جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نذكر فيه شيئًا من مسائل الفقه وأحكامه ونوازله المعاصرة وما يكثر السؤال عنه، يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
البصمة الوراثية أو الحمض النووي
شيخنا، لا يزال الحديث في ذكر شيءٍ من نوازل فقه الأسرة والمسائل المستجدة في ذلك، ومعنا في هذه الحلقة موضوعٌ مهمٌ يتعلق بالبصمة الوراثية، أو ما يسمى بـ"الحمض النووي"، وهذا علمٌ مستجدٌ وظهر له حضورٌ في هذه الأزمنة المتأخرة، ويترتب عليه شيءٌ من المسائل والأحكام الشرعية في ذلك؛ منها: إثبات النَّسَب، أو حتى التوصل من خلالها إلى إثبات الإدانة بالجرائم ونحو ذلك، فأود لو ذكرنا شيئًا من المسائل والأحكام، مبتدئين ببيان حقيقة هذه "البصمة الوراثية" أو "الحمض النووي".
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا الموضوع من النوازل ومن المسائل المستجدة، وهذه البصمة الوراثية -وتسمى: "الحمض النووي"- هي البِنْيَة الجينية، نسبةً إلى الجينات، أي: المورِّثات التي تدل على هوية كل إنسانٍ بعينه، وهذه البصمة يُرمز لها بـ: (DNA)، وهي المادة المورِّثة الموجودة في خلايا جميع الكائنات الحية، و"الجينات" أو المورِّثات الحية: هي الأحماض الأمينية الموجودة لدى كل إنسانٍ؛ وذلك أن الاكتشافات الطبية قد دلت على أنه يوجد في داخل النواة التي تستقر في خلية الإنسان ستةٌ وأربعون من الصبغات التي يُطلق عليها: (الكروموسومات)، وهذه تتكون من المادة الوراثية والحمض النووي، وكل واحدٍ منها يحتوي على عددٍ كبير من الجينات الوراثية، وقد تبلغ في الخلية الواحدة مئة ألف مورِّثٍ جينيٍّ، سبحان الله! انظر إلى عظمة الخالق جل وعلا! هذه المورثات الجينية هي التي تتحكم في صفات الإنسان والطريقة التي يعمل بها، وأثبت الطب أن كل إنسانٍ يمتلك (جينومًا) بشريًّا يختص به دونما سواه، لا يمكن أن يتشابه فيه مع غيره؛ مثل بصمات الأصابع التي لا يمكن أن تتطابق الصفات الجينية فيها بين شخصٍ وآخر؛ ولهذا جرى إطلاق: "بصمة وراثية"؛ للدلالة على تثبيت هوية الشخص أخذًا من عينة الحمض النووي الذي يحمله الإنسان عن أبيه وأمه؛ فإن كل شخصٍ يحمل في خليته الجينية ستة وأربعين من صبغات (الكروموسومات)، يرث نصفها -وهو ثلاثٌ وعشرون- عن أبيه بواسطة الحيوان المنوي، وثلاثٌ وعشرون أخرى يرثها عن أمه بواسطة البويضة؛ فينتج عن ذلك (كروموسومات) خاصةٌ به، لا تتطابق مع (كروموسومات) أبيه وأمه من كل وجه، وإنما خليطٌ منهما.
وقد أمكن في الوقت الحاضر للأطباء إثبات الأبوة أو البنوة لشخصٍ ما أو نفيها؛ من خلال إجراء الفحص على جيناته الوراثية، وأنها تصل في حالة النفي إلى حدٍّ قريبٍ من القَطْع (100%)، أما في حالة الإثبات فتصل إلى ذلك لكن بنسبةٍ أقل.
فإذنْ هذه البصمة الوراثية -من الناحية العملية- وسيلةٌ تمتاز بالدقة؛ لتسهيل مهمة الطب الشرعي، ويمكن أخذها من أي خليةٍ بشريةٍ، سواءٌ عن طريق الدم أو اللعاب أو البول أو المني أو غير ذلك، ونتائجها في إثبات نسبة الأولاد أو نفيهم تكاد تكون قطعيةً، وكذلك أيضًا بإسناد العينة من الدم أو اللعاب أو المني في مسرح الحادث، ونسبة ذلك إلى صاحبها قويةٌ جدًّا، هي أقوى بكثيرٍ من القِيَافة العادية، والخطأ في البصمة الوراثية -في الغالب- إنما يكون خطأً في الجهد البشري وليس في البصمة ذاتها، وإنما بسبب التعامل البشري معها.
هذا تصويرٌ مصغَّرٌ أو مبسَّطٌ لمسألة "البصمة الوراثية"، وتسمى أيضًا: "الحمض النووي"، وتسمى: (DNA)، كلها أسماء لهذا الشيء.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
حكم نفي النَّسَب عن طريق البصمة الوراثية
شيخنا، يتعلق بهذه المسألة -الحقيقةَ- عددٌ من المسائل الفقهية التي يكثر السؤال عنها، ابتداءً: حكم إثبات النَّسَب عن طريق هذه البصمة الوراثية أو الحمض النووي.
الشيخ: إثبات النَّسَب عن طريق هذه البصمة: عندنا إثبات النَّسَب، وعندنا نفي النَّسَب، ومجال النَّسَب ينبغي أن يُحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولا بد أيضًا من تقديم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية.
نبدأ أولًا بنفي النَّسَب: لا يجوز شرعًا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النَّسَب، ولا يجوز تقديمها على اللِّعَان، فلو أن شخصًا شك في نسب ابنه، فقام وذهب وحلَّل الحمض النووي والبصمة الوراثية؛ لا يُعتمد على هذا شرعًا في نفي النَّسَب، إنما إذا أراد أن ينفي هذا الولد عنه؛ فليس هناك سوى طريقٍ واحدٍ: وهو اللعان، اللعان هو الطريق الشرعي لنفي النَّسَب الذي ذكره الله في أول سورة النور؛ ولذلك النبي لم يعتبر الشَّبَه في قصة هلال بن أمية ، قال: انظُروها؛ فإن أتت به كذا وكذا؛ فهو على الوصف المطلوب، فأتت به كذلك، فقال : لولا الأيمان؛ لكان لي ولها شأنٌ [1]، مع أن الشَّبَه قويٌّ جدًّا، والنبي قال: انظروا؛ إن أتت به على وصف كذا وكذا؛ فهو لفلانٍ -يعني الزاني- وأتت به كذلك، ومع ذلك النبي لم يعتمد على هذا مع قوته في نفي النَّسَب، ليس هناك طريقٌ لنفي الولد سوى اللعان، فإذا لاعَن الزوج زوجته؛ هنا لا يُنسَب هذا الولد إليه، وإنما يُنسَب إلى أمه.
وعلى هذا نقول: إنه لا يُعتمد على البصمة الوراثية في نفي النَّسَب؛ لقول النبي : الولد للفراش [2]، مادامت أمه فراشًا لهذا الزوج؛ فهذا الولد يُنسَب إليه شاء أم أبى، حتى لو أثبت عن طريق البصمة الوراثية أنه ليس ولدًا له، نقول: إن هذا لا يُعتمد عليه في إثبات النَّسَب، ليس تشكيكًا في صحة البصمة الوراثية، وإنما لأن هذا هو الطريق الشرعي، النبي لم يعتمد قوة الشَّبَه، هذا هو الطريق الشرعي.
فنقول: إذا كنت واثقًا من نفسك أن هذا الولد ليس ولدًا لك، وتحققت من ذلك عن طريق مثلًا البصمة الوراثية؛ إذنْ ما الذي يمنعك من اللعان إذا كنت واثقًا من ذلك؟!
فليس إذنْ هناك طريقٌ لنفي النَّسب سوى اللعان.
بقي إثبات النَّسَب، عكسه: ..
صفة اللعان الشرعية
المقدم: قبل إثبات النسب، أنتم ذكرتم: أن الطريق الشرعي لنفي النسب: هو اللعان وحسب، صفة اللعان الشرعية كيف تكون؟
الشيخ: اللعان: هو أيمانٌ مؤكَّدةٌ من الزوجين، التي ذكرها الله في أول سورة النور، الزوج يحلف أربع مراتٍ بالله: إنه لمن الصادقين فيما قذف به زوجته من الزنا، والخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، يعني خمسة أيمانٍ، ثم الزوجة تقوم وتحلف أربع مراتٍ بالله: إنه من الكاذبين فيما قذفها به من الزنا، والخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فخمسة أيمانٍ من جانب الزوج، وخمسة أيمانٍ من جانب الزوجة، وتكون بحضرة حاكمٍ -يعني قاضٍ شرعيٍّ- وقبل الخامسة تُذَكَّر ويُذَكَّر الزوج، ويقال: إنها المُوجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، إذا تمت هذه الأيمان الخمسة من جهة الزوج، والخمسة من جهة الزوجة؛ تكون قد تمت الملاعنة، وينتفي الولد، الولد ينتفي، لا يُنسب لأبيه، وإنما ينسب لأمه، ويحصل الفراق التام بينهما، فراقٌ مؤبدٌ، مادام أن الأمور وصلت لهذه المرحلة؛ لا يمكن أن ترجع هذه المرأة لهذا الزوج، حتى لو نكحت زوجًا غيره، هذا ذكره الله في سورة النور، وتكلم عنه الفقهاء في أحكام اللعان، يعقدون له بابًا مستقلًّا ويُفصِّلون، وأحكام اللعان موجودةٌ في كتب الفقه بتفاصيلها.
المقدم: أحسن الله إليكم.
حكم إثبات النَّسَب عن طريق البصمة الوراثية
ننتقل إلى المسألة الأخرى في إثبات النَّسَب:
الشيخ: إثبات النَّسَب لا يعتمد على البصمة الوراثية بقصد التأكُّد من صحة الأنساب الثابتة شرعًا، وينبغي منع ذلك وفرض العقوبات الزاجرة؛ لأن في هذا حمايةً لأعراض الناس، وصونًا لأنسابهم؛ إذ إن استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة النَّسَب، هذا يفتح أبوابًا من الشرور على المجتمع؛ فبعض الناس عنده وسوسةٌ، يريد أن يذهب ويتأكد ويُسبِّب مشاكل، وبعض الناس نفسيته غير سويةٍ، يعني مجرد كونه يذهب ويقوم بالبصمة الوراثية لهذا الولد هل هو منه أو لا؛ هذا يُحدِث شرخًا كبيرًا في الحياة الزوجية، اتهامٌ قويٌّ وصارخٌ لهذه المرأة، فبعض الناس قد تكون نفسيته غير سويةٍ، عنده وسوسةٌ، إذا كان بعض الناس عنده في مسائل الطهارة والنية وساوس؛ فكيف بمسألة إثبات النَّسَب؟! فلو فُتح هذا الباب؛ فستنفتح أبوابٌ من الشر عظيمةٌ.
وعلى ذلك نقول: إنه لا يجوز استخدام البصمة الوراثية لأجل هذه المعاني، يعني قصد التأكد فقط، وأنِّي أطمئنُّ، ونحو ذلك، لكن يمكن أن تُستخدم البصمة الوراثية في مجالات الإثبات في حال التنازع على مجهول النَّسَب، إذا حصل تنازعٌ على مجهول النَّسَب، لقيط، وحصل تنازعٌ عليه مثلًا، هنا يمكن أن تكون البصمة الوراثية دليلًا وقرينةً يمكن أن يعتمد عليها في أن هذا المولود يُنسَب إلى فلانٍ أو فلانٍ.
وأيضًا يمكن أن يُعتمد على البصمة الوراثية والحمض النووي في حال الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذلك في حال الاشتباه في أطفال الأنابيب، أحيانًا يكون هناك اشتباهٌ في المستشفى، وهذا قد حصل، وفي هذا قصصٌ كثيرةٌ، فإذا حصل اشتباهٌ هل هذا الولد لفلانٍ أو لفلانٍ؛ فيمكن أن يُعتمد على البصمة الوراثية في ترجيح أن هذا الولد لفلانٍ وأنه ليس لفلانٍ، والنتائج في هذا قريبةٌ من القطع، وتحل المشكلة تمامًا.
كذلك يمكن أن يستفاد من البصمة الوراثية في مجال الإثبات -في إثبات النَّسَب- في حال ضياع الأطفال واختلاطهم؛ بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب، وتعذُّر معرفة أهلهم، أحيانًا يُفقَدُ هذا الطفل وهو صغيرٌ عمره سنةٌ أو سنتان مثلًا، ويختلط بغيره، يختلط بأسرةٍ أخرى، ولا يَعثر عليه أهله إلا بعد مدةٍ، فيأتي أهله ويقولون: هذا ولدنا، فهنا يمكن أن يُستفاد من البصمة الوراثية في إثبات نَسَب هذا الطفل لمن ادَّعَاه.
أيضًا يمكن أن يُستفاد في حال وجود جثثٍ لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب أو المفقودين أو نحو ذلك.
ففي مجال الإثبات: يمكن إذا وُجد لذلك مصلحةٌ شرعيةٌ معتبرةٌ، فيمكن أن يستفاد من البصمة الوراثية في إثبات النَّسَب عند وجود هذه المصلحة المعتبرة، لكن لا يُفتح المجال لكل من أراد؛ لأن هذا -كما ذكرنا- يَفتح أبوابًا من الشرور؛ ولهذا عندنا في المملكة العربية السعودية هناك قرارٌ صادرٌ من مجلس الوزراء بأن يكون التحليل عن طريق البصمة الوراثية بأمرٍ قضائيٍّ، لا بد أن يكون بأمرٍ قضائيٍّ من القاضي، حتى يتأكد فعلًا من أن هذا التحليل عن طريق البصمة فيه مصلحةٌ شرعيةٌ معتبرةٌ، وحتى لا ينفتح أيضًا باب الشر لمن أراد أن يذهب ويريد التأكد من ولده أو نحو ذلك؛ لأن هذا حتى لو ذهب وتأكد فعلًا أنه ولده؛ هذا يُحدِث شرخًا كبيرًا في الأسرة؛ ومعنى ذلك: أنه يوجِّه أصابع الاتهام لزوجته، وقد يكون ذلك بدون بينةٍ ومبررٍ، وإنما مجرد وسوسةٍ وسوء ظنٍّ، بعض الناس غير سويٍّ، يعني عنده سوء الظن هو المقدم، هو الأصل، وبعض الناس أيضًا ربما يكون عنده حب فضولٍ، يقول: أريد أن أتأكد هل هذا الولد ولدي أم لا، فلا يُفتح المجال لكل من أراد أن يتأكد من إثبات النَّسَب.
المقدم: يعني القاعدة في هذا: أن الناس مؤتمنون على أنسابهم؟
الشيخ: نعم، هذا هو الأصل، أن الناس مؤتمنون على أنسابهم، ولا يُفتح باب إثبات النَّسَب عن طريق البصمة إلا بأمرٍ قضائيٍّ؛ بحيث يكون في ذلك مصلحةٌ معتبرةٌ شرعًا.
المقدم: أحسن الله إليكم.
تَعارُض البصمة الوراثية مع بينةٍ أخرى
من المسائل المتعلقة بهذا الباب: إذا تعارضت بينةُ الحمض النووي أو البصمة الوراثية مع بينةٍ أخرى، فأيهما المقدم؛ كالقيافة مثلًا أو غيرها؟ يعني ما رتبة هذه المسألة في الإثبات؟
الشيخ: هذا يقودنا إلى مسألة: اعتبار البصمة الوراثية وسيلةً من وسائل الإثبات في الجرائم التي ليس فيها حدٌّ ولا قصاصٌ، وأيضًا -كما تفضلتم- ما مدى درجة هذه البينة؟ وهل تُقدَّم على القيافة؟
فأقول: البصمة الوراثية يمكن أن تعتبر وسيلةً من وسائل الإثبات في الجرائم، لكن في المسائل التي ليس فيها حدٌّ؛ لأن في الحدود: ادرءوا الحدود بالشبهات [3]، والبصمة الوراثية حينئذٍ في إثبات الجرائم -في غير مسائل الحدود- تُعتبر بينةً؛ وذلك لأن البينة -على القول الراجح الذي اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم- لا تنحصر في شهادة الشهود، وأنها -كما قال ابن القيم- "اسمٌ لما يُبيِّن الحق ويظهره"، فتكون البينة بشهادة الشهود، وتكون بغير شهادة الشهود من القرائن، كما ذكر ابن القيم رحمه الله: أن بعض القرائن أقوى من شهادة الشهود، خاصةً إذا اجتمعت أكثر من قرينةٍ، البينة إذنْ: اسمٌ لما يُبيِّن الحق، ولا تنحصر بشهادة الشهود، والشريعة لا تُبطل حقًّا ولا تُكذِّب دليلًا، ولا تُبطل أمارةً صحيحةً، والله قال عن خبر الفاسق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، ولم يقل: فرُدُّوه، وإنما قال: فَتَبَيَّنُوا، مع أنه خبر فاسقٍ، أمر الله تعالى في خبر الفاسق بالتبيُّن والتثبت، ولم يأمر بردِّه؛ فإن الفاسق قد يقوم على خبره شواهد من الصدق تدل على صدقه؛ حينئذٍ -إذا قامت القرائن الدالة على صدقه- يُقبَل ويُعمَل به.
فعلى هذا نقول: إن البصمة الوراثية يمكن أن تعتبر قرينةً لإثبات الجرائم، وتكون وسيلةً أو بينةً من البينات التي يمكن أن تعتبر في إثبات الجرائم، لكن -كما ذكرنا- يُستثنى من ذلك قضية الحدود؛ لأن الحدود تُدرأ بالشبهات.
وأما رتبة هذه البينة: فهي في الحقيقة رتبةٌ قويةٌ جدًّا، هي أقوى من القيافة، القيافة تعتمد على الظن، وتعتمد على الفراسة، لكن البصمة الوراثية نتائجها شِبه قطعيةٍ، فرتبتها رتبةٌ قويةٌ، وإذا كان المنقول عن الصحابة مثلًا في إثبات حد المسكر، وهو مذهب المالكية: أنه يثبُت بالقيء، ويثبُت بالرائحة؛ مع أنها ظنيةٌ، وإن كان الجمهور يمنعون من هذا، لكن هذا هو المنقول عن الصحابة ، فإذا كان يثبت بمثل هذه القرائن؛ فما بالكم بالبصمة الوراثية؟!
فإذنْ: البصمة الوراثية يمكن أن تعتبر بينةً ويُعتمد عليها، لكن يُستثنى من ذلك الحدود؛ باعتبار أن الحدود تُدرأ بالشبهات.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر الله لكم هذا البيان، ونحن في هذا البرنامج نَذكر جملةً من المسائل والنوازل الفقهية التي يكثُر السؤال عنها ويحتاج المسلم إلى معرفتها، يصحبنا في ذلك شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان.
أطفال الأنابيب أو التلقيح الصناعي
شيخنا، إن أذنتم أن أنتقل إلى مسألة أخرى، وهي مسألةٌ مهمةٌ، وكذلك لها حضورٌ في هذه الأزمنة المتأخرة: وهي ما يُعرف بـ"أطفال الأنابيب" أو "التلقيح الصناعي".
لا يخفى على شريف علمكم أنه ربما بعض الناس عنده من الأمور التي تُعيق الإنجاب بالطريقة الطبيعية؛ فيلجأ إلى مثل هذه العمليات المتعلقة بـ"أطفال الأنابيب"، أو ما يسمى بـ"التلقيح الصناعي"، فنشأ من ذلك السؤال الشرعي عن هذه القضية وحكم عملها، وهل هناك ضوابطٌ لها؟ لو وضحتم لنا شيئًا من هذه المسائل.
الشيخ: أولًا طلب الذرية هذا مطلبٌ لأي إنسانٍ، وأي إنسانٍ يسعى لطلب الذرية، والله تعالى يقول: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى:49-50].
بعض الناس يكون عنده مشاكل في الإنجاب، فعند التحاليل والفحوصات؛ يتبين للأطباء أن هناك مشاكل تُعيق الإنجاب، وأنه يمكن أن يكون الحمل بطريق التلقيح الصناعي، أو ما يسمى بـ"أطفال الأنابيب"، وللأطباء في هذا طرائق؛ وذلك بأخذ حيوانٍ منويٍّ من الزوج، وتُلَقَّح به المرأة، تُلَقَّح به البويضة في الزوجة بأسلوب من الأساليب الموجودة لدى الأطباء.
إذا كان ذلك في دائرة الزوجين، أي أنه يُؤخذ الحيوان المنوي من الزوج وتُلَقَّح به المرأة بأي أسلوبٍ؛ لأن هناك عدة أساليب؛ قد تُلَقَّح البويضة داخل الرحم، أو خارج الرحم، يعني بأي أسلوبٍ من الأساليب، والأطباء لهم في ذلك أساليب بحسب الحالة، المهم: أنه إذا كان في دائرة الزوجين، مجرد أخذ حيوانٍ منويٍّ من الزوج وتُلَقَّح به البويضة من الزوجة عن طريق ما يسمى بـ"أطفال الأنابيب"؛ فهذا لا بأس به؛ لأن هذا في حدود العلاقة بين الزوجين، وفي دائرة الزوجين، لكن يترتب على ذلك كشف العورة، خاصةً بالنسبة للمرأة في هذه الحال، وهناك قاعدةٌ عند الفقهاء، وهي: "أن ما كان محرمًا تحريم وسائل، ومن باب سد الذريعة، يجوز ما تدعو إليه الحاجة منه"، هذه قاعدةٌ مفيدةٌ لطالب العلم، فالحاجة هنا قائمةٌ، بل ملحةٌ، حاجة الرجل والمرأة للولد حاجةٌ كبيرةٌ، وغرضٌ مشروعٌ، بل إنها من الحاجات الملحة، فالحاجة هنا ظاهرةٌ جدًّا؛ وعلى ذلك: فكشف العورة في هذه الحال يُعفى عنه لأجل وجود هذه الحاجة؛ لأن تحريم كشف العورة من باب سد الذريعة (ذريعة الفتنة)، ومن باب تحريم الوسائل، والقاعدة: "أن ما كان محرمًا تحريم وسائل، أو سدًّا للذريعة، يجوز عندما تدعو إليه الحاجة"، لكن إن تيسر أن يكون من يكشف على المرأة امرأةً؛ فهذا هو المطلوب، وأما إن لم يتيسر، وكان هناك ضرورةٌ للرجل؛ فأيضًا هذه تدخل في مسألة الضرورة في هذه الحال ويُعفى عنها.
أما إذا كان التلقيح بين غير الزوجين؛ فهذا لا يجوز، وهذا موجودٌ في البيئات غير المسلمة، يؤخذ الحيوان المنوي من رجلٍ ويُغرس في امرأةٍ ليست زوجته، هذا لا يجوز بأية وسيلةٍ؛ لأن هذا فيه نسبةٌ لهذا الولد إلى غير أبيه، فلا بد إذنْ من التأكد والتحقق التام من أن الحيوان المنوي من الزوج، وتُلقَّح به بويضة الزوجة، لا بد أن يكون ذلك في دائرة الزوجين، ولا بد من الاحتياط، بل المبالغة في الاحتياط، وأن يتحقق الزوجان من ذلك تحقُّقًا تامًّا؛ ولذلك لو أرادوا أن يجعلوا طفل أنابيب؛ ينبغي أن يكون ذلك في بيئاتٍ مسلمةٍ؛ لأنه ربما في البيئات غير المسلمة يتساهلون في هذا الجانب، لا يهتمون كثيرًا، لكن ينبغي أن يكون طفل الأنابيب في بيئاتٍ مسلمةٍ، وعند أطباء مسلمين؛ لأنهم يُراعون هذه الجوانب ويهتمون بها، وأيضًا يكون هناك احتياطٌ شديدٌ وحيطةٌ وحذرٌ؛ بحيث يكون التلقيح ما بين الحيوان المنوي للزوج والبويضة للمرأة بأية وسيلةٍ؛ لأن هناك عدة أساليب، المهم: أنه ما دام في دائرة الزوجين؛ فنقول: ذلك يجوز، مادام في دائرة الزوجين؛ فهو جائزٌ، إذا خرج عن دائرة الزوجين؛ فهذا لا يجوز، هذه قاعدةٌ عامةٌ لهذه النازلة: إذا خرج عن دائرة الزوجين -حيوانٌ منويٌّ من غير الزوج، أو بويضةٌ من غير الزوجة- هنا لا يجوز، لكن إذا كان في دائرة الزوجين؛ فأية وسيلةٍ يسلكها الأطباء، مادام أنها في دائرة الزوجين فهي جائزةٌ، ما قد يكون من كشف العورة -كما ذكرنا- هذا يُعفى عنه لأجل الحاجة الملحة.
حكم تجميد الحيوانات المنوية للتلقيح بها عند الحاجة
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، كذلك من المسائل المتعلقة بهذا الباب: أن بعضهم ربما يعاني من مشاكل صحيةٍ، يلجأ إلى تجميد هذه الحيوانات المنوية؛ حفاظًا عليها مادامت سليمةً في هذه الفترة، ثم يقوم بالتلقيح لاحقًا لزوجته، فهل مثل هذا الفعل جائزٌ؟
الشيخ: هذا يسمى: "تجميد النطف"، وهذا أكثر من يَحتاج إليه: من ابتُلوا ببعض الأمراض؛ مثل مرض السرطان، عافانا الله وإياكم، وهذا الذي يتعالج بالكيماوي، يقال له: لا بد أن تحتفظ بقدرٍ من الحيوانات المنوية، وتُجمَّد هذه النُّطَف؛ لأنك إذا أخذت هذا الكيماوي؛ فالحيوانات المنوية ستُصبح غير قادرةٍ على التلقيح، فتُؤخذ منه هذه الحيوانات المنوية، وتُجمد في مختبراتٍ تحت تبريدٍ عالٍ يصل إلى مئتي درجةٍ تحت الصفر، وإذا بقيت كذلك يقولون -سبحان الله!- يحتفظ بحيويته وبفاعليته!
هذا الموضوع سبق أن عُرض على "هيئة كبار العلماء"، وأُجيز بضوابط معينةٍ ومشددةٍ: لا بد أن يكون ذلك عن طريق "وزارة الصحة"، ولا يُفتح المجال أيضًا للمستشفيات الخاصة، إنما يكون ذلك بمنتهى الحيطة والحذر، وتحت ضوابط معينةٍ ومشدَّدةٍ، ولا يكون أيضًا لأي أحدٍ، إنما يكون في الحالات الخاصة؛ مثل حالة هذا المريض الذي يقال له: إنك إذا استخدمت العلاج؛ فبعد ذلك ستُصبح غير قادرٍ على الإنجاب، فيمكن في حالاتٍ ضيقةٍ جدًّا، وإذا كان هناك احتياطاتٌ وضماناتٌ كبيرةٌ، أن يقال بتسويغ ذلك.
المقدم: أحسن الله إليكم، كذلك شيخنا من المسائل، ولعلي أختم بها إن أذنتم: أحيانًا يُلجأ لأطفال الأنابيب، ليس لعجزٍ عند الزوجين، وإنما لطلب أمرٍ آخر؛ كأن مثلًا له رغبةٌ بأن يكون لديه توأمٌ، أو يكون لديه ذريةٌ من البنات فيريد ذكرًا، فيلجأ إلى هذه العمليات، أو العكس كذلك، ذكورٌ ويريد بنتًا، فما حكم اللجوء لهذه العمليات لأجل هذه الأغراض؟
الشيخ: هذا الموضوع موضوعٌ طويلٌ، ونحن الآن في آخر الحلقة، وهذا يسمى: "اختيار جنس الجنين"، والكلام عنه يطول، فلعلنا نؤجل الحديث عنه للحلقة القادمة إن شاء الله، ونفتتح الحلقة القادمة بهذا الموضوع، باختيار جنس الجنين، إن شاء الله تعالى؛ لأن الآن الوقت ضيقٌ ولا نستطيع أن نُشبع هذه المسألة، والعادة: أن أي مسألةٍ لا بد من أن نُشبع الكلام فيها؛ بحيث أن المستمع يستفيد.
المقدم: لا بأس، شكر الله لكم شيخنا، وأسأل الله جل وعلا أن يجزيكم خير الجزاء على هذا البيان والإيضاح في هذه المسائل المهمة.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، باسمي وباسمكم نشكر شيخنا على بيانه وتوضيحه، فشكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم، الشكر موصولٌ لمن قام بتسجيل هذه الحلقة.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، ومع موضوعٍ فقهيٍّ جديدٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
^1 | رواه البخاري: 4747، بنحوه. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 6818، ومسلم: 1458. |
^3 | رواه بهذا اللفظ أبو حنيفة في مسنده برواية الحصكفي: 4، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الترمذي: 1424، والدارقطني: 3097، والحاكم: 8402، من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، ورواه ابن ماجه: 2545، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعا، ورواه البيهقي: 17141، من حديث علي رضي الله عنه مختصرا بلفظ: ادرءوا الحدود. |