جدول المحتويات
المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حيَّاكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم "مجالس الفقه".
"مجالس الفقه" برنامجٌ يُذاع عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويحتاج إلى معرفتها المسلم. يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، فبِاسْمي وبِاسْمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: أهلًا، حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
التصوير
المقدم: أحسن الله إليكم. شيخنا، في هذه الحلقة سنتحدث عن موضوعٍ في غاية الأهمية في الحقيقة، وفيه مسائل متنوعة وكثيرة، ويكثر السؤال عنها بين الحين والآخر؛ ألا وهو ما يتعلق بالتصوير، ما يجوز منه وما لا يجوز، والضوابط في ذلك، والمستثنيات في هذه المسألة، إلى غير ذلك من المسائل التي ستأتي تباعًا -إن شاء الله تعالى-، لكن ابتداءً شيخنا لو بيَّنتم لنا النصوص الواردة في شأن التصوير وخطورته.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
حُكم التصوير
فالنصوص الواردة في التصوير شديدةٌ؛ من ذلك ما جاء في الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي قال: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون[1]، وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: إن الذين يصنعون هذه الصور يُعذَّبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم[2] متفق عليه، وجاء أيضًا في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: قال الله تعالى: ومَن أظلم ممَّن ذهب يخلق كخلقي؛ فليخلقوا ذَرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة[3]، وجاء في صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة أن النبي لعن المصوِّر[4]، وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: كُلُّ مصوِّرٍ في النار، يُجعَل له بكُلِّ صورةٍ صوَّرها نفسٌ فتُعذِّبُه في جهنم[5] رواه مسلم.
فلاحظ أن هذه النصوص التي ذكرتُها كلها في الصحيحين أو في أحدهما، هذه النصوص وما جاء في معناها تدل على تحريم التصوير مطلقًا، وقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي لمَّا رأى تصاوير على سترٍ عندها تَلوَّن وجهه وهتَكَه، وقال: ما هذا يا عائشة؟! إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يُضاهئون بخلق الله تعالى[6]. فإذَن؛ النصوص الواردة في تحريم التصوير وفي الوعيد عليه شديدةٌ. ولكن الذي يهمّنا: ما هو التصوير المُحرَّم، والتصوير غير المُحرَّم؟
علة النهي عن التصوير
المقدم: أحسن الله إليكم. والحقيقة هذا يقودنا إلى مسألةٍ أُشير إليها في الحديث الأخير الذي ذكرتموه؛ وهي علة النهي عن التصوير، يعني ما العلة التي يمكن أن تُستنبط في النهي عن ذلك؟
الشيخ: هذا المبحث -علة النهي عن التصوير- مبحثٌ مهمٌّ جدًّا؛ إذ إنه على تحرير علة النهي عن التصوير يكون الجواب عن السؤال: ما الذي يجوز منه وما الذي لا يجوز؟ علة النهي عن التصوير المنصوص عليها والمجمع عليها هي المضاهاة والمحاكاة لخلق الله، والنصوص السابقة -التي ذكرتُها- فيها إشارةٌ لهذا في قوله : قال الله تعالى: ومَن أظلم ممَّن ذهب يخلق كخلقي...، لاحظ! هنا محاكاة ومضاهاة لخلق الله يخلق كخلقي؛ فليخلقوا ذَرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة. أيضًا في حديث عائشة رضي الله عنها: أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله تعالى مضاهاة؛ يعني: محاكاة خلق الله ، حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن الذين يصنعون هذه الصور يُعذَّبون بها، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم.
فإذَن؛ العلة هنا منصوصٌ عليها -وهي المضاهاة والمحاكاة لخلق الله -. وهناك عللٌ مختلَفٌ فيها؛ مثل: أنها ذريعةٌ لوقوع الشرك ونحو ذلك، لكن ننطلق من العلة المنصوص عليها والمتفق عليها -وهي المضاهاة والمحاكاة لخلق الله -؛ هذه هي علة النهي عن التصوير.
ضابط ما يَحرُم وما لا يَحرُم من التصوير
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم. إذا تبينَت لنا الآن علةُ النهي عن التصوير -وهي المضاهاة والمحاكاة لخلق الله -؛ هل يمكن أن نَخلُص من هذا إلى معرفة ضابطٍ لِمَا يَحرُم من التصوير وما لا يَحرُم؟
الشيخ: نعم، على ضوء هذه العلة التي قلنا إنها منصوصٌ ومجمعٌ عليها؛ يتبين الضابط فيما يَحرُم وما لا يَحرُم. الصور المُجسَّمة، التماثيل لذوات الأرواح -تماثيل لإنسان أو تماثيل لحيوان-؛ هذه صورٌ مُحرَّمةٌ بالإجماع، هذه الصور المُحرَّمة التي يتناولها الوعيد السابق، والتي أيضًا وجودها في البيت يمنع دخول الملائكة.
المقدم: التماثيل المُجسَّمة.
الشيخ: التماثيل المُجسَّمة لذوات الأرواح -إما لإنسان أو لحيوان- هذه مجمعٌ عليها، وهذا أشد ما يكون من الصور، يكون تمثالًا لإنسانٍ أو تمثالًا لحيوانٍ. كذلك أيضًا الرسومات لذوات الأرواح؛ وهو ما يُعبِّر عنها بعض العلماء بـ"الصور التي ليس لها ظل" أو "الرسومات لذوات الأرواح"؛ كأن يرسم إنسانًا رسمةً -لاحظ أنها رسمةٌ وليست صورةً فوتوغرافية، وإنما رسمة- أو يرسم حيوانًا رسمةً، بحيث يُحاكي ويُضاهي خلق الله ، الصورة الفوتوغرافية ستأتي، سنتكلم عنها، لكن كلامنا الآن عن الرسومات.
الرسومات لذوات الأرواح أيضًا تدخل في الصور المُحرَّمة، بل إنها هي الواردة أصلًا في حديث عائشة رضي الله عنها السابق -الذي ذكرتُه قبل قليل-: أن النبي لمَّا دخل عليها ووجد على سترٍ عندها صورةً، جاء في روايةٍ عند مسلم: أنها صورة خيلٍ لها أجنحة، ومع ذلك تلوَّن وجه النبي من شدة الغضب وهتَكَهُ، وقال: ما هذا يا عائشة؟! إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله[7]؛ فهذا يدل أيضًا على أن الرسومات لذوات الأرواح تدخل في الصور المُحرَّمة. فعلى هذا؛ يكون الضابط هو التماثيل لذوات الأرواح، يعني الصور المُجسَّمة لذوات الأرواح، والرسومات لذوات الأرواح؛ هذا هو الضابط فيما يَحرُم من الصور. هل تدخل فيها الصور الفوتوغرافية والتلفزيونية؟ هذه سنأتي لها بعد قليل.
المستثنيات من التحريم في التصوير
المقدم: قبل أن نأتي إلى المسائل التي ذكرتموها؛ هذا الضابط هل هو على إطلاقه، أم هناك مستثنيات منه يمكن أن تُستثنى من هذا التحريم؟
الشيخ: هناك مستثنياتٌ دلَّت لها النصوص والآثار؛ أولًا: غير ذوات الأرواح لا بأس بتصويرها، تصوير مثلًا نخلة، تصوير شجرة، تصوير غير ذوات الأرواح عمومًا لا بأس به، وكما رُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
المقدم: سواءٌ مُجسَّمًا أو رسمًا؟
الشيخ: سواءٌ مُجسَّمًا أو رسمًا؛ يعني يجوز تصوير الشجر والحجر والجبل وجميع الصور لغير ذوات الأرواح.
أيضًا من الاستثناءات: إذا كانت الصورة مُمتهَنة فإنه يزول عنها المحظور الشرعي؛ كأن تكون وسادةً أو غطاءً أو سفرةً أو حذاءً أو نحو ذلك، ويدل لهذا حديث عائشة رضي الله عنها السابق في قصة السِّتر الذي فيه صور، قالت عائشة رضي الله عنها: فجعلنا منه وسادة أو وسادتين[8]. وفي حديث أبي هريرة قال النبي في القصة المشهورة لمَّا تأخر جبريل على النبي فقال : ما كان الله ليخلف وعده ولا وعد رسوله، فبعد ذلك أتى جبريل وقال: إن البيت فيه صورة، ثم قال: فمُرْ برأس التمثال الذي في البيت يُقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومُرْ بالسِّتر فلْيُقطع منه وسادتان منضودتان تُوطآن[9] أخرجه أبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح. فهذا يدل على أن الصور إذا كانت ممتهَنةً فلا حرج فيها؛ كأن تكون مثلًا على وسادة، أو تكون مثلًا على فَرشة يطأها الناس، فتكون ممتهَنة لا تكون محترَمة، فهذا أيضًا مما يُستثنى.
الأمر الثالث ممَّا يُستثنى: ألعاب الأطفال عمومًا، حتى لو كانت مُجسَّمة؛ ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: كنتُ ألعب بالبنات عند النبي ، وكان صواحبي يلعبنَ معي. وجاء عند أبي داود والنسائي بسند صحيح أن النبي كشف ذات يوم السِّتر ورأى هذه الألعاب، وقال: ما هذا يا عائشة؟ [كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة]، قالت: بناتي. ورأى فيها فرسًا له جناحان [يعني: صورة فرس له جناحان]، قال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: فرسٌ له جناحان، فكيف فرسٌ له جناحان؟ [النبي يداعبها]، قالت: يا رسول الله، ألم تسمع أن لخيل سليمان أجنحةً؟ فضحك النبي ولم يُنكر عليها[10].
فمن هنا؛ جمهور أهل العلم ذهبوا إلى استثناء ألعاب الأطفال، وإن كان من العلماء مَن قال إن هذا منسوخٌ، لكن ليس هناك دليل على النسخ، فالأقرب هو ما قرره جماهير أهل العلم من استثناء ألعاب الأطفال؛ ومما يدل لذلك أن اللعبة بيد الطفل كالممتهَنة، الطفل يأخذ هذه اللعبة ويمتهنها، فهي كالممتهَنة، فلا يُظن أن فيها تعظيمًا. وأيضًا بعض أهل العلم يقول إن اللعبة بيد الطفل قد يكون فيها تدريب للصغار، خاصةً إذا كُنَّ فتيات، فيها تدريب لهنَّ على أمر بيوتهنَّ؛ وهذا المعنى أشار إليه الحافظ في الفتح وغيره.
فعلى هذا؛ عند جمهور أهل العلم أن ألعاب الأطفال مستثناة فلا يُشدَّد فيها، ففي الصور يُرخَّص للصغار ما لا يُرخَّص للكبار، حتى لو كانت مُجسَّمةً للطفل لا يُشدَّد فيها، وحتى أيضًا لو كانت رسومات مثل ما يُسمى بـ"الألعاب الكرتونية" للأطفال، وحتى وإن كانت لذوات الأرواح على شكل رسومات فهذه يُتسامَح فيها ما دام أن المُستهدَف بها أطفال. فإذَن؛ هذه الأمور الثلاثة مستثناة.
أعيدها مرةً ثانيةً:
أولًا: تكون الصور لغير ذوات الأرواح؛ هذه لا بأس بها.
ثانيًا: أن تكون الصور ممتهَنةً؛ فهذه أيضًا لا بأس بها.
ثالثًا: أن تكون على شكل ألعابٍ لأطفالٍ؛ فلا بأس بها.
المقدم: أحسن الله إليكم. هل يدخل في الممتهَن وجود الصورة في ملابس الأطفال؟
الشيخ: إذا كان على وجهٍ مُمتهَنٍ فإنه يدخل في الصور المُمتهَنة، وعمومًا الأطفال يُتسامَح بالنسبة لهم في هذا الباب ما لا يُتسامَح في حق الكبار.
رسمُ ما لا تبقى معه الحياة
المقدم: أحسن الله إليكم. هل يمكن أيضًا أن نُدخِل من ضمن الضوابط رسمَ ما لا تبقى معه الحياة؟
الشيخ: نعم. ما لا تبقى معه الحياة؛ ذكر الفقهاء أنه لا يدخل في الصور المُحرَّمة، كأن تكون الصورة لرأسٍ فقط، أو لجسدٍ فقط، فهذا أيضًا لا يدخل في الصور المُحرَّمة.
المقدم: إذَن؛ يمكن أن نستخلص منها الآن أربعة ضوابط؟
الشيخ: صحيح، ممكن أن نعتبرها ضابطًا رابعًا؛ ومن ذلك ما يُسمى بـ"الفِيسَات" التي تكون في بعض وسائل التواصل الاجتماعي على شكل رأسٍ بدون جسدٍ، ويكون فيها عينان وأنف، هذه لا بأس بها؛ لأنه لا يبقى معها حياة، الفقهاء ذكروا أن الشيء الذي لا يبقى معه حياةٌ لا يدخل في الصور المُحرَّمة، يعني الرأس إذا فُصِل عن الجسد لا تبقى فيه حياة. وعلى هذا؛ ما يُسمى بـ"الفِيسَات" التي في الواتساب أو في وسائل التواصل عمومًا، هذه لا بأس بها، ولا تدخل في الصور المُحرَّمة.
حُكم التصوير الفوتوغرافي أو المرئي
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم هذا البيان. أيضًا شيخنا مما يتصل بهذا الباب: حُكم التصوير الفوتوغرافي، أو التصوير المرئي -وما يُعرف بالفيديو-؛ هل يدخل في التحريم؟
الشيخ: نعم، هذه هي النازلة، والتي نريد أن نركز الحديث عنها، التصوير بأنواعه سواء كان فوتوغرافيًّا أو تلفزيونيًّا يُشبه نظام الرؤية في العين، بل إن فكرة التصوير اقتُبست من عين الإنسان؛ وهذا له نظائر كاقتباس فكرة الطيران من الطائر. فالتصوير الفوتوغرافي والتلفزيوني أُخذت فكرته من العين، ولهذا يسميه بعض الباحثين بـ"العين الصناعية"، فالأشياء التي يراها الإنسان هي التي تنعكس منها أشعة الضوء لتُسقطه على العين؛ ولهذا لا يمكن للعين أن ترى في الظلمة، وهذا يدل على أن الأشياء التي تراها العين تنعكس منها أشعة فتَسقط على العين فترى العين الأشياء؛ التصوير فكرته مأخوذة من ذلك.
آلة التصوير تحتوي في مقدمتها على عدسة أو عدسات تقوم مقام الجسم البلوري في عين الإنسان، وخلف هذه العدسة يوجد في كثير من آلات التصوير فتحةٌ يمكن التحكم باتساعها، وهي التي تضبط نسبة الضوء التي يُسمح لها بالدخول إلى الفيلم، تقوم هذه الفتحة مقام القزحية في عين الإنسان، والتي تتحكم بنسبة الضوء الداخل إلى الشبكية والفيلم الحساس في آلة التصوير، إذا كانت آلة التصوير فوتوغرافية -أي: كاميرا أو على لوحة التصوير التلفزيوني- تقوم مقام الشبكية في العين.
إذَن؛ لا أريد أن أدخل وأتوسع في كيفية التصوير الفوتوغرافي والتلفزيوني، لكن أقول باختصارٍ: فكرته أن التصوير التلفزيوني تتحرك فيه الصورة بسرعة، التصوير الفوتوغرافي تُؤخذ صورةُ الشيء الحقيقي كما خلقه الله وتنعكس، الصور التلفزيونية هي نفسها فكرة الصور الفوتوغرافية لكنها مُسرَّعة بشكل كبير، يقولون: مرةً إلى أربعٍ وعشرين مرةً، ويقولون: إن في العين خاصيةً تُسمى "خاصية انطباعية الصورة المُشاهَدة"، تبقى مُنطبِعة على شبكية العين من واحدٍ إلى ستَّ عشرةَ مرةً في الثانية -لاحظ أنها في الثانية وليس في الدقيقة، في الثانية الواحدة-، فالمشهد لو احتجب عن العين ستَّ عشرةَ مرةً والمشهد أمام العين في مدة ثانية واحدة، فإن المشهد يظل في مرأى العين طبيعيًّا، وتربط العين الصور بعضها ببعض، فتراها صورةً واحدةً متواصلةً؛ يعني لو عُرِضت عليك هذه الصورة ستَّ عشرةَ مرةً في ثانية واحدة -لاحظ أنها في ثانية، في زمنٍ قصيرٍ جدًّا- لا تظهر هذه الحركة السريعة؛ فاستفادوا من هذه الخاصية في فكرة التصوير التلفزيوني، وهذا يدل على أن فكرة التصوير التلفزيوني هي نفسها فكرة التصوير الفوتوغرافي، إلا أنها في التصوير الفوتوغرافي ثابتةٌ وفي التصوير التلفزيوني مُسرَّعة.
نأتي للنظر الشرعي؛ الآن التصوير -سواء أكان فوتوغرافيًّا أو تلفزيونيًّا- هو انعكاسٌ أو حبسٌ للصورة الحقيقية، لصورة الإنسان الحقيقية كما خلقه الله ، وليس فيه محاكاةٌ ومضاهاةٌ لخلق الله، هو كصورة الإنسان في المرآة، لكنها في الصور الفوتوغرافية ثُبِّتت وفي الصور التلفزيونية سُرِّعت.
ومن هنا؛ للعلماء المعاصرين قولان في حُكم التصوير بأنواعه:
من العلماء مَن رأى أنه مُحرَّمٌ بجميع أنواعه إلا ما اقتضته الضرورة، والقول الثاني أنه لا يدخل في التصوير المُحرَّم، وهناك قولٌ بالتفريق بين التصوير التلفزيوني والفوتوغرافي؛ وهذا قولٌ ضعيفٌ لأن الفكرة واحدة -كما سبق-.
القائلون بالتحريم قالوا: هذا التصوير لا يخرج عن كونه نوعًا من أنواع التصوير، فهو يُسمى تصويرًا لغةً وشرعًا وعرفًا. أما كونه يُسمى تصويرًا لغةً؛ فلأن الصورة معناها في اللغة: الهيئة والشكل، وهذا يَصدُق على هذا النوع من التصوير. وشرعًا؛ فلأن النصوص جاءت بشأن الصور والتصوير عامةً، فتشمل كل ما يُسمى تصويرًا. أما عرفًا؛ فهذا مما تعارف عليه الناس أنه صورةٌ وتصويرٌ. قالوا: هذا التصوير الآلي ليس مجرد التقاطٍ للصورة التي خلقها الله، إنما المصور يقوم بعملٍ وجهدٍ، فيقوم بتصويب الآلة نحو الهدف، واتخاذ الإجراءات التي تكون أثناء عملية التصوير حتى تخرج الصورة.
والقائلون بالجواز قالوا: نحن نُسلِّم بأن التصوير مُحرَّم وأن التصوير من كبائر الذنوب، لكن هذا ليس تصويرًا بالمعنى الشرعي، التصوير الذي هو بالمعنى الشرعي هو الذي تتحقق فيه علة النهي عن التصوير؛ وهي المضاهاة والمحاكاة لخلق الله، فهل التصوير الفوتوغرافي والتلفزيوني فيه محاكاةٌ ومضاهاةٌ لخلق الله؟ الجواب: لا، لا أحد يقول إن فيه مضاهاةً ومحاكاةً لخلق الله.
المقدم: بل هو خلقُ الله ذاته.
الشيخ: هو خلقُ الله كصورة الإنسان في المرآة، وكصورة الإنسان في الماء، هل أحدٌ يقول إن صورة الإنسان في الماء عندما يطلُّ برأسه على بركة أو مسبح وتظهر صورته، أو عندما يرى صورته في مرآة؛ هل أحدٌ يقول إن هذه من الصور المُحرَّمة؟! ليست صورةً مُحرَّمةً، فيقولون: هذا أصلًا لا يسمى تصويرًا بالمعنى الشرعي؛ لأنه لا تتحقق فيه علة النهي عن التصوير. ولذلك؛ قديمًا عندنا في المملكة العربية السعودية -وأذكر ذلك لما كنتُ صغيرًا- كان يُسمى "عكسًا" و"عكوسًا"، كانت الصورة تُسمى "عكسًا"، وهذا أدق في الوصف، الحقيقة أنها تُسمى "عكسًا" و"عكوسًا"، وكان الإنسان يقول: أريد أن أذهب للمحل لكي أعكس، فهذا كان قديمًا يُسمى كذلك، فهي في الحقيقة عكسٌ وليست صورة.
وأما تسمية الناس لها صورةً فالعبرة بالحقيقة، ليست العبرة بالتسمية؛ يعني لو سمَّى الناسُ مثلًا الخمر بغير اسمها، هل هذا يُغيِّر حُكمها؟! الخمرُ خمرٌ حتى لو صُبغ بأيِّ اسمٍ. كذلك أيضًا العبرة هنا بالحقيقة، فكون بعض الناس يسميها "صورةً" فهذا غير مؤثِّر في الحُكم. إذَن؛ أهم شيء هنا أن علة النهي عن التصوير غير مُنطبِقة عليها، فالتصوير الآلي ليس تصويرًا بالمعنى الذي جاءت به النصوص، علة النهي عن التصوير ليست مُتحقِّقة، ليس فيه مضاهاة، ليس فيه محاكاة، ليس فيه تشكيل، وليس فيه تخطيط ولا تفصيل؛ ولهذا مَن يلتقط الصورة تجد أن الناس لا يتعجبون منه، يعني إنسان صوَّر آخر بالكاميرا أو بالصورة التلفزيونية، يرى الناس أن هذا شيءٌ طبيعيٌّ، ليس جهدًا منه.
لكن لو رسمه لتعجب الناس! ما هذه الدقة! ما هذا الرسام الذي عنده هذه الاحترافية! فالرسمة فيها محاكاةٌ ومضاهاةٌ لخلق الله. هكذا لو كان على شكل تمثال، فالناس يتعجبون كيف يكون التمثال مقاربًا للخِلقة الحقيقية! لكن الصورة الفوتوغرافية والتلفزيونية لا أحد يتعجب منها؛ لأن الناس يعرفون أن هذه هي صورة الإنسان الحقيقية كما خلقه الله ؛ وعلى هذا نقول: إن أصحاب هذا القول قالوا إن هذا لا يدخل أصلًا في التصوير المُحرَّم.
وكما يُلحَظ هنا أن وجهة أصحاب هذا القول أظهر وأقوى، وليس لأصحاب القول الأول -الذين قالوا بأن الصورة الفوتوغرافية والتلفزيونية تدخل في التصوير المُحرَّم- حجةٌ إلا بعموم النصوص، نحن نقول بعموم النصوص، لكنها لا تُسمى صورةً أصلًا بالمعنى الشرعي. وقولهم إنها تُسمى صورةً لغةً وشرعًا وعرفًا هذا كلامٌ لا يُسلَّم به، وحتى لو سُمِّيت صورةً عرفًا فإن هذه التسمية تسميةٌ غير صحيحة، تسميةُ الشيء بغير اسمه لا تنقله عن حقيقته. أما شرعًا؛ فالصورة المُحرَّمة شرعًا لا بُدَّ أن يكون فيها مضاهاة لخلق الله . وأما لغةً؛ فالصورة تعني الشكل، وقد تكون مُحرَّمة، وقد تكون جائزة، كما لو كانت صورةً لغير ذوات أرواح. فإذَن؛ ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على تحريم الصور الفوتوغرافية والتلفزيونية، وعلى ذلك فالأقرب -والله أعلم- أن الصورة الفوتوغرافية والتلفزيونية لا تدخل في التصوير المُحرَّم.
مما يدل لذلك أيضًا أن التصوير من كبائر الذنوب، ووردت النصوص بالتشديد فيه -كما ذكرنا في مقدمة الحلقة-: أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون[11]، لعن الله المصور[12]، ومَن أظلم ممَّن ذهب يخلق كخلقي...[13]، فالآن معظم المسلمين -ربما نقول: لا يقل عن (80%) إلى (90%)، وربما أكثر- يستخدمون هذه الصور استخدامًا واسعًا، سواء الصور الفوتوغرافية أو التلفزيونية؛ فلا نستطيع أن نجزم بالعقوبة الشديدة الواردة في النصوص في اللعن وفي أشد الناس عذابًا إلا بأمرٍ واضحٍ، ولم يتضح كون هذه الصورة الفوتوغرافية والتلفزيونية أنها داخلةٌ في الصور المُحرَّمة؛ يعني كون الإنسان يُوقِع هذا الوعيد الشديد على معظم الأمة، معظم الأمة الآن في حرج؛ هذا لا بُدَّ أن يكون بأمرٍ واضحٍ كالشمس، وإلا ينبغي الورع في هذا، ليس هذا من باب التأثر بضغط الواقع.
قد يقول بعض الناس: طيب، الناس إذا اتجهوا لمعصيةٍ؛ هل نقول بجوازها؟ نقول: لا، ليست من هذا القبيل، لكن نقول: هذه مسألة اجتهادية، ينبغي لمَن أيضًا يقول بالتحريم وأنَّ هذا من الصور المُحرَّمة أن ينظر لمآلات قوله ولِمَا يترتب عليه؛ لأن النصوص الواردة في التصوير شديدة، أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون[14]، ومَن أظلم ممَّن ذهب يخلق كخلقي[15]، النبي تلوَّن وجهه؛ فهذا لا نستطيع أن ننزله على الصور الفوتوغرافية والتلفزيونية إلا بأمرٍ واضحٍ، ولم يتضح ذلك.
وعلى هذا؛ فالأقرب -والله أعلم- هو أن هذه الصور التلفزيونية والفوتوغرافية لا تدخل في التصوير المُحرَّم. بعض العلماء المعاصرين قالوا إنها تدخل لكن نُجيزها للضرورة. لكن هذا يدخل في إشكالات ضابط الضرورة، وكيف تكون الضرورة؟ مثلًا: القنوات المحافظة الموجودة في البيت؛ هل هذا يدخل في الضرورة؟ يعني ندخل في إشكالات، لكن إذا قلنا بهذا القول -قلنا إنها أصلًا لا تدخل في الصور المُحرَّمة- هنا يرتفع الحرج.
لكن إذا أجزنا التصوير الفوتوغرافي والتلفزيوني ينبغي أن يكون أيضًا ذلك بضوابط، لا يُتوسَّع فيه؛ لأنه يُلحَظ التوسع من بعض الناس، فيُصوِّرون الموتى مثلًا، وتبقى صور هؤلاء الموتى، ربما تُعلَّق، ربما تُعظَّم، ربما تكون ذريعةً لوقوع الشرك كما حصل لقوم نوح ؛ فلا تُعلَّق هذه الصور، لا تكون الصور لأمواتٍ، وأيضًا لا تكون الصور لنساء يراها رجالٌ أجانب؛ فإذَن إذا أجزناها فينبغي عدم التوسع فيها. أيضًا بعض الناس يتوسع، تجد أنه في الحرمين يُصوِّر نفسه، ويُصوِّر غيره، بل بعضهم يطوف ويُصوِّر نفسه، فينبغي عدم التوسع في ذلك؛ لأن المسألة أيضًا -حتى لو رجحنا أنه لا يدخل في التصويرِ المُحرَّمِ التصويرُ الفوتوغرافي والتلفزيوني- تبقى المسألة اجتهادية، وأن هناك طائفةً من العلماء قالوا بخلاف هذا، فليست المسألة محل إجماع، ولهذا ينبغي عدم التوسع في ذلك.
حُكم الصلاة في ملابس تشتمل على تصاوير
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم هذا البيان. تبقى مسألة أخيرة -إن أذنتم نختم بها الحلقة- يكثر السؤال عنها: حُكم الصلاة في ملابس تشتمل على تصاوير مُحرَّمة، وهل يُؤثِّر ذلك على صحة صلاته؟
الشيخ: أولًا: الصلاة إذا كانت مكتملة الأركان والشروط والواجبات فهي صلاة صحيحة ما لم يقترن بها ما يُبطلها؛ فمَن صلى وعليه ملابس ساترة للعورة ولِمَا يجب ستره، لكن وُجدت صورة على هذه الملابس، هذا لا يقتضي إبطال الصلاة؛ لأن الصلاة مكتملة الأركان والشروط والواجبات، ولا يوجد ما يُبطلها، لكن هذا عند الفقهاء مكروه، يُكره أن الإنسان يُصلِّي وعليه صورةٌ من الصور المُحرَّمة، خاصةً الرسومات لذوات الأرواح؛ لأننا قررنا قبل قليل أن الصور الفوتوغرافية لا تدخل في الصور المُحرَّمة، لكن الصور المرسومة هذه تدخل في الصور المُحرَّمة، وهي الواردة في حديث عائشة رضي الله عنها.
فإذا صلى الإنسان وعليه صورٌ مرسومةٌ؛ معنى ذلك أنه دخل الصلاة وهو متلبِّسٌ بهذه الصورة، وهي ممنوعة شرعًا، فهذا عند الفقهاء مكروهٌ -وإن كانت صلاته صحيحة-، وينبغي للمسلم أن يُعظِّم شأن الصلاة، وأن يختار من اللباس الشيء المناسب، والله تعالى يقول: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].
المقدم: حتى الصلاة على سجاد فيه تصاوير يأخذ ذات الحُكم؟
الشيخ: كذلك أيضًا إذا كان السجاد عليه تصاوير لذوات أرواح، فهذا أيضًا عند الفقهاء مكروهٌ، لكن إذا كانت التصاوير لغير ذوات أرواح فالأمر أخفُّ؛ لأنها ليست صورًا مُحرَّمة.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا وشكر الله لكم هذا البيان والإيضاح في هذه المسألة المهمة. إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فشكر اللهُ لشيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان.
الشيخ: والشكر لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: الشكر موصولٌ لمَن قام بتسجيل هذه الحلقة، الشيخ: عثمان بن عبدالكريم الجويبر، إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة بإذن الله ، ومع موضوع فقهي جديد، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1, ^6 | رواه البخاري: 5954، ومسلم: 2107. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 5951، ومسلم: 2108. |
^3 | رواه البخاري: 7559، ومسلم: 2111. |
^4 | رواه البخاري: 2086. |
^5 | رواه مسلم: 2110. |
^7, ^11, ^12, ^13, ^14, ^15 | سبق تخريجه. |
^8 | رواه البخاري: 5954، ومسلم: 2017. |
^9 | رواه أبو داود: 4158، والترمذي: 2806، وابن حبان: 5854 بنحوه. |
^10 | رواه أبو داود: 4932، والنسائي: 8901. |