جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).
(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتذاكر فيه شيئًا من مسائل الفقه وأحكامه ونوازله، يصحبنا في ذلك فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، ورئيس الجمعية الفقهية السعودية، فباسمي وباسمكم جميعًا أرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.
المقدم: أحسن الله إليكم.
إسقاط الجنين المشوَّه
شيخنا، الحديث في هذه الحلقة سيكون عن نوازل فقه الأسرة، وبعض المسائل المعاصرة المتعلقة بهذا الباب، وقد استجدت نوازل عديدةٌ في فقه الأسرة؛ من أبرزها مسألةٌ جاءت مع تطور الطب وتقدمه في أزمنتنا المتأخرة: وهي ما يتعلق باكتشاف الجنين وبعض التفاصيل المتعلقة به، ومما يرتبط بذلك: أن الطب في هذه الأزمنة بدأ يكتشف سلامة هذا الجنين، هل هو سليمٌ من ناحية الخِلقة، أو ليس كذلك، فنشأ من ذلك مسألةٌ: وهي حكم إسقاط هذا الجنين إذا تبيَّن أو ثبت أنه مشوَّهٌ خَلقيًّا.
ابتداءً: ما حكم الدخول في هذه المسألة والسؤال عنها، وتطلُّب الكشف عن حقيقة الجنين وعن صحته؟ ثم بعد ذلك ندخل في مسألة الإسقاط.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي الوقت الحاضر مع تقدم الطب، وتقدم الأشعة التي أصبح يُعرف عن طريقها حتى الخلايا، وحتى الأشياء التي لا تُرى بالعين المجردة، فما بالك بالنظر إلى حالة الجنين! مع هذا التقدم الطبي؛ أصبح يمكن معرفة تشوُّه الجنين عن طريق الأشعة، وأن الأطباء يُقدِّرون هل سيُولد هذا الجنين مشوَّهًا أم لا، عن طريق الأشعة بأنواعها؛ ولذلك إذا قرر الأطباء أن هذا الجنين سيولد مشوهًا، وما يتبع ذلك من أعباءٍ كبيرةٍ على أسرته، وهنا يَرِد السؤال من الوالدين ومن الأسرة: هل يجوز إسقاطه في هذه الحال، هل يجوز إسقاط هذا الجنين الذي قدَّر الأطباء أنه إذا ولد؛ سيولد مشوهًا؟ هل يجوز إسقاطه أم لا؟
وهذه تُعتبر من النوازل باعتبار التقدم الطبي والأشعة التي يستطيع من خلالها الأطباء أن يعرفوا تشوه الجنين، كان هذا غير معروفٍ من قبل.
وقبل أن أتكلم عن حكم هذه المسألة؛ أُشير إلى مسائل مهمةٍ لا بد من التقديم بها:
نفخ الروح في الجنين
أولًا: نفخ الروح، الإنسان مكونٌ من جسدٍ وروحٍ، فلا يكون إنسانًا حتى تُنفخ فيه الروح، أما قبل نفخ الروح فيه فلازال نطفةً أو علقةً أو مضغةً، قطعة لحمٍ، لا يُعتبر إنسانًا، لا يُقال: إنه إنسانٌ، إلا إذا نُفخت فيه الروح، والروح من عالمٍ آخر، ليس من عالم المادة، لا يستطيع البشر أن يعرفوا كُنْهها ولا حقيقتها؛ ولهذا لما سئل النبي عن الروح؛ توقف، فأنزل الله قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].
هذه الروح أمرها عجيبٌ! ولا يعرف البشر عنها شيئًا، ولا يُدرى أين موقعها من الجسد، يعني لو قُطعت يد إنسانٍ ورجلاه، أين موقع الروح؟! أمرها عجيب!
المهم: متى تُنفخ الروح؟ لأن هذا يترتب عليه بعض أحكام هذه المسألة.
نفخ الروح لا يمكن أن يُعرف عن طريق الأطباء، ولا عن طريق العلوم المادية، نفخ الروح إنما يُعلم عن طريق الوحي، وقد جاء في "الصحيحين" من حديث ابن مسعودٍ أن النبي قال: إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفةً، ثم علقةً مثل ذلك، ثم مضغةً مثل ذلك، أربعون، وأربعون، وأربعون؛ أصبحت مئةً وعشرين، أي: أربعة أشهرٍ، ثم يُرسَل إليه الملك، ويُؤمر بنفخ الروح فيه، لاحِظ هذا مهمٌّ جدًّا من هذا الحديث، فيُؤمر بنفخ الروح فيه، ويُؤمر بأربع كلماتٍ: بكتب رزقه، سبحان الله! أول ما يُكتب: رزق الإنسان، رزق الإنسان مكتوبٌ، لا يمكن أن يزيد ولا ينقص عما كتب الله له، فيُؤمر بكتب رزقه وأجله، أجل الإنسان أيضًا مكتوبٌ، لا يمكن أن يزيد عن الأجل الذي كتبه الله دقيقةً، ولا أن ينقص عنه دقيقةً، وعمله، وشقيٌّ أو سعيدٌ [1].
فهذا الحديث يدل دلالةً ظاهرةً على أن نفخ الروح إنما يكون بعد أربعة أشهرٍ، بعد مئةٍ وعشرين يومًا، لكن هذا الحديث يُشكِل عليه ما جاء في "صحيح مسلمٍ" حديث حذيفة بن أسيدٍ أن النبي قال: يَدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين، هكذا لفظ الحديث، فيقول: يا رب، أشقيٌّ أو سعيدٌ؟ فيكتبان، فيقول: أي ربِّ، ذكرٌ أو أنثى؟ فيكتبان، ويُكتب عمله ورزقه وأجله، ثم تُطوى الصحيفة فلا يُزاد فيها ولا يُنقص [2]، هذا الحديث -من جهة الصناعة الحديثية- في "صحيح مسلمٍ"، حديث صحيحٌ، وفيه: أن هذه الكتابة تكون بعد أربعين أو خمسةٍ وأربعين يومًا، بينما حديث ابن مسعودٍ يكون ذلك بعد مئةٍ وعشرين يومًا، فكيف التوفيق بينهما؟ تكلم عن هذا العلماء، ومن أبرز من تكلم: الإمام ابن القيم رحمه الله، وجَمَعَ بين هذين الحديثين، قال: "فاجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق العبد وأجله وشقاوته وسعادته وهو في بطن أمه، واختلفت في وقت هذا التقدير، وفي حديث ابن مسعودٍ أنه يقع بعد مئةٍ وعشرين يومًا من حصول النطفة في الرحم، وفي حديث حذيفة أنه يكون بعد أربعين أو خمسةٍ وأربعين يومًا".
قال ابن القيم: "وكثيرٌ من الناس يظن التعارض بين الحديثين، ولا تعارض بحمد الله، وأن المَلَك المُوكَّل بالنطفة يَكتب ما قدَّره الله على رأس الأربعين الأولى حتى يأخذ في الطور الثاني، وهو العلقة، وأن المَلَك الذي يَنفخ فيه الروح إنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة"، يعني بعد مئةٍ وعشرين يومًا، فهذا تقديرٌ غير التقدير الذي كتبه المَلَك الموكل بالنطفة، فيُقدِّر الله سبحانه شأن النطفة حين تأخذ في مبدأ التخليق وهو العَلَق، ويُقدِّر الله شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مئةٍ وعشرين يومًا، فهذا تقديرٌ بعد تقديرٍ، فاتفقت أحاديث النبي وصدَّق بعضها بعضًا".
مراد الإمام ابن القيم بهذا الكلام: أنه بعد أربعين يومًا يكون هناك تقديرٌ بكتب رزق الإنسان وأجله وعمله، وشقيٌّ أو سعيدٌ، وأنه بعد مئةٍ وعشرين يومًا يكون أيضًا هناك تقديرٌ آخر: وهو تقديرٌ بعد تقديرٍ، ولا منافاة بينهما، كما أنه يسبق ذلك أيضًا تقديرٌ، وهو المذكور في قول النبي : إن الله كتب مقادير كل شيءٍ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنةٍ [3]، رواه مسلمٌ، كما أن أيضًا ليلة القدر يكون فيها تقديرٌ: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:4-5]، فلا منافاة بين هذه النصوص، وأن هذا تقديرٌ بعد تقديرٍ، فمن جهة تقدير الرزق والأجل والعمل، وشقيٌّ أو سعيدٌ، هذا لا منافاة..، يقال في الجواب: تقديرٌ بعد تقديرٍ، ولكن الشأن، والذي يُهمنا هنا: هو نفخ الروح.
نفخ الروح هل ذُكر في حديث حذيفة ؟
الجواب: لا، لم يُذكر، طيب هل ذُكر في حديث ابن مسعودٍ ؟ نعم ذُكر، وأنه بعد مئةٍ وعشرين يومًا؛ وعلى هذا: فإن نفخ الروح إنما يكون بعد مئةٍ وعشرين يومًا، وقول من قال: إنه يكون بعد أربعين يومًا، هذا لا دليل عليه، إلا حديث حذيفة ، وحديث حذيفة لم يُذكَر فيه أصلًا نفخ الروح، إنما ذُكر فيه هذه التقديرات، وكما قال ابن القيم: هذا تقديرٌ بعد تقديرٍ.
فنخلُص من هذا -وهذا مؤثرٌ في الحكم، ومؤثرٌ في الفتوى، ومؤثرٌ في أمورٍ كثيرةٍ، تترتب عليه مسائل كثيرةٌ- إلى أن نفخ الروح إنما يكون بعد مئةٍ وعشرين يومًا، يعني بعد أربعة أشهرٍ؛ وعلى هذا: يأتي الكلام بعد ذلك عن تفريعات المسألة.
المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- قبل ذلك هناك مسألةٌ: وهي أنه يُفهم من هذا الكلام السابق: أن التقدير أو بداية التقدير تكون سابقةً للنفخ في الروح، فيكون التقدير، ويأتي النفخ في الروح بعد ذلك.
الشيخ: نعم، هذا صحيحٌ، تقديرٌ سابقٌ، كما أن هناك تقديرًا سابقًا قديمًا؛ أن الله كتب مقادير كل شيءٍ قبل أن تُخلَق السماوات والأرض بخمسين ألف سنةٍ، أيضًا أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: ما هو كائنٌ إلى قيام الساعة [4]، فلا منافاة بين هذه النصوص، يقال: هذا تقديرٌ بعد تقديرٍ، لكن الشأن في نفخ الروح، نفخ الروح يكون بعد مئةٍ وعشرين يومًا.
بداية مدة الحمل
المقدم: المسألة الأخرى شيخنا أحسن الله إليك: متى يبدأ حساب هذه المدة؟ هل يبدأ من حين انقطاع دم الحيض عن المرأة، أو من حين اكتشاف وجود هذا الحمل في الرحم؟
الشيخ: أحسنت، هذا سؤالٌ مهمٌّ، وسؤالٌ جيدٌ، كثيرٌ من الأطباء يحسبون مدة الحمل من أول يومٍ من آخر حيضةٍ، من آخر دورةٍ شرعيةٍ للمرأة قبل الحمل، هكذا يحسبونها، من أول يومٍ من آخر حيضةٍ للمرأة قبل الحمل.
وهذا الحساب غير مقبولٍ من الناحية الفقهية الشرعية؛ إذ إن المرأة لم تحمل بعد، كيف يُحسب من أول يومٍ من آخر حيضةٍ؟! وإنما حساب الحمل الصحيح: من حين التقاء الحيوان المنوي بالبويضة، هنا تبدأ المدة، كيف يمكن أن يعرف الأطباء ذلك؟ ذكر بعض المختصين أنه يمكن عن طريق الأشعة فوق الصوتية، يمكن معرفة ذلك، أما بالحساب الآلي، والحساب اليدوي، من أول يومٍ من آخر حيضةٍ فهذا غير مقبولٍ من الناحية الشرعية، لكن الحسبة الصحيحة للحمل: أن تكون من التقاء الحيوان المنوي بالبويضة، فيُحسب مئةٌ وعشرون يومًا، والآن عن طريق الأشعة يمكن معرفة ذلك.
وعلى هذا: فينبغي -عند مسألتنا (مسألة الإسقاط وما يتعلق بها)- ألا يكون الحساب بالطريقة الأولى: (أول يومٍ من آخر حيضةٍ)، وإنما يكون عن طريق الأشعة التي تضبط ذلك بدقةٍ من حين نشأة الحمل وبداية الحمل.
المقدم: أحسن الله إليكم، إذنْ يُفهم من هذا: أن الحساب الشرعي الصحيح متأخرٌ عن الحساب الطبي؟
الشيخ: إذا قلنا: إن الحساب الطبي بهذه الطريقة (من أول يومٍ من آخر حيضةٍ) فنعم متأخرٌ؛ ولذلك ينبغي للأطباء المسلمين أن يراعوا هذا؛ لأن بعض الأطباء عندما تأتي إليه المرأة وزوجها، ويكون هناك تشوُّهٌ، أو يكون هناك مسائل شرعيةٌ، ويسألون عن عمر الحمل؛ يبدأ بحسبة ذلك من أول يومٍ من آخر حيضةٍ، هذا غير مقبولٍ من الناحية الشرعية، حساب الحمل الصحيح: من التقاء الحيوان المنوي بالبويضة، وينبغي للأطباء المسلمين أن يكون عندهم وعيٌ -بهذا المعنى الشرعي أقصد- لأنهم يأخذون هذه الأشياء عن غيرهم من أطباء في بلاد الغرب وغيرها، لكن الطبيب المسلم والطبيبة المسلمة ينبغي أن يعرف هذه المسألة، وأن يعرف أن الحمل إنما يُحسب من حين التقاء الحيوان المنوي بالبويضة، ولهم في هذا طرقٌ يستطيعون من خلالها أن يعرفوا، نحن نُبيِّن للأطباء الطريقة من التقاء الحيوان المنوي بالبويضة وكيفية ذلك، هذا يرجع للأطباء والمختصين والفنيين، وأيضًا أطباء الأشعة، ونحو ذلك.
المقدم: أحسن الله إليكم.
قاعدة في إسقاط الجنين
الشيخ: قبل أن أذهب لمسألة "إسقاط الجنين المشوَّه"، كقاعدةٍ عامةٍ لا يُلجأ لإسقاط الحمل في اختلاف مراحله إلا لمبررٍ شرعيٍّ، وفي حدودٍ ضيقةٍ جدًّا، حتى في طور الأربعين لا بد من مبرِّرٍ شرعي.
أما إسقاط الحمل خشية المشقة في تربية الأولاد، أو العجز عن تكاليف معيشتهم، أو الاكتفاء بما لدى الزوجين من أولادٍ، هذا لا يُعتبر مقبولًا شرعًا، لا يُعتبر مبررًا شرعيًّا، فلا بد أن يكون هناك تبريرٌ مقبولٌ؛ كتشوُّه الجنين مثلًا ونحو ذلك.
حكم إسقاط الجنين
نأتي بعد ذلك لحكم الإسقاط، إذا كان الحمل قد نُفخت فيه الروح..
المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- قبل ذلك، هنا مسألةٌ قد يكون لها علاقةٌ بالحكم: كلام الأطباء في مثل هذه المسائل التي يَذكر فيها خبرًا، هل هو محمولٌ على اليقين، أو محمولٌ على الظن، أو هو متفاوتٌ من حالةٍ إلى حالةٍ؟
أحوال إسقاط الجنين
الشيخ: هو متفاوتٌ من حالةٍ إلى حالةٍ، خاصةً إذا اتفق أكثر من طبيبٍ على أمرٍ معينٍ، فالغالب أنه يكون صحيحًا، إذا اتفق أكثر من طبيبٍ ليس بينهم التقاءٌ؛ بحيث لا يُؤثِّر بعضهم على بعضٍ على رأيٍ معينٍ، فالغالب أنه يكون صحيحًا، لكن يبقى أيضًا في دائرة الظن، يعني لا يصل إلى درجة القطع.
الحالة الأولى
إذا كان الحمل قد نُفخت فيه الروح، يعني بلغ مئةً وعشرين يومًا فأكثر؛ فهذا إنسانٌ مكونٌ من جسدٍ وروحٍ، فلا يجوز إسقاطه، حتى لو قال الأطباء: إنه إذا ولد؛ سيولد مشوهًا خَلقيًّا؛ لأن هذا إنسانٌ، وإسقاطه في هذه الحال قتلٌ لإنسانٍ، فلا يجوز التعدي على هذا الإنسان وقتله بحجةٍ أنه إذا وُلِد؛ سيولد مشوهًا، فالله تعالى هو الذي خلقه، وهو الذي يتكفل برزقه، فإسقاطه في هذه الحال يُعتبر قتل نفسٍ، ويترتب عليه ما يترتب على قتل النفس من الأحكام، سواءٌ كان ذلك بالنسبة للطبيب الذي يُسقط، أو بالنسبة لمن طلب منه ذلك من الوالدين.
حكم إسقاط الجنين الذي فيه خطرٌ على أمه
إذا بلغ مئةً وعشرين يومًا؛ فهو نفسٌ محترمةٌ معصومةٌ يجب احترامها، ولا يجوز التعدي عليها، ولا يجوز إسقاطها، لا يجوز إسقاط هذه النفس، لكن تَرِد علينا مسألةٌ مشكلةٌ: وهي إذا بلغ الحمل مئةً وعشرين يومًا، لكنْ بقاؤه فيه خطرٌ مؤكدٌ على حياة أمه، قرر الأطباء أنه إذا بقي؛ فهناك خطرٌ مؤكدٌ على حياة أمه، يعني: إما أن تعيش الأم، أو يعيش هذا الجنين، فما الحكم؟ هل يقال بجواز الإسقاط حفاظًا على حياة الأم، أو يقال: إنه قد بلغ مئةً وعشرين يومًا، وهذا إنسانٌ، فلا يجوز إسقاطه لاستبقاء غيره، هذه المسألة الحقيقة من المسائل المشكلة، وللعلماء فيها قولان:
- القول الأول: إنه لا يجوز إسقاطه حتى ولو كان فيه خطرٌ محققٌ، ولو ماتت أمه بذلك، قالوا: مادام أنه قد نُفخت فيه الروح؛ فلا يحل إسقاطه؛ لأنه لا يجوز أن تُقتل نفس لاستبقاء نفسٍ أخرى، وإسقاطه بعد مئةٍ وعشرين يومًا هو قتل نفسٍ؛ وعلى ذلك فيقولون: أمره إلى الله، يعني هذا لا يجوز إسقاطه، وأما كون أمه تموت أو لا تموت، فإذا ماتت فهذا أجلها، فلا يجوز إسقاطه في هذه الحال؛ لأنهم قالوا: إن هذا قتلٌ لإنسانٍ من أجل استبقاء إنسانٍ آخر.
- القول الثاني، وذهب إليه أكثر العلماء المعاصرين، وهو الذي صدر به قرار "المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي": إنه إذا قرر الأطباء الموثوقون بأن بقاء الجنين فيه خطرٌ مؤكدٌ على حياة أمه، وأنه سوف يتسبب في موتها لو بقي، بعد استنفاد كافة الوسائل لإنقاذ حياته، فيجوز إسقاطه في هذه الحال؛ وذلك لأن إسقاطه في هذه الحال فيه دفعٌ لأعظم الضررين، وجلبٌ لأعظم المصلحتين؛ لأن عندنا في هذه المسألة ضررين: موت الأم، وموت الجنين، أيهما أشد ضررًا: موت الأم، أو موت الجنين؟ موت الأم أعظم ضررًا من موت الجنين؛ لأن حياة الأم متيقنةٌ، وبقاء هذا الجنين حيًّا بعد الولادة أمرٌ مشكوكٌ فيه، قالوا: فيجوز إسقاطه؛ دفعًا لأعظم الضررين، وهذا القول هو الأقرب والله أعلم، لكن أيضًا لا بد أن نُقيِّد ذلك بأن يكون هناك اتفاقٌ بين الأطباء بأن بقاء هذا الجنين فيه خطرٌ مؤكدٌ على حياة الأم، وأنه لو بقي؛ فسوف يتسبب في وفاتها، خاصةً في الوقت الحاضر مع تقدم الطب، يعني أصبح كونه خطرًا على أمه احتماليته ليست كبيرةً؛ لأنه أصبح هناك العملية القيصرية، يعني تقدمٌ طبيٌّ، ربما كان هذا الكلام احتماليته أكبر فيما مضى، في الوقت الحاضر أصبح هذا الاحتمال ليس كبيرًا.
المقدم: لكن -أحسن الله إليكم- في هذه الصورة المسألة منحصرةٌ فيما إذا كان الضرر يعود على فقد حياة الأم، أما لو كان الضرر متعلقًا بنقص شيءٍ من صحتها فلا تَرِد المسألة ولا يَرِد الخلاف؟
الشيخ: نعم، الكلام فقط في أنها ستموت، وأيضًا بشكلٍ مؤكدٍ، ذكر الأطباء أنه بشكلٍ مؤكدٍ، وهذا في الوقت الحاضر أصبح قليلًا، ليس كبيرًا، مع التقدم الطبي أصبحت احتماليته ليست كبيرةً، لكن كان هذا أكثر ما يُطرح قديمًا.
المقدم: لأنه أحيانًا يكون في مثل هذه الحالة كلام الأطباء أنه يترتب عليه ضررٌ، لكن هذا الضرر لا يصل إلى ذهاب نَفْس الأم، إنما يُنقص شيئًا من صحتها.
الشيخ: هنا لا يجوز الإسقاط.
الحالة الثانية
الحالة الثانية: أن يكون الحمل في الأربعين الأولى، في طور الأربعين، فإذا وُجدت مصلحةٌ شرعيةٌ، أو دفع ضررٍ متوقعٍ؛ يجوز الإسقاط، ومن ذلك: لو قرر الأطباء أن هذا الجنين لو عاش سيكون مشوَّهًا خَلقيًّا، فهنا في طور الأربعين الأمر فيه سعةٌ، وفقهاء الحنابلة ذكروا أنه يجوز الإسقاط في طور الأربعين؛ لأنه في الحقيقة ليس إسقاطًا لإنسانٍ، بل إسقاطٌ لنطفةٍ، لكن مع ذلك نُقيِّد هذا بأنه لا بد أن يكون هناك غرضٌ صحيحٌ، ومصلحةٌ شرعيةٌ معتبرةٌ.
الحالة الثالثة
الحالة الثالثة: أن يكون الإسقاط قبل مرور مئةٍ وعشرين يومًا على الحمل وبعد أربعين يومًا، يعني أن الحمل في طور العلقة، أو في طور المضغة، هذه الحالة لُوحِظ أنها أكثر الحالات التي يُكتَشف فيها التشوُّه، إذا أثبت الأطباء أن الجنين في هذه المرحلة لو عاش سيكون مشوَّهًا تشوهًا خطيرًا وغير قابل للعلاج، وسيكون عليه آلامٌ كبيرةٌ وعلى أهله، ونحو ذلك، ففي هذه الحالة يجوز إسقاطه بناءً على طلب الوالدين؛ وذلك لأن هذا الحمل ليس بإنسانٍ حقيقةً؛ لأنه لم تُنفخ فيه الروح، الإنسان مكونٌ من جسد وروحٍ، وهو لا زال علقةً، أو لا زال مضغةً، فالإسقاط إسقاطٌ لعلقةٍ، أو إسقاطٌ لمضغةٍ، حتى لو بدأ فيها التخلُّق، التخلُّق يبدأ بعد الثمانين بطور المضغة، التخلُّق لا يعني نفخ الروح، بعض الناس يخلط بين مسألة التخلُّق ومسألة نفخ الروح، نفخُ الروح يكون بعد مئةٍ وعشرين يومًا، التخلُّق يكون بعد الثمانين، حتى لو بدأ فيه التخلُّق، لكن المهم أن يتفق الأطباء على ذلك، على أن هذا الحمل سيكون فيه تشوهٌ خَلقي، ويكون ذلك بشكلٍ مؤكدٍ، ويَعرف ذلك الأطباء من خلال الجينات، ومن خلال أيضًا تاريخ الوالدين، وتحليل الوالدين، ونحو ذلك، لهم في هذا طرائق.
فإذا قرر الأطباء ذلك، فمادام أنه في طور العلقة أو المضغة؛ هنا يجوز الإسقاط في هذه الحال، لكن يكون ذلك في حدودٍ ضيقةٍ، ولا يكون على إطلاقه، ولا بد من فتوى شرعيةٍ أيضًا خاصةٍ؛ حتى يعرف المفتي الملابسات والحال ويُقدِّر الضرورة، فلا تكون الفتوى عامةً لأي أحدٍ، وإنما لا بد أن تكون الفتوى فتوى خاصةً لكل حالةٍ بعينها.
وعلى هذا: نُلخِّص ما سبق، نقول:
كقاعدةٍ عامةٍ لا يكون الإسقاط إلا لوجود مصلحةٍ، حتى لو كان في طور الأربعين، أو لوجود مبررٍ شرعيٍّ، وأن مجرد الخوف من تربية الأولاد، أو مشقة تربية الأولاد، أو نحو ذلك؛ لا يُعتبر مبررًا مقبولًا من الناحية الشرعية.
أيضًا نقول: إذا نُفخت فيه الروح بعد مئةٍ وعشرين يومًا؛ هذا أصبح إنسانًا، إسقاطه فيه قتلٌ لإنسانٍ، لا يجوز إلا في حالةٍ واحدةٍ هي محل خلافٍ: وهي ما إذا كان بقاؤه فيه خطرٌ على أمه، ففي هذه الحال إذا كان الخطر مؤكدًا -يعني: إما تموت الأم، أو يموت الجنين- هل يجوز الإسقاط؟ فيه قولان لأهل العلم، والأقرب هو الجواز، كما عليه الأكثر.
أيضًا إذا كان في طور الأربعين، في طور الأربعين الفقهاء لا يُشدِّدون كثيرًا؛ لذلك إذا وجدت مصلحةٌ شرعيةٌ معتبرةٌ، أو قرر الأطباء أن هذا الجنين سيكون مشوَّهًا خَلقيًّا، هنا يجوز الإسقاط لذلك.
إذا كان في طور العلقة أو المضغة؛ تكون المسألة أشد، يعني أشد من طور الأربعين؛ فلا بد من مبرراتٍ أقوى لذلك الإسقاط، ومن ذلك: أن يُقرِّر الأطباء ويتفقون على أنه إذا عاش هذا الجنين؛ سيكون مشوَّهًا خَلقيًّا بدرجةٍ خطيرةٍ وكبيرةٍ، وسيكون عليه آلامٌ كبيرةٌ، ونحو ذلك.
فلا بد إذنْ أن يكون الإسقاط على هذه الضوابط؛ ولذلك الأطباء الذين يتولون هذا الأمر عليهم مسؤوليةٌ كبيرةٌ في هذا، لا بد أن يتفقهوا في هذه المسائل وأن يعرفوها، وأن يطلبوا فتوى عندما يُطلب الإسقاط، يطلبون فتوى لتلك الحالة بخصوصها، يعني بعض الأطباء تجد أنه طبيبٌ ومُفتٍ في الوقت نفسه، وهذا غير صحيحٍ، لا بد أن تكون الفتوى من الفقيه، وأن يكون التصوير من الطبيب، يُصوِّر الطبيب المسألة، والفقيه هو الذي يُفتي بناءً على ذلك، خاصةً في مثل هذه المسائل الخطيرة.
سبب تفريق الفقهاء بين طور الأربعين وما قبل المئة والعشرين
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان، ما سبب تفريق الفقهاء بين طور الأربعين وما بعد الأربعين وقبل المئة والعشرين؟
الشيخ: السبب: هو أنه بعد الأربعين سينتقل من طورٍ إلى طورٍ، وأنه في طور الأربعين لازال نطفةً، فيقولون: النطفة يجوز العزل، والعزل معناه: إبعاد النطفة عن الرحم، فيقولون: إنه يُشبه العزل من بعض الوجوه، يعني مادام أنه في طور النطفة؛ يُشبه العزل من بعض الوجوه، والعزل دلَّت السنة على جوازه، كما قال جابرٌ : "كنا نعزل والقرآن ينزل" [5]، يعني قالوا: إنه يُشبه العزل من بعض الوجوه، لكن إذا انتقل إلى طور العلقة وطور المضغة؛ هنا انتقل من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ، لم يَعُد نطفةً، إنما انتقل إلى مرحلةٍ أخرى، وهي مرحلة العلقة، ثم المضغة.
المقدم: أحسن الله إليكم.
هل يُكتفى لإسقاط الجنين بقول طبيبٍ واحدٍ؟
أيضًا من المسائل التي هل يقال بها أو لا -من باب ضبط المسألة من الناحية الشرعية- هل يُكتفى بقول طبيبٍ واحدٍ في تقرير هذه المسائل، أم لا بد أن يكون هناك عددٌ معتبرٌ من الأطباء، أو مواصفاتٌ معينةٌ في هذا الطبيب؟
الشيخ: مثل هذه المسائل الكبيرة والخطيرة لا يُكتفى فيها بقولٍ طبيبٍ، حتى وإن كان حاذقًا في الطب وكان ثقةً، لا بد من أكثر من طبيبٍ، والأحسن: أن يكون ثلاثة أطباء فأكثر، هذا هو الأحسن، وإن كان يكفي طبيبان ثقتان، ولكن الأحسن: أن يكون ثلاثة أطباء فأكثر؛ لأن هذا سيترتب عليه أمورٌ كبيرةٌ وخطيرةٌ؛ فلا بد من أن يتفق أكثر من طبيبٍ على ذلك، والأحسن: أن يكونوا ثلاثةً فأكثر.
المقدم: والهدف من هذا أن يُوصَل إلى درجةٍ متيقنةٍ أو شبه متيقنةٍ من حصول هذا القرار؟
الشيخ: نعم، مزيدٌ من التحوُّط في مثل هذه الأمور، ويترتب عليها أحكامٌ شرعيةٌ ومسائل مهمةٌ، فاشتراط أن يكون أكثر من طبيبٍ؛ لمزيدٍ من التحوُّط؛ لأن الإنسان يبقى بشرًا حتى وإن كان طبيبًا ثقةً وحاذقًا في الطب، فيَرِد عليه الخطأ؛ ولذلك لا بد من أن يرجع لرأي عددٍ من الأطباء.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والتوضيح في هذه المسألة.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فباسمي وباسمكم جميعًا نشكر شيخنا فضيلة الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان على هذا البيان والتوضيح، فشكر الله لكم شيخنا.
الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة والمستمعين.
المقدم: كما أتقدم بالشكر الجزيل لمن قام بتسجيل هذه الحلقة، والشكر لكم أنتم -أيها المستمعون والمستمعات- لإنصاتكم واستماعكم.
إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله ، ومع موضوعٍ فقهيٍّ جديدٍ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.