logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(28) برنامج مجالس الفقه- أحكام فقهية متعلقة بالزمن في الديون

(28) برنامج مجالس الفقه- أحكام فقهية متعلقة بالزمن في الديون

مشاهدة من الموقع

المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم "مجالس الفقه".

"مجالس الفقه" برنامجٌ يُذاع عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، نتذاكر فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها، يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، فبِاسْمي وَاسْمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيا الله الإخوة المستمعين.

الأحكام الفقهية المتعلقة بالزمن في الدَّين

المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، في هذه الحلقة سنطرح شيئًا من المسائل والأحكام المتعلقة بالديون، وتحديدًا تلك المسائل الفقهية التي لها علاقة بالزمن في الدَّين. فابتداءً وأنتم -شيخنا- لكم بحث متخصص في هذا الموضوع؛ ما المقصود بالزمن والدَّين؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه واتبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالزمن: اسمٌ لقليل الوقت وكثيره، وهو يُطلق على الوقت، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم أن النبي قال: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب[1]، وهذا من أشراط الساعة، إذا اقترب الزمان يعني: إذا دنا وقت قيام الساعة، وإن كان بعض العلماء قال إن معنى اقتراب الزمان: اعتداله واستواء الليل والنهار، لكن الأقرب -كما قال الحافظ ابن حجر- هو المعنى الأول.

معنى الدَّين

أما الدَّين فيُطلق على معنيين: معنى عام، ومعنى خاص.

المعنى العام للدَّين: هو كل ما ثبت في الذمة من حقوق الله أو حقوق الآدميين؛ وبهذا المعنى يمكن تقسيم الدَّين إلى قسمين: دَين الله، ودَين الآدمي؛ فمن أمثلة دَين الله الزكاةُ، الزكاة تعتبر دَينًا لله، كذلك الحج، الكفارة، النذر، ونحو ذلك؛ ويدل لهذا ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي ، فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهرٍ، أَفَأَقضيه عنها؟ قال: نعم، فدَين الله أحق أن يُقضى[2]، فالنبي اعتبر هذا الصيام الباقي في ذمتها دَينًا لله .

أما دَين الآدمي؛ فمن أمثلته ما جاء في الصحيحين عن جابر رضي الله عنهما أن النبي أُتي بجنازةٍ ليُصلِّي عليها، فقال : هل عليه دَين؟، قالوا: نعم، ديناران يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: صلُّوا على صاحبكم وأراد أن ينصرف، فقال أبو قتادة : الديناران عليَّ يا رسول الله، فصلَّى عليه النبي [3]؛ فهذا يدل على أن الدَّين يُطلق على دَين الله وعلى دَين الآدمي.

والدَّين بالمعنى الخاص يُطلَق على كُلِّ مالٍ ثبت في الذمة؛ إما بعقد استقراض أو استهلاك أو غيرهما. وهو بهذا المعنى أخصُّ من المعنى الأول، وهو خاصٌّ بالمال الذي ثبت في الذمة من حقوق الآدميين، وهو معنى الدَّين الوارد في هذا الحديث. وبهذا يتبين أن الدَّين أعم من القرض؛ لأن القرض -ويُسمَّى "السلف"، يسميه الناس "السلف"، ووردت تسميته في بعض الأحاديث بـ"السلف" كما في حديث: لا يحل سلف ودَين[4]- القرض: هو دفع مالٍ لمَن ينتفع به ويردّ بدله؛ هذا هو القرض، وبذلك يُعَدُّ كُلُّ قرضٍ دَينًا، ولكن ليس كلُّ دَينٍ يُعَدُّ قرضًا؛ لأنه قد يثبت في الذمة الدَّين بسببٍ غير القرض؛ كأن يكون بسبب ثمنِ مبيعٍ أو نحو ذلك؛ وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن بين الدَّين والقرض عمومًا وخصوصًا، فكُلُّ قرضٍ دَينٌ، وليس كُلُّ دَينٍ يعتبر قرضًا.

نَخلص من هذا إلى أن الدَّين له معنى عام: يُطلق على ما ثبت في الذمة من حقوق الله وحقوق الآدميين. ومعنى خاص: وهو كل ما ثبت في الذمة من حقوق الآدميين، ويشمل القرض، ويشمل ما ثبت في الذمة عمومًا؛ كالبيوع المؤجلة والمقسطة ونحو ذلك.

الفرق بين الزيادة المرتبطة بالزمن في الدَّين والزيادة في البيع المؤجل

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. شيخنا، هناك لَبسٌ أحيانًا في الفرق بين الزيادة المرتبطة بالزمن في الديون والزيادة المرتبطة بالبيوع الآجلة، يُزاد في الثمن لأجل أن البيع كان بالآجل؛ فهل هناك فرقٌ بين الزمنين في هاتين المعاملتين؟

الشيخ: الزيادة المرتبطة بالزمن في الدَّين تعني أن الدَّين إذا حَلَّ موعد وفائه يزيد الدائن في مقداره نظير زيادة الأجل، فإذا حَلَّ الدَّين على المدين يأتي الدائن للمدين ويقول له: إما أن تقضي وإما أن تُرْبِي، إما أن تقضي وتُسدِّد الدَّين، وإما أن تُرْبِي، يعني: أُنظِرك وأُؤجِّلك لكن تزيد في مقدار الدَّين، هذا هو ربا الجاهلية المجمع على تحريمه، وفيه نزل قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، قال أهل التفسير: هذه الآية نزلت في ربا الجاهلية. قال سعيد بن جبير: كان الرجل يكون له على الرجل المال، فإذا حَلَّ الأجل قال: أَخِّر عني وأزيدك على مالك؛ فتلك الأضعاف المضاعفة. قال زيد بن أسلم: كان ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل، فإذا حَلَّ الحق قال لغريمه: أتقضي أم تُرْبِي؟ فإنْ قضاه أخذه وإلا زاده في حقِّه وأَخَّر عنه الأجل.

هذا النوع من الربا أجمع العلماء على تحريمه، بل قال ابن القيم: "إن تحريمه معلومٌ من دِين الإسلام بالضرورة". وهذه الزيادة -التي تكون في الدَّين لأجل زيادة الأجل- تختلف عن الزيادة في الثمن في البيع المؤجل؛ وصورة الزيادة في الثمن في البيع المؤجل: أن يبيع ما قيمته خمسون حالَّة بستين مؤجلة إلى سنة مثلًا، فيأتي شخصٌ إلى آخر ويقول: بِعني هذه السيارة، قيمتها نقدًا خمسون ألفًا، يقول: أُسدِّدها لك بعد سنة، يقول: إذَن أبيعها لك بستين ألفًا.

وهذه الزيادة لا بأس بها، والقول بجواز زيادة الثمن المؤجل في البيوع عن الثمن الحالّ، هو قول جماهير أهل العلم من السلف والخلف، وحُكي إجماع العلماء على الجواز، وممن حكى الجواز الحافظُ ابن حجر رحمه الله تعالى وغيرُه من أهل العلم؛ ويدل لذلك عموم قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، ولم تشترط الآية أن تكون المداينة بسعر الوقت الحاضر. وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله المدينة والناس يُسلِفون في الثمر السنة والسنتين والثلاث، فقال : مَن أسلف في شيءٍ؛ فَلْيُسْلِف في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ[5]، ولم يشترط النبي أن يكون ذلك بسعر الوقت الحاضر.

ويدل لذلك أيضًا -وهو كالنص في المسألة- حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي أَمَره أن يُجهِّز جيشًا فنفدت الإبل، فأَمَره أن يشتري البعير بالبعيرين، والبعيرين بالثلاثة، إلى إبل الصدقة[6]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وأحمد بسند جيد، وهو ظاهر الدلالة في جواز زيادة الثمن المؤجل عن الثمن الحالّ؛ لأن الثمن الحالّ للبعير هو بعيرٌ واحدٌ، فلما أُجِّل الثمن صارت قيمةُ البعيرِ بعيرين.

وأيضًا يدل لذلك ما جاء في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي اشترى طعامًا من يهودي إلى أجلٍ، ورهنه درعًا من حديد[7]؛ الظاهر أن النبي اشترى هذا الطعام بأكثر من ثمنه حالًّا؛ إذ يبعد أن يُباع عليه هذا الطعام بثمن مؤجل بقيمته حالًّا، وحاجة الناس داعيةٌ إلى هذا النوع من البيوع كحاجتهم للسَّلَم أو أشد، بل إن أمور التجارة والبيع والشراء والصفقات التجارية لا تستقيم إلا على هذا، ليس كل مَن احتاج إلى شراء سلعة مَلَكَ ثمنها في الحال، والبائع لا يرضى بأن يبيع إلى أجلٍ بمثل ثمن النقد، كما لا يرضى بتأخير قبض الثمن بدون مقابل.

ففي القول بجواز زيادة الثمن مصلحةٌ للطرفين؛ مصلحةٌ للمشتري حيث ينتفع بسَدِّ حاجته مع الإمهال والتيسير، ومصلحةٌ للبائع حيث ينتفع بتسويق سلعته مع الربح. ولو مُنعت الزيادة في الثمن المؤجَّل لكان في ذلك ضررٌ عظيم بالناس، والشريعة قد جاءت برفع الضرر عن المكلَّفين وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، ولم يقل أحدٌ بعدم الجواز في هذه المسألة إلا ما نُقل عن داود فقط، وأخذ به بعض العلماء المعاصرين، وإلا لا يُعرف عن أحد من المتقدمين أنه قال بعدم جواز زيادة الثمن المؤجل في البيع، والإنسان حُرٌّ في تحديد الثمن، هو حُرٌّ، يقول: عندي هذه السيارة لن أبيعها عليك إلى أجل إلا بهذا الثمن -هو حُرٌّ-، وإن أردتَّها الآن أبيعها لك بهذا الثمن.

المالك حُرٌّ في تحديد الثمن، فلماذا يقال: لا بُدَّ أن تبيع الشيء بالثمن المؤجل كالسعر بالثمن الحالّ؟ هو حُرٌّ بتحديد الثمن، له نظرة، يعني الشيء الذي يُسلَّم له نقدًا يرى أن فائدته أكبر من فائدة الشيء الذي يكون مؤجَّلًا. ثم المؤجَّل فيه مخاطرةٌ؛ قد يُسدِّد هذا المدين وقد لا يُسدِّد، فلذلك يُراعي المالك هذه المعاني، فيزيد في ثمن السلعة إذا اشتُريت مؤجَّلًا، لكن الزيادة تكون عند إبرام العقد، فمالك السلعة حُرٌّ في تحديد الثمن.

أقول: لا يُعرَف عن أحدٍ من المتقدمين أنه قال بعدم جواز الزيادة في الثمن المؤجَّل عن ثمن السلعة الحالّ إلا ما نُقل عن داود، وقوله اعتبره بعض أهل العلم شاذًّا مخالفًا للإجماع، لكن تبنّاه بعض العلماء المعاصرين، فأُبْرِز هذا القول، وإلا فقول عامة أهل العلم على الجواز.

بقيَت مسألةٌ واحدةٌ: وهي القائلون بأنه يجب أن يكون الثمن المؤجَّل كالثمن الحالّ، وربما أَبرَزَ هذا بعض المعاصرين، قاسوا ذلك على الزيادة في الدَّين نظير الأجل، وهذا القياسُ قياسٌ مع الفارق؛ فالزيادة في الدَّين مقابل الأجل هي زيادة في مقابل تأجيل دَينٍ ثابتٍ في الذمة، بينما الثمن المؤجَّل الذي قد زِيد فيه مقابل التأجيل لم يكن دَينًا ثابتًا في الذمة زِيد فيه مقابل التأجيل، وإنما هو ثمنُ مبيعٍ ثبت في ذمة المشتري مؤجَّلًا ابتداءً، كما أن المبيع والثمن غير متفقين في الجنس ولا في العلة؛ وبهذا يتضح التباين بين هذه الزيادة وبين الزيادة في الدَّين مقابل الزيادة في الأجل.

ثم إن الزيادة في الدَّين مقابل تأجيله قد جاءت مستقلة، بينما الزيادة في الثمن المؤجَّل قد جاءت تبعًا لبيع السلعة، ومن القواعد المقررة عند الفقهاء أنه: "يُغتفر تبعًا ما لا يُغتفر استقلالًا"؛ فالعقد في حقيقة الأمر إنما هو على مبيعٍ بثمنٍ يُلحظ الزمن في تحديده، وهذا يعني أن الزمنَ في البيع تابعٌ للمبيع. وأيضًا الثمن في البيع المؤجل هو ثمنٌ واحدٌ لا يُزاد فيه لو تأخر المشتري في أدائه. أما الزيادة في الدَّين فإنها أصلًا مقابل الأجل، وتزداد كلما زاد الأجل أو تأخَّر أداء الدَّين.

ثم إن الثمن في البيع المؤجَّل قد جاء كله بزيادته في مقابل السلعة التي كان من الممكن أن يكون ثمنًا حالًّا لها، أما الزيادة في الدَّين فإنها مقابل التأجيل خاصةً، فهو كما لو أقرض مئةً إلى سنة على أن يستوفيها مئةً وعشرةً، فإن المئة جاءت مقابل المئة والعشرة مقابل التأجيل وثمنٌ له خاصةً؛ إذ لا يمكن أخذ هذه العشرة الزائدة بغير التأجيل.

ثم إن البيع بثمنٍ مؤجَّل لا يخرج عن أحكام البيع وقواعده، حيث يترتب عليه ما يترتب على البيع من أحكام الرد بالعيب والخيار ومن احتمال الربح والخسارة، هذه الزيادة هي من الربح المباح، والقاعدة أن: "الخراج بالضمان". أما الزيادة في الدَّين مقابل الزيادة في الأجل فلا يوجد فيها شيءٌ من هذا، فلا يترتب عليها ضمانٌ ولا خيارٌ، كما لا يوجد غُرْمٌ يُحِلُّ هذا الغُنْم.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. والسؤال الحقيقة كان عن هذه القضية في الفرق الجوهري بين الزيادة هنا وهناك، ذكرتم مَلحظًا مهمًّا -شيخنا- في حديثكم قبل قليل: أن هذه الزيادة قد اتُّفِق عليها عند إبرام العقد في الثمن المؤجَّل؛ يُفهَم من هذا الكلام أنه لو تبايَعَا على ثمنٍ بتسليمٍ مؤجَّلٍ ثم حَلَّ السداد، فأراد أن يزيد في الثمنِ مرةً أخرى مقابل الإنذار مرةً أخرى؛ تخرج هنا من الدائرة الجائزة إلى الممنوعة؟

الشيخ: نعم، تخرج من الدائرة الجائزة إلى الدائرة الممنوعة بالإجماع، فإذا حَلَّ الدَّين على المدين فلا تجوز الزيادة على المدين مقابل الأجل، هذا هو ربا الجاهلية، لكن عند إبرام العقد هو حُرٌّ، يقول: أنا لا أبيعك هذه السلعة إلا بهذا الثمن، يتفقان عليه، لكن بعدما يُبرَم العقد ويَحِلُّ الدَّين، هنا لا تجوز الزيادة في الدَّين مقابل زيادة الأجل؛ إذ إن هذا هو ربا الجاهلية.

المقدم: أحسن الله إليكم. أيضًا يدخل في صور الربا إذا كانت الزيادة في الإقراض مُتفَقًا عليها من البداية، ليس عند حلول السداد، وإنما من البداية يُقرضه خمسين على أن يردها سبعين مقابل إنظار هذه المدة؟

الشيخ: نعم، هذا ربا صريح، إذا قال: أقرِضني خمسين مقابل أن أردها ستين أو سبعين؛ هذا أيضًا من الربا الصريح المجمع على تحريمه، فإذا أراد الإنسان أن يخرج من دائرة المحرم يجعل الزيادة مقابل سلعة وليست الزيادة مقابل دَين، فإذا كانت مقابل سلعة -أي: بيعٌ وشراءٌ-، وهذا الآن هو التمويل المشروع الذي تُمارسه بعض المصارف -خاصةً المصارف الإسلامية-، وذلك بأنهم يُعطون تمويلًا، لكن التمويل يكون بطريق البيع والشراء، يعني يبيعون سلعةً على العميل، والعميل يبيعها على طرفٍ ثالثٍ عن طريق التورُّق، فتكون بيعًا وشراءً، فإذا كانت المسألة بيعًا وشراءً فلا بأس بهذا التمويل، لكن أن تكون نقودًا بنقود مع الزيادة هذا هو المحرم، دراهم بدراهم مع الزيادة هذا هو المحرم.

ولاحِظ هنا أن في أبواب المعاملات الفرق بين الحلال والحرام فرقٌ دقيقٌ، ولذلك بعض الناس قد لا يُدرِك هذا الفرق، وهذا من قديم، المشركون قالوا: ما الفرق بين البيع والربا؟ كلها واحد، البيع والربا واحد، فأنزل الله  قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، نظير ذلك مَن يقول: ما يوجد فرقٌ بين مصرفٍ إسلاميٍّ ومصرفٍ ربويٍّ، أو لا فرق بين التمويل بطريقة مشروعة والتمويل الربوي؛ لأن قائل هذه المقولة لا يُدرك هذا الفرق الدقيق؛ ففي كثيرٍ من مسائل المعاملات والبيوع يكون الفرق بين الحلال والحرام دقيقًا جدًّا، بل إن هذا هو الغالب فيها.

المقدم: أحسن الله إليكم. من هنا يُؤخذ خطأ بعض الناس في عباراتهم حينما يقولون: أخذت قرضًا من البنك، وهو تمويلٌ في الحقيقة، يقول: أخذت من البنك قرضًا على أن أردَّه بزيادة.

الشيخ: نعم، هذه من الأخطاء الشائعة عند بعض الناس؛ أنهم يُسَمُّون التمويلَ قرضًا، يقول: أخذت من البنك قرضًا على أن أردَّه بفائدة، والحقيقة أنه ما أخذ قرضًا، إنما أخذ تمويلًا بطريق المرابحة؛ ولذلك التعبير الصحيح أن يقول: أخذت من البنك تمويلًا بربح كذا، وليس قرضًا بفائدة كذا. ولذلك؛ أحيانًا بعض المستفتين قد يُلبِّس على المفتي يقول: أخذت قرضًا من البنك والفائدة كذا، بعض المفتين يقول: هذا حرامٌ، كيف تأخذ قرضًا بفائدة؟! ولذلك ينبغي أن يكون المفتي عالمًا بواقع تعاملات الناس وبمراد السائلين، فإذا قال مثلًا: أخذت قرضًا؛ يقصد: تمويلًا بطريق كذا، ربما يُناقشه ويسأله أسئلةً حتى يتأكَّد من ذلك، لكن الغالب الآن على الناس أنهم إذا قالوا: أخذنا قرضًا؛ يريد: تمويلًا؛ ولذلك الأحسن أن يُعبِّر بالتعبير الصحيح: وهو أن يقول: أخذت من البنك تمويلًا بربح كذا، وليس قرضًا بفائدة كذا.

حُكم المطالبة بالتعويض بسبب مماطَلة المدين

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم شيخنا. شيخنا، هناك مسألةٌ: أحيانًا يتفق مع المدين السداد في وقت معين، ثم يُماطل ويتأخَّر في السداد، فيأتي الدائن ويقول: أنا أُطالب بالتعويض عن هذه المماطَلة وعن هذا الضرر الذي لحقني بمماطَلته، فهل مثل هذا سائغٌ شرعًا؟

الشيخ: أولًا: المماطَلة تعني تأخير أداء الدَّين بغير عذر، يعني كلما أتى الدائن للمدين يطلب حقَّه يُماطله؛ مرةً يقول: غدًا، كل مرة له عذر، وأحيانًا يتهرب، وأحيانًا لا يرد على الجوال، فهذا يُسمَّى مماطَلةً، مع قدرته على السداد، دعنا من المعسر غير القادر على السداد، هذا يجب إنظاره، لكن الكلام في القادر على السداد، وكلما طُولِب بسداد الدَّين يتهرب، هذا يُسمَّى مماطَلةً، وقد عَدَّ جمهور العلماء المماطَلة من كبائر الذنوب؛ لأنه ضربٌ من ضروب أكل المال بالباطل، فإن تأخيرَ أداء الدَّين بعد حلول ميعاد استحقاقه بغير عذرٍ أكلٌ للمالِ بالباطل؛ حيث يترتب على ذلك حرمان الدائن بالانتفاع بماله عند المدين المماطِل، والنبي وصف مَطْلَ الغني بأنه ظلم، قال : مَطْلُ الغني ظلمٌ[8]، فكونه ظلمًا يدل على تحريمه، وكما ذكرنا أنه عند الجمهور من الكبائر. ولكن هل لهذا المَطْلِ عقوبة؟ النبي يقول: لَيُّ الواجد يُحِلُّ عِرْضَه وعقوبته[9]؛ والعقوبة تكون بالحبس، وهذا باتفاق العلماء -أن العقوبةَ الحبسُ-؛ ولهذا قال سفيان بن عيينة: "تُحِلُّ عِرْضَه، يقول: مَطَلْتَني، وعقوبته الحبس"، يعني كون الدائن يتكلم في المدين: والله فلانٌ مَطَلَني ويُؤخِّر عليَّ، ما يُسدِّدني؛ هذا جائزٌ بالنسبة له.

المقدم: وليس من الغيبة؟

حُكم فرض غرامة مالية على المماطِل

الشيخ: وليس من الغيبة المحرمة، وعقوبته الحبس. لكن هل يجوز أن تمتد عقوبة المماطِل لتشمل فرض غرامة مالية تُعوِّض الدائن عمَّا لحقه من ضررٍ أو فات عليه من نفعٍ بسبب هذه المماطَلة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة، وقبل أن أُشير إلى أقوال الفقهاء؛ أُشير أولًا إلى تحرير محل الخلاف: إذا اتفق الطرفان -أعني: الدائن والمدين- على دفع غرامةٍ ماليةٍ معينةٍ عند تأخُّر الدَّين عن الموعد المتفق عليه؛ فهذا محرمٌ بالإجماع، وكما سبق أن هذا من ربا الجاهلية.

ثانيًا: إذا أثبت الدائن أنه قد تضرر تضرُّرًا فعليًّا من مماطَلة المدين؛ كأن أدَّى هذا المَطْل إلى إخلال الدائن بالوفاء بما عليه من التزاماتٍ مؤجلةٍ ترتب عليها مثلًا بيع ماله بثمنٍ بخسٍ لأجل الوفاء بتلك الالتزامات، يعني وقع على الدائن ضررٌ فعليٌّ. أو أنه أحوَجه إلى شكايته؛ الدائن رفع قضية على المدين عن طريق محامٍ، المحامي طلب أتعابه، أو مثلًا تكلفة المقاضاة الآن كذلك أيضًا، فيتحملها المدين المماطِل؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: "إذا كان الذي عليه الحق قادرًا على الوفاء ومَطَله حتى أحوَجه للشكاية؛ فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المماطِل إذا غرمه على الوجه المعتاد"، فالحُكم على المدين المماطِل في هذه الحال بالتعويض عن الضرر؛ هذا أمرٌ سائغٌ، لكن بشرط أن يكون ضررًا فعليًّا.

إذا ماطَلَ المدين في أداء دَينه المستحَق، وحبس المال لديه بعد حلوله، ولم يقع ضررٌ فعليٌّ، لكنه أدَّى إلى تفويت الفرصة على الدائن باستثمار أمواله والإفادة منها زمن التأخير؛ فهل يضمن المدينُ المماطِلُ ما فات من منافع المال من ربحٍ متوقعٍ نتيجةً لِمَطْلِه؟ وهل يُعَدُّ مَطْلُ الغني بمجرَّدِه إضرارًا بالدائن دون الحاجة إلى إثبات وقوع ضررٍ فعليٍّ بحيث يستحق الدائن تعويضًا ماليًّا عما فاته من ربحٍ متوقعٍ لهذا المال في زمن التأخير؟

هذه المسألة محل خلاف بين العلماء المعاصرين، أما الفقهاء السابقون فلا أعلم خلافًا بينهم في هذه المسألة، بل المنقول عنهم عدم جواز ذلك كله، وأثار هذه المسألة أحدُ العلماء المعاصرين، وإلا لا يُعلَم عن أحد المتقدمين أنه قال بالجواز. وعلى ذلك؛ فأكثر أهل العلم المعاصرين على عدم الجواز، أنه لا يجوز فرض تعويضٍ ماليٍّ على المدين المماطِل مقابل تأخير الدَّين، وصدرت به قرارات المجامع الفقهية، وهو الأظهر في هذه المسألة، أنه لا يجوز التعويض في هذه الحال؛ ويدل لذلك أولًا: قول النبي في الحديث السابق: لَيُّ الواجد يُحِلُّ عِرْضَه وعقوبته[10]؛ ووجه الدلالة أن المَطْلَ قد وُجد في عهد النبي وتكرَّر بعده، ومع ذلك فقد ذكر النبي أن المَطْل يُحِلُّ عِرْضَ المماطِل وعقوبته، ولم يقل: "يُحِلُّ ماله"، ولو كان مرادًا لَذَكَرَه، ولم يُفسِّر أحدٌ من العلماء العقوبة المذكورة في الحديث بأنها التعويض المالي للدائن، بل فسروها بالحبس ونحوه.

وأُجيبَ عن هذا الاستدلال بأنه لم يرد عن أحد من أهل العلم أنه قال بوجوب تضمين المماطِل، إلا أنه لم يرد كذلك أنه مَنَعَ منه، لكن هذا لا يُسلَّم، فقد وردت عباراتٌ عن بعض الفقهاء تدل على منع عقوبة المماطِل بغير الحبس ونحوه، ثم إن عقوبة المماطِل من العقوبات التعزيرية التي يرجع فيها النظر إلى القاضي، وجعْلُ عقوبة المماطِل عقوبةً ماليةً لمصلحة الدائن يُخرجها عن كونها تعزيرية بالمال.

كذلك أيضًا تعويض الدائن تعويضًا ماليًّا عن مَطْلِ الغني لا يختلف من الناحية العملية عما يُسمَّى في البنوك بـ"فوائد التأخير" التي هي الربا الصريح -إما أن تقضي وإما أن تُرْبِي-؛ لأن هذا التعويض المطالَب به إنما جاء مقابل تأخير أداء الدَّين، وتسميته تعويضًا لا يُغيِّر من حقيقته شيئًا. كذلك أيضًا من الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول: أننا في القرن الخامس عشر الهجري ولم يوجد عن أحدٍ من الفقهاء السابقين أنه قال بجواز التعويض عن المماطَلة. وعلى ذلك؛ فالأظهر -والله أعلم- أنه لا يجوز تعويض الدائن تعويضًا ماليًّا مقابل مَطْلِ الدَّين ما لم يكن هناك ضررٌ فِعْليٌّ لَحِقَ الدائن، فيجوز التعويض عن الضرر الفِعْلِيِّ، أما تعويضه عن مجرد فوات ربحٍ متوقعٍ فالأظهر -والله أعلم- أن هذا لا يجوز، وهو الذي يُفهَم من كلام العلماء السابقين.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. شيخنا، فوات الفرصة هل يعتبر نوعًا من الضرر؟

الشيخ: هذا هو موضع الخلاف؛ يعني مَن قال من العلماء المعاصرين بجواز ذلك اعتبروه نوعًا من الضرر، لكنَّ العلماء السابقين لم يعتبروه نوعًا من الضرر؛ وهو الأظهر -والله أعلم-، فيكون التعويض عن الضرر الفعلي الواقع وليس المتوقع، وليس فوات الفرصة، وإنما عن الضرر الفعلي الواقع؛ يعني مثلًا: تعاقَدَ مع محامٍ، والمحامي يحتاج إلى أجرة، لحقه الضرر، حتى يُرَدَّ إليه دَينه ألجأه المدين لرفع شكاية، وهذه الشكاية كلَّفَتْه أجرة؛ هذا يعتبر من الضرر الفعلي الواقع، لكن الضرر غير الفعلي أو المتوقع أو الذي يكون عن فوات فرصة؛ فالأظهر -والله أعلم- عدم جواز التعويض عليه.

المقدم: أحسن الله إليكم، والحقيقة -شيخنا- لا يزال هناك عددٌ من المسائل المتعلقة بهذا الموضوع نكملها -إن شاء الله- في الحلقة القادمة. إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، أسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم.

الشيخ: والشكر لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: الشكر موصولٌ كذلك لمَن قام بتسجيل هذه الحلقة الشيخ: عثمان بن عبدالكريم الجويبر، إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - أستكمل فيها الحديث عن هذا الموضوع؛ وهو الزمن والأحكام الفقهية المتعلقة به فيما يتصل بالديون، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه البخاري: 7017، ومسلم: 2263.
^2 رواه البخاري: 1953، ومسلم: 1148.
^3 رواه البخاري: 2285.
^4 رواه أبو داود: 3504، والترمذي: 1234، والنسائي: 4631، وابن ماجه: 2188، وأحمد: 6918.
^5 رواه البخاري: 2239، ومسلم: 1604.
^6 رواه أبو داود: 3357، وأحمد: 2/ 216.
^7 رواه البخاري: 2068، ومسلم: 1603.
^8 رواه البخاري: 2288، ومسلم: 1564.
^9 رواه أبو داود: 3628، والنسائي: 4689، وابن ماجه: 2427، وأحمد: 17946.
^10 سبق تخريجه.
مواد ذات صلة
zh