهر -والله أعلم- أن الحديثَ ثابتٌ بشاهده.

أيضًا من أدلة الجواز: حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الرجل يكون له الحق على الرجل إلى أجلٍ، فيقول: عَجِّل لي وأضع عنك، قال: لا بأس[2]. وابن عباس رضي الله عنهما هو الراوي للحديث السابق في قصة إخراج يهود بني النضير، لكن اعتُرض عليه بأنه اجتهادٌ من صحابيٍّ خالَفَه صحابة آخرون.

عللوا بتعليلٍ للجواز، قالوا: إن هذه المسألة -يعني "ضَعْ وتعجَّل"- ضدُّ الربا، فإن الربا يتضمن الزيادة في الأجل والدَّين، وذلك إضرارٌ محضٌ بالغريم، بينما هذه المسألة -مسألة "ضَعْ وتعجَّل"- تتضمن براءة ذمة المدين من الدَّين وانتفاع صاحبه بما يتعجَّله، فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر، بخلاف الربا المجمع عليه، فإن ضرره لاحقٌ بالمدين، ونفعه مختصٌّ بالدائن؛ فـ"ضَعْ وتعجَّل" ضد الربا صورةً ومعنًى، هذا من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله.

فظاهرٌ أنه في الربا الانتفاع خاصٌّ بالدائن والضرر بالمدين، أما في هذه المسألة كلاهما منتفعٌ، الدائن منتفعٌ بتعجيل الدَّين، والمدين منتفعٌ بأن أُسقط عنه بعض الدَّين، والشارع له تطلعٌ لبراءة الذمم من الديون، ففي براءة ذمته تخليصٌ له من هذا الدَّين.

أما القائلون بعدم جواز مسألة "ضَعْ وتعجَّل" -وكما ذكرنا هو قول الجمهور وعليه المذاهب الأربعة-؛ استدلوا أولًا بحديث المقداد بن الأسود ؛ قال: أسلفتُ رجلًا مئة دينار، ثم خرج سهمي في بعثٍ بعثَه رسولُ الله فقلت له: عجِّل لي تسعين دينارًا وأحطُّ عشرة دنانير، فقال: نعم، فذكرت ذلك للنبي فقال: أكلتَ الربا يا مقداد وأطعمتَه[3] أخرجه البيهقي، وهذا الحديث لو كان صحيحًا لكان صريحًا في المسألة، لكنه حديث ضعيف من جهة السند، فلا يثبت من جهة الصناعة الحديثية.

أيضًا قالوا بقياس هذه المسألة على مسألة الربا؛ فقالوا: تُقاس مسألة وَضْع بعض الدَّين مع إسقاط بعض الأجل على زيادة الدَّين في مقابل زيادة الأجل؛ فأيُّ فرقٍ بين أنه إذا حَلَّ الدَّين على المدين يقول الدائن للمدين: إما أن تقضي وإما تُرْبِي، أو عكس هذه المسألة -وَضْع بعض الدَّين مع إسقاط بعض الأجل-؟ قالوا: فلا فرق بين هذه وهذه.

واعتُرض على هذا بأن هذا القياسَ قياسٌ مع الفارق؛ لأن الربا في الأصل الزيادة، وهو يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، أما في مسألة وَضْع بعض الدَّين مع إسقاط بعض الأجل فالزيادة منتفية هنا، ليس هناك زيادةٌ عندنا، هنا ليس فيه زيادة، وحقيقة الربا الزيادة، بل في ذلك براءةُ ذمةِ المدين عن الدَّين، وتعجيل الدَّين لصاحبه وانتفاعه بذلك التعجيل، مع إسقاط بعض ذلك الدَّين عن المدين، فكلٌّ منهما يحصل له الانتفاع من غير ضرر، وليس في ذلك ربا لا حقيقةً ولا لغةً ولا عُرفًا.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "الذين حرَّموا ذلك إنما قاسوه على الربا، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: إما أن تقضي وإما أن تُرْبِي، وبين قوله: عجِّل لي وأهب لك مئة، فأين أحدهما من الآخر؟! فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح".

والقول الراجح -والله أعلم- في هذه المسألة هو القول الأول، وهو أنه تجوز مسألة "ضَعْ وتعجَّل" أو مسألة "المصالحة عن الدَّين المؤجل ببعضه حالًّا" وذلك لقوة دليله، والأصل في باب المعاملات الحل والإباحة، فلا نخرج عن هذا الأصل إلا بدليلٍ واضحٍ من نصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ صحيح، وهذه المسألة ليس فيها نصٌّ يقتضي التحريم ولا إجماعٌ، والقياس الذي ذكروه قياسٌ مع الفارق، فهو قياسٌ غير صحيح. وعلى هذا؛ فالقول الراجح جواز مسألة "ضَعْ وتعجَّل"، وقد اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم كابن تيمية وابن القيم، وهو الذي يُفتي به عامة مشايخنا.

والعجيب في المسألة أن المذاهب الأربعة كلها متفقة على المنع، وأن اختيارات المحققين على الجواز، وهذا يدل على أن الحق لا يكون مع الأكثر، قد يكون مع الأقل، فالكثرة ليست دليلًا على الحق، أحيانًا تتفق المذاهب الأربعة على قولٍ، بينما يكون القول الراجح من حيث الدليل خلافهم. فإذَن؛ هذا يستدعي من طالب العلم أن يكون محقِّقًا، وأن يحرص على طلب الدليل من الكتاب والسنة، وأن يحرص أيضًا على النظر في كتب المحققين، وإلا فتَرِد مثل هذه المسائل التي عندما يرى الإنسان فيها هيبةَ قول الجمهور، كيف أن المذاهب الأربعة اتفقت على رأيٍ؟! لكن المسألة إذا لم تكن محل إجماعٍ فهي قابلةٌ للنظر، وأما إذا كانت محلَّ إجماعٍ فليس للإنسان أن يُخالف مسائل الإجماع، لكن إذا لم تكن محلَّ إجماعٍ، فطالب العلم ينبغي أن يحرص على التحقيق في المسائل الخلافية.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. شيخنا، أيضًا أشرتم قبل قليلٍ إلى مَلحظٍ مهمٍّ: أنه إذا كان القول المقابل للقول الآخر، يعني هو قولٌ في مقابلة قول الجمهور، هذا يستدعي مزيدًا من البحث والتحقيق إذا كان سيُرجِّح قولًا يُخالف الأئمة الأربعة ونحو ذلك؟

الشيخ: نعم، هذا صحيح، لا شك أن قول الجمهور له هيبةٌ، ولذلك ينبغي عدم التعجل في مخالفتهم إلا بأمرٍ واضحٍ مع الاستئناس باختيارات أبرز المحققين من أهل العلم.

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، وشيخنا متخصصٌ في باب المعاملات المالية، وتحديدًا في هذا الموضوع، لكم شيخنا بحثٌ مطبوع في هذا؟

الشيخ: نعم، بعنوان "الزمن في الديون وأحكامه الفقهية".

المقدم: يمكن لمَن أراد الاستزادة في كثير من هذه المسائل والأحكام أن يرجع إلى بحث شيخنا المطبوع، وهو بعنوان "الزمن في الديون وأحكامه الفقهية".

اشتراط حلول بقية أقساط الدَّين عند التأخر في أداء بعضها

أيضًا من المسائل المتعلقة بهذا الموضوع شيخنا: أن بعض مَن يبيع بالتقسيط ويلتزم فيه المشتري بأقساطٍ محددة وبشكل دوري، يشترط البائع عليه أنه إن أخلَّ بسداد القسط في ميعاده المحدد فإن جميع الأقساط اللاحقة بعد ذلك تحِلُّ ويُلزَم بسدادها دفعةً واحدةً؛ فهل مثل هذا التعامل سائغٌ شرعًا؟

الشيخ: نعم، هذه المسألة مسألة منتشرة ويكثر السؤال عنها؛ أن بعض الدائنين يشترط حلول بقية أقساط الدَّين عند التأخر في أداء بعضها؛ فما حُكم هذا الشرط؟

إذا كان المتأخِّر عن سداد الأقساط معسرًا عاجزًا عن وفاء الدَّين وقت حلوله، فلا يجوز إلزامه بتعجيل الأقساط المؤجلة؛ لأن الواجب إنظار المعسر كما قال الله سبحانه: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، وإذا وجب إنظاره بسبب الإعسار في دَينه الحالّ، فمن باب أَولى أن يبقى دَينه المؤجل إلى أجله، وألَّا يسقط هذا الأجل بسبب الإعسار.

أما إذا كان المتأخر عن أداء الأقساط موسرًا مليئًا؛ فهل يصح أن يشترط عليه هذا الشرط؟

بعض الباحثين المعاصرين ذكر أنه لم يتعرض لهذه المسألة الفقهاء السابقون، لكن هذا محل نظر، وقد ذكرها الإمام ابن القيم، وذكرها بعض متأخري الحنفية؛ وهذه المسألة فيها قولان:

  • القول الأول: بعدم صحة اشتراط هذا الشرط.
  • والقول الثاني: أنه يصح؛ وإليه ذهب أكثر العلماء، وابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" أشار إلى هذه المسألة. وأخذ بالقول بالجواز مجمعُ الفقه الإسلامي الدولي بمنظمة التعاون الإسلامي، وقرر أنه يجوز شرعًا أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها، ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد.

القائلون بعدم صحة هذا الشرط عللوا بأن هذا الشرط مؤدَّاه اشتراطُ الدائن زيادةً على الدَّين عند عجز المدين عن السداد، وذلك أن الثمن غالبًا ما يكون أعلى من الثمن الحالّ، فإذا اتفقا على حلول الأقساط عند العجز عن أداء قسطٍ منها، كأنَّ البائع قد أخذ زيادةً على الدَّين بسبب عدم سداد المدين؛ وذلك يُفضي للربا.

وأُجيب عن هذا بعدم التسليم بأن هذا الشرط يُؤدِّي إلى أخذ الدائن زيادةً على الدَّين بسبب عدم سداد المدين؛ لأن الدَّين قد استقر في ذمة المدين منذ انعقاد العقد، وإذا تراضيا على أن يُؤدِّيه المدين قبل حلول أجله لأيِّ سببٍ من الأسباب جاز ذلك، فالتأجيل حقٌّ للمدين، فإذا رضي بإسقاطه وعلَّق هذا الإسقاط بعدم السداد في الوقت المتفق عليه، فليس في ذلك محظور شرعي.

أما القائلون بصحة هذا الشرط ولزوم الوفاء به؛ فقالوا: إن الأصل في العقود والشروط الصحة والجواز، إلا ما دَلَّ الدليل على منعه، وقد تم التراضي على هذا الشرط، وهو من العقود التي يجب الوفاء بها؛ والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، والنبي يقول: المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا[4]، وليس باشتراط حلول بقية الأقساط عند التأخر في أداء بعضها تحليلٌ لحرام، فيكون هذا الشرط شرطًا صحيحًا لازمًا.

وقالوا: إن التأجيل حقٌّ للمدين، وله أن يتنازل عنه متى شاء؛ لأنه مضروبٌ لمصلحته، وله أن يُعلِّق تنازله عن التأجيل بتأخيره عن قسطٍ من الأقساط؛ لكي يكون حافزًا له على الوفاء بالدَّين من غير تأخر، وفي هذا مصلحةٌ له، كما أنه يُحقِّق مصلحةً للدائن، فهو يُوفِّر له مزيدًا من الاطمئنان على ماله، قالوا: ففي اشتراط هذا الشرط مصلحةٌ للطرفين، ولا يترتب عليه محظورٌ شرعي، وما كان كذلك فإن الشريعة لا تمنعه.

والراجح -والله أعلم- هو القول الثاني: وهو القول بجواز اشتراط حلول بقية الأقساط عند التأخر في أداء بعضها؛ لقوة دليله وضعف ما علَّل به القائلون بالمنع، ولأن الأصل في باب الشروط الصحة، إلا ما ورد الدليل بمنعه، وليس هناك ما يمنع من صحة هذا الشرط.

أيضًا من أقوى الأدلة أن الأجل حقٌّ للمدين، فإذا رضي المدين بإسقاطه بهذا الشرط -أنك إذا تأخرت عن السداد يسقط حقك في التأجيل- فليس هناك في الشريعة شيءٌ يمنع من هذا؛ فعلى هذا لا بأس بهذا الشرط.

لكن بناءً على ترجيح هذا القول وترجيح القول بجواز المصالحة على الدَّين المؤجل ببعضه حالًّا؛ فإن البائع إذا طالب المشتري بتعجيل الأقساط المؤجلة لتأخره في أداء بعضها بمقتضى الشرط الذي شرطه، هل يلزمه أن يحط من الثمن ما قد زِيد عليه مقابل الأجل؟

نقول: الأقرب أنه يلزمه ذلك؛ لأن هذا مقتضى العدالة؛ أنه يحطُّ من الثمن ما قد زِيد فيه مقابل تأجيل بقية الأقساط، ولا يستحق منها إلا قيمتها الحالية فقط، هذا مقتضى العدل، فإن الزيادة إنما كانت مقابل الأجل، فأَخْذُ الزيادة وقد سقط ما وُضِعت لأجله يدخل في أكل المال بالباطل، وإن كانت هذه المسألة محل خلاف، لكن هذا هو الأظهر وهو الأقرب لتحقيق العدل؛ وهو أن الأقساط المتبقية إذا حلَّت بسبب التأخر، فإنه يحطُّ عنه من الثمن ما قد زِيد لأجل التأجيل.

المقدم: وكيف يمكن تقدير هذا الأمر؟ يعني ممكن تقديره بسهولة؟

الشيخ: نعم، يمكن تقديره بسهولة؛ لأن مَن يبيع بالأجل يعرف مقدار القسط والمقدار الذي يكون بسبب التأخير، فأرباب هذه الصنعة يعرفون تحديد ذلك.

المقدم: يعني هم قد وزَّعوا الأرباح على معدل السنوات التي سيُسدّد فيها، فيعرفون قدر كل سنة وما يُعادلها من الربح الموضوع؟

الشيخ: نعم.

هل الدَّين المؤجل يحلُّ بوفاة المدين؟

المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، كذلك من المسائل المتعلقة بالديون وأثر الزمن فيها، وهذا يحدث في مسائل كثيرة، ولا سيما حينما يكون الزمن في الدَّين طويلًا؛ يُقدَّر أن المدين يكون قد أخذ دَينًا، ثم يُتوفَّى؛ فهل وفاة المدين هنا...

الشيخ: دَينًا مؤجلًا؟

المقدم: نعم، دَينًا مؤجلًا، هو كذلك، وحصلت له الوفاة؛ فهل هذه الوفاة تستدعي حلول الدَّين بهذه الصورة، أم أن هذا الأجل المتبقي لهذا المدين يبقى حقًّا له حتى بعد الوفاة فيملك هذا الحق الورثة؟

الشيخ: نعم، إذا كان على إنسانٍ دَينٌ مؤجلٌ، عليه أقساطٌ، عليه ديونٌ مؤجلةٌ، ثم تُوفي، فالدائن يخشى أن ماله يذهب، وأن الورثة يقتسمون التركة فلا يبقى له شيءٌ؛ الدَّين مثلًا لا يحلُّ إلا بعد سنةٍ أو بعد سنتين أو أكثر، وهذا المدين قد تُوفي، والورثة سيقتسمون ماله؛ فهل لهذه الوفاة أثرٌ في حلول الدَّين المؤجل أم ليس لها أثرٌ؟

للفقهاء قولان في هذه المسألة:

القول الأول: إن الدَّين المؤجل يحلُّ بوفاة المدين مباشرةً، ما دام المدين تُوفي حَلَّ الدَّين؛ ولهذا ذهب جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية وهو رواية عند الحنابلة.

والقول الثاني: إن الدَّين المؤجل لا يحلُّ بموت المدين بشرط توثيقه برهنٍ أو كفيلٍ مليءٍ، فإن تعذَّر التوثيق حَلَّ الدَّين، هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.

المقدم: أحسن الله إليكم، هنا في صورة القول يعني يوثقونه بعد وفاة المدين؟

الشيخ: بعد وفاة المدين يأتي الدائن للورثة ويقول لهم: أنا أطلب مورثكم دَينًا مقداره كذا، يحلُّ بعد سنةٍ أو بعد سنتين، فإما أن تُسدِّدوا لي الدَّين الآن، أو تُوثِّقوه لي برهنٍ أو بكفيلٍ مليءٍ. فإذَن؛ لاحظ هنا أنه لم يقل أحدٌ من الفقهاء إن الدَّين لا يحلُّ بدون توثيقٍ؛ لأن هذا يُؤدِّي إلى ضياع الدَّين على الدائن، لكنهم مختلفون: هل الدَّين يحلُّ مباشرةً بدون قيد، أم أنه لا يحلُّ إذا وثَّق الورثةُ الدَّينَ برهنٍ أو كفيلٍ مليءٍ؟

الجمهور -الذين قالوا إن الدَّين المؤجل يحلُّ بمجرد وفاة المدين- استدلوا بحديث أبي هريرة أن النبي قال: نفسُ المؤمن معلَّقةٌ بدَينه حتى يُقضى عنه[5]، أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد بسند حسن.

ووجه الدلالة أن النبي أخبر بأن نفس المؤمن معلَّقةٌ بدَينه، فوجب حلول الدَّين حتى يُؤدَّى عنه فتبرَأ ذمته، وفي إبقاء الدَّين إلى أجله إضرارٌ به. لكن أُجيب عن هذا بأن هذا الإضرار يمكن إزالته بغير تعجيل الدَّين، لماذا نحصر إزالة الإضرار بتعجيل الدَّين؟ يمكن إزالة هذا الإضرار بتوثيق الدَّين برهنٍ أو بكفيلٍ مليءٍ، ومما يدل لذلك حديث جابر رضي الله عنهما قال: كان النبي لا يُصلِّي على رجلٍ مات وعليه دَينٌ، فأُتِي بميتٍ فقال : أَعَلَيْه دَينٌ؟ قالوا: نعم، عليه ديناران، فقال: صلُّوا على صاحبكم، حتى قال أبو قتادة : الديناران عليَّ يا رسول الله، فقال : وجب حقُّ الغريم، وبَرِئَ منهما الميت؟، قال: نعم، فصلَّى عليه[6]، فبراءة ذمة الميت من الدَّين هنا كانت بسبب تعهُّد أبي قتادة والتزامه بالدَّين الذي عليه، هذا يدل على أن الضرر قد ارتفع عن الميت بعد توثيق دَينه بكفالة أبي قتادة .

وأيضًا علَّل أصحاب هذا القول -القائلون بحلول الدَّين بوفاة المدين مطلقًا-؛ قالوا: إن الله تعالى لم يُبِح التوارُث إلا بعد قضاء الدَّين، ولا يلزم الورثة إلى تأخير القسمة إلى ما بعد حلول أجل المدين، وهذا يدل على أن الديون المؤجلة على المدين تحِلُّ بموته.

لكن يُناقَش هذا بأنه لا يلزم من كون قسمة التركة لا تكون إلا بعد قضاء الدَّين؛ لا يلزم من ذلك حلول الدَّين المؤجل، لأن الورثة لو أرادوا تأخير القسمة إلى ما بعد حلول أجل الدَّين لأمكن قسمة التركة بعد قضاء الدَّين المؤجل من غير حلولٍ لذلك الدَّين. أما إن أرادوا القسمة قبل حلول الدَّين المؤجل فلا بُدَّ من وجود ضمانٍ لسداد ذلك الدَّين برهنٍ أو كفيلٍ، ولا يحلُّ ذلك الدَّين مع وجود الضمان لوفائه.

والقائلون بأن الدَّين المؤجل لا يحلُّ بوفاة المدين إذا وُثِّق هذا الدَّين برهنٍ أو كفيلٍ مليءٍ؛ استدلوا بحديث جابر رضي الله عنهما أن النبي قال: مَن ترك حقًّا أو مالًا فلورثته[7] والحديث في الصحيحين؛ ووجه الدلالة أن النبي أخبر بأن حقوق الميت وأمواله تنتقل لورثته من بعده، والأجل من جملة الحقوق التي ثبتت للمتوفَّى في حياته، فينتقل لورثته من بعده كسائر حقوقه. لكن اعترض على ذلك بعض أهل العلم بأن المحفوظ من رواية الحديث كما في الصحيحين: مَن ترك مالًا فلورثته، وليس "حقًّا"، زيادة "حقًّا" غير محفوظة. ولكن أُجيب عن ذلك؛ بأن التنصيص على ذكر المال تنبيهٌ على غيره من الحقوق. وعلَّل أصحاب هذا القول بأن الموت ما جُعل مبطلًا للحقوق، وإنما هو ميقاتٌ للخلافة، وعلامةٌ على الوراثة، وحينئذٍ يبقى الدَّين المؤجل إلى أجله إذا وُثِّق برهنٍ أو كفيلٍ مليءٍ. أما إذا لم يحصل التوثيق برهنٍ أو كفيلٍ مليءٍ فيحلُّ الدَّين المؤجل دفعًا للضرر عن الغريم.

وعلى هذا، وبعد عرض خلاف العلماء في هذه المسألة وأبرز أدلتهم؛ الذي يظهر -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو أن الدَّين المؤجل لا يحلُّ بموت المدين بشرط أن يُوثِّق الورثةُ الدَّينَ برهنٍ أو كفيلٍ مليءٍ، أو يكون الدَّين موثَّقًا أصلًا برهنٍ أو كفيلٍ مليءٍ. أما إذا لم يُوثَّق هذا الدَّين برهنٍ ولا بكفيلٍ مليءٍ فإنه يحلُّ. والجمهور يقولون: إن ذمة المدين قد خربت بوفاته فيحلُّ الدَّين، لكن نقول: العبرة بالدَّين إذا كان الدَّين مُوثَّقًا برهنٍ أو كفيلٍ مليءٍ فيبقى إلى أجله، أما إذا لم يُوثَّق ولم يكن عند الورثة استعدادٌ أن يُوثِّقوه برهنٍ أو كفيلٍ مليءٍ فإنه يحلُّ دفعًا للضرر عن الدائن.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم -شيخنا- هذا البيان والإيضاح في هذا الموضوع المهم، ومَن أراد الاستزادة في مسائل هذا الموضوع -وهو الزمن والأحكام الفقهية المتعلقة بالديون- يمكن أن يرجع إلى بحثٍ لشيخنا في هذا الموضوع بعنوان "الزمن في الديون وأحكامه الفقهية".

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا خير الجزاء على ما قدم.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: الشكر موصولٌ لمَن قام بتسجيل هذه الحلقة الشيخ: عثمان بن عبدالكريم الجويبر، إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة بإذن الله ​​​​​​​، ومع موضوعٍ فقهيٍّ جديدٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه الدارقطني: 2980، والبيهقي: 11467، والحاكم: 817.
^2 رواه عبدالرزاق في مصنفه: 14360، وابن عبدالبر في الاستذكار: 6/ 489، وابن أبي شيبة في مصنفه: 23656.
^3 رواه البيهقي: 11471.
^4 رواه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم: 2/ 794، بلفظ: المسلمون عند شروطهم. وأبو داود: 3594، والترمذي: 1352.
^5 رواه الترمذي: 1078، وابن ماجه: 2413، وأحمد: 9679.
^6 رواه أبو داود: 3343، والنسائي: 1962، وأحمد: 14576 بنحوه.
^7 رواه البخاري: 2398، ومسلم: 1619.
مواد ذات صلة
zh