جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نذكر فيه شيئًا من مسائل الفقه والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويحتاجها المسلم، يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: أهلًا وسهلًا، حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
اختيار جنس الجنين
شيخنا، كنا قد ذكرنا في الحلقة الماضية شيئًا من المسائل والأحكام الفقهية المتعلقة بأطفال الأنابيب والتلقيح الصناعي، ولعل مما يتصل بذلك: مسألة اختيار جنس الجنين، مع تطور الطب وتقدمه أصبح الناس يستطيعون -من خلال التدخل الجراحي أو الطبي- أن يحددوا جنس الجنين ويسعوا إلى ذلك، فما حكم هذا الأمر من الناحية الشرعية؟ وهل هو جائزٌ؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد كان الحديث في الحلقة السابقة من هذا البرنامج عن أطفال الأنابيب، وذكرنا أنه لا بأس بها إذا كان ذلك في حدود دائرة الزوجين، أي إن الحيوان المنوي يُؤخذ من الزوج والبويضة من الزوجة، وأما ما عدا ذلك فإنه لا يجوز.
حكم اختيار جنس الجنين بالطرق الطبيعية
وهنا أيضًا مسألةٌ متصلةٌ بهذا المعنى: وهي اختيار جنس الجنين، يعني: اختيار جنس الجنين هل هو ذكرٌ أو أنثى.
أولًا: اختيار جنس الجنين بالطرق الطبيعية التي يذكرها بعض الناس، ويذكرون أن هذا إنما عُلم بالتجارب، وبعضها قد يكون فيه قدرٌ من الصحة، وبعضها غير صحيحٍ، لكن هذه الأمور في الجملة لا بأس بها، مثل النظام الغذائي، فبعض الناس عندهم اعتقاداتٌ بأن الرجل إذا أكل -أو المرأة إذا أكلت- مأكولاتٍ معينةً؛ فهذا يكون له أثرٌ في جنس الجنين، كذلك أيضًا هناك ما يسمى بـ"الغاسول الكيميائي"، بأن تغسل المرأة فرجها قبل الجماع بحمضٍ قلويٍّ؛ لاختيار جنس الجنين، هذا أيضًا يُذكر، كذلك توقيت الجماع بتحري وقت الإباضة بالعدد، فتحرِّي توقيت الجماع بأن يكون الجماع في أوقاتٍ معينةٍ يُتحرى فيها وقت نزول البويضة، فإذا نزلت في أوقات كذا؛ قد يكون ذكرًا، وإذا نزلت في أوقات كذا؛ فقد يكون أنثى.
هذه كلها أسبابٌ طبيعيةٌ، ونحن لا ندخل في مناقشتها هل هي صحيحةٌ أم لا، لكنها قد قيلت، فهذه تبقى في دائرة المباح، وأنها جائزةٌ ولا بأس بها، وربما يكون هناك أيضًا تجارب أخرى لبعض الناس، هذه الأصل فيها الحِل والإباحة، لكن محل البحث: هو التدخل الطبي في الجينات لاختيار جنس الجنين.
حكم التدخل الطبي في الجينات لاختيار جنس الجنين
إذا أتى الإنسان للطبيب وقال: أريد أن يكون الحمل ذكرًا، أو أريد أن يكون أنثى، فما حكم هذا من الناحية الفقهية، هل هو يجوز، أو لا يجوز؟ وهل يجوز للطبيب أن يفعل ذلك، أو لا يجوز؟
أولًا من حيث قدرة الأطباء على ذلك: هذا موجودٌ، ونسبة النجاح تصل إلى (30%)، وربما تزيد، وربما أيضًا مستقبلًا -مع التقدم الطبي- تزيد هذه النسبة، وأذكر في مناقشات "المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي"؛ أن الأطباء الذين حضروا قالوا: إن نسبة النجاح تصل إلى (30%)، كان ذلك تقريبًا من عشر سنواتٍ، ربما النسبة الآن زادت، وقد تزيد في المستقبل مع التطور الطبي.
لكن هذا ممكن طبيًّا، يعني من الناحية الطبية، أقول هذا؛ لأني رأيت بعض الفتاوى لبعض المشايخ يقول: إن هذا غير ممكنٍ، مسألة غير ممكنٍ أو ممكنٌ هذه ترجع لأهل الاختصاص، فهذا من حيث التدخل في الجينات أمرٌ ممكنٌ من الناحية الطبية، لكن هذا التدخل في اختيار جنس الجنين جرى فيه مناقشاتٌ، هذه تعتبر نازلةً لم تكن معروفةً من قبل لدى الفقهاء السابقين، بل حتى لم يكن يخطر ببال أحدهم أن هذا سيكون، أو أن هذا سيحصل، ونحن الآن في هذا العصر استجدت أمورٌ لم تكن تخطر ببال المتقدمين.
فنحن الآن أمام نازلةٍ، ولا بد لفقهاء العصر من أن يُبيِّنوا الحكم الشرعي في هذه النازلة: اختيار جنس الجنين بالتدخل الطبي عن طريق الجينات.
الحقيقة: هذا قد يكون فيه خطورةٌ من الناحية الأخلاقية، وهذا حصل في بعض البلدان التي لديها كثرةٌ في عدد السكان، حيث يُسمح للعائلة بطفلٍ واحدٍ، فكانت طريقتهم: أنه إذا حملت الزوجة يذهبون؛ ويكشفون عليها، فإن كانت أنثى؛ أجهضت، وإن كان ذكرًا؛ تركوه؛ لأن النفوس مجبولةٌ -حتى عند غير المسلمين- على تفضيل الذكر على الأنثى، فحصل اختلالٌ في التركيبة السكانية في تلك البلدان، بأن أصبح الذكور أكثر من الإناث، ومقتضى فطرة الله : أن يكون هناك تقاربٌ بين نسبة الذكور والإناث، لكن إذا حصل هذا الاختلال، تدخلٌ بشريٌّ، تدخلٌ من الأطباء، أو إجهاضٌ للأنثى؛ هنا يكون اختلالٌ في التركيبة السكانية؛ يعني يصبح الذكور أكثر من الإناث، أو ربما العكس، وهذا يترتب عليه مشاكل أخلاقيةٌ وأمورٌ كبيرةٌ في المجتمع؛ ولهذا فإن فتح الباب على مصراعيه فيه خطورةٌ كبيرةٌ على المجتمعات عمومًا؛ لهذا المجامع الفقهية منعت من هذا الأمر، لا يفتح الباب لجميع الناس، كل من أراد أن يختار جنسَ ذكرٍ يُسمَح له ويقال بالجواز، لكن في الحالات الخاصة هذه محل نظرٍ، فتح الباب على مصراعيه نقول: إن هذا ممنوعٌ، والهيئات العلمية والمجامع الفقهية منعت منه، وحتى أيضًا عند دول الغرب الهيئات الأخلاقية تمنع من هذا؛ لأنه يترتب عليه اختلال التركيبة السكانية، لكن في الحالات الخاصة هل يجوز أو لا يجوز؟
"المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي" قصر الجواز على حالة الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية التي تُصيب الذكور دون الإناث، أو الإناث دون الذكور، يعني في حالة الضرورة العلاجية، يعني بعض الناس إذا أتاه ذكورٌ؛ أتتهم أمراضٌ، أتت هؤلاء الذكور أمراضٌ، أو إذا أتاه إناثٌ؛ أتتهن أمراضٌ، فيريد أن يتلافى هذه الأمراض، فيختار جنس الجنين؛ إما ذكرًا أو أنثى، من باب تلافي هذه الأمراض، هذا موجودٌ، يختار جنس الجنين لتلافي الأمراض الوراثية، الأطباء يقولون له: إن رُزقت بذكرٍ؛ سيكون فيه أمراضٌ وراثيةٌ، وإن رُزقت بأنثى؛ ستكون سليمةً، أو العكس، فهذه الصورة يجوز فيها في هذه الحالة أن يختار جنس الجنين الذي يَسلَم من هذه الأمراض الوراثية، فإذا كان ذلك لتجنُّب الأمراض الوراثية؛ فيجوز اختيار جنس الجنين، لكن ماذا لو كان ليس لأجل الضرورة العلاجية؟ إذا كان من باب الترفُّه، وليس هناك حاجةٌ، وليس هناك ضرورةٌ، وأتى إنسانٌ وقال: أريد أن أختار ذكرًا، أو أختار أنثى؛ ينبغي أن يُمنع من ذلك.
المقدم: ما معنى "الترفه" أحسن الله إليك؟
الشيخ: يعني ليس هناك حاجةٌ، فقط إنسانٌ يقول: أريد أن أختار ذكرًا، أريد أن أختار أنثى، بدون سببٍ، بدون شيءٍ يقتضي هذا، عنده ذكورٌ وإناثٌ في البيت، فبيته فيه ذكورٌ وفيه إناثٌ، لكن من باب أنه يريد أن يختار ذكرًا أو يختار أنثى، هذا ينبغي أن يُمنع إذا كان بدون سببٍ وبدون حاجةٍ.
لكن إذا كان ذلك لحاجةٍ، ليس هناك ضرورةٌ علاجيةٌ، لحاجةٍ؛ كأن يكون مثلًا عنده سبع إناثٍ أو ثماني إناثٍ ولم يُرزق بذكرٍ، أو العكس، ويريد أن يختار ذكرًا مثلًا، أو يختار أنثى؛ فهذه محل خلافٍ بين العلماء المعاصرين، والأقرب: أنه إذا كان في مثل هذه الحالات الخاصة؛ لا بأس بذلك؛ لأنه لا يترتب على هذا محاذير شرعيةٌ، إذنْ المحاذير الشرعية إنما تكون إما بفتح الباب على مصراعيه، وهذا -كما ذكرنا- يسبب اختلال المجتمع كله، وكذلك أيضًا المحذور الآخر: أن يُفتح الباب بدون حاجةٍ وبدون ضرورةٍ علاجيةٍ، يعني إذا فتح المجال؛ يأتي عامة الناس هذا يقول: ذكرًا، هذا يريد أنثى، بدون حاجةٍ تدعو لذلك، لكن ينبغي أن يُقصَر إما على حالات الضرورة العلاجية -كما ذكرنا- إنسانٌ مثلًا لو رُزق ببنتٍ كانت مصابةً بمرضٍ، أو رزق بابنٍ كان سليمًا، أو العكس، فهنا يجوز له، كذلك أيضًا لو كانت هناك حاجةٌ ملحةٌ، إنسانٌ لا يُرزَق إلا بإناثٍ، أو لا يُرزَق إلا بذكورٍ، ويريد أن يُرزَق مع هؤلاء الإناث بذكرٍ أو مع هؤلاء الذكور بأنثى، يعني لأجل الحاجة القائمة لذلك؛ فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى؛ على هذا: ينبغي أن يُقصَر ذلك على الفتوى الخاصة، لا يُفتح للناس الباب بأن تكون هناك فتوى عامةٌ، إنما يُقصَر ذلك على حالاتٍ خاصةٍ، يكون فيها فتوى خاصةٌ لاختيار جنس الجنين.
هل التدخل في اختيار الجنين يتعارض مع الإرادة الإلهية؟
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا، هل هذ المسألة تتعارض مع ما جاء في النصوص من أن الله جل وعلا هو الذي يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]؟ وهل هذا التدخل يتعارض مع الإرادة الإلهية؟
الشيخ: لا يتعارض معها؛ لأن الله تعالى يعلم بما يؤول إليه الأمر، فالله تعالى يُقدِّر أن هذا الإنسان سيُرزَق بذريةٍ، الله تعالى أعلم بما يؤول إليه الأمر؛ ولذلك كان الناس قديمًا عندهم بذلُ أسبابٍ في مثل هذا، مثلما ذكرنا في مقدمة الحلقة: بأكلٍ معينٍ، أو حتى بالغسول الكيميائي، أو بتوقيت الجماع بأوقاتٍ معينةٍ، فالله تعالى يعلم بما يؤول إليه الأمر، ويعلم بأن هذا سيُرزق بإناثٍ أو بذكورٍ لكن هذا مجرد فعل الأسباب، على أن اختيار جنس الجنين أيضًا الغالب عليه عدم النجاح، يعني نسبة النجاح فقط تصل (30%)، أو ربما يمكن (40%)، لكن ليس بالضرورة أن هذا ينجح، لكن -على تقدير نجاحه- يُقصَر على الحالات الخاصة التي ذُكرت، هذا مثلًا كفعل الأسباب، وفعل الأسباب لا يتعارض مع تقدير الله ، ومثلًا الدعاء سببٌ لحصول المطلوب، ولا يتعارض هذا مع تقدير الله سبحانه، فإذا دعا الإنسان ربه بحصول أمرٍ معينٍ، أو دفعِ بلاءٍ، أو دفع ضررٍ معينٍ، لا يقال: إن الله قد قدَّر هذا الأمر، وأن الدعاء لا فائدة منه؛ لأنه سببٌ، والله تعالى يعلم بما يؤول إليه الأمر، صلة الرحم سببٌ لطول العمر وبسط الرزق، ولا يقال: إن هذا يتعارض مع تقدير الله ، والله تعالى يقول: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، الذي في أم الكتاب -وهو اللوح المحفوظ- هذا لا يدخله التبديل، هذا يكون فيه ما ينتهي إليه الأمر، المحو والإثبات يدخل فقط في الصحف التي بأيدي الملائكة، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، يعني: في الصحف التي بأيدي الملائكة، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ، يعني: اللوح المحفوظ، فيكتب أن فلان بن فلانٍ عمره كذا، وبسبب صلته لرحمه؛ يُمَدُّ له في عمره فيكون كذا، وفلان بن فلانٍ زرقه كذا، وبسبب صلة رحمه؛ يُبسَط له في رزقه فيكون كذا، فهنا المحو والإثبات يدخل في الصحف التي في أيدي الملائكة، لكن ما سيؤول إليه الأمر من أن فلانًا سيمتد عمره إلى كذا بسبب صلته لرحمه، هذا هو الذي يُكتب في اللوح المحفوظ، فاللوح المحفوظ ما يُكتَب فيه لا يتغير ولا يتبدل؛ وعلى هذا: فهذه أسبابٌ لا تتعارض مع تقدير الله وقضائه.
نفقة الزوجة العاملة
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر الله لكم هذا البيان والإيضاح في هذه المسألة.
وشيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان له عنايةٌ بالنوازل الفقهية والمسائل المعاصرة، وله مشاركاتٌ وأبحاثٌ في عدد من المجامع والهيئات الشرعية.
حكم النفقة على الزوجة
اسمحوا لي شيخنا أن أنتقل إلى مسألةٍ أخرى، وهي من النوازل الفقهية المتعلقة بفقه الأسرة: وهي ما يتعلق بمسألة نفقة المرأة العاملة، التي لها عملٌ وتخرج للدوام ونحو ذلك، هل هذا الأمر يترتب عليه إسقاط النفقة الواجبة تجاه الزوج على زوجته؟ وقبل الدخول في هذه المسألة نريد بيان التأصيل الشرعي لحكم النفقة على الزوجة ابتداءً؟
الشيخ: أولًا الوظيفة بالنسبة للمرأة، وعمل المرأة بهذه الصورة الموجودة في الوقت الحاضر، لم يكن هذا موجودًا من قبل، والأصل أن المرأة مكفولةٌ، ومأمورٌ بالإنفاق عليها من قِبَل الرجل؛ من قِبَل زوجها إن كانت متزوجةً، أو من قِبَل أبيها إن كان موجودًا، أو من قِبَل أخيها إذا لم يكن لها زوجٌ ولا أبٌ، فهي مكفولة النفقة، لكن هذه المرأة إذا تزوجت؛ فنفقتها على زوجها، إذا كانت موظفةً؛ هل لهذه الوظيفة أثرٌ في إسقاط أو تخفيف النفقة؟
أقول: النفقة إنما وجبت شرعًا بسبب عقد الزوجية مقابل تمكين الزوجة نفسها للزوج من الاستمتاع بها؛ فعلى هذا: النفقة هي مقابل التمكين من الاستمتاع، هذا هو التأصيل لمسألة النفقة؛ ولذلك إذا نشزت المرأة، أصبحت المرأة ناشزًا لا تُطيع زوجها، تتمرَّد عليه، تترفَّع عليه، وصَدَقَ عليها وصف النشوز؛ فإن حقها في النفقة يسقط، لا نفقة لها؛ بسبب أن زوجها لا يتمكن من الاستمتاع بها؛ لكونها ناشزًا.
المقدم: عفوًا شيخنا، هنا في هذه المسألة: النفقة واجبةٌ على الزوج تجاه زوجته ولو مع غناها؟
الشيخ: نعم، النفقة واجبةٌ للزوج على زوجته ولو كانت غنيةً؛ لأن النفقة إنما تجب بسبب التمكُّن من الاستمتاع، بغض النظر عن كونها غنيةً، أو كونها فقيرةً، لكن الغنى والفقر ربما يُؤثِّران على مسألة مقدار النفقة، على خلافٍ بين العلماء: هل المعتبر غنى الزوج، أو غنى الزوجة، أو هما جميعًا؟ هذه مسألةٌ خلافيةٌ لا أريد الدخول فيها.
إذنْ النفقة على المرأة غير الموظفة، أو غير العاملة، تكون نفقةً كاملةً، تكون نفقةً مناسبةً لها، يجب على الزوج أن يُنفق على هذه المرأة بما يكفيها من مأكلٍ ومشربٍ وكسوةٍ، وتوفير أيضًا المسكن المناسب لها، هذا واجبٌ للزوج على زوجته، وهذا أمرٌ مقرَّرٌ شرعًا، لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]؛ ولهذا لو عجز الزوج عن النفقة؛ أصبح غير قادرٍ على النفقة؛ فللمرأة أن تُطالب بالفسخ؛ لأن هذا حقٌّ من حقوقها، هذا فيما يتعلق بتأصيل مسألة النفقة.
نأتي بعد ذلك للمرأة الموظفة، أو المرأة العاملة: المرأة الموظفة جزءٌ من وقتها يكون خارج المنزل؛ مثلًا ست أو سبع أو ثماني ساعات يوميًّا، عدا أيام الإجازة، فهذا الآن وقتٌ مستقطعٌ من الزوجة، لا يتحقق معه التمكين التام من الاستمتاع، وإنما يتحقق بعضه، وهذا مؤثِّرٌ على النفقة.
وعلى هذا: فأعدل الأقوال في هذه المسألة: أن المرأة الموظفة لا تسقط نفقتها، نفقتها تجب على الزوج، لكن لا تكون نفقة الموظفة كغير الموظفة، بل تكون أقل؛ بحيث تنقص نفقة المرأة العاملة بسبب الساعات التي تمضيها خارج البيت، وهذه الساعات ينقص معها تمكُّن الزوج من الاستمتاع، والذي هو السبب في وجوب النفقة.
هذا هو المعتمد عليه عند كثيرٍ من العلماء في هذا الرأي، وهو أعدل الأقوال، وهو قولٌ وسطٌ بين قول من قال: إنه لا نفقة لها إلا بالشرط، وقول من قال: إن لها النفقة كاملةً، هذا القول هو أعدل الأقوال، يقال: لها النفقة، لكن تنقص نفقتها عن المرأة غير العاملة، بحيث يسقط من نفقتها بقدر الأوقات التي تمضيها خارج المنزل.
ثم إن المرأة العاملة عندها من المال ما يكفيها، بخلاف المرأة غير العاملة، هذا أيضًا يُنظَر له، أيضًا حوائج المرأة العاملة تختلف عن حوائج المرأة غير العاملة؛ ولذلك نقول: إن الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة: أن المرأة العاملة تجب لها النفقة، لكن نفقتها تكون أقل من نفقة المرأة غير العاملة.
المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- حتى تتضح صورة المسألة بشكلٍ أكبر، إذا قلنا: إن النفقة يُنقص منها بقدر خروجها وانشغالها بعملها، النفقة في الأصل مرتبطةٌ بقدر الحاجة، فإذا كانت حاجتها على سبيل المثال ثلاثة آلافٍ في الشهر أو أربعة آلافٍ، ثم ارتبطت بعملٍ، هل يُنقَص من هذه النفقة، وتُطالَب المرأة بتغطية هذا النقص مما يأتيها، هل هذا هو المقصود؟
الشيخ: لا، ليس هذا هو المقصود؛ لأنه كما ذكرنا قبل قليلٍ: أن الزوجة تجب لها النفقة حتى وإن كانت غنيةً، كون عندها مالٌ أو ليس عندها مالٌ، ليس مؤثِّرًا بالدرجة الأولى في هذه القضية وهذه المسألة، وإنما المؤثِّر -كما ذكرنا- ما سبب وجوب النفقة؟ ما سبب وجوب نفقة الزوج على زوجته، السبب -كما ذكرنا- هو عقد الزوجية، بحيث إن الزوج يتمكن من الاستمتاع بزوجته، فإذا كانت المرأة تخرج من البيت عدة ساعاتٍ؛ فمعنى ذلك: أنه لن يتمكن منها في هذا الوقت، فيسقط من النفقة بقدر هذا الوقت الذي خرجت فيه هذه المرأة الموظفة؛ ولذلك المرأة إذا نشزت، بحيث إن الزوج لا يتمكن منها أصلًا؛ فليس لها حقٌّ في النفقة، يسقط حقها في النفقة؛ فإذنْ المعوَّل عليه ليس مسألة أن عندها مالًا أو ليس عندها مالٌ، أو غنيةٌ أو فقيرةٌ، المعول عليه: هو قضية التمكن من الاستمتاع؛ لأن هذا هو سبب وجوب النفقة.
المقدم: أحسن الله إليكم.
إذا كان النكاح على شرط العمل؛ هل يؤثر في النفقة؟
مما يتصل بهذه المسألة: إذا دخل الزوج على شرطٍ في هذه القضية؛ فهل هنا يختلف الحكم؟ يعني بعض النساء يشترطن على أزواجهن ألا يمنعها من العمل، أو أن يسمح لها بالعمل، فهل هذا الشرط مؤثِّرٌ في حكم المسألة، وفي مقدار النفقة التي تكون عليه تجاه زوجته؟
الشيخ: الشرط لا شك أنه مؤثِّرٌ، لكن عن ماذا يكون الشرط؟ إذا كان مجرد أنه لا يمنعها، ولم يمنعها؛ تبقى النفقة على الوضع السابق، يعني ما تعرَّض للنفقة، المسألةُ مسألة سماحٍ أو منعٍ، لكن لو أنه شرط في العقد: أن هذه المرأة تعمل، وأن نفقتها كاملةً لها، وأن هذا غير مؤثِّرٍ، فهنا لها شرطها، والمسلمون على شروطهم [1]، وإن أحق ما أوفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج [2].
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.
ذكرتم في مقدمة هذه الحلقة حين الحديث عن هذه المسألة: أن مسألة نفقة المرأة العاملة تعتبر من النوازل من وجهٍ: وهو أنها لم تكن معهودةً في السابق بهذه الطريقة، لو وضحتم وجه كونها نازلةً؟
الشيخ: يعني في السابق كانت المرأة تكون في بيت أبيها، أو في بيت زوجها، ولم يكن هناك وظائف بمثل هذا الترتيب الموجود الآن، وإن كان يوجد من النساء من كن يعملن أعمالًا، وبعض الصحابيات كُنَّ يخرجن ويعملن في التقاط بعض التمر، وبعض الأعمال التي يقمن بها، فيوجد أعمال، لكن ليس هناك أعمال بمثل هذا الترتيب الموجود الآن على شكل وظائف؛ بحيث إن المرأة تخرج يوميًّا لمكانٍ معينٍ عدة ساعاتٍ، ثم ترجع وتتقاضى آخر الشهر مرتبًا، هذا لم يكن موجودًا من قبل، وهذا وجه اعتبار هذه المسألة نازلةً، وإلا فكون المرأة تعمل يوجد من قديمٍ، لكن المقصود: الوظيفة بهذه الطريقة؛ بحيث إن المرأة تلتزم بخروجها عدة ساعاتٍ، هذا الخروج المتكرر يوميًّا -ما عدا أوقات الإجازة وبضع ساعاتٍ- هذا مؤثِّرٌ في النفقة، وذكرنا: أن أعدل الأقوال: أنه مؤثِّرٌ بإنقاص قدر النفقة، وليس بإسقاط النفقة.
هل يختلف الحكم في مقدار النفقة بعمل المرأة ليلًا أو نهارًا؟
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، أيضًا من المسائل المتعلقة بهذه المسألة: هل يختلف الحكم إذا كان عمل المرأة في الليل أو عملها في النهار؛ من حيث سقوط النفقة؟ بحيث يقال: إن المرأة إذا كان عملها بالنهار؛ فالأمر فيه أخف، بينما لو كان عملها في الليل -لأنه مظنة استمتاع الرجل بزوجته- فيؤثر الحكم بشكلٍ أكبر في إسقاط النفقة أو تقليلها؟
الشيخ: الذي يظهر أن هذا غير مؤثرٍ؛ لأن العبرة بالزمن الذي تقضيه المرأة خارج المنزل، سواءٌ كان ليلًا أو نهارًا، فهذا يظهر -والله أعلم- أنه غير مؤثرٍ، المهم: أن يُعرَف ما هو سبب النفقة، وما سبب إنقاص المرأة العاملة من النفقة؟ قلنا: إن السبب هو تمكن الزوج من الاستمتاع، وأن خروجها يمنعه من ذلك في هذا الوقت والذي يتكرر كل يومٍ، وهذا هو سبب إسقاط النفقة في حق المرأة الناشز.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر الله لكم هذا الإيضاح والبيان لهذه المسألة المهمة.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، أسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء، فشكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: كما أتقدم بالشكر الجزيل لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، ومع موضوعٍ فقهيٍّ جديدٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.