logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(25) برنامج مجالس الفقه- المتسبب في وفاة مورثه بحادث واستخدام البنج في الحدود

(25) برنامج مجالس الفقه- المتسبب في وفاة مورثه بحادث واستخدام البنج في الحدود

مشاهدة من الموقع

المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم "مجالس الفقه".

"مجالس الفقه" برنامجٌ يُذاع عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها، ويحتاج المسلم إلى معرفة أحكامها؛ يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية.

فبِاسْمي وبِاسْمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: مرحبًا بكم، وأهلًا وسهلًا، حياكم الله، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المُتسبِّب في وفاة مُوَرِّثه بحادثٍ مروريٍّ

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا. كنا قد ذكرنا في الحلقات الماضية شيئًا من نوازل فقه الأسرة، ولعلنا اليوم نبدأ في ذكر شيءٍ من نوازل الجنايات، ومن المسائل التي يكثر السؤال عنها وتمسّ الحاجة إلى معرفة حُكمها؛ ما هو معلومٌ لديكم من تقرُّر المنع من الميراث في حق القتل، فالعلماء يُقرِّرون أن من موانع الميراث القتل؛ ومن هنا نشأَت -أو طرأَت- مسألة معاصرة: وهي المُتسبِّب في وفاة مُوَرِّثه بحادثٍ مروريٍّ؛ هل هذا مانعٌ من الميراث في حقه؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتبع سُنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالقتل من موانع الميراث؛ ولهذا يقول الناظم:

ويَمنعُ الشخصَ من الميراثِ واحدةٌ من عللٍ ثلاثِ
رِقٌّ وقتلٌ واختلافُ دينِ فافهم فليس الشك كاليقينِ

هذا من منظومة الرحبي -المشهورة- رحمه الله تعالى؛ فالقتل من موانع الميراث، سواءٌ أكان قتل عمدٍ أو شبه عمدٍ أو خطأ، لكن القتل الخطأ فيه خلاف بين الفقهاء، فالمشهور من مذهب الشافعية والحنابلة أن القتل الخطأ من موانع الميراث، فإذا قتل الإنسانُ قريبَه المُوَرِّث بطريق الخطأ فيُمنع من الميراث. والقول الثاني: أن القتل الخطأ ليس من موانع الميراث؛ وهذا مذهب الحنفية والمالكية.

فالمسألة إذَن محل خلافٍ بين الفقهاء؛ أصحاب القول الأول -القائلون بأن القتل الخطأ من موانع الميراث- استدلوا بحديثٍ رُوي عن النبي  أنه قال: ليس لقاتلٍ من الميراث شيءٌ[1]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي لكن في سنده مقال؛ ولهذا ضعَّفه الترمذي. وقالوا إن القتل قد يكون ذريعةً لاستعجال الوارث مالَ المُوَرِّث، خاصةً إذا كان المُوَرِّث ذا ثروةٍ وغنًى، فربما أن أحد الورثة يأتي ويقتله ويدَّعي أنه قتله بطريق الخطأ لأجل أن يتعجَّل تَرِكته؛ فقالوا: سدًّا لهذه الذريعة نقول بمنع القاتل خطأً من الميراث.

أما أصحاب القول الثاني -القائلون بأن القتل الخطأ ليس من موانع الميراث- فقالوا: إن الله قسم المواريث، وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على منع الوارث من مال مُوَرِّثه إذا قتله خطأً، فأعطونا دليلًا يدل على هذا. وأما حديث: ليس لقاتلٍ من الميراث شيءٌ فهذا لو كان صحيحًا لكان حجةً وحاسمًا للخلاف، لكنه حديث ضعيف.

أما ما ذُكر من الذريعة -أنه قد يكون ذريعةً إلى تعجُّل الوارث مالَ مُوَرِّثه- فإذا قامت القرينة الدالة لذلك فيُمنع من الميراث، أما إذا لم تقم القرينة ولا البينة فيبقى على الأصل؛ والأصل أن الوارث يرث من مُوَرِّثه. هذا القول الثاني لعله الأقرب -والله أعلم-، هو قولٌ له قُوَّته وله وجاهته.

الذي يهمّنا هنا في هذه المسألة الحوادثُ المرورية؛ إذا تسبَّب الوارث بقتل مُوَرِّثه عن طريق حادث سيارة، ولم يكن ذلك بطريق العمد ولا شبه العمد، وإنما كان بطريق الخطأ، كأن يكون ركب معه في السيارة أبوه، ثم وقع حادثٌ في الطريق، فقرَّر المرور أن على هذا الابن القائد لهذه السيارة نسبةً من الخطأ، نفترض مثلًا (40%) أو (50%) أو (60%)، هذا الابن الآن تسبَّب في وفاة أبيه بطريق الخطأ؛ على القول الأول -قول الشافعية والحنابلة- يُحرَم هذا الابن من الميراث. هذا الابن قد يكون هو الابن البارّ بهذا الأب، والابن الذي يقضي حوائج هذا الأب، والذي يُوصل الأب إلى ما يريد؛ فيقولون إنه يُحرَم بناءً على هذا القول!

يعني قالوا: لو كان له ابنان؛ أحدهما بارٌّ يمتثل أوامر أبيه ويقضي حوائجه، والثاني عاقٌّ؛ فالبارُّ أَركبَه السيارة مرةً، ثم قُدِّر أنه وقع حادثُ سيارةٍ فمات الأب، فبناءً على هذا القول؛ ما دام أن هذا الابن عليه نسبةٌ من الخطأ يُحرَم من الميراث! وهذا القول محل نظر، والقول بحرمانه من الميراث ليس عليه دليل.

وأصحاب القول الثاني قولُهم أظهر وأوجه وأقرب للنصوص والقواعد الشرعية؛ وهو أن مَن تسبَّب في قتل غيره من المورِّثين بطريق الخطأ لا يُحرَم من الميراث إلا إذا قامت البينة على أنه تعجَّل الميراث. على هذا؛ فالأقرب -والله أعلم- أنه في هذه الصورة لا يُحرَم من الميراث.

وهذا قد صدر فيه قرارٌ من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، لمَّا بُحثت هذه المسألةُ صدر قرارٌ من الهيئة بهذا القول؛ وهو أنه لا يُحرَم هذا الوارث من الميراث ما لم تقم القرينة الدالة على أنه قد تعجّل الميراث بهذا القتل، فإذا كان هناك قرائن تدل لذلك وبيِّنات؛ فيُمنع من الميراث. أما إذا لم تقم قرائن ولا توجد بيِّنات، وربما يكون هذا الابن من أبرِّ الأولاد بأبيه الذي تسبَّب في وفاته، فيبقى الأمر على الأصل؛ وهو أنه يرث من أبيه.

ثم أيضًا المسألة أصلًا المخرَّج عليها ليست محل إجماع، يعني "هل هذا القتل الخطأ يمنع من الميراث؟" ليست محل إجماع، فيها قولان للفقهاء؛ هناك مَن قال بأنه يُمنع -وهو مذهب الحنابلة والشافعية-، وهناك مَن قال بأنه لا يُمنع -وهو مذهب المالكية والحنفية-؛ فالمسألة ليس فيها إجماع. ومسألة حوادث السيارات؛ هذا الذي يُركِب والدَه في السيارة ويقضي حوائجه، لا يخطر بالبال ولا بنسبة (1%) -إذا كان هذا الابن بارًّا- بأنه أراد أن يقتله لأجل أن يرثه، خاصةً أن حوادث السيارات نسبة احتمالية إصابة قائد السيارة فيها أيضًا كنسبة احتمالية إصابة الراكب، فلو أراد أن يقتل مُوَرِّثه بهذا الحادث يُحتمل أنه هو الذي يموت أصلًا.

المقدم: هذا مَدعاة لإبعاد مظنة التهمة.​​​​​

الشيخ: نعم، أمَّا لو حصل الحادث بطريقة معينة، وكان هناك قرائن، وكان هناك شيءٌ من الشحن من الابن تجاه أبيه، المهم أنه قامت القرائن على أن هذا الابن ربما تسبَّب في هذا الحادث لأجل تعجُّل الميراث؛ هنا يُمنع من الميراث، وإلا يبقى الأمر على الأصل -وهو أن هذا الابن يرث من مُوَرِّثه عمومًا- سواء كان أباه أو غيرَ أبيه.

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا. وهل يختلف الحُكم فيما إذا كانت نسبة الخطأ هنا على القاتل بطريق الخطأ قليلة أو كثيرة، أم الحُكم فيها سواء؟

الشيخ: ظاهر كلام الفقهاء أن الحُكمَ سواءٌ؛ لأنهم قالوا: مَن يَقتل بطريق الخطأ؛ يعني تسبَّب -ولو بنسبة قليلة- في قتل مُوَرِّثه، فعندهم أن الحُكم لا يختلف، وهذا مما يُضعِف هذا القول. حتى في غير حوادث السيارات؛ مَن تسبَّب في قتل مُوَرِّثه بطريق الخطأ، الأصل أنه يرث -على القول الراجح- ما لم تقم القرينة الدالة على أنه تعجَّل الإرث بقتله لمُوَرِّثه.

استعمال البنج عند قطع يد السارق

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان في هذه المسألة. إن أَذِنتم أن أنتقل إلى مسألة أخرى، وهي متعلِّقة كذلك ببعض النوازل الفقهية في باب الجنايات؛ وهي مسألة حُكم وضع المخدِّر -أو ما يُعرف بـ"البنج"- عند قطع يد السارق عند إقامة الحد عليه، بحيث لا يشعر بألم القطع، حتى ينتفي عنه ألم القطع، يُعطى هذا البنج ثم يُقام عليه الحد؛ فهل مثل هذا سائغٌ من الناحية الشرعية، أم أن الألمَ مقصودٌ في الحُكم الشرعي هنا؟ لو وضَّحتم لنا المسألة.

الشيخ: حدُّ السرقة قطعُ اليد؛ كما قال الله : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، فإذا استكملت السرقة شروطها يجب القطع. وقطعُ اليد يكون مؤلمًا؛ لأنه قطعُ عضوٍ من الإنسان، وكان الناس قديمًا عندما تُقطع يد السارق -من زمن النبوة إلى وقتٍ ليس بالبعيد- يُؤتى بزيتٍ مغليٍّ شديد الحرارة، فإذا قُطعت اليد غُمست في هذا الزيت، هذا ما يُسمى بـ"الحسم"؛ وذلك لأجل إيقاف نزيف الدم، لأن اليد بعد قطعها تنزف دمًا، ولو لم تُحسَم بهذا الزيت المغلي لاستمر النزف إلى أن يموت. وغمسُها أيضًا في هذا الزيت المغلي مؤلمٌ جدًّا، وربما يكون أشد إيلامًا من القطع نفسه، لكن في الوقت الحاضر مع تقدُّم الطب أصبح يمكن إيقاف النزيف من غير حاجة لغمسها في زيتٍ مغليٍّ؛ عن طريق الأدوات الطبية الحديثة.

لكن استخدام البنج عند قطع يد السارق بحيث لا يحس بالألم، وإنما تُقطع يده من غير أن يحس بالألم؛ هل هذا يجوز أو لا يجوز؟

هذه المسألة ترجع إلى مسألة مقاصدية؛ وهي هل مقصود الشارع من القطع إيلام السارق، أم أن المقصود مجرد قطع يده وليس إيلام السارق؟ وعلى ذلك جرى خلاف العلماء المعاصرين في هذه المسألة بناءً على الخلاف في المسألة الأصل التي هي سبب الخلاف؛ فمن أهل العلم مَن قال إنه لا يجوز استخدام البنج، وقالوا إن إيلام السارق أمرٌ مطلوبٌ؛ بدليل قول الله : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38]، قالوا إن قوله: نَكَالًا يدل لذلك؛ لأن النَّكال معناه: العقوبة. وذهب أكثر العلماء المعاصرين إلى أنه يجوز استخدام البنج عند قطع يد السارق، وبهذا أخذت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، ووجهة أصحاب هذا القول أن مقصود الشارع في قطع يد السارق هو قطع اليد.

المقدم: إبانة العضو يعني؟

الشيخ: إبانة العضو، أما إيلام السارق فليس هو المقصود الأساس، مقصود الشارع أن تُقطع يده، وأن تبقى معلَّقةً فيراها الناس فينزجرون عن السرقة؛ وهذا القول هو الأقرب -والله أعلم-. والله يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، فعندما نرُدُّ هذه المسألة إلى الله ورسوله نجد أن الله تعالى قال في الآية: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]؛ فدلَّت الآية على أن العقوبة هي القطع، فَاقْطَعُوا ولم يقل: فآذوهما بالقطع، وإنما قال: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، فهذا يدل على أن المقصود هو القطع جزاءً بما كسبَا نكالًا من الله؛ النَّكال هو العقوبة، لكن العقوبة إنما تكون بما ورد به الشرع، والذي ورد به الشرع القطعُ. وعلى هذا؛ فالأقرب -والله أعلم- أنه لا بأس باستخدام البنج عند قطع يد السارق.

وهذا يُشبه ما ذكرنا -قبل قليل- من غمس يد السارق بالزيت المغلي، أصبح في الوقت الحاضر يمكن ذلك عبر الأدوات الطبية الحديثة من غير غمس، فالإيلام ليس مقصودًا، إنما المقصود هو القطع، المقصود أن تُقطع يد السارق ويرى الناس يدَه مقطوعةً ويرتدعون؛ لأن السرقة أخذُ المال على سبيل الخفية من حِرْزِه، وغير السرقة -من النَّهب ومن الاختلاس ومن الخطف ومن الغصب- هذه يستطيع الإنسان أن يصل إلى ماله ولو برفع شكاية للحاكم، لكن السرقة يأتي السارق ويهتك الحِرْز ويستولي على مال الإنسان، فهذه لا بُدَّ من تشديد العقوبة فيها، فجَعلت الشريعة العقوبة فيها هي القطع، فالمقصود هو القطع؛ لكي يرى الناس يَدَ هذا السارق مقطوعةً فيرتدعون عن السرقة.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم شيخنا. والحقيقة أشرتم -قبل قليل- إلى مَلحظٍ دقيق عند النظر في بعض المسائل الفقهية أو حتى في الترجيح بين الخلاف -يعني في الخلاف في المسألة-؛ وهو النظر إلى المقاصد الشرعية، وأهمية ذلك في الترجيح بين الأقوال، بحيث يُنظر إلى المقصد الشرعي في هذا الحُكم، وقد يستبين للفقيه من خلال النظر إلى تلك المقاصد رجحان قولٍ على آخر.

الشيخ: نعم، وهذا أمر مهم، ومن أبرز مَن يأخذ بهذا المنهج ابنُ تيمية وابنُ القيم رحمهما الله تعالى، تجد عندما ترى اختيارات وترجيحات هذين الإمامين أنهما يُركِّزان على المنهج المقاصدي، ينظران إلى مقصود الشريعة في هذا الباب وفي هذه المسألة، ويكون اختيار الترجيح بناءً على هذا النظر -النظر إلى مقصود الشريعة-.

استعمال البنج عند القصاص

المقدم: أحسن الله إليكم. الحُكم في هذه المسألة خاصٌّ فقط باستعمال البنج في حَدِّ السرقة، أم يشمل سائر الحدود؟

الشيخ: هذا خاصٌّ بحَدِّ السرقة. وأما القصاص؛ لو أن أحدًا اعتدى على غيره فقطع يده، فحُكِم بالقصاص بأن تُقطع يد الجاني، فهنا لا يجوز استعمال البنج عند قطع يد الجاني إلا بإذن المجني عليه؛ قيل له مثلًا: يا فلان، نحن نريد الآن أن نقتص لك من هذا الجاني ونقطع يده مثلما قطع يدك، هل تسمح باستخدام البنج عند قطع يده؟ إن سمح وأَذِن فلا بأس، أما إن لم يسمح فلا يجوز استعمال البنج؛ لأن القصاص المقصود فيه المماثلة، فالمماثلة هنا في الإيلام عند القطع، وفي قطع اليد أيضًا.

فهذه المسألة تختلف عن مسألة القطع في السرقة، المقصود في السرقة قطع اليد، وليس المقصود الإيلام، لكن في القصاص الإيلامُ مقصودٌ وقطعُ اليد مقصودٌ؛ ولذلك يُرجع إلى المجني عليه، إن أَذِن في استعمال البنج فيُستعمل، وإن لم يأذن فلا يُستعمل.

استعمال البنج في الحدود

المقدم: جميل، هذا مَلحظٌ مهمٌّ، شكر الله لكم شيخنا. أيضًا بقية الحدود الشرعية؛ يعني استعمال البنج في حَدِّ القذف مثلًا؟

الشيخ: هذا لا يَرِد أصلًا، القصاص تكلمنا عنه، هو فقط يَرِد في حَدِّ القطع في السرقة، يعني حَدّ القتل في الحرابة مثلًا لا يَرِد، أو في التعزير، إنما هو فقط يَرِد في هاتين المسألتين: في القطع في السرقة، وعند القصاص.

المقدم: وأما الجَلد؛ فلو قيل به لذهب المقصود من الجلد وهو الإيلام.

الشيخ: نعم، فهو غير وارد أصلًا.

حُكم إعادة اليد المقطوعة في حد السرقة

المقدم: من المسائل كذلك المتعلِّقة بنوازل الجنايات مسألةٌ مرتبطةٌ بالمسألة السابقة؛ وهي حُكم إعادة اليد المقطوعة في حد السرقة إلى صاحبها. مع تطور الطب الآن قد يمكن إعادة هذه اليد التي قُطعت؛ فهل مثل هذا سائغٌ شرعًا؟

الشيخ: نعم، مع تقدم الطب أصبح بالإمكان أن تُعاد اليد المقطوعة لصاحبها، لو اتفق مثلًا هذا السارقُ الذي ستُقطع يده أو قرابتُه مع مركزٍ طبيٍّ على أن يُحضروا عربة متكاملة فيها المستلزمات الطبية، وأنه من حين قطع يده تُجرى له عملية، وتُعاد له يده؛ هذا من الناحية الطبية ممكن، لكن من الناحية الشرعية هل هو جائز؟

نقول: لا يجوز؛ إذ إن مقصود الشارع من القطع أن تبقى يد السارق مقطوعة، بحيث يراها الناس فيرتدعون عن السرقة؛ ولهذا قال الله : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]. فعلى هذا؛ لا يجوز إعادة اليد المقطوعة لصاحبها، لأن هذا يتنافى مع مقصود الشارع من القطع. وأيضًا صدر بهذا قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بأن إعادة اليد المقطوعة لصاحبها -إذا قُطعت في السرقة- لا يجوز.

المقدم: أحسن الله إليكم. وهل له أن يعتاض عنها باليد الصناعية ويجعلها مكان ذلك القطع؟

الشيخ: لا مانع يمنع من هذا؛ إذ إن اليد الصناعية تختلف عن اليد الطبيعية اختلافًا كبيرًا، ولأن مقصود الشارع متحقِّق؛ لأن الناس إذا رأوه قُطعت يده في السرقة، وليس معه إلا يدٌ صناعية، كلما رأوه بهذا المظهر تذكروا الجناية التي قام بها، فيكون في هذا الردع عن الوقوع في هذه الجناية.

إعادة اليد المقطوعة في القصاص

المقدم: جميل، أحسن الله إليكم شيخنا. أيضًا مما يرتبط بهذه المسألةِ مسألةٌ مشابهةٌ لها: وهي إعادة اليد المقطوعة ولكن في القصاص؛ فهل مثل هذا سائغ؟

الشيخ: هذا ليس بسائغ إلا إذا أَذِن المجني عليه، أما إذا لم يأذَن المجني عليه فلا يجوز؛ لأن القصاص حقٌّ لآدميٍّ، فهذا الإنسان قد اعتُدِي عليه حتى قُطعت يده فحُكِم بالقصاص على الجاني، فليس للجاني أن يُعيد يده بعد قطعها قصاصًا إلا إذا أَذِن بذلك المجني عليه -كما قلنا في البنج-.

المقدم: جميل. إذَن؛ في مسائل القصاص يُرجع فيها إلى إذْن المجني عليه.

استيفاء القصاص في الجروح

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا. أيضًا لعلكم إن أَذِنتم أن أنتقل إلى مسألة أخرى، ونحن نستغل هذه الفرصة مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان؛ هناك مسائل قرَّر فيها الفقهاء قديمًا في باب "شروط استيفاء القصاص" قاعدةً: وهي الأمن من الحَيْف، وهذه المسألة مقرَّرةٌ عند أهل العلم من قديم؛ لكن يأتي السؤال هنا: تلك الفروع الفقهية في هذه المسائل التي كان الفقهاء يمنعون من القصاص فيها، وذلك لعدم الأمن من الحَيْف فيها، الآن مع تقدُّم الطب أصبح الحَيْف يمكن أن يُؤمَن في هذه الأمور؛ فهل ينتقل الحُكم فيها إلى جريان القصاص؟

الشيخ: نعم، الفقهاء السابقون يشترطون لاستيفاء القصاص في الكسورِ والجراحِ والشِّجاجِ الأمنَ من الحَيْف، فإذا لم يُوجد الأمن من الحَيْف سقط القصاص وانتقل الأمر للدية، فعندهم أن الأمن من الحَيْف شرطٌ لاستيفاء القصاص؛ قالوا: الأمن من الحَيْف بأن يكون القطع من مفصلٍ أو إلى حَدٍّ ينتهي إليه؛ فلا بُدَّ أن يكون القطع من المفصل، فإذا اعتدى إنسانٌ على الآخر فقَطْعُ اليد يكون من المفصل فيقتص من الجاني. أما إذا كان اعتدى عليه فقَطَعَ يدَه لكن ليس من المفصل، وإنما كَسَرَ ذراعه مثلًا، فنصف الذراع لا ينتهي إلى حَدٍّ يُمكن استيفاؤه من غير حَيْف؛ يعني لو قلنا للمجني عليه: اكسر يده. كيف يكسر يده؟ ما يستطيع إلا بزيادة أو نقصان.

المقدم: يعني لن يتمكن من كسرها بالقدر الذي كُسرت به بيد المجني عليه.

الشيخ: هذا عند الفقهاء السابقين؛ ولهذا يقولون إنه لا يُستوفى القصاص في هذه الحال ويُعدَل عنه إلى الدية. كذلك في الجراح؛ فعندهم لا يكون القصاص إلا في الجرح الذي ينتهي إلى عَظْمٍ كالمُوضِحة؛ والمُوضِحة هي الشجَّة التي تصل للعَظْم، ولا يُقتَص في غير ذلك من الشِّجاج. وعند العرب أنواعٌ من الشِّجاج: الحارصة، والبازلة، والباضعة، والمُتلاحِمة، والسِّمْحَاق، والمُوضِحة، والهاشمة، والمُنَقِّلة؛ عندهم أن هذه الشِّجاج لا يُستوفى منها إلا في المُوضِحة فقط، لأن المُوضِحة يمكن استيفاء القصاص فيها من غير حَيْفٍ. وهكذا أيضًا بالنسبة للجروح؛ فتجد في تفريعات وكلام الفقهاء أنه لا يُستوفى في الشِّجاج ولا في الجروح ولا في الكسور إلا بهذا الشرط -شرط الأمن من الحَيْف-، وكان الناس قديمًا لا يمكنهم الاستيفاء مع الأمن من الحَيْف إلا في مسائل معدودة. ولذلك، المسائل التي لا يُؤمَن معها الحَيْف؛ يقول الفقهاء إنه لا يكون فيها قصاص ويُعدَل عنه إلى الدية.

لكن الآن تطور الطب تطورًا كبيرًا، وأصبح يمكن أن يُستوفى القصاص في الجميع، سواءٌ في الكسور أو الشِّجاج أو الجروح مع الأمن من الحَيْف بدقة كبيرة، فيُنظر بالسنتيمتر موضع الكسر، ويُحدَّد موضع الكسر عند المجني عليه، ويُفعَل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه تمامًا بدقة كبيرة -ولو عن طريق عملية مثلًا-، المهم أنه يمكن ذلك بدقة كبيرة. فإذا قيل للأطباء: نحن نريد أن تفعلوا بهذا الجاني مثلما فعل بالمجني عليه، هذه جناية، المجني عليه أمامكم، فنريد الآن أن يُفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه؛ فهذا أصبح في الوقت الحاضر ممكنًا ومتيسرًا.

فإذَن؛ العلة التي لأجلها منع الفقهاء السابقون القصاص في بعض الجروح وبعض الشِّجاج انتفت مع تقدُّم الطب في كثير من المسائل؛ والقاعدة عند العلماء أن "الحُكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا". وعلى هذا؛ فإذا أمكن الأمن من الحَيْف فيكون القصاص -ولو في مسائل ذكر الفقهاء السابقون أنه لا يكون فيها القصاص-؛ لأن الفقهاء السابقين إنما ذكروا ذلك بناءً على إمكانية الطب عندهم، وأنه لا يمكن استيفاء القصاص في هذه الشِّجاج أو في هذه الجروح إلا مع الحَيْف، لكن في الوقت الحاضر أصبح ذلك ممكنًا؛ ولهذا فلا يأتي طالب علم ويأخذ ما دُوِّن في كتب الفقه، ويُطبِّقه على الوقت الحاضر، ويقول بالحُكم من غير نظرٍ للعلة والمأخَذ الذي بنى عليه الفقهاء السابقون رأيهم؛ فالحُكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. فلا بُدَّ إذَن لطالب العلم أن يُعيد النظر فيما ذكره الفقهاء السابقون من مسائل لا يُستوفى فيها القصاص، وأن هذا بناءً على إمكانية الطب في زمنهم. أما في وقتنا الحاضر -مع تقدُّم الطب- فالحُكم يختلف اختلافًا كبيرًا، ونسير على الضابط؛ وهو أنه متى أمكن الأمن من الحَيْف فيُستوفى القصاص، ومتى لا يمكن الأمن من الحَيْف فلا يُستوفى القصاص ويُعدَل عنه إلى الدية.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان. مَن المَرجع في تحديد الأمن من الحَيْف أو عدمه في مثل هذه المسائل؟

الشيخ: المَرجع في ذلك هم أهل الخبرة وأهل الاختصاص، ومثل هذه المسائل تكون عند القضاء، والقاضي يرجع لأهل الخبرة وأهل الشأن، وربما في الوقت الحاضر يدخل في ذلك الأطباء والمختصون، أو مَن لهم عناية بما يسمى بـ"الطب الشرعي"؛ فهؤلاء أهل الخبرة في هذا المجال، يرجع لهم القاضي ويقول لهم: هل يمكن استيفاء القصاص من غير حَيْف؟ فهنا لا بُدَّ من إدخال الأطباء، لا يكفي نظر الفقيه هنا؛ فيُؤتى بأطباء متخصصين، فيقال إن هذه هي الجناية، ونريد الآن أن يكون قصاصًا، هل يمكن أن يكون قصاصًا مع أَمْن الحَيْف؟ يعني يكون القصاص مساويًا تمامًا للجناية التي وقعت، فإذا قرَّر أهل الخبرة -ومنهم الأطباء- أنه يمكن ذلك مع أَمْن الحَيْف؛ فيُستوفى القصاص، وإلا فلا.

المقدم: أحسن الله إليكم. أشرتم -قبل قليل- إلى قضيةٍ منهجيةٍ مهمةٍ جدًّا في الحقيقة؛ وهي الإحالة على كلام الفقهاء السابقين في مسائل تغيَّرت فيها العلة، هل يصح أن يُنسب القول الفقهي في مسائل تغيَّرت فيها العلة إلى ذلك المذهب الفقهي الذي بنى حُكمه على علة قد زالت الآن؟

الشيخ: لا يُنسب له مباشرة، ولكن يمكن أن يُخرَّج عليه تخريجًا، أو يقال إن هذا هو متقضى مذهب كذا، هذا هو مقتضى المذهب عند الحنابلة، مقتضى المذهب عند الحنفية، مقتضى المذهب عند الشافعية، مقتضى المذهب عند المالكية؛ فيكون هو مقتضى المذهب، أو يُخرَّج عليه تخريجًا، فيمكن ذلك، لكن لا يقال إن هذا هو مذهب الحنابلة، أو مذهب المالكية؛ لأن هذه مسائل معاصرة، وهذه نوازل، لكن يمكن أن تُخرَّج على تلك المسائل المتقدمة التي ذكرها الفقهاء السابقون.

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا وشكر الله لكم هذا البيان والإيضاح. إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: الشكر موصول لمَن قام بتسجيل هذه الحلقة الشيخ: عثمان بن عبدالكريم الجويبر، إلى أن ألتقيكم في حلقة قادمة بإذن الله ، ومع موضوع فقهي جديد؛ أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

كان معكم في إدارة هذه الحلقة: فهد بن عبدالعزيز الكثيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه أبو داود: 4564، والترمذي: 2109، والنسائي: 6367.
مواد ذات صلة
zh